-->

الفصل الخامس والثلاثون - ظلام البدر - دجى الليل

الفصل الخامس والثلاثون

"ايه اللي جابك يا وفاء؟!" 

صاح بثبات شابه ذلك الصمت الذي يحُف بقبور الموتى لتبتسم هي بتهكم ولكن لم يدري أياً منهما كم ماثلت ابتسامة ابنها تلك الإبتسامة التي تبتسمها الآن!

"هنتكلم على باب الفيلا ولا عايز شوية شاغلين عندك يسمعوا كلامنا؟!" تسائلت بتهكم ليلمح بدر الدين سريعاً بثاقبتيه التي شابهت سواد عيناها الحُراس أمام فيلته ليصدح صوته بخفوت

"عديني وبعدين ادخلي ورايا!"

توجه لسيارته وبداخله يحترق غضباً ويسأل نفسه آلف سؤال وسؤال عن سبب مجيئها في مدة لم تتعدى دقيقتان حتى مر من الباب الأمامي وتبعته هي بسيارتها وعندما رآى أنه قد وصل لتلك المسافة التي لن يستطيع أحد سماعهما توقف بسيارته بشكل أفقي ليقطع عليها الطريق ثم ترجل من السيارة بمنتهى الزهو واضعاً يداه بجيباه وهو ينظر لمقلتيها بخاصتاه الثاقبتان ليرها تترجل هي الأخرى بنفس لذاعة زهوه وغروره الشديدان ليبتسم بداخله على كل مرة أخبره والده أنه شابهها..

لازالت تبدو كالعاهرات بملابسها التي حتى الفتيات المراهقات يرفضن ارتدائها لفضاحتها، لازالت رائحة العهر الممتزجة بتلك المساحيق التي تزيده اشمئزازاً منها تكسو وجهها بأكمله.. أحقاً إمرأة تعدت السابعة والخمسون من عمرها لازالت تفعل تلك الأشياء وترتدي تلك الأحذية التي تلائم فتيات الليل؟!

لم يجد إجابة بداخله غير أن تلك الأفعى لن تتغير أبداً حتى تموت ملتحفة بعهرها وتهكم بداخله وهو يتخيلها بأبشع حالتها عند الموت!

علمت من تلك العينتان التي شابهت خاصتها أنه يسألها لما آتت والإشمئزاز قد غلف ثاقبتاه ولكن ذلك الجبروت بداخله لن يتركه ليسأل ولن يبدأ بالكلام فأقتربت منه بجبروت مثله تماماً ثم تحدثت له..

"أنا عايزة حقي في كل الشركات.. مش وفاء اللي يضحك عليها وترمولها شوية فكة وبعدين تكبروا اوي كده!! وأنا عارفة إنك مش هتوافق.. ما دام Business is business (الشغل شغل يعني) وعاملي فيها رجل أعمال شاطر أنا هشارككم وهاشتري مجموعة أسهم كبيرة.. منها تكبر شركتك ومنها أنا استفيد"

"امشي اطلعي برا!" اجاب كلماتها تلك بهدوء شديد وهو لا زال يبرع في تمالك أعصابه وسيطرته على نفسه وأخذ يُعطي نفسه مُسكناً لحظياً بأنه سيُفجر كل ذلك بعد قليل مع تلك التي تنتظره!

"ده أنت كمان ليك عين تطردني.." صاحت متهكمة ثم أطلقت ضحكة ساخرة

"تكونش مصدق نفسك صحيح إنك بقيت راجل كبير بقا وبقالك كلمة.. يا .. يا.. ياللي كنت بتعملها على روحك قدامي وأنت واقف مرعوب وخايف.. ده أنت حتة عيل لا راح ولا جه، فاكر بس بشوية الفلوس اللي سابهالك صابر إنك كده ناجح ولا خلاص بقيت Business man عالمي.. لا يا بدر أنت طول عمرك هتفضل فاشل.. لو كنت تقدر تعمل حاجة كنت عملتها من زمان، أيام ما كنت بقولك تخلي أبوك يطلقني بس حتى وأنت عيل معرفتش تدخل على أبوك صح وتجبلي حقي!"

"حق؟!.." ابتسم بتهكم على كلماتها بينما تهشم بداخله عندما تذكر تلك اللحظات التي تتحدث عنها وفاء والتي يُفترض أنها المرأة التي أنجبته!

"آه حق.. لا سابني اتمتع بشبابي وحلاوتي مع واحد غيره ولا اداني حقي غير لما مات وفضل يذل فيا عشان عمري يعدي كده قدامه.. وحتى اهو بعد ما مات أنت واقف قدامي ومش عايز تديني حقي.."

"تعرفي؟! دايماً كان يقول عليكي استغلالية.. امشي اطلعي برا يا وفاء ومتجيش هنا تاني وإلا هـ.."

"وإلا ايه؟!" قاطعته في جبروت شديد "نسيت نفسك ولا ايه، ده أنت كنت بتشم ريحة السيجارة كنت بتجري تستخبا منها لا ألسعك أنا ولا واحد معايا.." تريثت لثوان وقد نجحت في استفزازه لترى تنفسه يزداد

"ولا نسيت أنك كنت بتترعب لو صوتي أنا وأبوك علي شوية.. جاي دلوقتي عاملي راجل وكبير وبتهددني؟!"

"راجل غصب عنك!" صاح بين أسنانه المتلاحمة "لآخر مرة بقولك امشي اطلعي برا!" همس بغل شديد بعد أن تذكر تلك الذكريات السوداء وهو يحاول أن يتحكم بنفسه مرة أخرى وبداخله قد اهتز بعنف وارتج كيانه لما تُذكره به

"لا بجد.. بتعمل راجل عليا؟! وأنت كنت فين يا نُغة لما أبوك كان بيبهدلك ومحدش عارف يحوش عنك؟ ايه نسيت كان بيعمل فيك ايه؟ ولا كنت فين لما كان بيمد ايده على أمك قدامك؟ لا وقال ايه بتقولي راجل وأنت كنت زيك زي قلتك لما بتسمعني نايمة مع راجل وبس حد يزعقلك تكش ورجلك تخبط في بعضها وتجري زي الجبان تختفي في اوضتك وتطفي النور وتستخبا.. فاكر يا واد لما مدحت في مرة قرف من زنك وطلعلك زعقلك قمت عاملها على نفسك ولما سكرت انا وهو جابك وطفا السجاير في رجليك وبعدها أنا ذنبتك ساعتين على رجلك الملسوعة وعملتها على نفسك تاني وفضلت تصوت لما قرفك ده لسعك.. بس لا تصدق اللي يشوفك دلوقتي ممكن يدخل عليه الكلمتين بمنظرك ده والأُبهة دي يتصدق إنك راجل.. لكن عليا أنا لأ، لأني عارفة أنت جبان وفاشل قد ايه وعمرك ما هتكون راجل!! أنت منظر على الفاضي.. قال راجل قال.."

"غوري من وشي ومش عايز أشوفك تاني.." تحدث مرة أخرى بين أسنانه المُطبقة وهو بالكاد يهدأ من نفسه فقط حتى يصل لتلك التي تنتظره ليُخرج عليها تلك الظُلمة التي لطالما عاش بها التي آتت تلك الأفعى لتذكره بها وتوجه نحو سيارته ليتركها خلفه وكاد أن يستقل سيارته مرة أخرى ولكنها أوقفته بحديثها مرة أخرى

"يااه!! ده أنت واضح بقا إنك مضحوك عليك ومصدق نفسك.. تكونش نجوى مدياك قلم في نفسك ومخلياك تصدق إنك راجل وعملتلك غسيل دماغ؟!" صاحت بإستهزاء وهنا لم يستطع بدر الدين أن يوقف نفسه، تلك المرة قد أخطأت بحق أعظم إمرأة رآها على وجه الأرض، تلك التي مثلت له كل شيء بالحياة، تلك المرة لن يدعها وشأنها أبداً..

" صحيح ما هو الشغل ده ميطلعش إلا من واحدة وا***... آه.." 

كادت أن تُكمل ولكن تلك اليد التي انتزعت شعرها في غل أوقفتها وتلك السوداوتان نظرا إليها بغضب جم لم يغضب بدر الدين مثله من قبل!

"بقا أنتي يا وا* طية يا و*** يا اللي مشوفتش أوسخ منك في الدنيا ليكي عين تجيبي سيرة ست جزمتها برقبتك وهي السبب في إنك لسه عايشة لغاية دلوقتي وحايشاني عنك!" 

صرخ بها وهو يلهث من شدة غضبه ليلقيها أرضاً وأقترب منها وهو لا يزال يجذب شعرها بعنف وبدأت أطرافه في الإرتجاف غضباً

"أنتي جاية بتهدديني ولا بتفكريني بقذارتك.. لأ وليكي عين كمان تجيبي سيرة أمي على لسانك.. الست اللي عملت اللي أنتي كنتي فاشلة فيه ومعرفتيش تعمليه.. اللي حايشاني اني أموتك بإيدي وأنتقم منك على كل اللي عملتيه فيا.. أنتي يا حتة مومس لسه بتتنفسي عشان خاطرها.. فلوسك اللي فاكرة إنها حاجة أخدتيها عشان خاطرها.. أنا بس لو سابتني عليكي هموتك.. وبالبطيء كمان!"

نظر لها بكراهية ولكنها أختلطت بالآلم الشديد وهو كاد أن يبكي ولكنه ذكر نفسه أنها لا تستحق ذلك الشعور الذي يشعر به تجاهها، هو فقط غاضب ليس إلا، لن يكون ذلك الطفل مجدداً مرة أخرى لينظر لها بتساؤلات بريئة وهو لا يدري لماذا تكرهه وتبغضه..

"أنتي عايزة ايه تاني؟ لا كنتي ست محترمة ولا كنتي أم ودلوقتي مفرقش بينك وبين واحدة شرمـ*** على النواصي!! جاية ليه عشان تعايريني وتفكريني بوساختك؟ ولا جاية تفكريني إني بقيت مفتري بسببك ولا فرحانة إني عشت طفل مهزوز ومرعوب طول عمري؟! أنتي عايزة مني ايه تاني؟ كل ما أحاول أكون كويس وأفتكر إني انسان طبيعي تيجي تبهدليلي حياتي؟ عايزة مننا ايه؟ مش كفاية كل اللي عملتيه ولسه بعد كل ده مبتتلميش ولا بتتعلمي؟ جاية تقولي لإبنك الوحيد إنه مش راجل؟ جاية تفكريني بقسوتك وظلمك ليا عشان ايه؟ على أساس إني كده هنخلك ولا اخدك بالحضن؟ أنتي قذرة، أنا مشوفتش في وساختك دي أبداً، كل ما العمر يعدي بيا أكتشف إنك أسوأ وأسوأ، أنا ممكن أحن على اي حد في الدنيا إلا أنتي!!"

لا يدري كيف تفلتت تلك الكلمات من لسانه، أهو يُعاتبها؟ أم هو غاضب بسبب ما تحدثت به عن نجوى؟ أيود أن يُخبرها هذا؟ لماذا يشعر بالخوف عندما ينظر لها؟ ألا زالت تلك المرأة الحقيرة تمتلك تأثيراً عليه وتُخيفه إلي ذلك الحد؟ لماذا يشعر وكأنه ذاك الطفل الصغير أمامها مرة ثانية بعد كل تلك السنوات، لماذا بدا غله وحُرقته كطفل بالعاشرة من عمره يلوم والدته؟

"ورحمة أبويا اللي جاية بتعايريني بيه وهو الوحيد اللي اداني فُرصة لما دخلني بيته وخلى إنسانة محترمة تربيني ولمني من الزبالة والقذارة اللي كنت عايش فيها مع واحدة مومس زيك، لو فكرتي بس تهوبي ناحيتي ولا ناحية أمي ولا حد من أخواتي هموتك يا وفاء، هموتك بعد ما ابهدلك صح، والجن الأزرق مش هايعرفلك طريق ولا حد هايرحمك من تحت ايدي، اياكي بس تفكري توقفي قدام اللي مش شايفاه راجل، لحسن أعرفك وأعلمك يعني ايه راجل من أول وجديد.. وأوعي تكوني فاكرة إنك لما تتلميلك على واحد قذر من كلابك هتقدري توقفي في وشي.. ما هو انتي استحالة تيجي تواجهيني إلا لما تكوني مسنودة، بس سندك ده لا إبنك ولا جوزك ولا راجل يمتلك بصلة عشان يحافظ عليكي، هيكون واحد عـ** من اللي أنتي بتعرفيهم وشايفك كوبري إن يوصلك ليا.. أنتي حقيرة وعمر ما هتلاقي اللي أنتي عايزاه عشان أنتي من الأول فرطتي في حقك بنفسك.. غوري يالا في ستين داهية للي آوي واحدة زبالة زيك"

لم يكترث بصراخها من قوة يده التي اقتلعت شعرها بعنف ولكن لا يزال وجعها يمتزج مع تلك النظرة التي لم تتغير أبداً بعينيها، لا زالت تحمل ذاك الجبروت الخالص بسودواتاها اللتان شابهت خاصته وهو يشعر وكأنه يغلي بداخله وكم تمنى أن يقتلع رأسها عن جسدها حتى تفارق الحياة وليس فقط ما يفعله.. يشعر بإحتراقه داخلياً أمامها ولا يدري ماذا يفعل معها خاصةً وأنه يتذكر كلمات نجوى له عندما مات والده


--

"لا يا أمي.. الست دي ملهاش حاجة عندنا ومش هنديها حاجة، وإذا كان أبويا مرضاش يطلقها عشان ميسبلهاش فلوس أنا كمان هاعمل زيه ومش هديها حاجة لأنها متستاهلش" صاح بدر الدين بغضب جم

"يا حبيبي يا بدر اسمعني.. أنا عارفة إننا هنتزنق زنقة كبيرة بسببها، بس أنا عايزاك تخلص منها.. مش هي كل ده مرضيتش تسيب صابر الله يرحمه عشان شوية فلوس.. نديهالها ونخلص منها وأنت كمان تقفل الباب ده، عشانك والله وعشان ترتاح منها"

"أنا أخلص منها بأني أموتها، إني أعذبها زي ما عذبتني وأنا صغير، إني أشوفها مكسورة قدامي زي ما عملت فيا لمـ.."

"لا يا بدر.." قاطعته نجوى وهي تشعر بتلك الثاقبتان تحاول الإختباء منها بأي شكل ثم أقتربت منه في حنان لتُربت على كتفه "لو هي إنسانة مش كويسة ده مش معناه إنك تعاملها بنفس المعاملة.. اديها يا ابني فلوسها وخلينا نخلص منها.. لا نشوفها ولا نعرفها تاني.. لكن اللي أنت بتقول عليه ده حرام.. مهماً كان هي الست اللي ولدتك.. ربنا يسامحها ويديها على قد اللي عملته فيك.. لكن لو اتعاملت معاها بنفس اسلوبها يبقا أنت كده مفرقتش عنها حاجة"

"يا أمي أرجوكي سيبيني أتعامل معاها بطريقتي.. واحدة زي دي استحالة تبطل قذارة واستغلال غير بموتها، أنتي محترمة وطيبة لكن هي مش زيك!!"

"لا يا حبيبي، حتى لو هي كده أنت مش كده، وأنا بردو مش هرضى إني أعمل معاها اللي أنت بتقول عليه، وأنا عارفة ابني كويس اللي أنا ربيته مش هي اللي كبرته وربيته، متديهاش الفرصة انها تشوفك إنسان مش كويس يا بدر"

"يعني هو ده اللي أنتي عايزاه؟ اديها فلوسها؟"

"ايوة يا حبيبي.. اهو مهما كان في الأول وفي الآخر حقها من أبوك.. أياً كان بقا هما كانوا ايه وبقوا ايه اخلص منها بالفلوس وطلعها برا حياتك"

"حاضر يا أمي!"

--

أخذ خطوات سريعة وهو يتوجه لغرفته بعد أن دلف منزله وأطرافه ترتجف غضباً بعد أن قام بطردها أسفل أنظار الجميع، يريد أن يُفجر ذلك الغضب بداخله، لم يكن ليتصور أن يومه سينتهي برؤيته لها مرة أخرى، لم يتوقع أن عليه المعاناة كلما رآها.. لم يعد يتحمل ذلك الشعور كلما رآها أو تحدث معها، صوتها فقط ونبرتها تُسبب له الآلم، كلما ذكرته بتلك الأيام التي كان بها طفل صغير وبتلك الأحداث المُفجعة التي تعرض لها يشعر ويتذكر كام كان ضعيفاً، لا يجد غير تلك الطريقة التي يتلذذ بها عن طريق إيلام وتعذيب الآخرين حتى يُثبت لنفسه أنه ليس ضعيفاً مثل الماضي!!

ولكن له هو ليس رجل سيئاً، هو يُعاقب من يخطأ فقط، من يمسه بسوء هو ومن يُحبهم، تلك الفتيات اللاتي يأتين له ليتعذبن يتناولن آجراً.. هو لم يعد يعاشر النساء، هو فقط يريد إيلام تلك العا* هرات اللاتي يردن المال ويعنفهن حتى يرى خوفهن وآلامهن الحقيقية، هو لا يعذب البريئات، فقط المستغلات، العا* هرات التي يرى فيهن صورة تلك المستغلة المتصابية التي أنجبته لتلك الحياة المريرة التي عاش بها متآلماً وتمنى كل يوم لو لم يولد ولم يُخلق أبداً..

ابتلع تلك الغُصة بداخله وهو يُشمر كمي قميصه بعد أن ألقى سُترته على أرضية غرفته وبعدها توجه لذلك القبو في تلك الظُلمة التي ماثلته وماثلت أيامه وسنوات حياته منذ أن كان رضيعاً إلي اليوم ومشى مهرولاً ليجذب تلك الفتاة التي حقاً لم يدرك هل رآها من قبل أم أنها جديدة.. كل ما يُريده أن يُخفف من حدة هذا البركان الثائر الذي يؤججه ويجعل دماءه تغلي دون هوادة أو انقطاع..


مش عايز اسمعلك صوت يا بنت الـ***" همس لها بنبرة مرعبة وهو يجذبها من شعرها لتحبو هي أرضاً بجسدها الذي لا يحجبه شيئًا بعد أن أمسك بأحدى الأنابيب المعدنية الرفيعة وهو يلهث غاضباً في غلٍ شديد وشعر لحظياً بفرحة عارمة عندما لاحظ تنفس تلك العا* هرة أسفله يزداد في خوف ووجل مما سيفعله بها ولمس قلبه شعاع الرضاء لإستطاعته أن يخيف مثلها فقط بعدة خطوات وتصرفات غير منطوقة وأنبوب معدني دون أن يُعذبها بعد! ابتسم في انتصار ثم رفع يده لينهال عليها بالضربات ولكنه للحظة شعر بالشلل التام بجسده بأكمله..

لماذا يتذكر تلك الضحكة البريئة الآن؟ تلك التحركات الطفولية، صمتها وهدوئها عندما تجلس بجانبه لتُحضر لإختبارتها، مرحها عندما يقضيا الوقت سوياً، ركوضها وحيويتها مع أبناء أخته، ملامحها البريئة وهي تُخبره بأنها تُحبه، شعاع تلك الإبتسامة الخجولة أنار له ذلك القبو لتنهال على عقله العديد والعديد من الأوقات التي رآها بها..

خوفها منه، بكاؤها، توسلاتها، عندما ثملت، أول مرة تجمعهما معًا، نومها كل يوم بالقرب منه وهي متشبثة به كالخائف من الضياع بالزحام، تهجم كلاً من ذلك الحقيران عليها، مرحها مع الجميع وفرحتها بأشياء بسيطة تكاد لا تُذكر وهي مجرد أشياء لن تفرح فقط سوى طفلة بالعاشرة من عمرها!!

ما الذي يحدث له؟ لماذا الآن؟ لماذا وهو من كان يشعر بالغضب من كل ما تعرض له منذ ثوانٍ يأتي الآن عقله ليُثنيه عما أراد فعله بتلك الطريقة؟ لا لا لن يستمع له!! هو يريد أن يبدد ذلك الغضب الآن!

رفع يده مرة أخرى وحفنة من شعر تلك العا* هرة لا زالت بيده وأقترب أن ينهال عليها بمنتهى القسوة التي انعدمت من الرحمة ولكن يفاجأ نفسه بنفسه بأنه لا يستطيع فعلها!

تعالت أنفاسه لتلهث بعنف ثم جذب شعرها للأعلى حتى تقف ويتبين ملامحها المرتعدة منه، ربما بتلك الطريقة يستطيع تذكر ما يفعله، هو لا زال يشعر بالغضب من كل ما حدث، بل ازداد غضبه تجاه نفسه من ارتجاعه وتوقفه عن البدأ والشروع في عذاب تلك العا* هرة وإيلامها، يدرك تماماً أن تلك المُرتجفة بين يداه تشعر بالفزع الشديد منه، أليس هذا ما يريد أن يراه على وجه العاهرات مثلها؟ إذن لن يتوانى ولن يتراجع..

رفع يده حتى يصفعها ولكن دوى بعقله صوتها وهي تُخبره بحفنة كلمات بريئة 

"تفتكر أقدر بجد ابعد عنك.. أنا خلاص مبقتش أحب حد قدك.. حتى بقيت بحبك أكتر من شاهي.. وبخاف وبزعل لما بتسبني لوحدي" ، "ايوة بحبك اوي.. بس بخاف منك" ، "أنت ليه ضربتني كتير وبعدين بقيت بتحبني وبتعملي حاجات حلوة؟"..

"فلوسك هتوصلك بكرة الصبح" همس وهو يترك تلك العا* هرة التي كانت أمامه ليومأ لها أن تغادره وعقد قبضتاه في غضب لا يدري من نفسه أم من تلك البريئة التي تسللت لعقله وقلبه حتى تستطيع بمنتهى الطفولية أن تواجه ذلك الغضب الجم بداخله بل وتمنعه وتوقفه أيضاً!

توجه لغرفته بمنتهى الغضب وذلك الاحتياج الذي لا يزال يحثه على فعل العديد من الأشياء ولكنه لأول مرة لا يستطيع إخراجه، لقد أعجزته تماماً على المضي قدماً في الشيء الوحيد الذي يجعله يُفرغ غضبه هذا قليلاً..

لمح نفسه بالمرآة ليرى شعره مبعثراً ومظهره لا يبدو مُرتباً وقميصه غير مهندم.. لم يعتاد أبداً على ذلك.. ابتسم بتهكم وهو يتخيل لو أن والده شاهده الآن، ربما ستكون عقوبته له الحبس الإنفرادي لعشرة أيام بالقرب من آلات عذاب عديدة وجديدة لم يعرفها يوماً..

توجه للحمام ليخلع ملابسه بأكملها وأوصد عيناه أسفل المياة وهو لا يزال غاضباً، ذلك الكبت بداخله يحثه على أن يفعل شيئاً عنيفاً بأحد، لقد جرب مراراً العدو والذهاب لغرفة الألعاب الرياضية وتناول المهدئات ولكنه لن يهدأ أبداً إلا عندما يُخرج ذلك العنف على جسد إمرأة..

خرج من أسفل المياة وهو يوصد الصنبور ثم تناول احدى المناشف وخرج لغرفته لا يدري ما الذي عليه فعله!! جلس على السرير وهو يخلل شعره الفحمي بضيق وغضب ونظر بعدها لكفاه اللذان لا يزالان يرتجفان غضباً ثم لمح صورة ليلى بالقرب منه بضحكتها الرائعة لينظر لها بلوم وبنفس الوقت بإشتياق..

"أنا بحبها يا ليلي.. بحبها ومش عارف أعمل ايه.. أنا حاولت اجيبلها حقها من الكلبين وبهدلتهم، أنتي متخيلة إني من كتر ما كنت خايف من رد فعلها لو عرفت إني عرفت الحقيقة نزلت من نظر نفسي كراجل ومرضتش ابهدل الوسخ ده يومها وأنا سامعها بوداني بتصوت منه؟!!.. بس أنا جيبتلها حقها النهاردة، وبردو أنا ظلمتها كتير وهي بعدها ورتني حنية محدش ورهاني.. بحسها بتحجمني عن كل حاجة، أنا مبسوط بإنها بتغيرني بس النهاردة خلاص مش قادر أمسك نفسي، أنا بقالي شهور معملتش حاجة في حد، بس لما قربت من واحدة غيرها مقدرتش استحمل دقايق قدامها.. كده يا ليلى تسيبيني في وسط كل ده؟ مش لو كنت انتي هنا كنتي استحملتيني وعرفتي تخلصيني من اللي أنا فيه؟ أنا عمري يا حبيبتي ما اقدر انساكي بس نورسين.. نور دي اللي نورتلي دُنيتي كلها، بس مهما اللي عملته فيا هافضل انسان معقد، هافضل زي ما أنا بوجعي وسوادي وقسوتي.. عارفة يا ليلى حاسس إنها وحشاني اوي، وحشاني ونفسي أكون معاها عشان بس كام ساعة بعيد عن عيني.. أنا مش بكرهك يا ليلى وبحب غيرك، بس أنتي بردو كنتي صاحبتي اللي باحكيلها وبفضفضلها بكل حاجة" ابتلع غُصة بحلقه بصعوبة ثم أكمل

"شوفتي يا ليلي جت عملت فيا ايه النهاردة؟ فكرتني بكل حاجة بحاول أنساها وابعد عنها، فكرتني إني كنت بتذل وبتبهدل، هي ليه مصممة تعمل فيا كده زمان ودلوقتي؟ هو يا ليلى فيه أم ممكن تعمل كده في ابنها بجد؟" تسائل لتنهمر الدموع من سوداوتاه

"هي ليه مش بتحبني؟ أنا مكنش ليا ذنب في حاجة.. ليه دايماً بتفكرني أبويا كان بيعمل فيا ايه؟ ليه دايماً بتأذيني في اللي بحبهم بالكلام ده؟ هو.. هو أنا لو جبت طفل أو لو كنا خلفنا كان ممكن ابقى زيها؟ أو.. أو زيه؟" ابتسم بمرارة وهو لا يدري كيف يتوقف عن البكاء ليبدو كطفل صغير يبحث عن ملجأ ليأويه

"أكيد كنت هبقا زيها.. أنا لسه شبهها اوي.. لسه كل حاجة فينا زي بعض، أكيد كنت هابقا نسخة منها، كان عنده حق أبويا وهو بيقولي إني بفكره بيها، هو.. هو ليه مموتنيش في مرة لما كان بيبهدلني وكان خلصني من كل ده!! أنا تعبت اوي يا ليلى.. أنا محتاج نور جنبي، محتاجها بس تقعد جنبي من غير ما تتكلم، محتاج ألمحها بس.. بس.. أنا خايف من نفسي عليها.. خايف اوي يا ليلى!!" همس بحرقة لينهض مسرعاً وارتدى ملابسه على عجل وكأنه يريد التهام تلك الدقائق القادمة التي تفصله عن رؤية وجهها البريء، لا لن ينتظر أكثر من ذلك بعيداً عنها،سيذهب إليها الآن..

أحضر هاتفه ليعيد فتحه بلهفة ونفاذ صبر شديد وهو يتصل بنورسين التي أجابت بعد مدة بصوت ناعس ولم يستطيع فتح حوار معها حتى

"عشر دقايق هاكون عندك.. البسي وانزلي بسرعة.. هستناكي قدام البيت" آخبرها بنبرة تعجبت لها نورسين ثم تفقدت الوقت الذي قارب على السادسة صباحاً لتضيق ما بين حاجباها في استغراب من فعلته ولكنها نهضت لتنفذ ما أخبرها به على الفور!


 .. يُتبع