-->

الجزء السادس والأخير - صائد المراهقات


 

الجزء السادس والأخير

 

لسنا جيّدين كما يتخيلون ! كل ما في الأمر : ستِر الله جمّلنا بأعينهم ! 


مُقتبس


❈-❈-❈


بعد العشاء جلست "ندي" علي سريرها مستلقية علي بطنها بينما صدرها و ذراعيها مستندين علي وسادة منتفخة إسفنجية مغطي بملاءة ذات رسوم كارتونية، ممسكة بروايتها الصغيرة من التصنيف الرومانسي كما تحب و لكن رأسها في عالمٍ أخر.. هل كان من المفترض البوح بمشاعرها لوالدها الروحي؟ بالطبع الإجابة نعم فهي ستشعر بالضيق إذا أخفت عليه هو بالتحديد ذلك الأمر بالإضافة إلي ثقتها به اللا محدودة.. ربما سبب ذكرها لهذا الأمر هو شعورها بالتيه و التشتت، تشعر بأنها مكشوفة أو ستُكشف عما قريب، تشعر أن أفكارها مقروءة و أن ذهنها مُستباح لمرافقيها في أي مكان فهذا يصيبها بالتوتر.. صوت الطرق علي الباب قاطع الأفكار التي تقتحم ذهنها كل بضعة دقائق، فأذنت للطارق بالدخول مع احتلال شعور القلق لنفسها بأنها مراقبة، و عند دخول السيد "عزمي" اختفي الشعور بالقلق بسبب المراقبة و نمى اخر بسبب الخوف من نتيجة ما باحت به من مشاعر و لكنها قررت تشتيت عقلها قليلا فقالت بسرعة و هي تغلق روايتها المفتوحة بلا هدف :


- كنت مستنية حضرتك. 


نظر السيد "عزمي" للرواية التي في يدها مضيقًا عينيه و بابتسامته الذي يحافظ عليها منذ دخوله عله يبث في نفسها المتوترة الطمأنينه فهو علي علم بإبنته و حساسيتها التي تكون مبالغة أحيانا.. فتحت "ندي" فمها و توسعت عينيها بربكة و نظرت أيضا للرواية بيدها ثم رفعت يدها قائلة بتبرير :


- قولت أسلي نفسي لحد ما حضرتك تيجي يعني. 


جلس السيد عزمي علي أريكة وثيرة بركن ما في الغرفة و قال بعد أن تنهد مشيرًا للمكان الفراغ بجانبه :


- طب ممكن تيجي تقعدي جمب حضرتي هنا؟ 


قامت "ندي" من جلستها بحركات متوترة سهلة القراءة ألتقطها أبيها بسهولة و تحركت لتجلس بجانبه شابكة كلتا يديها و تنظر أرضًا. فنظر لأعلي و عوج شفتيه بملل من خجلها ثم ثني إحدي قدميه أسفله و جلس مواجهًا لها بجسده ثم نغزها بخفة بسبابته  في جانبها ليحثها علي النظر إليه في حركة معتادة بينهما فضحكت هي ضحكة قصيرة و أخفت وجهها خلف كفيها فنغزها مجددًا فنفت برأسها فجذبها بيديه من أسفل كتفها حتي كادت تسقط عليه و قد تصاعدت ضحكاتها فاحتضنها فرفعت يديها علامة علي الاستسلام ثم جلست مثله و في مواجهته و هي مبتسمة و قد كان قادرًا كعادته علي إخراجها من شعورها بالضيق فعندما رأي ما ارتسم علي شفاهها الجميلة ابتسم ابتسامة جانبية و همس لها و هو يشد بخفة خصلة شاردة من شعرها :


- الجميل مقموص ليه؟ 


فنفت بوجهها و همست له مقلدة إياه بإبتسامة :


- الجميل مش مقموص أصلا. 


فمال برأسه متشككًا فمالت برأسها هي أيضا مبتسمة فتنفس براحة أمامها و لكن في نفسه لم يصدقها و لكنه تغاضي عن ذلك مؤقتا حتي يخوض في الموضوع الأساسي فقال بجدية و  بصوت منخفض إلي حدًا ما بعد أن سحب كفها بين يديه :


- بصي يا نودي.. أنا بصراحة مقرأتش عن فترة المراهقه قبل كدة.. بس بعد ما اتكلمنا قررت ادور عشان نعرف نتصرف صح، تمام؟ 


فأومأت له بتفهم و ظهر عليها الاهتمام فتابع هو بأسلوب تشويقي و هو يحرك يديه هنا و هناك ليشرح :


- قوم إيه بقي؟!.. قولت أكلم حد فاهم و يفهمني معاه.. لأني دورت كتير بصراحة و لقيت وجهات نظر مختلفة للتعامل مع الحاجات اللي بتحصل للسن ده و توهت كدة.. المهم يعني كلمت دكتور طارق.. طارق المنياوي ،بابا داليا و أحمد ،عارفاه طبعا صح؟ 


ابتلعت ريقها بتوتر و أومأت و قد زادت سرعة نبضات الكامن بصدرها فتابع هو ملاحظًا اضطرابها :


- بعد السلامات و كدة قولتله يا طارق حصل كذا كذا.. إيه مالك ؟ 


كان سيكمل حديثه و لكنه لاحظ سقوط دمعة من عينيها و وضعها كفها علي فمها فتوقف عن الحديث و كوب وجهها بين يديه باهتمام فأجابت سؤاله بعد أن جففت وجهها و زفرت ما تحمل من هواء عبر فمها لتهدأ :


- مفيش مفيش.. انا تمام.. كَمِل سامعة حضرتك. 


سحبها يضمها إليه و همس لها و هو يمسد ذراعها :


- لا مش هكمل قبل ما اعرف فيه إيه؟ 


قالت ببكاء و تشوش و قد زاد تدفق دموعها و هي تنظر له :


- أصل يعني.. حضرتك قولت لحد تاني و فيه حد عرف و كدة فٱنا مكسوفة يعني أو متضايقه.. مش عارفة انا مش عارفة مالي. 


شدد من احتضانها و قبل اعلي رأسها هامسًا :


- ششش.. بس يا حبيبتي خلاص محصلش حاجة.. و بعدين إنتي مش عارفة ان طارق دكتور نفسي و ده شغله؟.. خلاص كفاية عياط بقي عشان اقولك قالي ايه. 


فأومات له و ابتعدت عنه قليلا لتعود و تجلس في مواجهته مجددا بعد أن جففت وجهها فأمسك كفيها و تكلم قائلا بجدية :


- بصي يا ستي بقي.. قالي أول حاجة كدة ده مش اسمه حب ده اسمه إعجاب.. و دي حاجة طبيعية جدًا في سنك و بتحصل كتير جدًا للبنات و للولاد كمان.


- طب و احنا هنعمل ايه؟ 


ابتسم والدها و قال بمرح من نبرتها الجادة قائلا و مقلدًا لصوته :


- ايه و احنا هنعمل ايه دي؟! هي مشكلة حربية يابنتي!.. احنا ياستي مش هنعمل حاجة. 


- ازاي؟


- عادي ياستي.. ولا بصي احنا هنعمل بس حاجة صغنونة كدة. 


رطبت حلقها و قالت و هي تميل برأسها مستفهمة :


- ايه هي؟


تحدث السيد "عزمي" بنبرة واثقة قائلا بعد أن رطب شفتيه :


- هنبدأ انا وانتي نلعب بوكس زي ما كنا مخططين الاجازة اللي فاتت. 


رفرفت أهدابها اكثر من مرة علامة علي عدم الفهم و أردفت :


- مش فاهمه حاجة.. ايه علاقة البوكس بالموضوع بتاعي؟


- بصي يا نودي.. الموضوع كله شوية وقت مش أكتر.. يعني كل ما الوقت يعدي انتي بالتدريج كدة هتنسي الموضوع.. بس هنعمل كام حاجة كدة منهم أنك علطول تيجي تتكلمي مع بابي حبيبك مثلا عن اللي بتحسيه أو عن المواقف اللي بتحصل بينكو و اللي هنحاول نقللها شوية طبعًا.. نحاول نشغل وقتنا بحاجات مفيدة عشان نخلي الموضوع يطلع من دماغنا و ميأثرش علينا.. نجتهد شوية في مذاكرتنا عشان نحافظ علي مستوانا اللي حاسه بدأ ينزل شوية، مش أنتي متفقة معايا في الموضوع ده؟ 


نظرت لقدميها التي تحركهم في حركة رتيبة للأمام و الخلف و أردفت بخزي تملك منها لثانية :


- اه 


- خلاص يبقي احنا كدة متفقين، صح؟ 


أومأت له بابتسامة صغيرة و دمعة سالت من عينيها فضيق عينيه و هو يراها تمسح دموعها متعجبًا ثم سألها بحنان مربتًا على وجنتها :


- ايه يا قلبي بس مالك؟ 


همست بلجلجة و خجل و هي تنظر ليديها المتشابكتين :


- هو انا مش يعني.. مش هشوفه تاني ؟


عقد حاجبيه في ضيق و لكنه حاول أن يستجمع هدوئه كما نصحه صديقه و يجيب عليها بإجابات مُرضية :


- لا هتشوفيه طبعا.. ده المدرس بتاعك و بابا صاحبتك فطبيعي هتتقابلي فيه أكتر من مرة.. بس انا مش عايزك تفكري كدة، انا عايز اشوف نظرتك الواسعة للموضوع عشان تقيميه و تحطيله انتي الحدود المناسبة عشان تتغلبي على نفسك و على تقلبات مشاعرك اللي في السن ده و متندميش قدام. 


- اندم ازاي؟


ضحك ضحكة قصيرة و قال و هو يحك أنفه بيده :


- أمم بصي هحكيلك حكاية بس متقوليش لماما عليها عشان بتغير تمام؟ 


تابع بابتسامة و قد ذهب ضيقه و هرولت الذكريات إلي ذهنه تمر بسرعة في تسلسل :


- و انا في سنك كنت بحب.. أو معجب بقي بلاش بحب دي ،ببنت الجيران اللي في البيت اللي قصادنا.. بس هي كانت أكبر مني و انا كنت اصغر منك بسنة كدة تقريبا و كنت ايه بقي مقولكيش ، المعجب الولهان بقي و لما اشوفها يعتبر بيغمو عليا و لما ابقي عارف انها نازلة احط برفانات بقي و چل شعر كتير و اضرب الطقم التمام عشان بس لمحة منها ممكن مخدهاش اصلا.. قعدت فترة كبيرة اوي بحاول اعرف عنها كل حاجة صحابها، أهلها، دراستها. ،بتحب ايه و مبتحبش ايه! و ضيعت وقت كبير أوي في التدوير وراها، كنت مذاكرش ساعات و ازوغ من المدرسة ساعات و اقعد اراقبها من شباك اوضتي و كل ده من ورا اهلي طبعا و ده اللي ضيعني ساعتها شوية و هو اني مقولتش لحد حاجة و مدورتش علي مساعدة، بس انا مكنتش عارف اني في مشكلة اصلا! المهم اني سقطت السنة دي و عينك ما تشوف الا النور من اللي ابويا الله يرحمه عمله فيا ساعتها.. بتضحكي يا اختي ، ده نفخني.. إداني علقة مش هنساها طول عمري و هي اللي فوقتني.. بس بيني و بينك كدة انا مبسوط منك اوي. 


- ليه ؟


امسك يدها يقبل ظهرها و قال ببشاشة و صدق ثم انقلب لمرح :


- عشان انتي كنتي صريحة معايا و جيتي قولتيلي علي طول علي اللي انتي حاسه بيه.. بصي مش هكدب عليكي و اقولك ان سبب اللي حصلي زمان اني مقولتش لأهلي لان زمان التعامل كان بالضرب مكنش فيه التفاهم بتاع دلوقتي ده و حقوق الطفل و الحاجات دي كانوا بيتكلموا بالشبشب علي طول. 


ضحك كلاهما من قلبه ثم جلست "ندي" علي ركبتيها و تعلقت في عنقه قائلة و هي تقبل خده :


- و انا كمان مبسوطة منك اوي.. و بحبك اوي اوي.. ها بقي هنبدأ ننزل نتدرب بوكس امتي؟ 


❈-❈-❈


- اجهزي عشان رايحين لأبوكي. 


ابتلعت "تولين" ريقها و أومأت بدون اعتراض ثم استقامت و تحاملت علي ألم ظهرها أثر دفعة اخيها لها و هرولت لغرفتها ثم اغلقت باب الغرفة عليها من الداخل و أخرجت هاتفها من جيبها و اتصلت علي أمها تقص عليها بشكل سريع ما حدث و هي علي شفا حفرة من الانهيار فقالت لها والدتها أن تحاول تعطيل أخيها حتي تصل إليهم و تهديء الوضع.. أغلقت "تولين" الهاتف و وضعته بجيبها و بدلت ملابسها علي مهلٍ حتي وجدت طرقات من أخيها تكاد تكسر الباب فأستأذنته في مزيدٍ من الوقت و انتظرت حتي سمعت صوت طرقات علي باب الشقة و بعدها صوت أمها بالخارج ففتحت الباب و هرولت إليها فلاحقها أخيها ممسكًا بقبضته شعرها فأصدرت انينًا متألمًا و لكن أمها اسرعت إليها لتبعد يده عن أخته و هي تصرخ به أن يكف عن جنونه هذا و صاحت به بصوت جهوري :


- تامر احترم نفسك و احترم وجودي احسنلك. 


انتفضت عروق "تامر" و احمر وجهه من الغضب و هدر بعصبيه :


- لما تبقي بنتك بتجيب رجالة فالبيت اعمل انا ايه ها؟ لما تربيها ابقي احترم نفسي يا هانم. 


زجرته امه قائلة :


- اخرس يا تامر. 


- مش هخرس.. و مش هسكت علي موضوع قعدتها لوحدها ده.. و لازم أبوها يعرف باللي بتعمله. 


زفرت" امه" و خللت خصلات شعرها للخلف بعصبية لعلمها بحقه في تربية أخته و تهذيب أخلاقها و لكنها اذا تركته عليها سيتمادي كعادته بسبب عصبيته الذي يفقد سيطرته عليها.. فقررت أن تنهي الجدال هي بدون مراعاة لرأي طفلتها التي حكمت عليها بالنفي لموطن اخر، و قالت بنبرة حاسمة :


- لا هي كدة كدة هتسافر خلاص و هتقعد مع خالتها في باريس.. الموضوع انتهي مفيش داعي ابوك يعرف حاجة.. اهدى بقي.


التفت لتولين التي تقف خلفها هادئة و دموعها تغرق وجهها و قالت لها بنظرة محذرة ألا ترد قولها :


- و انتي يا تولين حسابنا بعدين. 


ثم وجهت كلامها ل"تامر" مشيرة للباب :


- اتفضل يا تامر قدامي يلا. 


نظر لهما باحتقار من اعلي لاسفل ثم خرج صافعًا الباب خلفه فخرجت والدتها خلفه بسرعة و هي تقول علي عجلٍ :


- هروح الحقه احسن ده عصبي و انا عارفاه.. بس كلامنا مخلصش يا تولين. 


هل تذكرتوا "تولين" الان؟! هل هي موجودة فقط عندما تخطيء و يحين عقابها؟! أين حقها في اختيار مصيرها الذي قررتوه بدلًا عنها؟! تبًا لكم و لعالمكم الذين قررتوا استئصالي منه جبرًا. 


❈-❈-❈


- حضرتك كنت فين يا بابا؟


توقفت يد "ناير" عما تفعله من تطهير الجروح، و قال بتهكم :


- ايه ده هي الأدوار اتقلبت ولا ايه!.. مش انا باين اللي المفروض أسألك السؤال ده؟ 


ابتلعت "لوچين" ريقها و قالت بثبات محاولة استجماع شجاعتها من كل ذرات جسدها لتكمل هذا الحوار بدون انهيار :


- اسفة يا بابا مش قصدي.. انا بسأل عادي يعني. 


ابتسم "ناير" بسخرية و قال و هو يضع يديه علي المنضدة التي تقابله و ينظر لها من خلال المرآة :


- طب عموما كنت فالشغل يا ستي.. ها عايزة تعرفي حاجة تاني؟ 


بللت "لوچين" شفتيها بلسانها و اخذت نفسًا عميقًا ثم قالت معلقة علي إجابته الكاذبة :


- بس حضرتك مكنتش في الشغل! 


تخشب جسده لثانية و أردف مائلًا برأسه باستفهام :


- افندم؟ 


- مين تولين يا بابا اللي حضرتك كنت في بيتها النهاردة ؟ 


سأل شاعرًا بالرعب يدب في أطراف جسده من كشف أمره :


- انتي بتراقبيني يا لوچين؟ 


نفت قائلة بنصف حقيقة حاولت أن تخرج بنبرة ثابتة :


- لا انا كنت عند صاحبتي و شوفت حضرتك صدفة. 


استقام "ناير" من علي كرسيه ليواجهها شابكًا ذراعيه اسفل صدره و قال بسرعة ليتخلص منها و من شعوره بالخوف، مشيرا لباب الغرفة :


- صدفة ! تمام.. عموما تولين دي زميلة ليكي في المدرسة و كانت تعبانة و استنجدت بيا مش أكتر فروحت اشوفها، و ياريت ماما متعرفش الكلام ده عشان متضايقش.. عن إذنك بقي عشان عايز انام. 


❈-❈-❈


تحدثت "لوچين" في الهاتف دامعة العينين و القلب من ضعفها :


- مقدرتش يا علي مقدرتش اواجهه. 


قال "علي" و هو يلصق أعقاب سجائر بلسانه :


- خلاص يا حبيبي بقي كفاية عياط و بعدين مش هو فَهمك خلاص.. يمكن البنت حصلها مشكلة تاني ولا حاجة. 


- طب و وشه اللي متخرشم ده لما نزل من عندها.. ده المفروض اعديه عادي؟ 


- مهو يمكن اتخانق مع حد فوق ولا حاجة.. بصي كبري دماغك و سيبيه هو حر في حياته.. اهم حاجة انه طلع مش بيخون مامتك فعلا.. اهدي بقي عشان خاطري. 


وضعت يدها على جبهتها و قالت بتشوش و لجلجة أثر البكاء :


- انا مضايقة منه اوي يا علي.. و مخنوقة و مش طايقه اشوفه.. و مضايقة من نفسي عشان بقول كدة علي بابايا.. انا تعبت و الله. 


أردف "علي" بمرح ليضحك تلك الحمقاء قليلاً فبالرغم من كذبه بشأن حبه لها و لكنه يكره ألم الرأس الذي ستتسبب فيه هي له إذا ظلت حزينة :


- حقك عليا انا يا قلب و عقل علي.. متزعليش بقي.. بصي لو مبطلتيش عياط هاجي و ابوسك في نص شارعكو و اخلي اللي رايح و اللي جاي يقول البت المتباسة اهيه و افضحك.. ها هتسكتي ولا لا؟ انا مجنون و انتي عرفاني، زائد إن الفكرة حلوة اصلا.


أصدرت "لوچين" ضحكات اختلطت بدموعها و قالت و هي تمط شفتيها بدلال :


- هي حلوة فعلا بس خلاص هبطل عياط. 


قال "علي" ماطًا شفتيه بنبرة حزينة مصطنعة :


- يا خسارة.. عموما تتعوض ياستي.. يلا باي دلوقتي و هكلمك تاني يا قمر. 


❈-❈-❈


يوم الثلاثاء... 


في اليوم التالي بالمدرسة لازمت "تولين" فصلها حتي خلال فترة الاستراحة و التي سبقتها حصة "ناير" بينما هو بعد دق الجرس هبط إلي ركنها المفضل بالحديقة ينتظرها لدقائق حتي لاحظ اختفائها فصعد مجددًا لفصلها فوجدها تجلس و تخُط بقلمها شيئا ما في دفتر صغير أزرق فتقدم بضعة خطوات حتي وقف أمامها و همس لها بنبرة جامدة :


- عايز اتكلم معاكي. 


فردت عليه بنبرة مشابهه لخاصته دون أن ترفع وجهها عن دفترها :


- ليه؟ 


زفر بسُئم و هو ينظر لأعلي و أعاد همسه بلهجة شديدة التحذير :


- قومي يا تولين بالذوق. 


رفعت غيمتيها له بنظرة فارغة و ردت بشجاعة و برود :


- و إذا مقومتش؟


نظر في عينيها و هي يوميء لها و كأنه يقول تريدين ذلك حسنًا، ثم ابتعد عنها و وقف عند باب الفصل ليقول بصوت مسموع للطلاب الباقين في الفصل :


- تولين عزيز، عايزك في مكتبي. 


و تركها و رحل بينما زفرت هي بملل و هي تستقيم و تنظر لأعلي و بداخلها تسُبه بكل ما تعرفه من سُباب بذيء. رفعت حقيبتها علي كتفها و توجهت لمكتب معلمين اللغة الفرنسية في المدرسة و لكن في الممر و قبل أن تصل لغرفة المكتب سُحبت من مرفقها إلي غرفة أخري فارغة و أُغلق الباب فبدون أن تضع عينيها في عينه عرفت انه المزعج و شبكت يديها أسفل صدرها و التفتت له و هو تنظر إلي حذائها الرياضي دون أن ترفع عينيها في خاصته فوجدت يده علي وشك لمس ذقنها لترفع نظرها إليه فبسرعة و بحركة خبيرة ثنت ذراعه خلف ظهره و بمرفق يدها الاخري كانت تسيطر علي حركة رقبته و بضغطة منها يمكنها خنقه و همست له دون أن يلمس وجهها وجهه :


- قولتلك قبل كدة اوعي تفكر تلمسني تاني. 


نفضته بعيدًا عنها فتعالت ضحكاته مصفقًا لها بعد أن مسد كتفه، و قال لها ببسمة صغيرة طفت علي شفتيه :


- لا براڤو براڤو.. بس لما أنني محترمة اوي كدة و أخلاق، تدي عنوانك لراجل غريب ازاي و تسمحيله إنه يلمسك؟.. بس أيًا كان السبب يعني فهو مش مبرر علي فكرة. يابنتي فوقي انا يوم ما روحتلك و حضنتك، لو كنت عملت اكتر من كدة كمان كنتي هتقبلي بسهولة. 


ألم مصدره قلبها باغتها، و شعور بإحتقار لذاتها تلبسها لثانية، و دمعت عيناها و لكنها كانت بالقوة الكافية لتُسقِط دموعها بداخلها فتروي بذرة شجاعتها و تنمو أوراق صلابتها و شدتها، فانعكست تلك الصلابة علي كفها الذي استقر بجانبها بعد صفعة قوية سقطت علي وجه "ناير" لعلها تخرج بها بعض من شحنات الطاقة المكبوتة بداخلها لتدمير هذا العالم الدانيء بساكنيه.. مسد "ناير" وجهه بكفه موضع صفعتها و لامس شفته العليا بطرف لسانه ثم قال :


- ماشي.. بس هتندمي جامد أوي علي القلم ده. 


تلك المرة تركها هو و رحل و كانت هذه حركة ذكية تُحسب له حتي لا يُحتسب من الشهداء في الدقائق التالية.


❈-❈-❈


بخطوات سريعة اقترب "ناير" من فريسته الصغيرة و هو ينادي عليها، ثم وقف أمامها ببسمة و عينين تشعان حبًا كاذبًا :


- ندي.. ندي ! 


ارتبكت "ندى" - التي تحاول التهرُب منه منذ الصبح - لسماع صوته المُلَحن الذي توجه لقلبها مباشرةً :


- ازيك يا حبيبتي؟ 


ابتسمت ابتسامة متوترة و قالت بتخبط و بقدمين مهتزتين يريدان الفرار :


- تمام الحمدلله. 


يبدو أن عقل الفريسة استفاق من تشويشه قليلا، و يكاد يتمكن من الحقيقة.. لذا ليجرب بعض الحيل التي تعمل مع مَن مثلها مِن المراهقات المضطربات هرمونيًا فهمس بنبرة مغموسة بالمشاعر الحارة و هو يقترب خطوة :


- مالك حاسس إنك بتتهربي مني من الصبح.. انتي زعلانة مني؟ 


تعالت أنفاسها من همسه المُنغم الذي يصهر صمودها صهرًا و قالت بارتباك :


- لا خالص.. أنا.. أنا بس مشغولة شوية بالمذاكرة. 


همهم ثم تمادت يده لتلمس ذقنها برفق جعل عينيها تدمع فورًا و هو يهسهس قائلا :


- و هو فيه حاجة تشغلك عني برضو؟ 


ابتعدت بسرعة مع انفلات شهقة من شهقاتها و قالت بعينين مشوشتين بغمامتين ماسيتين :


- ارجوك بلاش تتصرف كدة. 


- كدة ازاي يعني؟ 


تلي سؤاله اقترابه خطوة اخرى جعلت اخر ذرة صامدة بها تقرر الهروب فقالت و هي تفر بخطوات سريعة متخبطة :


- عن.. عن اذنك. 


❈-❈-❈


" أمر بفترة ثقيلة بحياتي تلك الأيام.. هي فترة شديدة الغرابة.. تسحق وقتي سحقًا ،أو أنا من أغرق نفسي بين طياتها لأغيب عن تلك الصراعات التي تدور بداخلي و تلك الأحجيات التي أضحت تلزمها حلول سريعة حتي لا أسقط في قاعٍ أسودٍ من التراكمات لا بداية له ولا نهاية. غريبة هي كلماتي! لا معنى واضح لها، صحيح؟! ليست أغرب مما اعيشه حاليًا من مشاعر متقلبة تتصادم ببعضها البعض، و كأن دواخلي مدينة فارغة ساكنيها من الأشباح الحزينة و بها أعاصيرٍ لا تهدأ و سمائها مشبعة بالغيوم الرمادية مشابهة لتلك التي تحيط قلبي.. تذكرت الأن أن لي غيميتين لا تسكنان أيضًا، و أن عندما تثور عواصف مدينتي المسكونة و تنقلب دواخلي رأسًا علي عقبٍ فتصطدم أشلائي بأشلائي، و يتسبب احتكاكها بإيقاظ الحرائق التي سرعان ما تشتبك بمضغتي، و تشتعل غابات شعيرات دمي. و تصطدم دموعي بوجنتي مجددًا و مجددًا حتي تنضب جُعبتي، فيتجدد بداخلي الأمل! و لكنه يذهب من جديد عندما أُدرك أن ماء غيمتي لا يمل ولا يجف. كم أتمني أن يتبدل سواد الجحيم بداخلي بحمرة الأزهار الفاتنة و يغزو عالمي الألوان الزهرية.. و لم أتمني أن يأتيني ذلك في أكثر من أحلامي"


في مزاجٍ سيئًا للغاية، كتبت "تولين" بضعة كلمات صاحبتها دموع تمحيها بسرعة كلما فلتت من بين جفنيها، و هي تجلس بفصلها تحتمي به و بزملائها من السيد المزعج.. شعرت كأن إهانته لها ضربت صميم قلبها و جرحتها بشدة. أ لهذه الدرجة كانت غبية؟! كيف استسلمت و سمحت له؟! اللعنة على ضعفها و لو كان للحظات من حق كل شخص في هذه الحياة أن ينولها. مع انفلات دمعة اخرى اقتربت منها معلمتها "سناء" التي لاحظت شحوب وجهها


كانت الأنفاس كالنيران المتأججة داخل صدرها و تأكل في أنسجتها و بالرغم من إجادتها إخفاء دواخلها، لكنها قررت الانهيار الان مجددا و لو للحظات معدودة؛ فعندما اقتربت منها معملتها و لمست ذقنها بأناملها و رفعته قليلا لترى غيمتيها تعصفان فسحبتها تضمها إليها فهي علي علم بمشكلات، و اضطرابات حياتها الأسرية، و انطوائيتها، و تقوقعها علي نفسها.. مسدت "سناء" ظهر "تولين" التي تنتحب بدون صوت و حاولت رفعها و هو تهمس حتي لا يلاحظ طلاب الفصل :


- ششش.. بس يا لولي خلاص.. تعالي نقعد في مكتبي احسن، ماشي؟.. هاتي حاجتك و يلا بينا. 


فأومأت لها الأخيرة و مسحت أثر الماسات التي سقطت من غيمتيها الحزينتين و تحركت هي و معلمتها التي تحيط كتفيها بذارعها إلي مكتب معلمي اللغة العربية الذي كان فارغًا لحسن الحظ.. دفعت "سناء" ظهر "تولين" برفق حتي توجهها إلي اريكة وثيرة تحتل جزء لا بأس به من الغرفة ثم أغلقت باب المكتب  من الداخل و اتجهت لتجلس بجانبها متوجهه بجذعها لها و قالت لها و هي تنظر في عينيها :


- ها يا لولي.. احكيلي بتعيطي ليه يا روحي؟ 


نظرت الاخيرة في عينيها و هي تفكر بسرعة. هل تفصح عما يدور في حياتها اللعينة و  تشيع قذورات ذلك المزعج، أم تصمت حتي تفكر في حل لتلك المعضلة.. رمشت بأهدابها حتي تكونت ماسات جديدة سقطت من بين جفنيها، و مع سقوط الماسات كان القرار قد سقط من عقلها للسانها فأستطردت قائلة بعد أن تناولت نفسًا عميقًا تمليء به صدرها :


- مسيو ناير.. بيضايقني أنا و كذا بنت في المدرسة. 


تجعدت جبهه "سناء" و ابتلعت ريقها ثم سألت بجمود :


- بيضايقك ازاي يعني؟ 


رفرفت أهداب "تولين" و قالت بشجاعة حاولت استجمعها من كل ذرة بجسدها :


- انا هحكي لحضرتك كل حاجة. 


و في دقائق التالية كانت "تولين" تقص علي "سناء" مغامرات زوج صديقتها "دلال" مع فتيات المدرسة مما جعلها تضع يدها علي فمها بإندهاش من ما وصل إليه حاله ذلك المتصابي.. و تحفظت "تولين" على الجزء الخاص ب"زينب" وأخيها حتى تفصح عنه هي بإرادتها. 


باغتت الأفكار في رأس "سناء" موجه تشويش مما أشعرها بالشلل الفكري و التقيد لدقيقة، ثم أردفت و هي تلوح بيديها بغير هدف :


- بصي يا تولين.. انا.. انا صدقيني مش عارفة اساعدك ازاي.. ناير يبقي جوز صاحبتي. 


فغرت "تولين" فاهها بعدم استيعاب لثانيتين، ثم حركت رأسها يمينًا و يسارًا تنفض عنهما غبار التعجب الوهمي، و رطبت شفتيها و أردفت باحثة عن ذرة أمل :


- بس احنا لازم نوقفه عند حده.. لازم يتعرف في المدرسة اللي هو بيعمله. 


زفرت "سناء" و هي تعذب شفتها السفلية بين أسنانها، ثم أردفت بقلة حيلة و بعينين مغلوبتين علي أمرهما :


- تولين.. ناير ليه بنتين في المدرسة هيتضرروا إذا الموضوع ده اتعرف.. انا بجد مش عارفة هساعدك ازاي.. بصي الحاجة الوحيدة اللي اقدر اعملها اني اعَّرف الإدارة و اللي محتاجة دليل عشان تصدقني. 


توالت الأفكار علي رأس "تولين" و تتابعت مشاهد مقابلاتها ل"ناير" أمام عينيها  و توقف اخر مشهد بينهما أمام ناظريها قليلاً و تسللت كلماته لأذنها؛ فثارت الدماء في عروقها و أردفت :


- تمام و انا هجيبلك دليل. 


❈-❈-❈

يوم الأحد صباحًا في المدرسة... 


دخلت "تولين" من باب القاعة الفارغة التي اتفقت مع "ناير" أن يلتقوا بها و بمجرد دخولها و قبل أن تلتفت بعد غلقها الباب سمعت صوته الذي تمقته :


- ازيك يا لولي.. وحشتيني. 


ابتلعت ريقها لترطب حلقها الجاف قلقًا ثم التفتت قائلة بإبتسامة حاولت جاهدة أن تظهر حقيقية :


- إزيك عامل ايه. 


ابتعد عن المكتب الذي يستند عليه بظهره و أومأ بالايجاب برأسه و هو يردف بإستفسار :


- تمام.. مالك متوترة ليه اوي كدة. 


ضحكت ضحكة قصيرة ظهرت تلقائيه و هي تأخذ عدة خطوات لإتجاهه و أجابته و هي ترفع خصلة متمردة لخلف أذنها و غيمتيها جامدتين :


- مش متوترة ولا حاجة.. ياريت تقول اللي عايزه بسرعة عشان ورايا حصة. 


اقترب منها بتريث وترها حتي وقف أمامها و مال عليها و هو يهمس بإبتسامة قتلت اخر ذرة هدوء بها :


- بس انا مش عايز اقول.. انا عايز اعمل. 


أحاطها بذراعيه و سحبها إليه بمفاجأة جعلت الهاتف الذي كان يستقر بجيبها يسقط و يصدر ضجيجًا يكسر صمت الغرفة اشتبك معه صوت صراخ خرج من فم "تولين" و من قلبها الذي ارتفع صوت نبضاته يعلن عن نفسه! 


- ابعد عني.. ابعد عني بقولك. 


- ابعد عنها يا ناير.


تداخل صوت ثالث تسابق مع أصواتهم بعد صوت فتح الباب القاسي. و كان الصوت للمدير و ثلاثة رجال و سيدة من العاملين بالإدارة و "سناء" التي دخلت و احتوت "تولين" - التي يرتعش جسدها - بين ذراعيها. و أردف المدير بنبرة حادة و بنظرة متقززة موجهه ل"ناير" :


- اتفضل يا مسيو ناير على مكتبي عشان تمضي استقالتك و تمشي بالذوق. احنا مش هنبلغ عنك بس كرمًا لزوجتك، و لبناتك اللي معانا هنا في المدرسة و اللي من اوائل الطلبة و مستواهم الدراسي هيتأذى لو طلع علي باباهم المدرس الفاضل إنه بيتحرش بالطالبات بتوعه. 


مع سماعه للكلمات كانت تبدو علي عينيه عدم استيعابه للكلمات، فتركت عينيه مقلتي المدير و اتجهت تبحث في الغرفة عن مقلتين رماديتين تعرفهما لتستفسر منهما عما حدث في نفس الوقت الذي كانت تولين تتذكر فيه اتفاقها مع مدير المدرسة علي تسجيل مكالمتها مع "ناير" ليكون كدليل علي صدق كلماتها..


يوم الخميس ليلاً... 


تناولت "تولين" نفسًا عميقًا و ضغطت علي زر التسجيل بمجرد فتح المكالمة كما سمعت صوته يرد عليها :


- ايه متصلة تعتذري؟ 


ابتسمت جاهدة أن تظهر الابتسامة في صوتها و نبرتها النادمة الرقيقة التي لا تستعملها غالبًا و لكن ذلك لم يمنع قلبها عن الصراخ داخل قلبها قلقًا! 


- أيوه.. انا أسفة متزعلش مني.. مش احنا صحاب برضو. 


مط شفتيه مجيبًا و قد كان يشعر بتلك اللحظة كالطاووس المنفوش ريشه بغرور ذكوري بحت :


- المفروض. 


أردفت بمرح مصطنع و هي تشعر بالتقزز من نفسها للغاية و لكنها ستنهي الأمر عما قريب لذلك لتتحمل القليل فقط؛ فقد اقربت من مبتغاها :


- طب ايه. 


- ايه عايزة ايه؟ 


- مش عايز تتكلم معايا زي ما بنتكلم علي طول؟


رفع حاجبيه مجيبًا بغيظ :


- لا مش عايز. 


ضحك بدون صوت و سأل بتعجب مصطنع يناكفها :


- إيه سكتي ليه؟


- مفيش مش عارفة اقول إيه. 


- مش تسأليني عايز ايه طيب! 


وضعت يدها على قلبها و سألته كما يريد لكن بنبرة مضطربة إلتقطها :


- إيه؟ 


- عايز أجيلك البيت. 


- ليه؟ 


- عايز حضن تاني زي اللي حضنتهولك قبل كدة. 


فرت دمعة علي وجهها بمجرد سماع طلبه كما شعرت بضربة في قلبها الذي قبضت كفها عليه فوق صدرها و لكنه تابع بعد أن تلمس شفته العليا بطرف لسانه :


- إيه مش موافقة ولا إيه؟ دي ضريبة بدل القلم اللي خدته علي فكرة. 


- أنا مبحبش كدة أرجوك متجبرنيش أعمل حاجة أنا مش عايزاها. 


- من امتى بتترجيني يعني!.. فين البنت القوية اللي بتقف في وشي. 


- أنا بس عايزة نتصالح بس من غير اللي انت بتقوله ده.. ممكن؟


سمع صوت بناته و زوجته يفتحن باب الشقة فقال بسرعة و هو يخلل شعره للخلف بأصابعه :


- طيب إحنا كلامنا في الفون كدة مش هينفع.. انا عايز اشوفك في الأوضة اللي اتقابلنا فيها اخر مرة، تمام؟ 


- تمام.. هنتقابل يوم الحد في نفس المكان. 


و بعد تسليم تولين التسجيل للمدير طلب منها الذهاب للقاعة في الوقت المتفق عليه و فتح خط الهاتف بينها و بينه حتي يتدخل في الوقت المناسب؛ لينتهي الأمر كما خُطط له. 


❈-❈-❈


دخلت والدة "زينب" غرفة ابنتها بعد أن طرقت أكثر من مرة ولا يوجد رد. فوجدت الغرفة مظلمة فظنت أنها نائمة علي سريرها و ذهبت لمفتاح الإضاءة و عندما أشعلته وجدت الغرفة فارغة فصرخت تنادي زوجها :


- محمد.. الحقني يا محمد زينب مش في أوضتها. 


علي صوتها خرج كلا من "حمزة" و والده من غرفتهما و هم يتسألا ماذا يحدث فكررت والدة "زينب" جملتها و هي تلطم نفسها علي وجنتيها بذعر ثم سقطت لعدم قدرتها علي الوقوف فتركها "حمزة" و دخل الغرفة بينما والده يصيح بأن يساعده و يحمل أمه بينما هو يبحث في أرجاء الغرفة عن أخته بجنون ثم اتجه يفتح خزانتها فوجدها فارغة فصاح بشراسة و خرج تاركًا المنزل و والده يصرخ عليه. 


❈-❈-❈


في اليوم التالي جلس والد "زينب" علي مكتبه واضعًا يده علي جبهته يفكر في نكبته.. زينب هربت من المنزل و حمزة جن جنونه و لم يعد منذ أمس أيضًا، ماذا يفعل و ما الحل؟ هل هربت لأنه لم يصدق كذبتها بتعدي ولده عليها؟ و كيف تعدى عليها و هي مازالت بكرية؟ كيف له أن يصدق أن أخيها يتحرش بها؟ ماذا تريد منه أن يفعل؟ هل يقتله أم يطرد خليفته و متولي أعماله من بعده، خارج المنزل؟ في خضم أفكاره دخل الساعي مكتبه بعد الطرق و قدم له اسطوانة مُغلفة أُرسلت مع فتاة تركتها و ذهبت بسرعة و علي غُلاف الاسطوانة مكتوب "زينب" فسارع بوضع الاسطوانة بحاسوبه و شغلها فوجد تسجيلًا صوتيًا فتحه فسمع في بدايته صوت "زينب" ابنته تتحدث قائلة بنبرة باكية تحاول التماسك :


- بابا أنا زينب.. زينب بنتك اللي مش مصدقها.. و كنت سبب في إنها تتعرض للي اشتكيتلك منه تاني أيام كتيرة.. بابا أنا هربت من البيت عشان إنتو مش مصدقيني و عشان.. و عشان حمزة مش عايز يسبني في حالي و كل شوية بيعمل حاجات وحشة في أوضتي و انا قدامه.. بابا أنا عايزة ارجع بيتنا والله بس انا خايفة.. مبعرفش انام خالص عشان هو مش عايز يسيبني و إنتو بقيتو بتساعدوه في كدة.. بابا انا عند واحدة صاحبتي طيبة اوي و بتحبني و مصدقاني.. و مش هرجع إلا لما تصدقني.. انا سجلتلك اللي حمزة بيعمله في اوضتي بليل كل يوم بس صوت بس معرفش اسجل فيديو أو.. أو اتكسفت اسجل فيديو و هو بيقلعني هدومي.. انا أسفة اني هربت. 


فتح فمه يشعر بصعوبة في التقاط أنفاسه فسماعها تذكر شكواها مجددًا يشعره بألم شديد في قلبه، و سالت الدموع علي وجنته تزمنًا مع صوت بكاء ابنته في التسجيل ثم فجأة انقطع الصوت و عمل صوتًا اخر لحمزة و هو يهمس لأخته بكلماتٍ منشأها الشارع، و يأمرها أن تمتثل لأوامر لو كان سمعها من ولدِه قبلًا لذبحه بيديه، و سمع صوت صغيرته تنتحب و تطلب منه أن يكف عما يفعله و يتركها و شأنها. 


توالت الذكريات علي رأسه منذ مولد صغيريه و مراحل نمو كليهما.. أول خطوات، أول كلمات، أول ضحكة، و قُبلة، و أول يوم دراسة و يوم شهاداتهم في المراحل المختلفة حتي وصل لبداية ذبول وردته في المنزل و انقطاعها عن تناول الطعام لأيام و عدم رغبتها في التنزه على غير عادتها و إنحضار مستواها الدراسي شيئًا فشيئًا حتى اعترافها له و طلبها نجدته و كان هو الأعمى البصر و البصيرة! كيف لم يشعر بها! و هو الذي عمل لسنين حتى يكون بيته هذا هو مصدر الأمان و العُش الدافىء لولديه و زوجته فيصبح هذا المكان موضع الرعب بالنسبة لصغيرته! و هو غافلًا عن ذلك ايضًا! لو بيده لذهب و حرم ابنه مما قاده لفعل ذلك بأخته! لو بيده لأعاد الزمن و ادخل ابنته في قفص صدره بجوار قلبه لألا يؤذيها أحدًا بهذه الدنيا. 

❈-❈-❈


دخل "حمزة" من باب منزله في منتصف الليل فوجد والده "محمد" يجلس مستندًا بمرفقيه علي ركبتيه واضعًا رأسه فوق قبضتيه و فاتحًا حاسوبه المحمول أمامه يصدر منه صوت "زينب" باكيه و قبل أن ينبث ببنت شفة ركض و جلس علي عاقبيه أمام الجهاز يسمع رسالتها ثم التفت لوالده و قد ارتفع صوت أنفاسه مع دقات قلبه و سأله و عينيه مشوشة بغمامة من الدموع :


- مين اللي وصلك الرسالة دي؟


نظر له والده بصمت كأنه ينتظر شيئًا ثم نظر لشيء خلفه فوجد والدته تقف خلف حائط يظهر نصف وجهها فوق و يبدو أنها تبكي ثم فجأة توقف حتى صوت الأنفاس في الغرفة.. عندما استمع الجميع للتسجيل يعرض صوته في غرفة "زينب" و يطلب منها أن تخلع كامل ملابسها أمامه و أنه سيفعل المثل أمامها ثم تتابعت طلباته المخجلة.. ابتلع "حمزة" ريقه و والده مازال يسلط نظره عليه و كأنه ينتظر منه توضيحًا و كان "حمزة" غير مستعد لتلك اللحظة قط كأنه لن يُكشف أبدًا.. و عند انتهاء التسجيل كان حمزة ينظر ارضًا مع سيل الدموع من عينيه ليس ندم و لكنه أحبها.. أحبها بغير وجه حق و يفتقدها و ها هي هربت منه. كما لا يعلم مصيره في هذا المنزل أيضًا بعد اليوم. استقام والده فجأة ثم اردف و هو ينظر له باستحقار :


- انا لو عليا هقتلك بإيدي بس متستاهلش ادخل فيك السجن.. ملكش مكان في البيت ده تاني.


ثم امسك حزام جلدي كان موضوع خلفه على المقعد و امسكه رافعًا إياه عاليًا و قبل أن ينزل به علي جسده المشلول الحركة ارضًا صاح به و عيونه تسيل منها دموع الندم كالسيول  :


- بس الأول هعمل فيك زي ما عملت فيها من غير ذنب.


و مع جلده لأول مرة صرخ "حمزة" و تكوم أرضًا فصاح والده مجددًا يسبه بسُباب بذيء يناسبه و هو ينزل بالجلدات التالية علي باقي جسده. و استمر في ذلك لمدة ساعة تقريبا حتي تمزقت ملابس الفتى و و طُبعت دمائه عليها، و ذهب صوته من كثرة الصراخ، و فقدت والدته وعيها من كثرة المصائب حولها التي لا تُحتمل.. ضربه والده حتى يخرج فيه طاقة غضبه و بعد مرور الوقت اكتشف أنها لم تخرج بعد و لن تخرج إلا عندما يختفي ذلك الشيطان من حياة اسرته و تعود ابنته سالمة لبيتها و يكون لها مكمن الطمأنينه و الأمان ليس الذعر و الرعب، و عند تذكره ذلك ظل يركل جسد "حمزة" المتكوم بقدمه عدة مرات و لم يسلم وجهه من تلك الركلات، ثم بصق عليه و تركه طريح الأرض هكذا و دخل غرفته يغلق علي نفسه من الداخل حتى تسيل دمعاته الرجولية في صمت و خصوصية و حتى يعلن عن انكسار ظهره لكن في الخفاء. 


❈-❈-❈


دخل "ناير" من باب شقته فوجد "دلال" واقفة مستندة علي الحائط و تحيط نفسها بذراعيها فمط شفتيه بتعجب و أغلق الباب خلفه و دخل، و عندما وقف أمامها فردت ذراعيها بجانبها و جمود وجهها مخالف لعينيها التي يظهر عليهما البكاء قبلًا فجعلته يجعد جبهته و يميل برأسه مستغربًا و سأل و هو يرفع يده ليلمس وجنتها :


- مالك يا حبيبتي؟.. إنتي معيطة؟ 


وو قبل أن تصل يده لوجهها دفعتها بيدها ثم صفعته بغل جعله يرمش عدة مرات و يحاول الاستيعاب و قبل أن يصيح بوجهها همست هي مع دمعة سالت و سابقت كلماتها علي الخروج :


- بتتحرش ببنت أد بنتك يا ناير.. دي أخرتها.. عايز تفضح نفسك إنك راجل ناقص براحتك.. إنما بناتك ذنبهم ايه ها؟.. ذنبهم إيه، إنك أبوهم؟ 


حاول "ناير"  أن يحيطها بذراعيه و أردف :


- دلال


ابعدت يديه عنها بسرعة و عادت عدة خطوات للخلف و قالت و هي تجز علي أسنانها :


- طلقني يا ناير. 


خللت بأصابعها شعرها للخلف و أردفت و هي تنظر في الفراغ بابتسامة بها ألم جلي :


- البنات انا بعتهم هما و شُنطي عند ماما و مش هحكيلهم علي حاجة.. مش عشانك اكيد ده عشانهم بس.. إنت متستحقش المحاولة معاك حتى. 


❈-❈-❈


في المساء خرج "حمزة" من الشقة سرًا و وقف أمام مبنى والده ينظر إلي أعلاه و تفر عدة دمعات من بين جفنيه فهو لن يستطيع العودة لهُنا مجددًا و لن يستطيع أن يجتمع بها ثانيًا و لكنها ستصبح سعيدة في عدم وجوده و ستشرق ابتسامتها من جديد مما جعله يبتسم بين دموعه.. توقفت سيارة "علي" ليلًا أمام مبنى عائلة "حمزة" و وجده واقفًا بظهره ينظر لأعلي فضغط علي مزمار سيارته مرة لينبهه لحضوره فانتبه الأخير و صعد للسيارة فلاحظ "علي" الكدمات بوجهه و عقد حاجبيه و أردف بسخرية :


- ايه اللي مخرشم وشك كدة؟ 


- بابا عرف كل حاجة و زينب هربت من البيت. 


- هو اللي ضاربك كدة؟ 


أومأ و هو ينظر من نافذة الباب جانبه بالسيارة للفراغ فابتسم الاخر بسخرية وحرك رأسه بعلامة لا فائدة و شغل السيارة لينطلق بها إلي مدينة اخري فأعاد "حمزة" رأسه للخلف يتذكرها بملامحها الجميلة و رقتها و براءتها التي سرقها منها، كم يتمنى لو يراها مرة فقط قبل أن يرحل! استمرت خيالاته في اللعب علي أوتار مشاعره لمدة غير قصيرة حتى انتهى كل شيء فجأة بحادث اصطدام سيارتين.. تهشم السيارة، زجاج متطاير، أصوات الاصطدام و الصراخ.. ثم أخيرًا صعود أحد الروحين للسماء إثر ارتطام عنيف بمقدمة رأسه. 


❈-❈-❈


في أحد الأقسام، دخل عسكري لمكتب رئيسه و خلال تأديته التحية العسكرية قال :


- تمام يا فندم. 


أشعل الضابط سيجارته و أردف و هو يضعها في فمه :


- ايه يا ابني قول اللي عندك. 


بدأ العسكري بوضع الأوراق أمام الضابط و هو يدلي بما في هذه الأوراق من معلومات :


- عيل منهم راسه اتخبطت في التابلوه و مات و اسمه حمزة محمد سالم.. و التاني حالته حَرِجة.. و لقينا شنطة بودرة في العربية.. شكلها إتجار يا فندم. 


نفث الضابط دخان سيجارته و أردف بملل و تعوّد :


- تمام يا ابني.. خلاص روح إنت و ابعتلي محمد بيه أما نشوف حكاية بتاع البودرة ده هتخلص علي تأبيدة ولا ايه. 


❈-❈-❈


-استني يا بابي.. استني مش قادرة اتنفس بجد. 


تخللت ضحكات السيد "عزمي" تناوله أنفاسه إثر الركض في أحد النوادي الرياضية بمشاركة "ندى" و صاح من على مسافة قائلا :


- شكلك عجزتي يا نودي. 


وقفت هي الاخرى تستند بيديها علي ركبتيها و تلتقط أنفاسها ثم صاحت بعد دقيقة و هي تضع يدها علي صدرها متلمسة موضع قلبها الذي يخفق بسرعة :


- لا معجزتش ولا حاجة.. هاخد نفسي بس و نكمل جري و هسبقك. 


- رهان؟ 


جلست علي الأرض تتناول بعض غازات الهواء حتي تستعيد طاقتها و خلال ذلك أجابت سؤاله بسؤالٍ :


- على ايه؟ 


عاد إلي موضع جلوسها ركضًا و استقر بجانبها و هو يقول :


- اممم.. مش عارف.. إنتي كدة كدة ليكي عندي هدية و خروجة زي ما وعدتك عشان درجة امتحان ال Maths كانت حلوة.. عايزة ايه تاني من الدنيا؟ 


قطبت جبينها و أردفت بتعجب :


- ايه السؤال ده؟


فقلد تعبيرات وجهها و سألها و هو يرفع الخصلة التي سقطت علي عينيها :


- ماله؟ 


- عامل زي ما يكون هموت بكرة. 


ضحك ضحكة قصيرة و أردف و هو يقبّل ظهر كفها :


- بعد الشر عليكي يا قلب بابا.. ها بقى قولي نفسك في ايه. 


- اممم.. نفسي في Pizza. 


استقام و هو يقول و بدأ في الركض بالفعل :


- أوك يلا نتسابق تاني و لو كسبتيني هناكل Pizza. 


قامت "ندي" خلفه و حاولت مجاراة سرعته قائلة :


- طب لو خسرت؟ 


ابتسم بخبث و هو يزيد من سرعة جريه ثم اولى لها وجهه و تحدث و هو يجري :


- هأكلك سندويتشات فول من عند الجحش. 


وقفت مجددا تلتقط أنفاسها ثم جلست علي صخرة كبيرة بجوارها قائلة :


- ايه؟ جحش و فول؟ ازاي؟ 


تأفأف بملل مصطنع و عاد إليها يسحبها من يديها قائلا :


- ملكيش دعوة إنتي ده حوار طويل كدة.. قومي بس يلا. 


بدأ الركض مجددا تاركًا إياها تلتقط أنفاسها بصعوبة فصاحت من علي بعد :


- حاضر.. استني طيب نبدأ سوا.. يا بابي.. حضرتك كدة بتغش علي فكرة.


❈-❈-❈


دخلت "نيرة" أحد المقاهي الشبابية بمنطقة عشوائية يتردد عليها "علي" بشكل مستمر، فسألها أحد الرجال بالمقهى عندما وجد من شكلها أن يبدو عليها الثراء :


- عايزة مين يا آنسة؟ 


عدلت "نيرة" من خصلات شعرها القصيرة الحمراء و أردفت :


- مش علي فاروق بيقعد هنا برضو؟ 


ابتسم" سيد سيكا" بسمة خبيثة عندما تأكدت شكوكه و قرر اخذ حقه من ذلك السارق فتابع المحادثة بتلقائيه :


- اه، حضرتك عايزاه في حاجة؟ 


زفرت "نيرة" من شعورها بالتقزز من هذا المكان و أجابت قائلة بملل :


- اه انا خطيبته. 


حكَّ "سيد" كلاً من كفيه و هو يبتسم و يخمن اسمها قائلا و هو يضيق عينيه :


- اهه.. إنتي لوچين؟


توسعت عيني "نيرة" و تعالت أنفاسها فقالت بعصبية :


- لا انا نيرة.. لوچين مين. 


بداخله تعالت ضحكاته بينما علي وجهه ارتسمت أمارات الجهل و قال ماطًا شفتيه :


- اسف.. تلاقيني اتلغبطت بس.. اصله كان مرة كلمني و عايز موكنة ليه هو و لوچين دي. 


قضمت "نيرة" شفتها السفلية و أردفت باحتدام :


- طب انا عايزة اوصلها متعرفش ازاي؟ 


أدلى "سيد" بمعلوماته بسرعة الصاروخ و هو يكتم بداخله ضميره الذي يحثه علي عدم خيانة صديقه، بل تهللت روحه سعيدة بإيقاعه بمأزق. 


- اللي اعرفه أنها في تلاته ثانوي و في مدرسة دولية إسمها الأمل، و بنت مدرس تقريبا. 


❈-❈-❈


بعلاقات "نيرة" المتعددة استطاعت التوصل ل"لوچين" بسهولة، و بعد انتهاء يوم "لوچين" الدراسي كانت تستعد لذهابها لبيت جدتها هي و أختها و لكن نادتها فتاة أطلقت عرفت نفسها بإسم نيرة و قالت :


- انا ابقى خطيبة علي.. اللي انتي مصحباه. 


رفرفت "لوچين" بجفونها اكثر من مرة حتي تشوشت الرؤية أمامها أثر تكون ماسات كالغمامات علي عينيها و حركت رأسها يمينًا و يسارًا بعدم تصديق هامسة :


- نعم؟.. ازاي؟


رفعت "نيرة" شفتها العليا لأعلي و قالت بجمود و هي تفتح هاتفها :


- عادي.. انا خطيبته.. لو مش مصدقاني هوريكي صورنا و الشات بتاعنا سوا. 


و كانت صدمة "لوچين" عندما وجدت تلك الفتاة صادقة فما رأته مزق قلبها لأشلاء و أشعرها بالسوء و الخيانة و كٱن هناك ما انفجر في دواخلها فدمر كل ما تملكه من مشاعر. 


❈-❈-❈


"رممت قلبي بنفسي و مسحت دموعي بيدي فليس لي من يطبب جروحي ولا من يعالج قروحي.. أخيط قلبي بخيوطٍ من النار حتى لا يغادرني شعور الخيانة، فهي كالوقوع بأحد ممرات الجحيم، و أضمده بضمادات من الثلج حتى لا ينعم بتذوق الدفء ابدًا فلا ينشغل بالبحث عنه متغاضيًا عن مأساة فقده.. و في النهاية فلترقد يا قلبي في سلامٍ و لتنوله أخيرًا فلم تنعم به قط"


كتبت "تولين" بضعة كلمات تصف شعورها و هي تركب الطائرة المتجهه لإحدي الدول الأوروبية لتقيم مع خالتها، و عندما انتهت اغلقت دفترها الازرق و علقت به قلمها  و أعادت رأسها للوراء تفكر في كل ما مضي من أحداث و في الفتيات الذي أوقعهم القدر في طريقها لتنقذهم و في أهلها الذين تخلو عنها و لكن لم يخلو وداعهم من بضعة دمعات مزيفة مادة خام للسخرية و لكن فلنكتفي بإصطناع التصديق حتى ننهي تلك المرحلة البائسة في حياتنا و ننتقل لمرحلة جديدة عسي أن تكن خيرًا. 


"زينب محمد سالم" فتاة اوقعها قدرها مع أخٍ وغدٍ و عائلة ذات تدين زائف.. تتذكر الأن لقائهما الأول و لجوئها لها طالبة منها فقط أن تصدقها، و الحضن الذي شمل كليهما لتبكي تلك الصغيرة أحزانها و ألمها في كنفها.. تتذكر مكالمتها معاها و كأنها أمس و اتفاقهما على خطة لنجدتها و خطتهما البديلة كذلك. 


- ها يا زينب عرفتي هتعملي ايه يا حبيبتي؟ 


أومأت "زينب" بالايجاب و كأنها ترى "تولين" أمامها و ردت عليها بهمسٍ :


- ايوه.. هلم هدومي و اجيلك علي العنوان اللي بعتيهولي. 


ابتسمت "تولين" و هي تسمعها تتحدث، تشعر كأنها تساعد طفلتها و لذلك تتعامل معاها بأعمق ما تملكه من مشاعر الأمومة.. قالت الأخيرة بلين لتذكر الصغيرة بالخطة :


- تمام يا حبيبتي.. اذا باباكي مصدقش هتسيبيهم خالص يا زينب؟


حل الصمت في المكالمة لدقيقة كانت مدة كافية لسقوط دمعات الصغيرة و شعورها بألم يغزو صدرها و بإرتعاش جسدها و انتصاب كل بُصيلة شعر به و لكنها بقوة لا تعلم من أين مصدرها مسحت دموعها و قالت :


- اه انا مش قادرة استحمل العيشة دي.. صدقيني فوق مقدرتي. 


فلتت شهقه منها في اخر حديثها جعلت "تولين" تتأكد من ظنها فهي تبكي بالفعل، فقالت لها بنبرة لينة و بحنان :


- ماشي يا حبيبتي خلاص متعيطيش مفيش مشكلة. 


احتضنت "زينب" جسدها كي تدفئه قليلًا و أردفت و هي تشعر بتخبط صفي أسنانها ببعضهما :


- حا.. حاضر. 


و في بيت "تولين" وجدت "زينب" السَكينة لمدة ثلاثة أيام فقد حاولت الأولى بقدر المستطاع التخفيف عن "زينب" بشتى الطرق فقضوا الوقت يطهون و تقص عليها رواياتها أو تقرأ لها قصصها المفضلة، كما عافرت "زينب" كثيرًا لتتناسى نكبتها و تغرق في ما تعرضه عليها "تولين".. و في اليوم التالي كان  الجزء الثاني في خطتهما و الأهم أيضًا 


- متأكدة إن ده عنوان شركة باباكي يا زينب؟ 


مسحت "زينب" وجهها من سيل دموع لا ينضب و أومأت بصمت فرطبت "تولين" شفتيها ثم امسكت كف الأولي بين يديها الناعمتين و أردفت لتطمئنها :


- متقلقيش.. إن شاء الله هيصدقوكي و هيتصرفوا معاه. 


قضمت شفتها ثم تابعت بهمس :


- متأكدة إنك مش عايزانا نبلغ البوليس؟ 


أومأت "زينب" بقلة حيلة و أردفت :


- ايوه بابا هيتئذي في شغله.. مقدرش اعمل كدة فيه. 


أومأت لها "تولين" و شددت علي كفها داعمة إياها بكل ذرة بكيانها. 


و بعد انقضاء اليوم الثالث ذهبت "تولين" و "زينب" إلي أسفل مبنى والد الأخيرة السكني و توجهت "تولين" تسأل الحارس عن "حمزة" فأخبرها أنه ترك المنزل منذ يومين، فعادت ل"زينب" تخبرها بالبِشارة و عندها قررت الأخيرة الصعود لأهلها فعرضت عليها "تولين" مرافقتها. 


بعد نصف دقيقة من الطرق على باب شقتهم فُتح الباب بواسطة والدة "زينب" فإرتمت الصغيرة في حضن أمها في مشهد مؤثر دمعت له عين "تولين" فهي لا تتذكر أن احتضنتها والدتها يومًا بتلك الحرارة أو بهذا الحب.. انهمرت القُبلات علي وجه "زينب" من أمها و هي تقول بتلعثم و بدون تركيز :


- بنتي.. بنتي زينب.. وحشتيني يا قلب امك.. حقك عليا يا قلبي.. حقك عليا يا نور عيني. 


خرج علي الصوت والدها من غرفته يمشي بوهن و يبدو عليه المرض، و عندما التقت عيني "زينب" بعينيه سالت دموع عينيه و قلبه على الفور متذكرًا التسجيل الصوتي مجددًا و الذي لا ينفك عقله عن عرضه بداخله و كأنه يعذبه بسماعه و يذكره بظلمه لصغيرته.. تركت "زينب" أمها و اقتربت منه فمد يده يسحبها ضامًا إياها له بصمت و لكن تعالت شهقاتها هي هذه المرة تحتمي به من الدنيا و ما فيها و تشكو له مما صابها، و هو تسقط دموعه الرجولية في صمت شاعرًا بأصعب ما يمكن لرجلٍ أن يشعر به و هو التقصير في حق أهله و خوفهم في وجوده علي قيد الحياة و في بيته أيضًا.


رنين الهاتف هو من افاق جميعهم من تلك النوبة العاطفية فأخرج والد "زينب" الهاتف من جيبه و هو مازال متحفظًا عليها في حضنه و أجاب بصوته العادي :


- الو


- الو.. حضرتك أستاذ محمد سالم والد الشاب حمزة محمد سالم؟


كان سماع الاسم يوحي بالخطر بالنسبة له مما تسبب في ارتفاع ضربات قلبه فأردف بقلق :


- أيوه انا.


- البقاء لله.. ابن حضرتك عمل حادثة كبيرة و للاسف مقدرناش نلحقه.. متأسف جدًا.


سقط الهاتف.. سقطت يده الممسكة ب"زينب" .. ثم سقط هو أرضًا. 


اسرعت "تولين" للداخل تاخذ الهاتف و تسأل الرجل عما قاله بينما صرخت أم "زينب" و هرولت إليه و تعالى صياح "زينب أيضا تحاول أن تعرف ماذا حدث لأبيها ثم سألت "تولين" بنحيب عما حدث فكان دور الأخيرة أن تردف بجمود :


-حمزة م.. مات. 


في ظل صراخ أمها على فقد أخيها لم تعرف هي و عقلها ما هو التعبير الصحيح الذي يجب أن تُبديه للأخرون، هل تسعد لانتهاء معاناتها للأبد أم تحزن و تصرخ مثل امها و مثل أي فتاة طبيعية؟ فإنزوت في حضن والدها الفاقد وعيه تسيل دموعها في صمت. أما "تولين" لم يكن حالها أفضل من حال "زينب"، قررت أن تتصل بالاسعاف و أن تنزوي هي الاخري في احد أركان الشقة حتى يصلوا المسعفين. 


عادت "تولين" من ذكرياتها تلك علي سؤال المضيفة لها عن نوع الغداء الذي تفضله، و عندما ذهبت المضيفة تذكرت "تولين" تحسن حالة "زينب" و تقبل والديها لأمر فقد ابنهما و بالطبع مازال الحزن يسكن القلوب علي خسارته مهما كانت فداحة ما ارتكبه خصوصًا و أن زميله "علي" الذي نجا من تلك الحادثة اتهمه بأنه صاحب حقيبة المخدرات التي كانت في السيارة و لكنه لم يسلم من العدالة و سيقضي حوالي نصف حياته القادمة في سجنٍ مؤبد نتيجة لعمله الموبوء. 


و مع انتهاء قصة الفتاة الأولي لم تخمد الذكريات و لكن بدأت أحداث القصة التالية في التتابع أمام عينيها. 


"ندي سامي جرجس" تلك الفتاة التي كانت من ضحايا السيد المزعج.. كانت مقابلتها التالية ل"تولين" و هي منهارة و تخبرها بأن "ناير" ترك المدرسة و لا يرد على اتصالاتها مما جعل "تولين" تحسم الامر و تقرر أن تعرض عليها التسجيل الصوتي الذي عرضته علي المدير قبلًا لتفيق تلك الفتاة عن غفلتها، لم تتوقع "تولين" ردة فعلها نهائي فهي صمتت.. نعم صمتت فقط و اتصلت بزوج والدتها ليأتي إليها و يأخذها، و بعد قليل كان في المدرسة السيد "عزمي" يطلب إذنًا من المدرسة ليأخذ صغيرته الصامتة و يعود بها للمنزل. 


في المقاعد الخلفية بالسيارة جلست "ندى" محتضنة والدها دون كلام فكان من السهل عليه تمييز أن الأمر يخص ذلك ال"ناير" مما جعل دمه يغلي في عروقه خوفًا من أن يكون تعرض لها ذلك الرجل بأي شكلًا من الأشكال ولكنه فضل الانتظار حتى وصولهم البيت. 


عند وصولهم المنزل هرولت إليها أمها تحتضنها و تتأكد من سلامتها و سبب قدومها باكرًا فأردف السيد "عزمي" بابتسامة ليطمئنها :


- مفيش يا حياتي هي بس تلاقيها خدت دور برد فداخت شوية.. روحي انتي اعمليلها شوية شوربة و هتبقي كويسة. 


نظرت له والدة "ندي" بامتنان و حب جلي و قالت بابتسامه :


- حاضر من عيوني


قذف لها قُبلة في الهواء و هو يقول و يسحب منها "ندي" لحضنه :


- تسلم عيونك يا روحي 


بعد ذهاب والدتها ذهبت تلك الابتسامة الصغيرة التي كانت تزين وجهها الشاحب فداعبها والدها قائلا :


- اشيلك يا نودي؟


فرت دمعة من بين جفنيها فنظرت له ماطة شفتها السفلى كالاطفال الحزينة و اومأت له بالنفي، فمسح دمعتها بإبهامه و قال لها بحنان :


- بتعيط ليه بس يا حبيب بابا. 


فسحبته من يده إلي غرفتها و عندما دخلوا اغلقت الباب و بدأت تقص عليه ما سمعته من "تولين" و أمر التسجيل الصوتي ذاك و ماساتها تسقط واحدة تلو الاخرى بينما هو ثابت تعابير الوجه و في داخله سؤال واحد يدور و يقطع في أنسجة قلبه سأله لها بمجرد توقفها عن الكلام و هو يمسك يديها و عينيه تقابل خاصتها :


- هسألك سؤال يا ندى و جاوبيني بصراحة و من غير خوف.. عمره لمسك قبل كدة بأي شكل من الأشكال؟ 


خافت أن تبتلع حتى لا يلاحظها و لكنها رمشت لأكثر من مرة تفكر بسرعة ما هي الإجابة المناسبة حتى أومأت بالنفي و بالطبع التقطت عينيه كذبها من خاصتها و شعر بالضيق في صدره يزداد فسألها مرة اخرى ليتبين صدقها :


- متأكدة؟ 


شددت "ندي"  علي يده و هي تومأ تلك المرة بالموافقة محاولة ترجيه بعينيها أن يصدقها فلبى طلبها قائلا بتنهد و هو يضمها إليه :


- طب الحمد لله. 


فهمست له و هي تغوص في حضنه أكثر و تنظر لأسفل :


- انا مضايقة اوي.


جز علي اسنانه يحاول طرد فكرة أنه لمسها من عقله و خلل شعرها بأصابعه و هو يسأل بهمس مشابه :


- ليه؟ 


- حاسه اني كنت هبلة اوي.. و خايفه.. يعني تولين دي اقوي مني و قدرت تقول للمدير عليه و تبعده عنها إنما انا مكنتش اقدر اعمل كدة.. كنت هخاف. 


رفع ذقنها بأصابعه و هي مستقرة بحضنه و أردف بهدوء و ابتسامة صغيرة مطمئنة :


- ليه يا حبيبي تخاف و انا موجود اومال انا لازمتي ايه؟.. المفروض لو حد اتعرضلك بأي شكل تيجي تقولي لبابا أو لماما عشان هما يقدروا يتصرفوا.. اوعديني بقي إن أي حد يتعرضلك حتى لو حاجة صغنونة خالص كدة تحكيلي، اتفقنا يا روحي؟ 


أومأت له بابتسامة مشابهه خاصته ثم شكرت إياه و هي تنظر له فسألها عن السبب و هو مجعد جبينه فكان ردها :


- عشان حضرتك في حياتي. 


استقام من مكانه بعد أن ابعدها عنه ثم وضع يده خلف ظهرها و الاخري تحت ركبتيها حاملا إياها يدور بها و هو يقول بمرح :


- ده شكرا إن حضرتك اللي في حياتي. 


فصرخت و هي تحرك قدميها و تضحك ضحكات تتخللها صرخات الفرح.. دخلت الأم علي صوتها فقالت بابتسامه و هي تتخصر :


- يعني بقيتي كويسة اهو ياست نودي؟ 


قبل السيد "عزمي" رأسها قائلا و هو ينزل "ندى" :


- اه بقيت زي الفل و هنقضي اليوم برا احنا التلاتة.. ها يا نودي عايزة تروحي فين؟


ابتسمت "ندى" بحب و أردفت بصدق :


- أي مكان معاكو هيبقي جنة. 


تنبهت "تولين" و عادت من ذكرياتها علي جلوس أحدهم بجانبها فمسحت وجهها من الدموع و قد تذكرت الصغيرة "ندي" الذي أصبحت مقربة منها أيضًا و يتواصلوا كثيرًا و في نهاية أصبحن هي و تلك الفتيات أصدقاء. أخرجت دفترها الأزرق و كتبت ما جال في عقلها كالعادة من كلماتٍ تسكّن أوجاعها أو ترسم البسمة علي فم غيرها أو تُسقط دمعة. 


"ما بكِ مازلتِ مقيدة بقيود الوِحدة رغم الجُموع حولك.. تغرقين في التعاسة إعتيادًا علي ملامحها أم قلة حيلة يا فتاة؟ انهضي من أرض القاع و إسبحي لأعلى لعل النجاة فعلا عِند السطح، و لا تتركي ثغرة لدخول اليأس لعقلكِ فأنتِ أقوى من عرفت و ستظلين الأعتى".


❈-❈-❈


بعد الإتفاق علي كل شيء و إقناع الفتيات بأنهم غير متفقين و أن انفصالهم هو الخيار الأفضل، جلس كلا من" ناير" و" دلال" أمام المأذون الذي ظل يكرر في جملة "إن أبغض الحلال عند الله الطلاق" و أن لكل مشكلة حلها و لكنهم كانوا حازمين أمرهم بالفعل فعند دخول الأنانية للعلاقة من أحد الأطراف فهي تفشل بكل تأكيد فكان الفاصل في ذلك الصراع الذي نشب بينهما هو الانفصال، و رميه اليمين عليها كان الإجراء الأخير لإتمام عملية الطلاق. 


تمت