-->

الفصل الثامن والثلاثون - ظلام البدر - دجى الليل

  

الفصل الثامن والثلاثون

يا من على الحب ينسانا ونذكرهُ

لسوف تذكرنا يومًا وننْساكا

إن الظلام الذي يجلوك يا قمر

له صباح متى تُدركُهُ أخفاكا

مصطفى صادق الرافعي

❈-❈-❈

مطلع يناير عام 2001...

أجهشت بالبكاء وهي وحدها بذلك المنزل الذي ابتاعه لها قبل سفره المزعوم!! تنظر بتلك الأماكن التي تشاركا بها ذكريات لا تُعد على إصبع اليد الواحدة قبل أن يتركها وذهب!! لماذا فعل ذلك؟ رآته بجبروته وقسوته ثم لينه وضعفه، أحبته في جميع أحواله، حتى بعد فقدانها للذاكرة ورعبها منه عشقته بكل جوارحها، وبالرغم من تلك الليلة التي رآت منه ما لم تتخيله تقبلته، تتذكر أنها سألته مرارا لماذا بكى؟ لماذا أخبرها بأنه يحتاج لها؟ لماذا أعتذر مرارا وتكرارا على ما فعله ثم بالنهاية لم يُخبرها، ما كان السبب على كل حال؟ لماذا لم يُخبرها بشيء؟ لماذا لم تكن هناك لحظة وداع بينهما؟

ألهذا الحد طيبتها وعشقها لرجل أهانتها؟ أكان من الخطأ أن تُسامحه؟ أن تتقبل ذلك الوحش بأفعاله وبكل ما فعله بها كان نتيجتها أن يتركها ويذهب؟ لماذا التسامح خطأ؟ لماذا الطيبة بشعة إلي ذلك الحد المؤلم؟ لماذا حدث لها كل ذلك؟ فقط لأنها أرادت زوجا وقعت في عشقه لا تدري كيف ومتى كانت هذه هي النتيجة التي عليها تقبلها!!

سبعة أشهر من الإشتياق له، سبعة أشهر من ذلك العذاب الذي تحياه، لم تسمع منه ولو حرف واحد، لم يُحدثها، لم يطرق بابها، لم يحاول الوصول إليها، بل حتى لم يترك لها سبباً واحداً حتى تُشفق عليه بعد كل ما فعله بها ومعها!

ما تلك الأشهر التي مرت عليها؟ وما تلك الحياة التي تحياها؟ ما ذلك الرجل الذي وقعت بحبه؟ لم يكن سوى بدر في ليلة شتاء مُلبدة بالغيوم، أستتر وراء سحبها المكدسة، لم تراه ساطعاً ولو مرة، لم يتجل لها رؤيته بوضوح.. لطالما أختفى وأستتر بتلك الظلمة التي لم تستطع هي ولا غيرها بإنارتها..

ماذا كان يظنها؟ مجرد فتاة صغيرة قليلة الحيلة؟ ألهذا الحد هو الآمر الناهي حتى فيما يتعلق بمشاعرها؟! لم تُخطأعندما نادته بملك الكون!!

أنتي خائنة وإستغلالية، لم أكن ولكن لم يستمع!!

ستتعذبين، حسناً..

سأتزوجك وستكونين لي خادمة، سمعاً وطاعة..

طفلتي البريئة كل ما تريده أوامر لي، تبتسم تلك الطفلة وتفرح كالبلهاء..

هيا تناسي وتناسي وأرحِ بتلك الدمية ولا تحاولي التذكر.. آوامرك مُجابة زوجي العزيز..

فلتتحمليني قليلاً، أحبك وسأفعل..

أحبك ولا أريد الإبتعاد عنك، وأنا أيضاً..

لقد قتل يُسري والدتك وها هو حقك وأموالك وإرثك، يا مآمني يا ملاذي ماذا كنت لأفعل لولاك..

منزل جديد صغيرتي، شكراً حبيبي..

أتتذكر تلك الليلة عندما فعلت ما فعلته، لمّ كان ذلك؟ لماذا قسوت علي؟!، سأخبرك لاحقاً..

أستتركيني يوماً ما؟، لن أستطيع فعلها..

أستتركني أنت؟!! هل تستطيع فعلها؟!! نعم.. لقد فعلها.. بكل سهولة، دون سبب، دون وداع، فقط رحل، غادر، دون كلمة واحدة!!

فكرت بكل ما مر عليها معه، كل ما عاشاه سوياً، سبعة أشهر من الآلم والجراح، لم تجد مُسكنا سوى لدى شاهندة التي لطالما أعطت أخيها الأعذار الواهية وأنه سيأتي يوما ما بالنهاية..

لم تجد سوى الإنكسار بعيني نجوى وهي لا تدري كيف لها أن تخبرها بأن ابنها، قرة عينها، من تُحبه أكثر من أي شخص على وجه الأرض قد فعل ما لم يتوقعه أحد أبدا..

جففت دموعها وابتلعت شهقاتها عندما سمعت رنين هاتفها لتجد المتصل فارس.. هذا الذي بدأ في أن يعوضها عن جزء لطالما بحثت عنه ولم تجده.. كان أخيها التي لم تمتلكه يوماً..

"ازيك يا فارس؟" اجابت بصوتها الحزين

"ايه يا ست البنات عاملة ايه؟ وحشتيني اوي بقا"

"وأنت كمان"

"كده بردو يا بت انتي متسأليش في أخوكي، لو متكلمتش متسأليش أنتي؟"

"معلش،حقك عليا، أنا مشغولة اليومين دول بمواضيع الشغل"

"ماشي يا نور!! ربنا يوفقك يا حبيبتي.. عاملة ايه بجد يا نور؟ بدر مكلمـ.."

"لأ مكلمنيش.. وأنا كويسة أهو، وأنا مش عايزة حد يجبلي سيرة الموضوع ده تاني.. ممكن بقا؟!" صاحت بنبرة هجومية شديدة ليتعجب فارس

"طيب طيب خلاص اهدي.. حقك عليا يا ستي" تنهد فارس في قلة حيلة ثم أكمل "عايز أقولك إني جاي الشهر الجاي"

"طب وعملت ايه مع عمي؟"

"هاعمل ايه يعني.. مقداميش حل غير إني احطه قدام الأمر الواقع"

"طب وبسنت؟ لسه مضايقة؟!"

"هي مضايقة بس عرفت إننا مقدمناش غير الحل ده، أنا قعدت مع أهلها وطلعوا عيني وهي بصراحة وقفت جنبي وفي الآخر وافقوا.. هنعمل فرحنا بقا بعد لما اجي بإسبوعين.. طبعاً مش محتاجة عزومة انتي وكل اللي عندك"

"مبروك يا فارس.. أنا فرحتلك أوي والله"

"عارفة يا نور نفسي اخواتي وماما وبابا كانوا يبقوا معايا.."

"سيبها لوقتها وإن شاء الله الموضوع هيعدي على خير.. أهم حاجة متقولهومش غير قبلها بيومين تلاتة عشان باباك بس ميضايقش"

"يضايق!!" صاح متهكماً "ده يا بنتي يوم ما عرف إنك متجوزة وبتحبي جوزك مقبلش وصمم أنه هيطلقكوا بالإكراه ويجوزني أنا وانتي غصب"

أخبرها بعفوية لتدمع عيناها على ما قاله.. فهي تتذكر جيداً عندما ذهب فارس لمنزل عائلة بدر الدين أخبرته أنها تُحب زوجها وعندما سألها عنه أخبرته بأنه قد سافر لتوه وسيعود قريبا، كم شعرت بالآسى على نفسها لحظتها عندما تذكرت حقيقة سذاجتها بتلك الطريقة!!

"معلش يا فارس" أجابت بعد برهة من التفكير " ما أنت اللي حاكيلي بنفسك احنا عندنا جواز القرايب مقدس في العيلة.."

"يالا.. اهى كلها عادات منيلة.." اخبرها متنهداً "نور أنتي محتاجة حاجة بجد؟"

"لا والله يا فارس متحرمش منك كله تمام"

"بس والنبي يا نور لو احتاجتي حاجة تقوليلي.. أنا حاسس بصوتك اللي لسه زعلان بس علشان خاطري حاولي بقا تنسي.. بقا فيه بنوتة زي القمر زيك كده تزعل الزعل ده كله؟ وبعدين اطمني اني معاكي في اي قرار تاخديه وهتلاقيني اول واحد جنبك"

"من غير ما تقول أنا عارفة.." رن جرس الباب لتتعجب نورسين "معلش هاروح اشوف مين على الباب.. سلام دلوقتي.. وسلملي على بسنت كتير"

"يوصل.. خدي بالك من نفسك وكلميني في اي وقت"

"حاضر وأنت كمان.. باي.."

أنهت المكالمة وهي تشعر بالحزن، فحتى ذلك الشخص الوحيد الذي اعتبرته أخيها كان بعيدا هو الآخر.. توجهت نحو الباب لتتفقد الطارق التي كانت شاهندة ففتحت الباب..

"بنوتي الحلوة.. عاملة ايه؟!" تسائلت شاهندة بنبرتها التي تبعث السعادة في الجميع

"تمام" اجابتها بإقتضاب بعد أن بادلتها العناق.

"بصي بقا.. جو الكآبة اللي أنتي فيه ده مش هاسمحلك تستمري فيه أكتر من كده.. الأسبوع ده Shopping (تسوق) وبعد كده ننزل على الشغل، وخروج وفُسح و.."

"انتي بتاخديني على قد عقلي تاني يا شاهي مش كده؟ بتعامليني بنفس الطريقة اللي بدر عاملني بيها زمان!! عيلة صغيرة وطيبة تجيبلها حاجة حلوة وتقولها بص العصفورة تنسى الحاجة اللي مضايقاها" قاطعتها وهي تنظر لها بآسى وحزن جلي بتلك الزرقاوتان التي لم يبارحها الهم منذ تلك الأشهر السبعة المنصرمة..

"أنا مقصدش أنا.." لم تدري شاهندة ماذا عليها أن تقول أو بمّ تُجيبها ثم تحولت ملامحها للحزن لتشرد نورسين بالفراغ فتنهدت الأولى وهي قررت بداخلها أنها لن تتراجع الآن

"بصي يا نور.. أنا من يوم ما شوفتك وأنا اعتبرتك بنتي أو أختي الصغيرة.. وكونك مرات أخويا فده مش هيخليني في صفه.. أنا لغاية دلوقتي والله العظيم ما أعرف عمل كده ليه، ومحدش عارف هو بيعمل ايه غير موضوع الشركة اللي فتحها في امريكا، ولولا أنك رافضة أنا كنت هـ.."

"خلاص يا شاهي.." قاطعتها وهي تنهض لتداري تلك الدموع التي انهمرت منها دون إرادتها

"متتكلميش كتير ولا تبرريلي اللي عمله ولا عايزة أعرف.. سيبيه وخليه براحته" ابتلعت غُصة ومرارة تلك الدموع بصعوبة لتحاول أن تُسيطر على نفسها قدر المًستطاع وبكل ما أوتيت من قوة فتشت عن رباطة جأشها بداخلها حتى وجدتها فحمحمت ثم أكملت

"هنعمل Shopping.. وأنتي هتساعديني في شركتي لغاية ما أفهم الدنيا.. أنا واثقة إني هاكون كويسة.. بس أنا محتاجة الزقة الأولانية لغاية ما أعرف اتصرف لوحدي" حاولت الإبتسام لها ولكن رغم عنها لم تقابل الإبتسامة عيناها لتنهض شاهندة نحوها وعانقتها في حب

"زقة أولانية.. ده أنا أزقك العمر كله كمان لو عايزة.. كل اللي أنتي عايزاه هاعملهولك.. وإن شاء الله هتكوني أنجح Business Woman (سيدة أعمال) في الدنيا"

"إن شاء الله"

"طيب خشي يالا خدي shower كده والبسي ويالا بينا"

"حاضر يا شاهي" ابتسمت لها ثم غادرتها لغرفتها حتى تستعد للخروج!

--

"لو سمحتي يا شاهندة قولتلك إني مش عايز اتكلم في الموضوع ده" صرخ بدر الدين بهاتفه بمنتهى الغضب

"مش عايز تتكلم.. هاحكيلك بعدين.. سيبيني اخد وقتي.. لغاية امتى؟ هتفضل سايبها كده لغاية امتى؟ كانت عملتلك ايه؟ عملتلك ايه يا بدر عشان تعمل فيها كده؟ بنت في سنها ده حرام اللي بيحصلها، ذنبها ايه؟ فهمتها غلط واتجوزتها غصب واتعرضت لإنهيار عصبي وسامحتك وفي الآخر تسيبها! ذنبها إيه فهمني؟"

"مش ذنبها، ذنبي أنا.. ارتحتي؟ مبسوطة دلوقتي؟ ذنبها إنها حبت إنسان مش سوي، إنسان معقد.. مكنش قدامي حل غير إني ابعد عنها" صرخ مرة أخرى بحُرقة وهو يتذكر كل ما مر عليه مع نورسين

"ليه مش سوي.. ما أنت كنت عايش مع ليلى ومبسوط.. وشوفتك بعيني وأنت مبسوط معاها.. ليه جي دلوقتي تقول كده؟ ده أنت يا أخى مقعدتش معاها قد ما سيبتها.. حرام عليك تـ.."

"ارحميني بقا!! ارحميني! ليه شايفني كلكوا إني وحش، ليه محدش فاهمني" صرخ مقاطعاً اياها "أنا فعلاً حرام عليا إني أكمل معاها، حرام أظلمها أكتر من كده.. دي.. دي ملهاش ذنب في اي حاجة" لانت نبرته لتتحول لنبرة مليئة بالإنكسار

"بدر هو ايه اللي حصل بينكم بالظبط؟!" تراجعت شاهندة عن حدتها ولانت نبرتها عندما شعرت بإنكساره "بدر أنت بتعيط؟!" شعرت ببكاءه ليتمالك هو نفسه بصعوبة

"هكلمك تاني.."

أنهى المكالمة لتنهمر دموعه مجدداً رغماً عنه، سبعة أشهر وخمسة أيام وثلاثة ساعات وست دقائق وهو لم يرى تلك الزرقاوتان، لقد ظن أن عيناها هي عذابه الأبدي، لم يكن يدري أن بالبعد عنها سيجد أنهما جنتاه..

أشتاق لها، لعبيرها وضحكتها البريئة، أشتاق لتلك الطفولة التي لم يحياها سوى معها، تلك العفوية والطيبة، سهولة وبساطة كل شيء معها، حيوتها وخجلها الذي خلبا عقله، عناقها الذي كان ينتظره طوال اليوم بفارغ الصبر، تمنى لو عانقها مرة واحدة فقط.. لو يمر بجانبها دون أن تراه، لو فقط يستطيع دفن وجهه بصدرها ويجهش بالبكاء ليشتكي لها لوعة ذلك العذاب الذي يحياه منذ أن ابتعد عنها!!

لقد كان غبياً بقراره، لماذا تركها؟ يبعثره الإشتياق كل يوم، بل كل ساعة ودقيقة، اشتاق لذلك النور الذي تبعثه به وتبدد به ظلمته، أين له به الآن؟!

تؤلمه وحدته، وحشته بتلك الليالي الحالكة التي غاب بها نور قمره الذي يهديه لطريق الصواب تجعله يتمنى الموت كل يوم، لم تعد تسطع شمس ضحكتها البريئة لتخلصه من كل تلك المشقة التي يعانيها بكل ثانية تمر عليه دون تواجدها بجانبه..

ماذا كان عليه أن يفعل؟ كان ذلك الحل الوحيد منذ أن أدرك ما فعله معها.. منذ تلك الليلة وهو لا يستطيع أن ينظر لها دون أن يشعر بالخوف والذنب في آن واحد، علم جيداً أن ظُلمته وقسوته لن تليق بتلك البريئة الصغيرة.. هي تستحق من هو أفضل منه، لن يستطيع أن يُدنس تلك البراءة والشفافية بتلك التلطخات السوداء القبيحة التي إذا واجهتها بأكملها ستدمر حتماً لا محالة..

لقد مثلت له الحب وهو من روي من الكراهية طوال حياته، لقد كانت كضوء قمر ساطع وهو عاش بالظلام طوال حياته حتى أصبح ونيسه الوحيد، لم يرى في طيبتها ونقائها بينما عاش هو قاسياً طوال عمره يُعذب النساء ويتلذذ بعقاب من أخطأ بحقه، هي تستطيع أن تُسامح بسهولة ولقد فعلتها معه، بينما هو لا يُسامح ولا يغفر أبداً.. كيف للظلام أن يحيا بذلك النور الساطع؟! كيف للطيبة مجاورة القسوة؟ كيف للحب أن يجتمع بالكراهية أسفل سقف واحد؟!

تنهد وهو يوصد عيناه وآخذ يدخن سجائره في صمت مرير حوله بينما تلك الصرخات التي عذبته بداخله لا زالت مستمرة، عذاب والداه، فقدان ليلي، ابتعاده عنها وعن كل ما أحبهم يوماً ما، كيف لكل ذلك الدمار أن يعمر مرة أخرى؟؟

للحظة اطمئن أن ابن عمها قد غادر منذ شهور دون أن تحدث أية مشاكل، ابتسم بإقتضاب عندما أخبرته شاهندة عن كل ما حدث وكيف أخبرته نورسين أنها تعشق زوجها ولم يُغصبها أحد على شيء.. شعر بالأمان أنها لازالت تذهب مع السائق والحرس الذين عينهم لها قبل مغادرته بأيام، لايزال يعلم متى دلفت منزلها ومتى غادرت، لقد فعل ذلك من أجلها لأنه لا يأمن مكر وفاء، كما أنه لا يزال يتألم لأنه يعلم أنه سبب دموعها التي لا تتوقف، كم يتعذب بمعرفة حزنها، لو فقط يُخبره أحد أنها بخير واستطاعت أن تنساه لربما أصبح حاله أفضل!! لماذا عليها أن تحبه بتلك الطريقة؟ متى ستنساه وستعيش حياتها؟

لا هو فقط يكذب على نفسه، لن يكن بخير أبداً، هذا هو قدره وليس له يد بذلك، ربما هو حظه الذي شابه ظلمته قد أوقعه بحب فتاة لا تستحق وغد مثله، كان عليه أن يبتعد هو، كان عليه أن يبعد تلك الظُلمة، لقد ابتعد وها هو ينتظر سطوعها مرة أخرى..

صدح هاتفه بالرنين ليذكره بموعدا هاما قد ظل مداوما عليه منذ سفره، لربما سينتهي في النهاية من جزء من ذلك السواد، مجرد محاولة لن تضره بشيء أكثر من ذلك الضرر الذي تجرعه طوال حياته!!

نهض ثم ارتدى سترته وحمل هاتفه ومفاتيحه ثم ذهب ليكن بالموعد المحدد وحتى لا يتأخر لربما يجد حلاً لكل تلك الصراعات بداخله.. فمكوثه بمصر لم يكن ليحل تلك الأزمة التي عانى منها منذ صباه!

--

دلفت تلك الغرفة التي امتلئت بالرسومات له، نظرت ودموعها تتهاوى وهي لا تزال غير مُصدقه أنه تركها وذهب، تشعر بأن هناك جرح بداخلها لن يلتئم أبدا، لماذا كان عليه المغادرة؟ لماذا؟ ألم يعلم أنه مثل لها كل شيء بتلك الحياة، ألم يُدرك أنه كان يناديها مثل والدتها، يعانقها كأبيها الذي لم تعرفه يوما ولم تتشارك معه ولو عناق وحيد، يضاحكها كأخيها الذي غاب عن حياتها ولم تجده غير مؤخرا..

"خليكي كده عمالة ترسيميلي في بدر وسايباني.. طب افتكري شاهي حبيبتك برسماية صغنونة هي وجوزها اللي زي القمر ده" قاطعت شاهندة شرود نورسين لتلتفتت لها بإبتسامة مقتضبة

"أنا كنت جاية هنا عشان أقطعهم.. خلاص مش هايبقا فيد بدر تاني!!" همست ثم زفرت بعمق ثم توجهت لتلمس احدى الرسومات التي رسمتها له ثم امتدت يدها لتُمزقها ولكنها لم تستطع وأجهشت بالبكاء بمنتهى الحُرقة..

توجهت شاهندة مهرولة نحوها لتعانقها وتُمسك الرسمة من يدها وأخذت تُربت على ظهرها في حنان وودت فقط لو استطاعت أن تُساعدها

"خلاص يا نور يا حبيبتي اهدي.. اهدي ومتعيطيش كده.. لو بس أعرف ايه اللي حصل بينكم كنت حاولت أحل المشكلة" أخبرتها وهي تحاول أن تُهدئها

"والله يا شاهي ما أعرف.. كنا كويسين.. كان يادوب لسه جايبلي البيت عشان نجحت وخلصت دراسة.. وفجأة اختفى.. سابني يا شاهي.. عمره ما كلمني.. والله أنا ما عملت حاجة.. وحشني اوي.. وحشني.. نفسي أحضنه.. نفسي اسمع صوته.. حتى لو هيزعقلي.. بس.. بس أنا زعلانة منه اوي.. أنا تعبت اوي يا شاهي مبقتش عارفة أعمل ايه.. ليه عمل فيا كده"

صرخت بين شهقاتها المتواصلة بإنكسار وجسدها لا يتوقف عن الإرتجاف بين يدي شاهندة التي لم تدري بما عليها أن تفعل أو تُخبرها ثم فجأة وجدتها تتوقف من نفسها وابتعدت عنها.

"بس لأ" حاولت منع شهقاتها "أنا.. أنا هاعرف أخلي نفسي أكرهه.. أنا مش هاحبه تاني.. أنا هنساه يا شاهي"

صاحت بنبرة لم تحتمل النقاش ثمأآخذت كل تلك الرسومات بالإطارات التي عُلقت على الجدار واستمرت في رميها أرضا بهستيرية شديدة وشاهندة لا تُصدق عيناها نهائيا

"طب تعالي بس نطلع برا و.."

"بطلي تعامليني كده.." صرخت مقاطعة اياها "بطلي تبقي زيه، أنا محدش هيضحك عليا تاني بكلمتين حلوين.. أنا مبقتش صغيرة خلاص!!" صاحت بإصرار وهي تلهث ثم تركتها وتوجهت للخارج لتهز شاهندة رأسها في آسى على حالها!

تبعتها شاهندة فمهما فعلت لن تستطيع تركها وحدها بتلك الحالة، تعرف أنها تشتاق له، تعرف أنها لازالت تُحبه بشدة، ولكن عليها أن تقف على قدميها وتحاول العيش بدونه..

"نور يا حبيبتي تـ.."

"بصي يا شاهي.. متحاوليش تكلميني كلام قولناه مليون مرة.. أنا خلاص اخدت قراري.. زي ما أنا مش لازماه هو كمان مش هيلزمني في حاجة.. هو فاكر نفسه ايه يعني؟ حتى دي هيعملي فيها ملك الكون.." توقفت لتلتقط أنفاسها بعد أن تلاحقت في عصبية

"ملك الكون!! ياااه يا نور.. أنتي لسه فاكرة؟!" ابتسمت شاهندة بإقتضاب لتقابلها تلك الزرقاوتان الدامعتان "انتي لسه بتحبيه يا نور"

"ايوة بحبه.. بس مش ضعف مني.. وهافضل احب صورة بدر الدين اللي اتجوزته وسامحته وقبلته كجوزي وحبيبي، بس اوعدك يا شاهي إن يوم ما اشوفه تاني هاكرهه.. هافتكر كل اللي عمله فيا وهاكرهه.. بدر عمل فيا كتير أوي، أنتي متعرفيش حاجة عننا، كل اللي قولتهولك زمان معرفتكيش التفاصيل، ولا ممكن تتخيلي عمل معايا ايه، وارتاحي مش هقولك حرف.. أنا متأكدة إنك هتحاولي تعرفي كل حاجة بس أنا استحالة أنطق بحرف.. لو هو حابب يقولك يبقا يقول لكن أنا لأ.. بس اوعدك إني عمري ما هاكون الطفلة الصغيرة بتاعت زمان تاني!!" تحدثت بإصرار ولأول مرة ترى شاهندة تلك النظرة بعينيها

"أنا عندي أنتي وماما نجوى وفارس وهديل وولادها وعندي شركة ماما الله يرحمها، أنا حتى لو موت نفسي في الشغل هاعرف ازاي أكره نفسي فيه.. بكرة تشوفي يا شاهي" زفرت لتنظر لها شاهندة مُضيقة عيناها

"طيب خلاص وأنا معاكي في كل حاجة انتي عايزاها"

"طيب.."

"اخبار فارس صحيح ايه؟"

"تمام.. هيتجوز اهو كمان شهر ونص"

"يالا ربنا يوفقه.. ما تيجي نتعشى سوا بقا.. والنبي وحشني أكلك!! تعبت والله من أكل زينب"

"ماشي يا ستي.. يالا بينا على المطبخ" توجها سويا وشاهندة بداخلها تعي جيداً أنها مجرد كلمات بينما نورسين تحاول التظاهر أنها بخير وأنها ستصبح قوية دونه

"بقولك يا نور.. ما تيجي تقعدي معانا شوية، بدل ما أنا يوم هنا ويوم هناك"

"يوووه يا شاهي! لا مش هاجي"

"ليه يا نور؟" تظاهرت شاهندة بالبراءة

"هو كده وخلاص!!"

"يا سلام.."

"ما خلصنا بقا يا شاهي"

"عشان هو اللي جايبلك البيت مش كده؟! لسه ماسكة في كل حاجة جابهالك ومش عايزة تنسيه، ده أنتي حتى بقيتي بتتكلمي زيه، محدش في الدنيا كان بيقولي يوووه يا شاهي دي غيره"

"أرجوكـ.."

"بتحبيه وبتموتي فيه.. صح ولا لأ؟!" قاطعتها لترفع حاجبيها ثم اخفضتهما وضيقت عيناها بإبتسامة متحفزة على ثغرها لتنظر لها نورسين بقلة حيلة

"ايوة بحبه.. بس عمري ما هارجع نور بتاعت زمـ.."

"واللي يجبهولك يجري لغاية عندك" قاطعتها بنظرة خبث

"ايه؟! ازاي؟!" صاحت سائلة في لهفة "لأ ميجيش.. أنا مش عايـ.."

"يا بنوتي.. عايزاه ولا مش عايزاه! ده أخويا وعشرة العمر بردو وعارفه مفاتيحه فين! تردي عليا بقا يا عايزاه يا مش عايزاه" قاطعتها وابتسامتها تتوسع على تلك الصغيرة التي ارتبكت للغاية وتاهت بحيرتها

"عايزاه.." همست مجيبة بعد مدة من التفكير "بس لازم اعلمه الأدب الأول عشان ميعملهاش تاني.." صاحت في تصميم وبنبرة حازمة

"وأنا معاكي.. بصي بقا واسمعي كلامي بالحرف الواحد.. بس خدي بالك احنا كده هنلعب بالنار ولازم نكون مصحصحين ومن دلوقتي أهو أنا مش مسئولة عن رد فعله!!" تنهدت لتترك نورسين ما بيديها وانتبهت لما ستخبرها به شاهندة جيدا


يُتبع ..