-->

الفصل الرابع والأربعون - ظلام البدر - دجى الليل


الفصل الرابع والأربعون

أخذت تنتظر إستيقاظه على تلك الرائحة الشهية، لطالما عشق طعامها، تتذكر أنه كان يجلس بجانبها عندما تقوم بالطهي إلي أن تنتهي، أما هذه المرة فستقوم بالإنتقام منه كما لم يتخيل أبدا، عليه أن يتجرع من تلك الكأس التي تجرعته هي، وإن لم تكن تخطط لفعل كل شيء مثلما فعل هو معها ولكن لتريه أنها تستطيع فعلها بسهولة.

شعرت بخطواته تقترب منها لتبتسم هي بإقتضاب حتى لا يلاحظها وعلمت جيدا أن خُطتها قد شرعت بالنجاح، وتلك هي البداية فقط ليس إلا و البقية ستأتي حتما.

"صباح الخير" أخبرها بنبرة لا زالت تحمل أثار النعاس ولكنها لم تجيب لتسمعه يحمحم ثم شعرت بإقترابه منها وتظاهرت هي بعدم الإكتراث لكل ما يفعله ولكنه تحدث ثانيةً على كل حال

"وحشني أكلك اوي يا نوري" همس ثم ابتسم ليجذبها من ساعدها برفق ليرغمها على النظر إليه ولكنه لم تنظر له وتوجهت بنظرها للأرضية

"لو سمحت عايزة أكمل، بعد اذنك سيب ايدي" همست بهدوء وبرود مبالغ فيهما

"نوري" تنهد في سأم "هتفضلي لغاية امتى كده معايا؟ أنا قولتلك إني كان لازم ابعد عشـ.."

"مش عايزة اسمع أسباب، زي ما أنت مكنتش عايز تسمعني في الأول، ولا نسيت كده بسرعة؟!" قاطعته ثم نظرت له بتلك الزرقاوتان ليشعر بالآلم وقد اختلفت نظرته عندما تذكر تلك المرات التي حاولت أن تُخبره بها الحقيقة من قبل

"الأسباب اللي هتقولها كان ممكن تقولها زمان، ولا حتى بمكالمة!! إنما دلوقتي أيا كانت ملهاش لازمة!" حدثته ببرود وتبادلا النظرات لثوان لتجذب يدها من بين قبضته ثم توجهت لتُكمل ما بدأت به وهي الأخرى تتألم لتلك الملامح التي تحولت بوجهه وللحظة شعرت بالكراهية تجاه نفسها، فهي تدرك جيدا أنها لا تريد أن تراه حزيناً بتلك الطريقة ولكنها تماسكت وهي تتذكر ما أرادت أن تفعله معه لتسقيه من نفس الكأس المُرة!

--

"حمد الله على السلامة" صاحت شاهندة وهي تعانق هديل التي ضيقت ما بين حاجبيها في تعجب وابتسمت وفرغت من مبادلتها العناق وناولتها زينة "زنزونة حبيبتي" آخذت تقبلها في اشتياق

"الله يسلمك" نظرت لها في استفسار

"حمد الله على السلامة" اخبرها سيف ثم صافحها

"الله يسلمك" صافحته هي الأخري وتوسعت ابتسامتها وبالكاد استطاعت أن تنظر لشاهندة وتشيح نظرها عن تلك الإبتسامة الجذابة

"مقولتليش يعني إنه جاي" تمتمت لشاهندة هامسة حتى لا يسمعهما

"مفاجأة بقا، ولا فكرك مخدتش بالي من المرة اللي فاتت؟" غمزت لها هامسة لتهز هديل رأسها في انكار وتصنعت عدم معرفة ما تتحدث عنه أختها

"مخدتيش بالك من ايه؟ أنا مش فاهمة تقصدي ايه؟!" سألتها وهي تحاول السيطرة على تلك الإبتسامة التي ارتسمت على شفتيها دون تحكم منها خاصة كلما نظر إليها سيف

"مش على شاهي يا حبيبتي" غمزت لها مجددا لتزفر الأخرى في حيرة من تصرفات أختها

"لا لأ.. مالوش لازمة تتعب نفسك سيبها" صاحت هديل لتوقفه عن حمل حقائبها

"مفيهاش تعب ولا حاجة.." ابتسم لها لتدرك هي أن تلك الإبتسامة ستُصبح احدى نقاط ضعفها

"ايه رأيكو نتغدى قبل ما نروح؟!" صاحت شاهندة سائلة

"مممـ أنا فاضي النهاردة ومش ورايا حاجة" اجابها سيف الدين بإبتسامة

"بس انا راجعة من السفر و.."

"مفيش حد في البيت يعملنا أكل، وهترسى على delivery خلينا نتغدى بقا أكل كويس والنبي يا هدولة كفاية إني قاعدة لوحدي بقالي يومين، وبدر كان رخم اوي ساعة ما كان هنا ومكنش عايز يروح في حتة" قاطعتها متوسلة

"طيب يا شاهي.. نتغدى" نظرت لها مُحذرة اياها ولكن شاهندة لم تستجيب لتحذيرها ذلك ليذهبا ثلاثتهما بصحبة زينة لأحدى المطاعم سويا.

--

زفرت كل ما برئيتيها من أنفاس بعد أن جذبته طوال تلك المسافة عندما شعر بالنعاس بسبب ذلك المنوم التي وضعته له في الطعام وسقط في ثبات تام على الأريكة فورا.

ستفعل به مثلما فعل بها تماما، فقط ينقصها الأدوات، من أين لها بها إذن.. أخذت تفكر كثيرا بزرقاويتين متسعتان لتجد أن بعض الأوشحة ستكون مناسبة لما تريد فعله.

ذهبت لتحضرها ثم توقفت بتلك الغرفة بالطابق الأرضي، لم تكن لتستطع أن تتوجه به للأعلى، جسده كان ثقيلا بالنسبة لها وأرهقها للغاية وهي تجذبه، ولكن ستتلذذ برؤية تلك النظرة على وجهه عندما يستيقظ ليجد نفسه مقيد اليدان بالحائط ووحده بالظلام!! تريد أن ترى ردة فعله حينها هل يتحمل مثلها وسيسامحها أم سيغضب ويثور كالبركان!

أنتهت من تقييده بعد صعوبة بالغة، لقد اخفت بعض الإطارات ثم مدت أوشحتها ببعضها البعض حتى قيدت كلتا يداه بكل حائط، ثم تنهدت ونظرت له بمنتهى الرضاء لما فعلته وأغلقت جميع الأضواء وتركته ثم ذهبت.

جلست لتُفكر كيف ستواجهه عندما يستيقظ، هي لا تريده أن يتألم، هي لن تعذبه مثلما فعل بها، إنما فقط أرادت أن تجعله يعلم أنها تستطيع فعلها هي الأخرى، لا يعني غفرانها له على كل ما فعل أن يتمادى بأفعاله حتى يتركها ويذهب، عليها أن ترى الندم بتلك الثاقبتينالتي باتت تعشقهما أكثر من أي شيء آخر!

--

"عارف لو كنت خيبت ظني فيك!! كنت هازعل اوي" تحدثت نجوى لزياد الذي ابتسم لها بإقتضاب

"ما هو أكيد كنت هاكبر وأعقل، ولا مش واثقة فيا يا نوجا؟!" صاح غامزا لها بمزاح لتبتسم هي له

"ما أنت شقاوتك مكنتش معقولة"

"لا يا ستي.. بقينا بنتشاقى بالمعقول اليومين دول" غمز لها مرة أخرى

"يا ولد!! ازاي تقول الكلام ده قدامي؟!" حاولت تصنع الجدية بين ابتسامتها

"يا نوجا أنتي عارفة كل حاجة عننا.. هيتوه يعني عليكي مين بيعمل ايه؟ ده أنت جامد اوي بس احنا اللي مش واخدين بالنا" أخبرها مضيقا عيناه لتهز هي رأسها في إنكار

"احكيلي طيب وصلتوا لإيه مع وفاء؟"

"أبداً سحبنا نص المبلغ اللي معاها، والباقي هيجي مع الوقت، بس الست دي أنا مبطيقهاش"

"ومين يطيقها، يالا ربنا يسامحها.. أنا مكنتش أتخيل أبدا إنها ترسى على كده"

"هي اللي اضطريتنا لكده، أنا مش عارف ازاي دي أصلا أم ولا ست كبيرة.. فعلا واضح إن بدر كان مظلوم أوي بسببها"

"ياااه يا زياد!!" تنهدت نجوى في حزن "بدر كان ممكن يضيع بسببها أصلاً"

"ليه يا ماما؟ هي عملت فيه ايه؟!" تعجب زياد عاقدا حاجباه

"عملت فيه كتير اوي" شردت في حُزن وآخذت تتذكر كل ما عرفته وواجهته مع بدر بسبب تلك المرأة وهي تود أن تخبر زياد بكل شيء.

--

"أنا معملتش حاجة.. فكني.. أنا معملتش حاجة غلط" صرخ بكل ما أوتي من قوة لتتوسع زرقاوتي نورسين عندما سمعت صوته "كفاية.. أنا مغلطتش في حاجة" سمعته مجددا يصرخ ويبدو وكأنه يبكي خوفا..

تناست كل ما تريد فعله به وجرت سريعاً نحو الغرفة التي مكث هو بها لتشعل الأضواء ونظرت له لتشعر وكأنما خفقات قلبها توقفت لرؤيته بتلك الملامح المذعورة والخائفة، دموعه المنسابة على وجهه، ارتجافه بطريقة لا تبدو طبيعية أبداً..

"نورسين.. أنتي هنا.. قوليله إني معملتش حاجة.. هو موجود؟!" تهلل وجهه لرؤيتها وابتسم للحظة ثم تحولت ملامحه للخوف ولكنها لا تعي ما الذي يتحدث عنه ومن الذي عليها أن تخبره بأنه لم يفعل شيء، عن ماذا يتحدث؟!

"أنا.. أنت تقصد ايه أنا مش فاهمه حاجة!" همست وهي لا تدري ما الذي عليها قوله وتأثرت ملامحها في حزن لتتلاقى أعينهما وكادت هي أن تبكي من ملامحه وودت لو عانقته واعتذرت له على كل شيء، فهي لم تعد تستطع رؤيته متألما هكذا! الطيبة بداخلها لم تسمح لها بالنظر لشخص يتألم أبدا!

"أنا اتخضيت!" ابتلع في راحة عندما أدرك أين هو وتأكد أنه لا يوجد سوى نورسين! "أنا كنت خايف.." همس في وهن ثم أشاح بنظره للأرضية لتكره هي نفسها على ما فعلته به وتوجهت لتحل تلك الأربطة الغبية وتنهي كل ما أرادت فعله لتجده يوقفها

"لأ يا نورسين، متفوكنيش!" تعجبت لتنظر له تتفقده أليس هو من كان يصرخ وبدا متألما منذ ثوان؟

"أنا عمري ما كنت هاتكلم غير كده" تمتم ظناً منه أنها لا تسمعه ولكنها سمعت كل ما قاله

"اقعدي يا نوري.. خليني أكلمك.. خليني أعرفك كل حاجة" اخبرها لتضيق ما بين حاجبيها

"أنا محتاجك تسمعيني.. محتاجك تعرفي كل حاجة عني" همس بآلم لتشعر هي الأخرى بتألم قلبها لأجله فتوجهت وجلست على مقربة منه ولم تتحدث له نهائيا في انتظار أن يبدأ هو بالحديث!!

"أبويا صابر الله يرحمه كان بيحب وفاء.. الست اللي ولدتني.. كان بيحبها اوي" تنهد في حُرقة ثم أكمل

"أهله كانوا شايفينه فاشل وهيضيع ورثه عليها، ومن يوم ما اتجوزها قاطعوه، ومبقوش يكلموه، وهو مسمعلهومش وراح اتجوزها وعمل شركة مع واحد صاحبه.. وفاء حملت فيا" ابتسم بمرارة متهكما

"ومن الواضح إنها مكانتش عايزاني.." هز كتفاه للأعلى لتدرك نورسين أنها لا تنظر لبدر الدين ذلك الرجل الذي تزوجته بل مجرد طفل يتحدث عن والداه

"من يوم ما اتولدت وهي كانت مهملة فيا، او ده اللي عرفته مع الوقت، في الأول اتحججتله إنها مخنوقة من البيت، نزلت اشتغلت معاه في شركته وكانت بتسيبني في حضانة، أنا مش فاكر الكلام ده طبعا.. بس عرفت لما كبرت" امتلئت عيناه بالدموع ولكنه أكمل

"لما بقى عندي سنتين ونص هي كانت نصبت على ابويا وساعدت صاحبه واللي كان شريكه ساعتها مدحت في إنهم ياخدوا كل فلوسه، وفي نفس الوقت أبويا سابنا وعرف أمي.. نجوى.. وقفت جنبه وساعدته بكل طاقتها وفلوسها عشان يرجع تاني كويس، واتجوزوا، ووفاء كانت بتتحجج إنه يعرف أمي من زمان وعشان كده عملت اللي عملته مع شريكه.. بس كانت كدابة"

تريث وهو يحاول استجماع شجاعته لمتابعة الحديث بينما تعجبت نورسين، هو لم يحدثها من قبل عن تلك المرأة التي ولدته، ألهذا الحد لا يستطيع حتى أن يدعوها بوالدته أو أمه!

"ابتديت أكبر وهي تهمل فيا أكتر وأكتر!! أنا لغاية دلوقتي بسمع في وداني صوت الرجالة اللي كانت بتنام معاهم، كنت ببقا خايف لما بسمع صوتهم، كانت بتصرخ وأنا فاكرها بتضرب، وكنت فاكر إن اللي معاها هيجي يضربني أنا كمان، كنت ببقا خايف عليها.. أنا.. أنا كنت بحبها.. زي أي طفل بيحب الست اللي خلفته" تساقطت احدى دموعه لتتجمع المزيد من الدموع بعينا نورسين ولكنه بالرغم من بكاءه أكمل

"لا أنا كنت بحبها اوي، كان نفسي تاخدني معاها مرة واحدة في أي حتة، او نفسي تاخدني في حضنها، أو تنام جنبي.. كنت بحبها، بحب شكلها، كنت بحب كل حاجة فيها وفاكر إن أبويا السبب وإنه سابنا.. بس كل ما كنت بكبر كنت بفهم أكتر.." تساقطت دموعه بلا إنقطاع بينما هي لم تستطع رؤيته هكذا

"بدر.. خلاص مش لازم تحكي لو.."

"لا هاحكي.. أنا محتاج أحكيلك.. أنا تعبت من كل اللي شايله لوحدي" قاطعها بإصرار بنبرة باكية لتومأ هي له في تفهم

"كانت بتضربني.. بتمدني على رجليا.. بتسبني بهدومي مش نضيفة بعد.. بعد ما.. بعد ما كنت ببقا خايف و.. أنا كنت طفل، مكنتش فاهم حاجة وغصب عني كنت ببل هدومي" همس بصعوبة باكيا

"كانت بتسبني لوحدي وبتخرج، افتكر إني كنت ببقا جعان وبدور في التلاجة ملقيش فيها حاجة.. ولما كانت بترجع بليل كان دايماًبيبقا معاها اللي اسمه مدحت.. كنت ببقا سامعهم طول الليل، في الأول كنت خايف منه عليها وعليا، ولما مرة روحت وخبطت عليهم.. طفا السيجارة في رجليا، وذنبوني.. كانت لابساله بدلة رقص.."

ابتسم في تهكم واحتقار لواحده من الصور التي لم تفارق خياله أبدا وهو لا يزال يبكي ولم تظن نورسين أن هناك أسوأ من كل الذي سمعته وتمنت أن توقفه فهي لا تستطيع أن تتحمل أكثر من ذلك ولكن ستستمع له، تريد أن تعرف ما الذي حل بذلك الرجل الذي يبدو أمامها كالعصفور الصغير الذي لا يستطيع حتى إيذاء ذبابة!

"عيشت ما بين وساخة، ضرب وشتيمة، عشت لوحدي، كل شوية كان أبويا يجي يتخانق معاها، لو سابلها فلوس كانت بتاخدها، مروحتش مدرسة أبدا، مكنتش أعرف يعني ايه مدرسة" ابتلع بصعوبة وحاول إيقاف بكاءه ولكن لم يستطع لتجد نورسين نفسها تبكي هي الأخرى

"كانت بتصرف فلوس المدرسة، وفلوس الهدوم اللي بيسبها أبويا.. لغاية ما يجي تاني ويرميلي هدوم جديدة.. فضلت على الحال ده لغاية ما بقا عندي تسع سنين.. تسع سنين وبشوف إنسانة استغلالية، مش فارق معاها ابنها، مش فارق معاها غير الفلوس وبس.. كانت دايماً تقولي إن أبويا بيكرهني ومبيحبنيش وهي كمان مبتحبنيش، كانت بتخوفني بالضرب، أنا فاكر كويس آخر خناقة ما بينهم في بيتها لما أبويا خلصني منها.. ضربها يومها بالقلم، وقالها أنه عارف إنها بتنام مع رجالة وإن كل همها الفلوس مش أكتر، وهي بردو مكنش فيه فايدة في جبروتها، وحاولت تشتم امي نجوى ساعتها أبويا بهدلها واخدني منها.. ده كان آخر يوم ليا معاها" زفر بُحرقة وهو يحاول أن يتوقف عن البكاء ولكن هي لم تستطع إلا أن تبكي وهي تشعر بالآلم مما عاناه هو!

"كنت خايف منه وفاكره بيكرهني.. كنت عايز ارجعلها.. مكنتش فاهم حاجة، فضلت أقوله يرجعني ليها بس هو حبسني!! كان عندي تسع سنين، كنا في الشتا.. فاكرة يا نورسين أنا عملت فيكي ايه؟!"

نظر لها وهو لا يستطيع تحمل بكاءها ليجهش هو بالبكاء في وجع لتذكره ما فعله بها يومها ولإيذاءها بنفس الطريقة القاسية

"حبسني في البلكونة وبعد ما آكلني دخلني أوضة صغيرة لغاية ما حصلي نفس اللي حصلك" انهمرت دموعها في مرارة وهي لا تدري أتُشفق عليه أم تلومه على ما فعله بها

"أنا كل حاجة عملتها فيكي عشان أنا معقد.. عشان أنا مستاهلش اكون بني آدم طبيعي" همس بين نحيبه لتشعر بتبعثر قلبها لأشلاء من كل ما سمعته وكادت أن توقفه لتجده يسترسل بالحديث مجددا

"دي كانت أول مرة.. أول مرة يعمل فيا حاجة، ولما خرجت من الأوضة وعرفت أمي نجوى، هي اللي عرفت تحضني وتحن عليا، أنا بعد ما سيبت الأوضة واستحملت اللي عمله فيا رماني في الحمام عشان أنضف نفسي.. وبعدها طلعت كسرت في الأوضة بتاعتي.. بس لولا أمي.. مش بس اليوم ده، لأ لولا وجودها في حياتي أنا كان زماني بقيت أسوأ من اللي أنا فيه.. حببتني في شاهندة وهديل.. حببتني فيها.. خدتني في حضنها وكانت دي أول مرة في حياتي اتحضن أو أعرف يعني ايه حضن.. كان عندي تسع سنين.. أنا فاكر اليوم ده كويس"

اجهش بالبكاء ليتحول بكاءه لشهقات ونهضت نورسين وكادت أن تقترب منه لتعانقه ولكنه أوقفها هامسا بصعوبة بين شهقاته بنبرة متحشرجة آلما ومرارة

"لأ سيبيني أكمل.. أنتي لسه متعرفيش حاجة" همس بآلم لتبتلع هي بين دموعها لتقترب ثم جلست أمامه على الأرضية

"كنت بحب شاهي أوي.. أكتر من هديل.. كنت بحب هديل بردو.. بس، بس أبويا مكنش عايزني أأقرب منهم، كان بيبقا نفسي ألعب معاهم، كان عندهم حاجات حلوة اوي وأنا كان ممنوع عليا أقرب من حاجتهم، هديل مكنتش بتحب تقعد معايا بس شاهي كانت بتستخبى من بابا وبتيجي تلعب معايا.. بس بردو هديل كانت صغيرة جدا.. فاكرة لما لعبنا استغماية مع ولاد هديل وأنا اتعصبت عليكي" حاول التوقف عن البكاء ولكنه لم يستطع لينظر لها بسودواتاه الباكيتان لتومأ له وهي تحاول أن تجفف دموعها التي لا تتوقف

"أنا مبعرفش ألعب الحاجات دي.. عمري ما كنت زي باقي الأطفال أبدا.. عمري ما جربت الحاجات دي" انهمرت دموعه بين شهقاته لتفعل هي المثل ولكنه ابتلع ثم أكمل

"لما ابتديت اعيش معاهم لقيت شاهي بتذاكر وبترسم وكان نفسي أعمل زيها.. غصب عني شخبطت على واجبها، بس هي مضايقتش.. وحاولت تعلمني وأبويا عرف اللي حصل.. أنا فاكر يومها اخدني في شقة غريبة.. وقلعني، فضل يضرب فيا كتير اوي بحزامه" اجهش ببكاء هستيري

"أنا لسه حاسس بالضرب لغاية دلوقتي، أنا اتعورت من الحزام.. خفت منه اوي" أخذ يشهق بينما نورسين لم تعد تحتمل كل ما تسمعه لتبكي هي الأخرى ولا تدري كيف لها أن توقفه

"بعد ما ضربني ابتدا يذاكرلي، فهمني كل حاجة، بس .. بس لما كنت بغلط كنت بتضرب.. كان بيضربني جامد أوي يا نورسين، ومكنش فيه حد يحوش عني.." بكى في وهن لتضع نورسين كفها على فمها وهي لا تصدق أن طفل لم يُكمل العاشرة بعد قد حدث له كل ذلك

"أنا مقدر إن أنا لولا اللي عمله معايا كنت هافشل بس.. بس طريقته كانت صعبة اوي.. السنة اللي بعدها جابلي واسطة ودخلت مع كل الولاد اللي في سني.. مكنتش بعرف اتعامل مع حد خالص لغاية ما المدرسين اشتكوا مني وكملت طول دراستي في البيت" شرد باكيا وهو يتذكر ما فعله معه والده من قبل

"عارفة.. مرة وأنا في ثانوي حبسني شهور متكتف بسلاسل وبتضرب وباكل يوم اه ويوم لأ وحتى مبقدرش استحمى وكل ده عشان عشان نقصت درجة واحدة، طول اجازة الصيف، كان لازم أنام وأنا قاعد.. أنا كنت طالع الأول على المدرسة.. بس هو كان بيتفنن في اللي بعمله فيا.. كنت بخاف منه أوي، عشان كده عمري ما نقصت درجة بعد اليوم ده!" تهاوت الدموع من عينيه لتنظر هي له في شفقة ودموع زرقاواتاها لا تتوقف

"كان بيعذبني.. بيخلعلي ضوافري لو بس غصب عني حد من اخواتي اضايق مني.. أنا كنت بخاف منه اوي، عرفتي ليه كنت خايف لما صحيت في الضلمة وحسيت إني متكتف؟!" نظر لها كالطفل الصغير لتجهش هي بالبكاء

"عرفتي ليه إني بخاف من الدم يوم ما عورتك وانا بحاول اقلعك الدبلة؟ عشان بكره لما كنت بشوف نفسي بنزف بسبب ضربه.. كان بيضربني عشان أفضل نضيف اوي ومنظم، عرفتي ليه أنا عندي العقد دي كلها؟!"

"أنا آسفة.. والله ما كنت أعرف.." همست بين بكاءها

"مش ذنبك.. أنا اللي معقد وجبان" بكى متألما وهو يعترف بهذا مخبرا اياها

"أبويا فضل يعذب فيا، كان بيقول إنه بيفتكرها كل ما بيبصلي.. أنا فعلا شبهها، بس أنا ذنبي ايه؟ أنا ماليش ذنب في حاجة!! أنا كنت بكرهها زيه.. بس أنا عمري ما عملت حاجة غلط" تهاوت دموعه في حسرة ثم تابع

"أنا فاكر آخر مرة عذبني فيها.. صعقني قدامها بالكهربا، عارفة ليه؟ عشان كانت كل شوية تيجي بيت أمي وقدام أخواتي وتتخانق معاه وعايزاه يطلقها وتاخد منه فلوس.. بس هو كان بيذلها، مكنش راضي يطلقها.. وأنا صعب عليا شاهي وهديل وزياد وأمي.. مكنش ليهم ذنب كل شوية يسمعوا الحاجات دي، غلطت في مرة وأفتكرت إني كبرت وروحت قولتله يطلقها.. كان عندي واحد وعشرين سنة" نظر لها بآلم وهو يبكي في ضعف وإنكسار وهي لا تُصدق أن هذا الذي أخافها في يوم ما يبدو بهذا الوهن أمامها

"خدني انا وهي وكنت فاكره هيطلقها بس صعقني قدامها، أنا تعبت اوي يومها، وأكتر حاجة تعبتني إن أول مرة تصعب عليا نفسي كده، وفاء متهزش فيها شعرة، حتى مقالتلوش سيبه أو كفاية أو ارحمه.. كان نفسي تحبني، أحس إنها أمي ولو مرة، حتى بس لو.. لو أصعب عليها" أجهش بالبكاء لتفعل هي الأخرى وأخذت تنظر لجسده الذي يرتجف بشدة اثر بكاءه

"كانت أصعب مرة وآخر مرة.. يوم ما رجعت البيت محستش بنفسي بس لما فوقت عرفت إنهم جابولي دكتور وإن أمي اتخانقت مع أبويا وهددته تسيبه.. هي دي الحاجة الوحيدة اللي دايما اتخانقوا عشانها، كانت دايما بتدافع عني وبتحبني، أنا كمان بحبها أكتر من اي حد.. أنا مفيش حد في الدنيا وقف جنبي زيها.. أنا لولاها كنت بقيت إنسان تاني.. ده لو كنت إنسان أصلا" صاح متهكما بين بكاءه ووجدته يتوقف عن البكاء وعيناه تحولتا بشكل غريب ثم أكمل

"بعدها بشهرين أبويا خلاني أخلصله شغل في إيطاليا.. كنت عمري ما كنت مع ست قبل كده.." زفر في آلم وشرد كأنه يتذكر "عرفت إن ممكن بسهولة أنام مع ستات هناك.. فضلت تلت شهور في إيطاليا، وساعتها عرفت إني.." زفر وكأنما يُجاهد ليكمل لتتعجب نورسين لطريقته

"عرفت إني سادي.." نظر لها في خوف من ردة فعلها ولكنه لا يزال يرى تلك البراءة بزرقاويتيها وأدرك أنها لا تفهمه ليتنهد ثم تابع

"عرفت إني بحب أعذب الستات قدامي.. اللي بياخدوا فلوس، بشوف فيهم وفاء، بحسهم شبهها.. بفضل أضرب فيهم لغاية ما يتبهدلوا قدامي.. لغاية ما يخافوا ويمشوا.. لأول مرة حسيت إني بطلع جزء من كل اللي شوفته بالطريقة دي.. ومن يوم السفرية دي وأنا رجعت راجل تاني.. بقيت اجيب ستات أنام معاهم واضربهم واديهم فلوس، عرفتي اللي شوفتيني بعمله في المخزن كان ليه؟" تنهد متألما وهو ينظر لها في خوف من ردة فعلها لتنظر هي له باكية ولا تعرف كيف عليها أن تحكم عليه ولا حتى بمّ عليها أن تنطق

"بس برضو كنت ببقا لسه خايف من أبويا.. كنت بعمل كل حاجة من وراه، مع إنه كان بطل يعذبني بس أنا لغاية النهاردة لسه بخاف منه.. عشان كده قولتلك تقوليله إني معملتش حاجة أول ما جيتي وفتحتي عليا النور" بكى مجددا كالطفل الصغير

"أنا فضلت سنتين كده.. مع الستات، بعذبهم وبشوف فيهم وفاء الإستغلالية، مكنش حد يقدر يصدق إن اللي بيعمل دراسات عليا ودراع أبوه اليمين في الشغل يكون بيعمل كده في الستات.. لغاية ما.. لغاية.." أجهش ببكاء هيستري لتنظر له نورسين في آلم وهي تشعر بالصعوبة التي يواجهها وتلك المعاناة التي ظهرت على ملامحه

"لغاية ما ايه اللي حصل؟!" همست لتسئله بملامح متأثرة وبقايا دموع انهالت على وجنتيها..

"لغاية ما قابلتها.. قابلت ليلى" ابتسم في وهن ثم شرد مجددا ليتذكر كل ما جمعهما ثم شعر بالخوف من ردة فعلها ولكنه قرر الحديث على كل حال.


.. يُتبع