-->

الفصل الواحد والأربعون - ظلام البدر - دجى الليل

 

الفصل الواحد والأربعون


أحقاً ما تقوله؟ ستكون هذه هي النهاية بينهما إذن؟ ما يقارب من ثماني أشهر من الإبتعاد ليتم الطلاق هكذا؟ أكانت تلك نورسين؟ هل هذه هي فتاته الصغيرة التي تُحدثه؟ لم يستمع أبدا لتلك النبرة منها من قبل ألهذا الحد أصبحت تكرهه؟!

بالرغم من ذلك الموقف ومن استماع الجميع لهما ود لو يُخبرها كم أشتاق لها، تمنى لو أن يبكي ويخبرها كام كان فراقها مريرا بالنسبة له، يريد أن يصرخ ليحدثها بأنه اختار أكثر ما يكرهه بحياته وابتعد عنها فقط لأن هذا الحل الوحيد الذي رآه مناسبا حتى يحميها من نفسه ومن قسوته، لو فقط كانت هنا لكان أحتضنها وصرخ بكل ما أوتي من قوة ليخرج ذلك الثقل الذي أرهق قلبه بداخله ليدعها تعرف كم تعذب بقراره الخاطئ في الابتعاد، يريد أن يشكو لها وأن يبكي بين ذراعيها كالطفل الصغير وكل ما ينتظره منها هو تلك الطيبة والبراءة التي عهدها منها.. يريد أن يُقر أنه وأخيرا بعد سنوات من العذاب اختار العلاج لأجله ولأجلها، كي يكون أفضل لنفسه ولها ولأسرته.. علها كانت هنا معه!!

أكثر من شيء يريد رؤية ابتسامتها وتلك الفرحة بزرقاويتيها البريئتان عندما تعرف أنه يتعالج الآن حتى يُصبح إنسان أفضل، يريد النطق أمام تلك الصغيرة بأنها من غيرته والوحيدة التي بدأت في تبديد الظلمة بداخله، يريد أن يبتسم ويخبرها أنها من استطاعت أن تريه أنه يجب عليه أن يُصبح أفضل وبسببها هي من جعلته يرى شعاع النور ذاك ليُقبل على تلك الخطوة، يريد الكثير والعديد من الأشياء ولكن أرغبتها حقا بأن يتطلقا، أسيكون ذلك إفتراق أبدي؟ ألن يدعوها زوجته مرة أخرى؟!

ابتلع بصعوبة وآلم عاقدا حاجباه وشعر بتلك الشفتان أنهما كادا أن يفترقا ليُخبراه بالمزيد وذلك النفس تلتقطه كي تتحدث وقد أشتاق له حتى بدده الإشتياق ولكنه يعي جيدا أنه لن يستطيع التمالك والتحمل بأن يستمع منها حرف آخر فأنهى المكالمة على الفور ليهرب من مواجهتها ولأنه يعلم بقرارة نفسه أنه ليس بتلك القوة التي يتظاهر بها أمام الجميع وأنه بالنهاية جبان لا يملك من تلك الشجاعة ما يعتقده كل من حوله!

رآت شاهندة تلك النظرة على وجهه وتلك الملامح التي جعلتها تتآلم من أجله، وبالرغم من اتفاقها مع نورسين على كل ما يحدث الآن ولكن أشفقت عليه وعلى ذلك الآلم الذي ظهر عليه.

"بدر أنت هـ.."

"بلاش دلوقتي يا شاهندة" قاطعها بنبرة لا تحتمل النقاش عندما أدرك أنها ستبدأ بالكلام

"لأ دلوقتي.. عشان مينفعش تستنى أكتر من كده" تحدثت بإنفعال وهي مصممة على أن تتحدث له تلك المرة

"يوووه!! أنا ماشي وسـ.."

"لا مش هاتمشي ومش هاتتهرب مني زي كل مرة آجي افاتحك في الموضوع، أي حاجة تانية وراك تستنى!" صاحت بتصميم وهرولت في عصبية حتى توقفت أمامه ونظرت له لتتلاقى أعينهما

"طلقها.. طلقها وخليها تشوف حياتها، بنت خلاص عندها واحد وعشرين سنة، مستني منها ايه؟ ولا أصلا عايزها تستناك قد ايه أكتر من كده؟ سايبها متعلقة ليه؟ متعملش زي بابا.. متسيبهاش كده واديها فُرصة تشوف حياتها وتبني مستقبلها.. هي مش زي وفـ..."

تحدثت له بإنفعال وغضب بينما توقفت من تلقاء نفسها عندما أدركت أن حديثها أصبح لاذعا أكثر من اللازم وتأكدت أنه يتألم الآن بعد تشبيهها بتلك المرأة التي ولدته لتراه يسحق أسنانه في غضب وتعالت أنفاسه بمزيج من الإنفعال والآلم

"أنا مقصدش.. أنا آسفة" لانت نبرتها لتعتذر له ولكنها لازالت ناظرة إليه وهو تائه بين دوامة من الآلم والغضب والحُزن

"كفاية أوي كده يا بدر، هي مالهاش ذنب في حاجة.. اديها حقها في إنها تعيش حياة طبيعية وكفاية أنها لسه هتعاني تاني على ما تنسى، وأظن أنت عارف كمان هي عانت قد ايه في الأول بسبب غلطة مش غلطتها وظلمك ليها.. أنت من الأول وأنت عارف نور بالنسبالي ايه، ولو بنتي ولا أختي في الموقف ده مش هاسيبها كده.. طلقها أرجوك واديها حقها كامل وأنا مستعدة إنـ.."

"حا.." حمحم عاقدا حاجباه بعد أن حاول التحدث ولكن نبرته خانته بتحشرجها وإمتلائها بالدموع وتلك الغُصة التي كان يحاول ابتلاعها منذ أن استمع لصوت نورسين بل وكذلك كانت نبرته ضعيفة مهزوزة مهزومة لم يستمع لنفسه حتى هكذا من قبل

"حاضر.. هطلقها يا شاهندة.."

--

هرولت خارجة لتغادر الغرفة بعد أن استمعت لصوته وبعد أن انهمرت دموعها رغما عنها، لقد اشتاقت له، لتلك النبرة بصوته الرخيم، لقد اشتاقت لنطقه اسمها بتلك الطريقة، ولكن ما شعرت به وكأنما سكين قد غُرس بقلبها بعد أن وصد المُكالمة بتلك الطريقة، وكأنه لا يريد أن يُحدثها أبدا..

لماذا يفعل بها ذلك؟ لماذا يُعاملها بتلك الطريقة؟ ما الذنب الذي ارتكبته ليفعل بها ما يفعله الآن؟ أحقاً أستطاع كل تلك الفترة ألا يتحدث لها ولو لمرة؟ فقط مرة واحدة؟ ألهذا الحد لا يريد أن يستمع لصوتها؟ بل يتحمل ذلك الإبتعاد وكأن شيئا لم يكن؟ أكثير عليها أن يُعطيها سبب، فقط سبب أو حتى حُجة واهية لذلك الإبتعاد الذي قرره وحده دونها؟ لقد ظلمها من قبل كثيرا والآن يأتي ليظلمها هكذا؟!

بكت بمرارة ليتعالى نحيبها وهي تتذكر كل لحظة مرت عليهما سوياً وكم كانت هي متساهلة معه وكم أحبته بعد كل ما رآته منه وحاولت البحث عن تفسير وحيد ظناً منها أنها لربما أخطأت دون أن تدري حتى يتركها بينما لم تجد أي حُجة له!

دلفت هديل مكتب نورسين بعد أن أخبرها زياد بأن تتفقدها وتحاول أن تهون عليها قليلاً مما حدث، لتحاول هي التوقف عن البُكاء ومنع نحيبها بصعوبة وتلاقت أعينهما فأنتظرت نورسين حتى تستمع لما تريده منها لتحمحم الأولى وأدركت الثانية محاولتها في بدأ الحوار الذي كان من الواضح على ملامحها أنه صعب عليها كثيرا..

"بصي أنا.. أنا.." حمحمت مجددا وضيقت ما بين حاجبيها وتنهدت بعمق ثم نظرت لها بجدية شديدة

"أنا عارفة كل اللي حصل، وعارفة إن مالكيش ذنب ولا ايد في أي حاجة وإنك اتظلمتي بس.." زفرت وهي تحاول أن تجد الكلمات التي تريد إخبارها بها "أنا عارفة إن أخويا.. يعني.. اللي أقصده إن الموقف صعب، أنا مش هاكدب عليكي في الأول كنت فاكرة إنك السبب وإنك بتحاولي توقعي كريم، وبعدين مع الوقت أتأكدت من خيانته ليا"

دمعت عيناها لثوان وابتسمت في آسى وكأنها تتذكر شيئا ما ولكنها أزاحت هذا الفكر بعيدا عن عقلها وتماسكت واستعادت رباطة جأشها بجسارة حتى بدأت عيناها في امتصاص تلك الدموع مرة أخرى وحولتها لشجاعة مُطلقة وكأنها لم تتذكر ولو للحظة ماضيها الآليم!

"بدر وراني كل حاجة، وراني إن القذر اللي كنت مراته حاول يقرب منك ويعمل حاجات وسخة زيه معاكي، اللي بدر وراهوني ده أنا كنت متأكدة إنه بيحصل مع ستات كتير مش معاكي أنتي وبس، وبالرغم من إني كنت عارفة بقذارته ووساخته مع الستات كنت بحاول اديله في اعذار واهية، بس اللي وراهوني بدر فوقني، خلاني احس بإن واحد زيه بقذارته ووساخته ميستاهلش إن اديله في فرص أكتر من كده.." تنفست وهي تملئ رئتيها بالهواء ثم أطلقته وعقدت ذراعيها

"أنتي مستغربة إني بتكلم معاكي وبقولك كل ده وطبعا أكيد بتسألي أنا ليه بكلمك مع إننا يعني عمرنا ما كنا قريبين، بس عموماً خديها نصيحة من واحدة أكبر منك وشافت أكتر منك بين خيانة وكدب وإستغلال من واحد ميسواش، وبردو أنا مشوفتش منك حاجة وحشة وكنت ظالماكي ما بيني وبين نفسي" ابتلعت ثم أقتربت منها قليلاً لتنظر لها في تصميم

"لو بدر طلقك فعلا بعد كل ده ومداكيش أي سبب لكل اللي عمله معاكي اياكي تضعفي قدامه وخليكي قوية ومتنخيش أبدا لأي راجل لأنهم كلهم في الآخر ميستاهلوش" تعجبت نورسين ونظرت لها مضيقة ما بين حاجبيها في تعجب

"عارفة إنه أخويا وعارفة إنه حاجة كبيرة أوي بالنسبالنا كلنا وأنا بالذات بعد اللي عمله معايا مقدرش أقول عليه كلمة ولا افتكرله غير كل خير بس أنا بكلمك ليكي أنتي، لبنت صغيرة لسه قدامها الحياة بطولها وعرضها ومستقبلها قدامها، متضيعيش وقتك وأقفي على رجليكي وأهو درس وأتعلمتي منه.. اسمعي مني كويس وخاللي الكلام ده حلقة في ودنك، لو محستيش إن اللي قدامك ندمان وهيموت من غيرك متسامحيش، متديش لحد أكتر من فُرصتين.. بعد كده التالتة تابتة!! متعمليش زيي وتضيعي عمرك على حد!! حتى لو كان الحد ده يبقا أخويا" زفرت بالنهاية ولا زالت نورسين تنظر لها في تعجب

"متعيطيش وقومي.. ورانا تحضيرات كتيرة اوي عشان الحرباية اللي جاية بكرة، امسكي نفسك كده وخليكي جامدة!! اتفقنا؟!" حاولت الإبتسام لها في اقتضاب لتجفف نورسين المتبقي من دموعها ثم أومأت لها بالموافقة

"طيب.. قومي اغسلي وشك وتعالي عشان نشوف هنعمل ايه" أومأت لها مرة أخرى لتتركها هديل وتوجهت خارجا.

لم تدرِ ما الذي عليها أن تفعله بعد أن استمعت لهديل التي لم تكن لتتوقع أنها ستحدثها بمثل تلك الطريقة، نوعاً ما كان كلامها منطقي، بالرغم من حبها الشديد لبدر الدين ولكن كلماتها بدت صادقة!!

زفرت بعمق وهي تعيد تلك الكلمات بداخل رأسها مرة أخرى لتتذكر ما قالته منذ قليل لها "متديش لحد أكتر من فُرصتين.. بعد كده التالتة تابتة!!"

أومأت وهي تفكر ملياً بتلك الكلمة لتُتمتم "آخر مرة يا بدر.. آخر مرة، لو محستش إنك إنسان جديد بعد كل اللي هاعمله ده عشان خاطرك أنا فعلا مش هاعرفك تاني، وخاللي الطلاق بقا يكون بجد مش هزار"

نهضت ثم توجهت لتلحق بالجميع وبالرغم من أنها لم تكن مقربة يوماً ما من هديل ولكن كلماتها تلك أعطتها الشجاعة وعززت ثقتها بنفسها، فهي لن تتهاون مجددا بأي تصرفات منه قد تُسيء لها مرة أخرى، ولن تكن ساذجة ثانيةً مهماً كان!

--

"يا فارس ده كان الحل اللي قدامي.. أنا آسفة يا بسنت بس بردو الموضوع مكنش بإيدي، والله الموضوع بس لغاية جوازكو ومش هايبقا بجد.. حتى ماما نجوى وحمزة وشاهي يعرفوا كل اللي هنعمله" تحدثت نورسين في تردد وتوسل بآن واحد بتلك المكالمة التي تشاركتها مع فارس المتواجد بالقرب من بسنت

"شايفة ايه يا بسنت؟!" تحدث فارس سائلا وهو يشعر بالقلق من قرار بسنت

"خلاص يا جماعة أنا بثق في نور.. وإذا كانت دي حاجة هتساعدها مع جوزها مفيش مشكلة" اجابت بسنت

"وكمان بابا هيهدى شوية لغاية فرحنا ومش هايحس بحاجة، أنا شايف الموضوع في صالحنا كمان"

"أنا آسفة يا جماعة، هو بس دبلتين أي كلام وصورتين تلاتة.. بس كده"

"لا خلاص يا نور متتآسفيش.. ربنا يعدي الأيام الجاية على خير إن شاء الله" تحدثت بسنت

"يارب" تنهدت نورسين بينما وجدت من يطرق باب مكتبها "ادخل!" صاحت لتسمح بالمرور لمن طرق منذ ثوان فتقدم منها احد الموظفين ليقدم لها مُغلف أبيض اللون لتومأ هي له في امتنان ثم تركها وغادر لتتفقد هي الظرف الذي احتوى على ورقة واحدة لتقرأ أولى تلك الكلمات في صدمة التي توسطت الصفحة "إشهار طلاق رجعي!"

"طيب.. هكلمكوا تاني" أنهت المكالمة ثم جففت تلك الدمعة المباغتة التي تهاوت على وجنتها وهي لا تعلم لماذا تبكي وهي من كانت تعرف أن كل ما يحدث قد خططت له وعرفته مُسبقاً..

كان لديها القليل من الأمل، ربما كانت تظن أنه لن يتنازل عنها بتلك السهولة الشديدة، أو لربما كانت تتمنى أنه لا يزال يريدها!! ماذا لو لم يعد يرغب بها؟ أهذه هي نهاية كل شيء بينهما؟ لن تراه مجدداً إذن! أهذا كل شيء؟ أأنتهى كل ما جمعهما بتلك السهولة؟!

"شاهي.." صاحت في نحيب مؤلم بهاتفها بعد أن اجابت شاهندة مكالمتها

"ايه يا نور فيه ايه؟ أنتي كويسة؟!" تسائلت شاهندة في لهفة بعد أن استمعت لنبرتها الباكية

"طلقني يا شاهي.. أنا لسه الورقة وصلالي دلوقتي" تحدثت بنحيب مجددا

"طب اهدي بس.. مش احنا اتفقنا إن كـ.."

"لأ!! أنا حاسة إن كده خلاص.. أنا.. أنا حاسة إنه عمري ما هاشوفه ولا أكلمه تاني.. أنا بكرهه، ياريتني ما كنت عرفته.. أنـ.." قاطعتها ببكاء هيستيري لتهز شاهندة رأسها بإنكار وآسى في آن واحد

"اهدي يا نور وبطلي عياط عشان نعرف نتكلم" أخبرتها ثم تريثت وما أن سمعت نحيبها قد أُجبر ليتحول لشهقات أكملت كلامها

"بدر متجنن من يوم المكالمة دي، رجع لموضوع السجاير تاني ومبينامش ومقضيها قهوة ومش مركز خالص في اي حاجة حتى الشغل.. لو تشوفيه هتعرفي إننا بنسويه على نار هادية، وعصبيته بقا ايه.. ماشي يشخط في كل اللي حواليه" همست لها ثم أردفت

"عارفة.. أنا لولا إني اتخانقت معاه مكنش هيطلقك ولا هايعملها، ده يا بنتي مكنش على بعضه ساعة المكالمة وبعدها كان متدمر.. صحيح صعبان عليا بس يستاهل" لاحظت إختفاء شهقات نور

"نهدى بقا كده ونسبك الدور صح عليه، أصل مكنش فيه طريقة غير دي قدامنا.. بطلي عياط بقا وقومي كده اعملي ماسك واختاري فستان حلو وكلمي فارس وماما نجوى وظبطي الدنيا.. واياك يشك للحظة في إنك عروسة ومبسوطة.. سامعة؟!"

"طيب يا شاهي بس.. هو كويس؟" تسائلت بنبرة قلقة

"يالا يا مجنونة!! هو ده اللي بتكرهيه.. جتك نيلة.. اجمدي كده، هو متبهدل حبتين وقلبي بيتقطع عليه بس خليه يتعلم الأدب عشان ميعملهاش تاني، حالا تقومي تعملي اللي قولتلك عليه.. وبكرة الصور تكون موجودة عندي.. جننتوني!!" زفرت شاهندة وهي لا تصدق مقدار ذلك الحب العجيب الذي جمع بينهما وشعرت بالشفقة على كلا منهما..

--

"تمام يا بدر باشا.. الورقة وصلت"

أنهى المكالمة لتنهار دموعه ثم تحولت لنحيب وهو يشعر بالإنكسار والهوان تجاه نفسه، يتحمل أكثر ما يرتعد منه ويكرهه بحياته وتركها مثلما أرادت حتى لا يجعلها تحيا مع شخص مريض مثله، لا يطيق فقد من يحبهم ولكنهم دائماً ما يتركوه بالنهاية، لم يعد يستطيع التحامل على نفسه أكثر من ذلك، يريد أن يصرخ، يريد أن يتعالى بكاءه إلي أن تجف عيناه وتغادر روحه جسده، تمنى فقط لو أن هناك أحدا ليُربت على كتفه ويعانقه ويكذب عليه ليخبره بأن كل شيء سيكون بخير.. بينما يدرك هو بقرارة نفسه أن لا شيء سيعود مجدداً كما كان ولن يجد الخير بحياته كلها وكأنما حُكم عليه للأبد بأن يُعاني ويفقد من أحبهم قلبه دائما..

"أنا مبقتش عارف أعمل ايه، أنا تايه، زي العيل الصغير، أنا مكنتش مفكر اني ممكن أعمل كده وأقدر أطلقها.. ليلى أنا محتاجك تكوني جنبي، محتاج أي حد يكون جنبي، حتى شاهي وأمي الأتنين شايفين إن غلطان، بس.. بس مكنش قدامي حل تاني، أنا كنت خايف عليها من نفسي" تحدث باكيا وهو ينظر لتلك الصورة بمحافظة نقوده التي لا تفارقه أبدا

"كنت عايز أحميها مني.. بس مكنتش عايزها تبعد عني.. كنت فاكر إني ممكن أتعالج وأكون إنسان كويس، بس أنا مش واثق في نفسي حتى، معنديش الشجاعة إني أكون معاها، مش عارف لو اتعصبت تاني في يوم ولا لو وفاء طلعت قدامي ممكن أعمل فيها ايه؟! أنا محتاجها أوي يا ليلى تكون جنبي.. محتاج إني أشوفها واخدها في حضني، تفتكري في يوم ممكن نرجع لبعض تاني؟!" تسائل ناحبا وهو يحاول إلتقاط أنفاسه لبرهة

"يعني لو عرفت إني بقيت إنسان كويس ولو صارحتها بكل حاجة ممكن تسامحني وتقبل إني أرجعلها؟ بس هي طيبة وأكيد هتقبلني تاني.. بس مش عارف علاجي ده هياخد قد ايه!! بس بردو هي من حقها تكون مبسوطة في حياتها!!! أنا اتجننت يا ليلى مش عارف أعمل ايه" تريث لبرهة ثم تابع

"عارفة إن من يومها وأنا مش عارف أكون مع ست غيرها، ولا حتى مديت ايدي على ست تاني، ولا حتى واحدة من الأوساخ اللي بجيبهم بالفلوس، أنا خايف لو شوفتها، مش عارف هابص في وشها ازاي.. حاسس إن مرعوب منها.. أنا.. مش عارف.. حاسس إني عمري ما هتغير، حاسس إن نصيبي دايماً كده، أنتي بعدتي عني وبعدين هي حتى شاهندة وأمي مبقوش زي الأول معايا، أنا ليه بيحصلي كل ده؟ هو أنا وحش أوي كده يا ليلى؟ مستاهلش أكون مبسوط؟ مستاهلش حد يحبني أبداً؟ طب ليه؟ أنا حبيتك وحبيتها وحبيت أمي واخواتي بس ليه محدش بيكون كويس معايا للآخر؟ ليه مش بيحبوني زي ما بحبهم؟ وليه دايما الكل بيكرهني في الآخر؟ كله اتغير معايا من ساعة ما سيبتها مع إني حاولت أفهمهم إن كده أحسنلها.. حتى هي كمان مقدرتش تصبر عليا شوية!!" تعالت شهقاته ثم أكمل

"كنت فاكر إنها ممكن تعوضني عن الحب إللي ملقتهوش زمان من وفاء ومن أبويا، كنت حاسس إنها الوحيدة اللي هتفضل جنبي لغاية ما أموت، مكنتش أعرف إن أنا مستاهلش الحب بالطريقة دي يا ليلى، طب ليه لما أنا وحش مخدتنيش معاكي يومها؟ كان أحسنلي وأحسنلكم كلكم"

لم يعد يملك غير تلك الكلمات التي لربما أخرجت قلة قليلة مما يشعر به، لا يدري كيف سينساها، لا يعرف من أين له أن يبدأ من جديد بعدها، لقد جنى عليها وظلمها كثيرا هو يعي ذلك، لا يملك سببا قد يجعلها تعود له مرة أخرى، يبدو وكأنه عليه أن يعذب نفسه بنفسه جراء كل ما فعله بها وعليه أن يتجرع تلك المرارة وحده دون وجود أحد بجانبه!

--

"عملتي معاهم ايه؟!"

"كان لازم نشتري الخامات.. المواقع كبيرة اوي بجد، ده بكرة هيبقا من أكبر الـ compounds في البلد.. الفواتير كلها معايا بس تقريباً جيبنا بضاعة للمخازن بحوالي خمسة مليون!" اجابته وفاء

"ايه!! ليه خمسة مليون؟ وأنتي كتبتلهم الشيكات؟!" صرخ أشرف في غضب

"يعني كنت عايز الموضوع يضيع من ايدي؟ وبعدين لازم كنت أسبيتلهم إني داخلة بتقلي"

"ما هو بردو مش طبيعي تاخدي ربع المبلغ عشان شوية خامات.. كنتي حاولي ندفع بالآجل حتى"

"آجل!!" صاحت متهكمة "عايزني أطلع قدام شوية العيال دول شحاته ولا إيه؟! ولا عايزهم يشمتوا فيا؟! جرا إيه يا أشرف ولا أنت مش قد الشراكة؟!"

"مش قد إيه؟!" ابتسم بسخرية ثم تابع "بس لو حصل فعلا وطلع الموضوع على فاشوش مش هارحم حد يا وفاء.. سامعاني كويس؟" نظر لها نظرة تهديد "دي فلوسي بردو!! وأنا في الفلوس معرفش أبويا!"

"ما هي فلوسي أنا كمان يا أشرف.. وقولتلك متخافش، ما أنا حطيت كل اللي معايا في الشراكة"

"احنا مشاركين بعشرين مليون.. أنتي ليكي منهم خمسة، يعني لو حصل وخسرناهم أنا هاخسر تلت أضعاف خسارتك.. وأنا مبخسرش يا وفاء.. سمعاني كويس؟!"

"ما خلاص قولتلك، ولا أنت مش قد الـ Business"

"قال مش قده قال.. بطلي حركاتك دي أنا عارفها كويس.. أنا بالذات مش هتعرفي تقلبي عليا الترابيزة!! أنا مش بدر الخولي"

"ما تهدى بقا يا أشرف.. نسيت إني أخدت الحباية ولا ايه؟" ابتسمت له وهي تحاول أن تتلمس صدره العاري وتنظر له بدلال مصطنع

"بلا حباية بلا زفت.. عكرتي مزاجي.. قال خمسة مليون قال!!" اجابها بضيق ثم نهض ليتركها على السرير دون أن يكترث لها بينما هي شعرت بالقلق، ماذا لو كان ما تحدث به صحيحا؟! لن تستطيع أن تعوض تلك الخسارة.. عرفت أن عليها أن تضمن حقها بأي طريقة مهما كانت وآخذت تفكر أنها عليها أن تخرج من تلك الشراكة بأي نسبة ربح وحتى لو نسبة ضئيلة..

--

"اهو اهو جاي.." همست شاهندة بهاتفها بينما تصنعت عدم ملاحظته وهو يدلف الغرفة ثم صاحت وكأنها لا تراه وركزت بحاسوبها الذي عج بالصور العديدة لكلا من نورسين وفارس وأعطتها ظهره حتى يستطيع لمح تلك الصور لهما

"ياااه يا نور.. ما شاء الله ربنا يسعدكوا يا حبيبتي لايقين أوي على بعض.." انتظرت لثوان لتشعر بتوقف خطواته والصمت خيّم على الغرفة

"بس لأ بجد مقدرتيش يعني تستني إني آجي وأشوفك وأنتي عروسة.. ده أنا خلاص كان ناقصلي يومين وأخلص أول course، بجد زعلانة منك"

"ربنا يتمملك بخير وعقبال بقا الفرح الكبير بس اوعي تعمليه من غيري يا بنوتي"

تريثت مجددا لتستمع لأنفاسه اللاهثة غضبا وشعرت وكأنما شاشة الحاسوب التي آخذت تمرر بها صور نورسين وفارس كادت أن تحترق من نظراته، خاصةً وأنها لم تجعل الأمر عليه هيناً ليراها كذلك بفستانها الأحمر الذي كشف مفاتنها..

"اديني بقا فارس أباركله لغاية ما آجي وأباركله بنفسي" تصنعت الفرحة المُزيفة لتستمع باب الغُرفة يصطدم بالحائط حتى ظنت أنه قد تهشم وارتفعا كتفيها بتلقائية خوفاً من صوت الإرتطام "ده شكله ولع!! ربنا يُستر من اللي هيحصل!!" أخبرت شاهندة نور التي كانت تُحدثها هي ونجوى على الطرف الآخر لتقلقن ثلاثتهن من ردة فعله القادمة..


.. يُتبع