-->

الفصل الحادي والثلاثون - ظلام البدر - دجى الليل

 

الفصل الحادي والثلاثون

استيقظ ليشعر بتحركاتها أسفل ذراعاه ولكنه لم يفتح عيناه بعد، ألهذا الحد تريد الابتعاد عنه؟ حسناً.. هو لا يريد الإبتعاد عنها بمثل هذه السرعة ولن يسمح لها بفعل ذلك كي تبتعد وتحرمه ذلك الشعور الذي لا يجده سوى بقربها هي فقط..

"صباح الخير.." همس لها وهو يجذبها من خصرها ليقربها له أكثر

"لو.. لو سمحت سيبني أقوم" شعرت بالإرتباك من أقترابه الشديد منها وصدره العاري الذي يلامسها

"لأ مش هتقومي" همس لها ثم تنهد ودفن رأسه بعنقها

"طب.. طب هاروح الحمام" فكرت بأي سبب يجعله يتركها حتى تستطيع التخلص من اقترابه الذي يوترها هكذا بشدة

"أول ما بتقولي طب بتاعتك دي بعرف إنك بتكدبي" ضحك بخفوت وأخذ يستنشق رائحتها لتتعجب هي كيف عرف أنها تكذب

"لو قولتي بجد عايزة تقومي ليه هسيبك تقومي" همس بأذنها ثم اعتلاها ليفتح عيناه وهو لا يُصدق أنه يبدأ يومه برؤية كل تلك الملامح البريئة ليبتسم لها ثم أقترب منها ليُقبل رأسها وضحك لرؤية خجلها بينما هي تتلاحق أنفاسها لا تدري في خوف منه أم في ارتباك أم في خجل، هي لا تعرف ما الذي يحدث لها كلما أقترب منها بهذا الشكل..

"لأ لو سمحت كفاية، أنت تاني هتعمل الحاجات دي.. أرجوك سيبني أقوم.." توسلته وهي على مشارف البُكاء ولكن أحقاً ستبكي من الخجل؟

"قولتلك قوليلي عايزة تقومي ليه من غير ما تكدبي وأنا اسيبك تقومي" همس لها ثم أقترب وكأنه سيقبلها لتصيح هي في خوف مسرعة

"هقولك هقولك.. بس متقربش أكتر من كده" توقف هو عما كاد أن يفعله وحدق برزقاويتيها التي حاولت أن تبعدهما عن ثاقبتيه ولكنه أجبرها أن تنظر له بعد أن تلمس أسفل ذقنها وأشار لها برأسه أن تبدأ بالحديث فابتلعت هي في خجل وبالكاد استطاعت أن تُخبره بما يشعرها بالإرتباك

"أصل.. لما بتقرب مني بخاف.. وبتلخبط وببقا عايزة ابعد عنك.. وبخاف تعمل معايا قلة أدب تاني زي يوم ما سافرنا.. وأنا.. أنا عمري ما عملت كده.. و.. وبتكسف منك و.." لم يستطع هو التحكم في ضحكاته أكثر من ذلك ليجد نفسه يرتمي على السرير ضاحكا بشدة لتنظر له هي بعبوس وكادت أن تنهض وتتركه ولكنه جذب يدها وحاول أن يتوقف عن الضحك بصعوبة.

"قلة أدب ايه بس" أخبرها مُعقبا على كلماتها ونبرته لا زالت تحمل بعضاً من أثار ضحكته

"ايوة قلة أدب.. أنت.. أنت كل شوية بتعمل الحاجات دي.. ومش هاسيبك تقرب مني تاني.. سامع ولا لأ؟!" اشارت محذرة بإصبعها ليهُز هو رأسه في انكار وجذبها ليجلسها رغما عنها واحتضن ظهرها بعد أن حاوط خصرها بذراعاه ولم تستطع هي أن تفلت من ذلك العناق

"سيبني بقا يا Mr بدر.. أنا والله مش هنام مع حضرتك في اوضة واحدة تاني.. أنت قليل الأدب" تحدثت هي وهي تحاول أن تدفع جسدها لتفر من ذراعاه

"أنا قليل الأدب؟! ماشي يا نوري.." ابتسم وهو لا يُصدق براءة تلك الفتاة "بس أنا عايز كده أقولك على كام حاجة وبعدين ابقي قوليلي أنا قليل الأدب ولا لأ.. وهاسيبك تقومي متخافيش"

"لا أنت بتضحك عليا عشان تفضل تعمل الحاجات دي" زفرت في قلة حيلة بعد أن خارت قواها بالإفلات منه

"لا مش بضحك عليكي.. اسمعيني بقا.." تنهد وهو لا يدري كيف سيبدأ حديثه معها بمثل تلك الأمور "اللي أنتي بتقولي عليه صح، دي فعلاً قلة أدب بس لما يكون مع أي حد غير جوزك، لكن لما بقرب منك عشان أنتي حلوة اوي وببقا عايز احضنك وأبوسك ده مسموش قلة أدب" التفتت هي لتنظر له بعينان متسعتان

"ايه اللي بتقوله ده.. متقولش كده تاني" صرخت به لترتسم على شفتاه ابتسامة ثم تنهد وهو يشعر بالعجز أمامها ولكنه لن يتركها دون أن تبدأ في فهم كل ذلك..

"ليه؟ مش أنتي مراتي؟ حقي إني أعمل ده معاكي زي ما حقك انتي كمان تعملي ده معايا" وضعت كفيها على وجهها في خجل ودفنت وجهها بصدره

"ارجوك كفاية كلام في الحاجات دي.. أنا مبحبش أتكلم فيها.. ومعرفش الحاجات دي خالص"

"بصي يا نور" زفر في إرهاق من تلك الفتاة "المتجوزين بيعملوا كده مع بعض وأكتر من كده كمان، لازم تبطلي تتكسفي.. وبعدين مش لما بوستك واحنا مسافرين كنتي مبسوطة؟!" سألها لترفع زرقاوتاها المندهشتان بعينيه

"لأ طبعاً مكنتش مبسوطة.. أنا كنت خايفة منك زي ما افتكرت اللي يُسري عمله فيا.. وبعدين أنت بوستني بوسة قليلة الأدب.." تحدثت بتلقائية وملامحها منفعلة من كل ما يُخبرها به

"وهو فيه بوسة محترمة وبوسة قليلة الأدب؟" اندهش رافعا حاجباه

"اه طبعاً"

"طب ما تعرفيني كده الفرق بينهم عشان أنا مش فاهم.. ممكن تفهميني؟"

"البوسة المحترمة زي ما ببوس شاهي مثلا وببوسك" قبلته على خده مثل الأطفال بتلقائية ليتعجب هو من فعلتها "إنما بقا بوستك اللي بوستهاني في الـ Hotel كانت قليلة الأدب" أشاحت بكفيها الصغيراتان وكذلك عيناها لتنظر بعيدا عن عينيه ليبتسم هو على طفوليتها الشديدة

"اللي كانت ازاي دي علشان مش فاكر"

"يا سلام!!" نظرت له ببراءة ليومأ لها وتصنع الصدق بكل ما أوتي من قوة تحكم وسيطرة على ملامحه بينما وقعت هي في حيرة من أمرها "زي دي" أقتربت لتلامس شفاهه في قبلة بريئة لم تتعد جزء من الثانية الواحدة لتتسع ابتسامته

"اه صح عندك حق.. بوسة قليلة الأدب فعلاً" صاح ساخرا

"شوفت بقا.. سيبني أقوم دلوقتي"

"هاسيبك.. بس هسألك سؤال واحد ولو جاوبتيه هسيبك تقومي.. اتفقنا؟!"

"ماشي.." أومأت له لتنهال خصلاتها الحريرية حول وجهها

"هو أنا دلوقتي وأنتي متجوزين، لو عايزين نجيب بيبي هنعمل ايه؟!" اتسعت زرقاوتاها وكست الحمرة وجهها مجدداً ثم نظرت للأسفل

"بيـ.. لو.." تلعثمت ثم حمحمت وهي لا تدري كيف لها أن تنطق بذلك وأغلقت عيناها في خجل "لو جاوبتك هتسيبني أقوم صح؟"

"احنا اتفقنا خلاص.. جاوبيني وأنا اسيبك" أخبرها وهو لا يستطيع التوقف على النظر لتلك الملامح التي ود لو أخفاها بداخله للأبد وأومأت هي له في براءة

"لو .. لو عايزين يعني نجيب بيبي.. هنـ.. هنقلع هدومنا كلها، وهتفضل تـ..، هتبقا جنبي على السرير و.. وتلمسني شوية.. وبعدها جسمنا احنا الاتنين بعد ما يقرب من بعض عشان أنا بنت وأنت ولد هيبقى فيه بيبي في بطني" تلاحقت أنفاسها في خجل شديد وهي موصدة لعيناها بينما أنفجر هو ضاحكاً

"سيبني بقا أقوم.. أنا جاوبت على سؤالك وهو ده اللي كوكي قالتلي عليه لما سألتها"

"ده كتير عليا بجد.. قومي قومي" أخبرها بين ضحكاته لتفر هي لحمام غرفته في ثوان بينما تابعها بعينيه لتهدأ ضحكته وعرف أن أمامه طريقا شاقا وعرا معها. ولكنه تذكر أن عليه أن يُريها عدة صور للجميع أولا كي تتعرف على من ستراهم!

--

"صباح الخير يا أمي" تحدث بدر الدين الذي نزل لتوه ليتناول الإفطار مع عائلته بعد أن فرغ من استحمامه وتجولت عيناه باحثة عن نورسين التي لم تنتظره بغرفته ولم يجدها بها!

"صباح الخير يا حبيبي.." ابتسمت له نجوى

"صباح الخير يا جماعة" ألقى الصباح على الجميع الذين أجابوه سوى زياد الذي نهض ليغادر فنظرت له نجوى واشارت له بيديها على أن يتركه فأومأ لها بالموافقة ولا زالت عيناه تبحثان عن نورسين.

"ايه بتدور على مراتك؟" غمزت له شاهندة ليزفر هو في ضيق لملاحظة الجميع لكل تصرفاته ثم أومأ لها

"بتفطر مع الولاد برا في الجنينة" ابتسمت ثم أكملت تناول طعامها لينهض هو ذاهباً إليهما ليسمع قهقهة الجميع خلفه ليهُز هو رأسه في إنكار..

يبدو وكأنما تلك الفتاة لن تكف عن تصرفاتها الطفولية أبدا، تتحدث بخجل، تطلب الأشياء البسيطة، والآن تذهب لتجلس مع الأطفال، عليها حقاً أن تتوقف عن كل ما تفعله حتى لو أجبرها على ذلك!

فكر وهو متوجهاً لحديقة منزل عائلته وبدأ في سماع صوت أولاد أخته وضحكاتهم المتعالية التي لم تأتي من مكان واحد ثم تقدم ليجد نورسين مُعصبة العينان بأحدى الشرائط فتوقف للحظة وهو لا يُصدق ما تفعله وتوجه نحوها في غضب لتباغته هي بقبضتها اسفل خصره ليسحق أسنانه بعنف

"مسكتك.. أنت بقا اللي فيها" صاحت في حماس وخلعت تلك العصابة من حول عيناها لتنظر تتفقد من وقع عليه الدور لتنظر في دهشة بعد أن وجدت نفسها أمسكت ببدر الدين "Mr. بدر!! أنا.. أنا معرفش إن حضرتك هنا" همست في توتر!

لم يعد يتحمل مسكتها له بتلك الطريقة لينظر لها في انفعال وقد بدأ يتأثر بينما ارتبكت هي وتركته على الفور واجتمع أولاد هديل حولهما بعد أن تعالت ضحكاتهم جميعاً

"انكل بدر أنت اللي فيها.."

"فيها ايه.." نظر لهم وهو لا يُدرك ما يفعلوه لتبتسم نورسين في انتصار

"ايوة أنا مسكتك.. يبقا هتلعب معانا" صاحت له نورسين لينظر لها في غير تصديق

"ايوة يا انكل بدر أنت مش بتلعب معانا زي شاهي ونور.." صاح اياد أكبر أبناء هديل في تعجب

"العب معانا بقا شوية المرادي" بينما توسلته أروى في طفولية

"بابا مش موجود علشان يلعب معانا.. العب أنت معانا" أخبره إياد من جديد ليشعر بالذنب تجاههم ونظر لجميعهم ثم رفع نظره لتلك من أوقعته بتلك الورطة ليجدها تمد يدها له بعصابة العينان ليتناولها منها في غضب

"مرة واحدة بس وبعدين همشي" أخبر الجميع ليبتسموا

"ماشي الأُمة على الشجرة الكبيرة اللي هناك دي" أشارت له نورسين التي توجهت لتختبأ بينما تمتم هو في حنق شديد

"أُمة قال"

عصب عيناه مثلما رآى نورسين تفعل من قليل ووقف كالأبله تماماً لتأتي نورسين وتهمس بأذنه "يالا قول خلاويص عشان نستخبى!" حاول امساكها بيديه التي حركها حوله بالهواء ولكنه لم ينجح!!

"خلاويص ايه بس وزفت ايه.." تمتم في ضيق ثم زفر في غضب ليتعالى صوته مُجبراً "خلاويص.."

لم تستطع شاهندة تصديق عيناها عندما كادت أن تُغادر للشركة ثم فرت للداخل وهي تضحك بشدة على ما رأت بدر الدين يفعله

"الحقوا بدر بيلعب استغماية برا.. تعالوا اتفرجوا.. شكله مسخرة" لم يصدق الجميع ليتوجهوا جميعاً للخارج ليشاهدوا ما يحدث..

"أمة.." صاح أحدهم "أمة" صاحت الأخرى بينما هو بدأ يشعر بالغضب وهو لا يريد أن يُكمل تلك السخافة لتصيح نورسين

"يالا اجري عشان تدور علينا" لاحظ من أين آتى صوتها ليمشي في اتجاه الصوت ولكنها ظلت تهرول مبتعدة عنه بينما بدأ الجميع في الضحك لما يروون

"مش عارف تمسكني" صاحت لتستفزه "معقول Mr. بدر مش عارف يمسك حد فينا" ظلت تُخبره لتتعالى ضحكات الجميع ولكنه يدري أنها قريبة فظل يمشي في اتجاه الصوت حتى مد يده ليُمسك بها

"هههه.. معرفتش تمسكني" صاحت ليغتاظ وخلع هو تلك العصابة السخيفة من حول عيناه ليرى بمن هو ممسك إذن إن لم تكن هي.. نظر ليجد أنه أمسك بنجوى التي ما إن تلاقت عيناها معه انفجرت ضاحكة وكذلك فعل الجميع الذين يشاهدوه وهو ممسكا بها!!

"يااه يا بدر.. أول مرة أشوفك بتلعب.." حدثته نجوى بإبتسامة بينما ضحكت شاهندة

"بس والله غلبان.. كان واقف ومش عارف يدور عليهم.."

"لو سمحت يا حمزة خد مراتك وروح الشغل.. وانتي يا هديل متخليش ولادك يلعبوا معايا تاني" أخبرهما بملامح غاضبة ليتصنع الجميع الجدية على وجوههم بعد أن لاحظوا ملامحه الغاضبة المُهيبة

"نورسين!!" صاح من بين أسنانه مُنادياً عليها لتأتي هي لتقترب منه في وجل لملامحه الغاضبة وهي تنظر له في خوف "تعالي" أمسك بيدها ليجذبها بعنف ثم توجه صاعداً لغرفته ليضحك الجميع مجدداً خلفه.

--

"عارفة لو عملتي كده تاني قدامهم؟!" صاح بغضب لتتوسع هي زرقاوتاها

"وفيها ايه يعني لما تلعب معانا.. مش احسن ما أنت قاعد مبوز في وشنا.. وبعدين أنت اللي جيت ولعبت معانا محدش ناداك من جوا.."

"بصي.. شغل الأطفال بتاعك ده تبطليه!! سامعة ولا لأ؟!" صرخ بغضب في وجهها بعد أن شعر أنها أحرجته وجعلت منه مزحة أمام الجميع لتنظر له هي وتجمعت الدموع بعينيها

"خلاص سيبني أنا بقا في شغل الأطفال ومتجيش جنبي" اجابته والتفتت لتغادره بينما هو شعر ببكائها فأوقفها ليرغمها على الالتفات له وتنهد بندم عندما رآى دموعها المتهاوية على وجهها ليجذبها رغماً عنها وعانقها لتعود رأسها لتؤلمها في شدة بينما انهال سيل من الذكريات على رأسها في آلم بعد وجودها بالحديقة والمنزل وتلك الأجواء التي مكثت بها لأيام من قبل!

"أكيد، ماهو من ساعة ما البتاعة ديه ما دخلت حياتنا وأنتي مبقتيش شايفة غيرها.. حتى شغلك مبقتيش مركزة فيه" صرخ في غضب بينما شعرت نورسين بأنها على مشارف البكاء ونظرت للأرض

"لو سمحت.. مسمحلكش يا بدر تقولي إني مقصرة أبداً!! انا بقالي خمس ساعات برا!! خمس ساعات بس.. خمس ساعات من سنين كتيرة كنت صاحية نايمة في الشغل، ايه بقا المستعجل اوي ومش عارف تجيبه غير مني؟!"

"افتحي الـ Email بتاعك وانتي تعرفي.. عشان مش بدر الدين اللي يتكسف قدام عميل جديد بسبب إن مديرة المشتريات عندي مش فاضية!!" صرخ بها بينما عقدت حاجباها وغادرت لتتفحص حاسوبها.

"وأنتي" صاح بغضب مقترباً منها قابضاً على كلتا ذراعيها لتوجل هي منه وتنظر له من المفاجأة ليعتريها الخوف من تلك النظرة الثاقبة بعينيه

"اوعي تكوني فاكرة ان شوية التمثيل اللي دخلو على أمي وأختي وزياد دخلوا عليا.. ولا جو الدراما اللي انتي عاملاه ده أنا مصدقه.. أنا لولا شاهندة كنت رميتك تاني مطرح ما جيتي.. ومتفتكريش إني قابل ده.. بكرة كل خططك القذرة واللعبة اللي بتلعبيها هتبان للكل.. صبرك عليا بس وأنا هوريكي وهكشفك قدامهم" صرخ بوجهها لتنهمر دموعها وهو يحدثها بتلك الطريقة الفظة بينما لم تدري لماذا يفعل كل ذلك

"ايوة ايوة مثلي ونزلي الدمعتين عشان يشوفوكي وانتي بتعيطي وتصعبي عليهم اوي.. إنما أنا لأ، أنا فاهمك وفاهم كل اللي بتعمليه كويس.. وفي يوم من الأيام هرجعك تاني لجوز أمك اللي أخدتيه حجة عشان تدخلي بيتنا.. بس مش هتمشي من هنا إلا وكل اللي واقفين جنبك دول كارهينك ومش طايقين يبصوا في وشك" صرخ بها مجدداً لتتحول دموعها لنحيب وشهقات متتالية

"لا غلبانة اوي وصعبتي عليا.. بس اوعي تفتكري إن بدر الدين الخولي بيضحك عليه من عيلة صغيرة لا راحت ولا جت.. ويكون في علمك العيشة اللي انتي عيشاها دي قريب هتختفي.. متتعوديش يا شاطرة على حاجة مش بتاعتك كلها يومين وهترجعيله تاني وتغوري في ستين داهيـ.."

"حرام عليك أنت بتعمل فيا كده ليه؟ أنا عملتلك ايه عشان تعمل فيا كل ده؟!" صرخت بوجهه بين بكائها

"ايه يا بدر حرام عليك اللي بتعمله.. البنت تعبانة مش كده"

"ايوة ايوة.. واضح انها عرفت تضحك عليكي.. إنما اهي زي القردة وبتتكلم! عرفتي انكم كلكم مضحوك عليكو؟ بكرة تعرفي إني صح.."

لماذا كان يصرخ بها هكذا؟ ما الذي فعلته؟ خطط ماذا! ما الذي كان يقصده بقوله؟ هي الآن تتذكر.. لقد امتنعت عن الكلام لأيام بسبب موت والدتها.. لماذا كان يعاملها بتلك الطريقة وقتها؟ وهل هو من تركها عند يُسري؟!

"أنا خايفة.. خايفة أوي يا شاهي.." همست وهي تبكي لتعانقها شاهندة

"متخافيش.. مش هيقدر يهوب ناحيتك" فرقا عناقهما لتنظر لها شاهندة مضيقة عيناها "ايه بقا! كان لازم خناقة مع بدر عشان اسمع صوتك الحلو ده تاني"

"أنا مش عارفة ازاي ده حصل" اجابت في ثوان وهي تتذكر ما حدث لها معه منذ قليل "زي ما يكون لساني نطق لوحده من غيرما اتحكم فيه" ابتلعت ثم عضت على شفتاها "هو ليه دايماً بيكرهني؟ ليه دايماً فاهمني غلط؟!"

"سيبك من بدر، ده مقتنع دايماً بنظرية المؤامرة.. متحطيهوش في دماغك.. بس هو والله طيب جداً" ابتسمت نورسين بإقتضاب على كلمات شاهندة

"اوي.. بالذات وهو عامل فيها ملك الكون!!" صاحت نورسين وبرقت زرقاواتها وهزت رأسها في تهكم لتضحك شاهندة على ملامح وجهها ولم تستطع التوقف عن الضحك

ألهذا هي دائما تشعر بالخوف منه؟ هل كان يُسري حقا يحاول التهجم عليها بالمشفى وبذلك اليوم الآخر؟ الآن فقط تعرف لماذا كتبت على تلك الرسمة له "ملك الكونهي الآن تجد الأمر منطقيا ولكن كيف تزوجته؟! لم تحتمل رأسها تلك الآلام ولكنها استعادت المزيد من الذكريات

فتحت عيناها بصدمة على صوت ضحكته التي توقفت وتحولت لإبتسامة على شفتاه وعندما قابلت زرقاوتاها عيناه السوداوتان وشعرت بقصر قامتها أما طوله الفارع عقدت حاجبيها في دهشة

"أنت بتضحك على ايه؟" حدثته متعجبة ثم مررت ظهر يدها أعلى شفتيها بطفولة

"مالكيش دعوة واحد في بيته وبيضحك براحته"

"هه هه" أصدرت صوتاً لتقلده ليعبس وجهه ويتحول مجدداً للجمود الذي عهدته دائماً وظهرت عقدة حاجباه مرة أخرى

"امشي اطلعي فوق واياكي المحك في مكان أنا فيه.." آمرها بصوت هادئ لتحلق حاجباها في دهشة

"لا بقولك ايه بقا، أنا مش فاهمة انت بتكرهني كده ليه، بس شاهي وماما نجوى موافقين إني أكون في البيت وهاعمل اللي أنا عايزاه ما دام مبضايقش حد"

"ماما نجوى!!" اقتبس كلماتها في تهكم "طب منظرك بيضايقني، شكلك كله على بعضه بينرفزني!! امشي من وشي الساعادي"

"يا سلام!" عقبت على كلماته في تحفز ثم تجرعت باقي كوب اللبن ومسحت فوق شفاهها ليتابعها بدر بعينيه الثاقبتان ثم هبطت لتضع الكوب أرضاً ثم عقدت ذراعيها في تحفز

"لما أنت مضايق مني ومتنرفز اوي بص بعيد عني.. متجيش تقف قدامي وتقولي امشي.. محبكتش الحتة اللي أنا فيها"

هل وقتها انجذبت إليه؟ هل عندما رآته بمثل تلك الهيئة وقعت في حبه مثلا؟ ولكنهما كانا يتشاجران وهو لم يكن سوى يعاملها بطريقة فظة!! كيف حدث وتزوجا؟!

"متعيطيش خلاص.." أخبرها وهو يُربت على رأسها ليزداد بُكائها بطريقة هيستيرية خاصة بعد أن تذكرت المزيد من المواقف التي جمعتهما

"أنت كل شوية تزعقلي.. وكل شوية تتعصب مني.. وترجع تقولي متخافيش.. وتضايق بسبب حاجات عادية.. وأنا كل ما بفتكر حاجة بتعب أوي.. أنا مش عارفة أنا اتجوزتك ازاي وأنت ساعات تتعامل كويس بس لما بفتكر أنت كنت دايما بتزعقلي.. أنا.. أنا.. مش عارفة أنا حاسة بإيه من ناحيتك.. يعني أنت كويس ولا لأ ولا إيه!" أخبرته هامسة بين شهقاتها ليشعر بذلك الآلم يندلع بداخله مجدداً بسبب بُكائها

"طب حقك عليا معلش.. بصي يا نوري أنا.. أنا وانتي زمان محبناش بعض على طول.. أنا مكنتش عارف اتعامل معاكي.. وأوعدك إني مش هازعق كده تاني أبدا ولا هاعمل زي زمان خالص، ولو من شوية زعقت فده كان علشان أضايقت لأني مبعرفش ألعب ومكنتش عايز أخسر" أخبرها وهو يُربت على ظهرها علها تهدأ ليجدها توقفت عن البُكاء وابتعدت عن صدره لتنظر له في براءة

"وليه مقولتليش، أنا ممكن اعلمك وتلعب معانا كلنا.. وبعدين ليه محكتليش على كل حاجة حصلت ما بيننا زمان؟" تحدثت ليرى تلك البراءة بها وتهوينها للأمر ومنتهى الجدية التي أخذت بها ما قاله لها ليتنهد وهو لا يدري ماذا عليه أن يفعل مع تلك الصغيرة!!

"هاحكيلك على كل حاجة.. بس قوليلي اللعبة الأول دي بتلعبوها ازاي؟!" لم يُصدق ما تفوه به وهو يخضع لتلك الصغيرة التي بدأت في إرغامه على أشياء لم يعرف كيف يفعلها من قبل ولكن علّ حُجته تُنسيها حديثها عن معرفة ذكرياتهما سويا التي كانت سيئة لأبعد حد..

"أنا هقولك بنلعبها ازاي بس تحكيلي برضو احنا عرفنا بعض ازاي وتحكيلي على كل حاجة حصلت من يوم ما عرفتني!.. اتفقنا؟!" أومأ لها وأقترب في هدوء ليجفف دموعها فابتسمت له في اقتضاب وأخذت في الشرح له ولم تتوقف عن الحديث وهي تتحرك أمامه بمنتهى الحيوية ليشرد هو بتفكيره في الهروب من أسألتها له وبدلا من يُدقق التفكير، تمعن بتفاصيلها وهو لم يعد يُدرك أنه قد جُن بسببها!

--

جلس شارداً بكل تفاصيل تلك الأيام الماضية التي مكث بها بمنزل عائلته، لم يعد يُصدق ما هو به، لقد وقع في حب تلك الفتاة وعشقها، تجعله يفعل أشياء جديدة، من كان يُصدق أنه يلعب مع الأطفال ويذهب لمدينة الألعاب بل ويقص قصصا للأطفال قبل النوم!!

تلك الفتاة غيرت بداخله العديد من الأشياء، لا يستطيع شرحها ولا التحدث عنها ولكنه عرف أنه بات عاشقاً لها ولكل بساطتها وطيبتها التي لم يرى مثلها أبداً.. ضحكتها وتحركاتها وأفعالها الطفولية، خجلها وارتباكها كلما أقترب منها، مزاحها مع الجميع وحتى هديل، تحاول أن تكون طيبة معهم جميعاً، تلك المرات التي يجلسون بها لينتظروا ما تعده من طعام، تذكر عندما رسمت لهم رسمة عائلية ليبتسم دون شعور!!

كل مرة توجهوا بها للخارج، ذلك المرح الذي يجده كلما ترك لها الاختيار فيما سيفعلاه وإلي أين سيذهبا، تلك السعادة التي لم يجد مثلها أبدا بحياته.. تعجب لنفسه بعد أن أدرك كيف أعادت له تلك الفتاة ضحكته، لقد أصبح حتى لا يتوقف عن الإبتسام لسببا وبدون سبب.. وكأنها هي شعاع النور الذي أضاء تلك الظُلمة بداخله.. تنهد مُفكراً وهو لم يعد يعرف ما الذي عليه فعله سوى أنه يُريد أن يكون معها طوال الوقت وألا تغيب عن عيناه ولو للحظة واحدة.. ولكن ما الذي قد يحدث لو أنها استعادت تفاصيل ما فعله بها؟ هل يُمكن أنها ستسامحه؟!

"ايه ده.. قاعد لوحدك ليه؟" تحدثت نورسين لتخرجه من شروده ليرى تلك الزرقاوتان اللتان لم تعودا حزينتان كالسابق

"كنت مستنيكي"

"بجد؟" اتسعت عيناها في براءة ليومأ هو لها بإبتسامة "ليه بقا؟!" تعجبت لتجده يتنهد وتحولت ملامحه للجدية

"جامعتك هتبتدي خلاص بعد بكرة.. لازم بقا نرجع البيت وتركزي الفترة الجاية دي في مذاكرتك"

"حاضر" أومأت له في قليل من الحزن "يعني مش هنيجي عند شاهي وماما نجوى تاني؟!"

"لا يا نوري هنيجي في اجازتك، وأنا كمان لازم ارجع الشغل" ابتسم لها لتبادله الإبتسامة لتتلاقى أعينهما ولم يستطع هو أن يتوقف عن النظر لها بينما توردت وجنتاها في خجل وازدادت ابتسامتها وهي لم تعد تدري ما الذي يحدث لها معه، هي لم تعد تشعر بالخوف منه، أصبحت تُحب أن تقضي معه الوقت وتتوجه معه في أي مكان يذهب إليه، نعم لا زالت تتوتر من اقترابه منها ومن عدم معرفة تلك التفاصيل بماضيها ولكنها تشعر بشيء لا تعرفه تجاهه.. كلما حاولت أن تعرف ماهية هذا الشيء لم تجد إجابة ولكنها تتأكد أنه شيء جيد وليس سيء مثل السابق.. ربما بدأت في تقبله كزوجها!!

--

"صباح الخير يا رنا" ابتسم لها بإقتضاب ورسمية وهو يدلف مكتبه لتجن رنا من تلك الطريقة التي أصبح بها مؤخرا، فمن كان يظن أن بدر الدين الخولي يبتسم ويُلقي الصباح هكذا!

جلس على كرسي مكتبه ثم أوصد عيناه متذكراً تلك الذكريات التي مرت عليهما سوياً، عندما يراقبها دون أن تشعر وهي تستذكر دروسها بينما جلس هو بهدوء يعمل بجانبها، عندما يقلها للجامعة ويطحبها من هناك كلما سنحت له الفُرصة، تلهفها على قضاء الوقت بمنزل عائلته، مزاحها مع أولاد هديل، مزاحها معه هو نفسه، لا يدري كيف يتعامل مع كل ذلك؟ لا يدري كيف يقترب منها! لا تتوقف عن إثارته للحظة بينما تصرفاتها الطفولية تلك لا تدعه إلا مُقيدا بإنصياع لكل ما أرادته هي.. تذكر أيضاً ليلة أمس، لقد كانت تبكي حقاً لأنها تشعر بالخوف من الإمتحان، إلى متى ستظل بتلك البراءة؟

"فيه ايه بتعيطي ليه؟"

"أنا خايفة من المادة مليانة theories (نظريات) وحاسة إني مش فاكرة ولا كلمة فيها من السنين اللي قبل كده.. بس والله أنا بذاكرها من أول الترم بس .. بس مش عارفة ليه كل ما اجي اراجع احس اني مش فاكرة حاجة.."

"طب اهدي كده" اقترب منها ليجلس بجانبها ثم تناول الكتاب من يدها "ممكن تعملي Hot chocolate لينا احنا الاتنين وتيجي" ابتسم لها لتومأ هي له بينما بدأ في تصفح الكتاب ناظراً لمحتوياته ومواضيعه التي وجده تتحدث عن نظريات الإدارة التي أعد بها درساته العليا، لا يُصدق أنها تخاف بتلك الطريقة وهي التي لا تتغيب يوماً عن محاضراتها ولم تضيع أي وقتاً وكلما تفقدها وجدها تذاكر بمنتهى الحرص والتركيز..

آتت لتضع كوبا الشيكولاتة الساخنة أمامه وجلست وملامحها يبدو عليها التوتر والخوف ليبتسم هو لها "متخافيش.. أنا عارف إنك شاطرة وبتذاكري والمادة سهلة بس محتاجة تراجعيها بتركيز"

"أنا حاسة إني ناسية كل حاجة.. مش عارفة.. يمكن عشان آخر امتحان في الترم"

"تعالي.. قربي كده وركزي معايا وأنا هقولك على طريقة سهلة تجمعي بيها كل ده.."

لم يُصدق أنها بدت كالطفلة الصغيرة أمامه ليلة أمس، ولكنه لاحظ مدى براعتها في ترتيب النقاط بداخل رأسها، تركيزها عالٍ للغاية، قدرتها في استيعاب المعلومات والتكيف والتعود على طريقة جديدة كان سهلا وسلسا للغاية بالنسبة لها!! ربما لأن طريقتها بسيطة للغاية ولا تُشغل بالها بالكثير تستطيع تجميع المعلومات بسهولة ويسر، بل هل لا تُفكر بشيء على الإطلاق! هل هي دائما هكذا؟ طيبة وبريئة فحسب!!

فتح عيناه عندما وجد هاتفه يرن ليجدها أنها هي التي تهاتفه.. ابتسم ولم يُصدق أنه قضى ساعتان بأكملهما يُفكر بها وبما مر عليهما سوياً طوال الشهر والنصف الماضيان

"الامتحان جه سهل اوي.. أنا خلصت" صاحت عبر الهاتف ليبتسم هو لنبرتها السعيدة

"شاطرة يا نوري.. يالا روحي بسرعة.. وأول ما السواق يوصلك طمنيني عليكي"

"حاضر.. باي"

اطمئن عليها ليهُز رأسه بإبتسامة وتذكر كلاً من كريم ويُسري الذي يعرف بأنهما يتعذبان كل ذلك الوقت ولكنه خائف من رؤيتهما، يعرف جيداً أنه إذا رآى أيا منهما سيستيقظ ذلك الرجل السادي بداخله ولن يرحم أياً منهما وخاصةً يُسري الذي تأكد من أنه هو السبب في قتل والدتها عندما استمع لما سجله له كريم بل وظل وراء الأمر حتى تشرحت جثة والدتها وتأكد الأطباء بأن موتها لم يكن طبيعي، يعلم أنه عاجلا أم آجلا سيلقيه بالسجن ولكنه تشبث بكل يختبره مع نورسين الآن ولم يرد أن يُفرط به ولو للحظة واحدة.

نظر بالساعة ليجدها التاسعة مساءا وهو حقا لم يعي كيف مر كل ذلك الوقت عليه دون أن يشعر، لابد وأنه قد انشغل بالعمل كثيرا، عليه التوجه لنورسين الآن، ماذا تفعل على كل حال ولم تهاتفه لكل ذلك الوقت؟!

تفقد تسجيلات تلك الكاميرات التي وضعت بفيلته وترسل إليه على مدار الساعة على بريده الإلكتروني لتتسع عيناه لما كانت تفعله بغرفة مكتبه ليُمسك مفاتيح سيارته وتوجه للخارج مسرعاً وهو لا يعرف لماذا هكذا فجأة تفعل ما تفعله الآن.!

يُتبع ..