-->

الجزء الأول - ثوب خدام الإله





ثوب خدام الإلة

الجزء الأول


 "ربما أقسى صفعات الحياة

 هى صفعة الخداع"

آيه همام


❈-❈-❈


كانت "مَريَم" تجلي الصحون و هي ترتل القرآن بصوتها العذب و تُراجع ما حفظته من آياتٍ في الصباح مع مُحفظتها الشابة "جِهاد" و هي فتاة جامعية أزهرية تعرفت عليها من دار تحفيظ القرآن الكريم و عندما رأها زوج "مريم" الشيخ "حُسام الدين عبد المنصف" اقترح أن تأتي لها المنزل ليريحها من عناء الطريق إلى الدار.. فُتح باب الشقة التي تسكن بها أسرة "مريم" و دخل زوجها يهلل قائلاً :


- الله الله الله الله.. إيه الجمال ده يا أم يزيد! بارك الله فيكِ و جعلكِ من أهل جنته. 


ابتسمت "مريم" بتوسع حتي أُغلقت عينيها تقريبًا كعادتها و قالت بحُب و هي تميل برأسها :


- و إياك يا رب. 


دخل "حسام" المطبخ و فتح الثلاجة ليُخرج زجاجة ماء و هو يردف :


- شكل البنت اللي اسمها جهاد دي كويسة صح؟ 


أومأت "مريم" بدون تفكير و أردفت بابتسامة عذبة و وجه أحمر الوجنتين و زمرديتيها الممتزجتان باللون الأصفر مختبأتان خلف جفنيها بينما غمازتيها تحفران وجهها بثقة :


- اه أنا حبيتها أوي. 


همهم بتعجب و هو يرفع حاجبيه و يتجرع الماء من الزجاجة مباشرةً و عندما فرغ سألها مجددًا بعينين ضيقتين مستفسرتين يبحثان مصدقيتها :


- بجد


ضحكت "مريم" بخفوت و أومأت مجددًا و هي تزم شفتيها تكتم ضحكة تريد البزوغ أعلي شفتيها الورديتين، فأغلق "حسام" الزجاجة التي في يده و وضعها جانبًا ثم اقترب منها على مهلٍ حتى ضربت أنفاسه جيدها ثم همس بجوار اذنها :


- و انا بحبك إنت. 


إعتلى ثغرها ضحكة بهية قصيرة جعلتها تترك ما في يديها مجففة كلتاهما، و اقتربت منه بهدوء تتعلق بيديها في عنقه و تضم نفسها إليه، دافنةٍ وجهها في رقبته، سابحة بحواسها في رائحة المسك التي تفوح من جسده الدافىء.. سحبها هو الاخر إلى صدره محيطًا جذعها بذراعيه القويين يغمر وجهه بكتفها و يداعب بأنفه وجنتها الممتلئة و تسللت إحدي يديه لتتابع ما بدأه و لكن توقفت حركتها عندما ارتفع صوت صياح نصر رفيع فزفر بسأم و سأل بهمس :


- هما لسه مناموش؟ 


قضمت شفتها السفلية و نظرت له ثم تأتأت بفمها بنظرة مشاغبة شامتة و مرحة فمط "حسام" شفتيه بطفولية ثم طبع قبلة علي سطح أنفها بعد أن داعبه بأنفه فجعدت هي أنفها تناكفه و هي تبتسم مما جعله يبتسم هو أيضًا بهدوء، ثم ابتعد عنها محمحمٍ و اتخذ عدة خطوات اتجاه غرفة التوأمين مناديًا :


- يزيد!.. خديجة!


ففُتح باب الغرفة و هرول "يزيد" ذو الستة سنوات لوالده الذي رفعه و قال بمرح و هو يدغدغه بفمه :


- بطلي حبيب قلب ابوه ده.


رفع "حسام" نظره لتلك الصغيرة الواقفة خلف الحائط فناداها بابتسامة هادئة اعتلت ثغره لخجلها الطفولي فظهر جلبابها القصير ذو الرسوم الكارتونية من خلف الساتر الذي تركته عندما خطت عدة خطوات للأمام مما جعل عيني والدها تتسع و تتغير ملامحه لتعطي شكل ثابت منذر بالشر مع مقلتين خُطت حدودهما العصبية، فتوقفت "خديجة" عن التقدم و ثبتت تشبك يديها أمامها بخوف بينما تحك أصابع قدمها اليمني شبيهتها اليسرى.. صاح "حسام" صيحة تسببت في انتصاب شعيرات جسد الصغيرة، قائلا : 


- مريم!.. ايه اللبس اللي خديجة لابساه ده؟.. انا مش قولت مفيش لبس قصير حتى في البيت؟ 


رطبت "مريم" حلقها الجاف و تحركت بخطوات سريعة لتصل ل"خديجة" و تدفعها برفق قائلة :


- حاضر حاضر.. هدخل اغيرلها اهو. 


" مريم عماد روماني" أو "إلين عماد روماني" خريجة كلية الحقوق ذات الأصول الألمانية، و زهرة الكاميليا الوردية - كما أطلق عليها جدها - صاحبة الثلاثة و عشرون سنةً التي مازالت تحمل رائحتها المنعشة الطيبة. كانت تعيش "إلين" مع أبويها في ألمانيا حتى سن الثالثة عشر حيث قام كلاهما بحادث مُريع أدى إلى أن يتوفاهما الله، و بعد تلك الحادثة التي فطرت قلب "إلين" الصغيرة، انتقلت لتعيش مع جدها - من جهة الأم - في مصر و تُكمل دراستها و حياتها معه. و عند اتمامها العشرون عامًا تُوفي جدها فأكملت "إلين" مسيرتها التعليمية وحدها، و شغلت وقتها بالدراسة و بالجمعيات الخيرية التي انضمت لها حيث قابلت الشيخ "حسام". 


"حسام الدين عبد المنصف العامري" المحامي و الشيخ الأزهري ذو الاثنين و ثلاثين عامًا الذي تعرفت عليه "إلين" من احد الجمعيات الخيرية و جذبها إليه حُسن خُلقه و طيبته المفرطة في التعامل مع الأطفال و التي تعشقهم هي بشدة.. بعد ستة أشهر من التعارف و تعريفه لها علي ديانة الإسلام بشكل سطحي و مُبسط، تحديدًا يوم ذكرى وفاة والديها اقترح "حسام" عليها أن تسمع إحدي خُطب الجمعة المسجلة من أحد المساجد و كانت تتحدث عن المواساة في القرآن الكريم و التي جذبتها و تعلقت مُضغتها بآيات القرآن التي ذُكرت، منها آيه من سورة مريم يقول فيها الله عز وجل :


{فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم: 24-26].


و في الآيه ذُكر كيف كان يواسي الله سيدتنا مريم - عليها السلام - حينما اشتد عليها الأمر أي حينما خافت من الفضيحة فإبتعدت عن الناس و ذهبت إلي مكانًا بعيدًا، فلما جاءها ألم المخاض بالإضافة لشعورها بالجوع و العطش و الحزن تمنت لو أنها ماتت قبل هذا الحادث، حينئذٍ هدأ المَلَكُ من روعها و ناداها من تحتها قائلا لها ألا تجزع فقد جعل ربها أسفلها نهرًا تشرب منه و أن بهَزها لجزع النخلة سيتساقط عليها رُطبًا طريًا لذيذًا نافعًا فلتأكل منه و تشرب من النهر و تُقر عينًا بعيسي - عليه السلام - و أما من جهه قالة الناس فأمرها ألا تخاطبهم بكلامٍ و لتستريح من قولهم و كلامهم، ليكون تبرئتها بكلام عيسي - عليه السلام - في المهد أعظم شاهد علي براءتها؛ فإن إتيان المرأة بولد دون زواج من أكبر الدعاوي التي لو أقيم عدة من الشهود لم تصدق بذلك فجعلت بينة هذا خارقًا للعادة و هو كلام عيسي في مهده.


كانت تلك بداية "إلين" و هي دراسة سورة مريم ثم تتابعت دراستها للسور و التفسير و بجانب تلك الدراسات عرض عليها "حسام" قصصًا من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - و زوجاته و بعض الأحاديث و السُنن التي أُثبت فائدتها العلمية بعد عدة قرون، و مع تعمقها في قراءة و دراسة و تفحص كل ذلك تعلقت به و شعرت بالأُلفة و بتشابه هذه الكلمات مع فطرتها الأصلية، شعرت بالانتماء و الدفء من سطور القرآن الكريم و بالرعاية من الاحاديث النبوية خصوصا عند استماعها لخطبتها التالية و التي كانت تتحدث عن حق اليتيم في الإسلام و فيه تعلقت أذنها بالحديث التالي للنبي - صلي الله عليه وسلم - حيث قال :


"اللهم إني أحَرَّجُ حق الضعيفين : حق اليتيم ، و حق المرأة". 


(أحمد و ابن ماجة و الحاكم و صححه). 


❈-❈-❈



و بعد مدة ليست بقليلة أعربت "إلين" عن إرادتها في الدخول إلي الإسلام شاعرة بالإمتنان الشديد ل"حسام" لأنه كان بارقة النور التي دلتها لطريقها الصحيح. و بعد دخولها الإسلام مباشرة و لفظها الشهادتين و إتمام الإجراءات المطلوبة تقدم لها الشيخ "حسام" مُفصحًا عن رغبته في الارتباط بها رسميًا و كانت إيماءة الموافقة هي الشيء الوحيد الذي صدر منها بعد هذا العرض بالإضافة لصدور ضحكات قصيرة خجلة منها لم تستطيع كتمها حتى بزم شفتيها! 


بعد مدة قصيرة و كعادة "حسام" في نُصحه إياها بما يقربها من دينها أكثر و يُبهج قلبها، نصحها بأن تغير اسمها و كان اختيارها هو اسم السورة الأقرب لقلبها و سبب دخولها الإسلام و هي سورة مريم، و سعد "حسام" كثيرًا بإختيارها و شجعها على استمرار زرع الإيمان بذرات كيانها. و بعد الزواج حثها على ارتداء النقاب لانه فرضًا - من وجهه نظره - فطاوعته، كما حثها على حفظ القرآن الكريم و وعدها أنه سيدرسها الشريعة و الفقه بنفسه حتى يشتد عود إيمانها و تزداد تقوى، و ها هي الان بعد عامين أصبحت بفضله سيدة ملتزمة ذات أسرة جميلة تعشقها. 


طفت ابتسامة بشوشة علي ثغر "مريم" و هي تبدل ملابس "خديجة" و تسمع صوت ضحكات "يزيد" من لهوه مع والده، و لكن ذهبت الابتسامة عندما وجدت "مريم" الدموع تشوش بغمامتها علي عيني "خديجة" فجلست علي عاقبيها و سحبتها لتجلس علي قدميها فسألتها ما بها فكانت إجابتها ما جعلت عينتا "مريم" تتوسعان، و تزداد شُعيرات مقلتيها الزمرديتان عتمة تعجُب! 


- هو بابا مش بيحبني ليه؟ 


ظل انفراج جفني "مريم" ثابت، بل ازداد اتساعًا عندما صرحت الصغيرة بدواخلها، فأردفت تسألها لتستفسر عن مصدر هذه الشعور :


- مش بيحبك! ليه يا حبيبتي بتقولي كدة؟ 


ازداد تدفق دمعات "خديجة" مما فطر قلب "مريم" فرفعت أناملها تجفف بها وجنتي الصغيرة برفق و تمهل بينما "خديجة" تبوح بما يعتمل صدرها من أسئلة :


- عشان.. عشان هو بيزعقلي كتير أوي و مش بيعمل كدة مع يزيد.. هو بيحب يزيد اكتر مني ليه؟ 


قَلقَلت "مريم" عينيها عدة مرات و قد شعرت بنغزة في مُهجتها من أن يكون لُب الصغيرة يحمل تلك الرسائل من معاملة أبيها لها التي تكون قاسية أحيانا، و لكنها متيقنة من مقدار حبه لكلا ولديه بنفس القدر، و بالرغم من عصبيته التي عُذرها خوفه عليهم فهو بالتأكيد يعشق كليهما.. فتلفظت قائلة بصدق و ثقة اكتسبتها من السنوات التي تعاملت بها مع والدهما :


- لا ياحبيبتي بابا بيحبك اوي زي ما بيحب يزيد بالظبط.. هو عصبي شوية عشان الشغل بس مش قاصده يزعقلك خالص تمام؟ 


أومأت "خديجة" و هي تفرك عينيها فقالت "مريم" بمرح :


- يلا اضحكي بقي. 


ابتسمت الصغيرة ابتسامة صغيرة لكن صاحبها لمعان عينيها بالدموع فضمتها إليها "مريم" بيدها اليمنى و بالاخرى عبثت اناملها ببطنها تدغدغها و هي تقول بينما تصرخ "خديجة بالضحكات و تحاول الفرار :


- مش هسيبك إلا لما تضحكي.. هزغزغك. 


فتعالت قهقهات "خديجة" و قد تناست حزنها بملائكية و صفاء.. بعد قليل على طاولة العشاء التي يترأسها "حسام" و علي يمينه يجلس خليفته "يزيد" و علي يساره "مريم" و بجانبها "خديجة" و كعادتهم عند اجتماعهم لتناول الطعام تلفظ "حسام" بدعائه المعتاد و رددته خلفه أسرته بصوت خافت :


- اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، و قنا عذاب النار بسم الله. 


قاطعت "مريم" صمت الغرفة الذي يكسره فقط صوت اصطدام أدوات المائدة بالصحون، و قالت بهدوء :


- حسا.. قصدي بابا.. كنت عايزة استأذنك في حاجة. 


نظر لها "حسام" برضا ثم أومأ لها بطيف بسمة علي ثغره سامحًا لها أن تبوح بطلبها لتتكلم هي قائلة : 


- دلوقتي انا لقيت شغل مناسب ليا و كنت..


جُعدت جبهته و هو يسمع طلبها مما جعله يقاطعها حتى ينهي الأمر بخبرة خبيثة و بلؤم قبل أن يبدأ! 


- ثانية واحدة.. قبل ما تكملي بس.. يعني ايه مناسب ليكي؟ 


رأت ملامح الرفض التي ارتسمت على وجهه و التي لن تستطيع معارضتها إذا صرح بها مما جعلها تفسر ببعض التلعثم و اللجلجة قائلة :


- يعني مناسب للبيت هنا و لمواعيدي، قصدي الولاد مثلا بينزلوا من البيت الساعة سبعة و بيرجعو تلاتة و هو بيبدأ الساعة تسعة و بيخلص أربعة فممكن بس الساعة الفرق دي يقعدوا فيها عند ماما نادية و هروح اخدهم من عندها و بعدين ارجع اعمل اللي ورايا من شغل البيت. 


انتظر حتى انهت كل ما في جُعبتها حتى يصدمها بالتالي قائلا بهدوء كلمة النهاية :


- بس شغلك ده مش مناسب ليا انا. 


قَلقَلت جفنيها عدة مرات و هي تُذكر نفسها بأن هذه هي المرة الاولي التي يتناقشوا بها بهذا الأمر و أن لم يسبق لهما الاتفاق عليه قبلًا حتى من قبل زواجهما و بالطبع وفقًا للعادات و التقاليد رأيه هو الغالب لذلك حلها الوحيد هي محاولة اقناعه، فأطنبت بشرح المزيد من مزايا العمل قائلة :


- ليه؟حضرتك بتنزل المكتب من الساعة تمانية الصبح لعشرة بليل يعني هترجع تلاقي كل حاجة جاهزة و تمام؟! 


أومأ لها ثم همهم هو يشرب ماء من كوبه و عندما انتهي كان عليه البدء في الخطوة التالية و هي ابداء المبررات المقنعة التي تنهي الأمر و لا تترك مجال للنقاش به مرة اخرى، فقال بهدوء بصيغة الاسئلة و التي لم ينتظر لها رد إلا بإيماءة صغيرة منها :


- أول حاجة الشغل ده في مكتب صح؟.. يعني مع راجل في شقة لوحدكو.. خُلوة يعني؟! 


أومأت بالنفي بسرعة و كادت أن تنطق و تصحح له مفهومه و لكنه تابع بثقة في كلماته الواردة الحدوث لأي شخص و في أي مكان حتى يحدث ضجة بعقلها :


- هتقوليلي معايا ناس بتشتغل هقولك ماشي.. بس انا اضمن منين اللي عايزة تشتغلي عنده ده مش هيحاول يلمسك ولا يضايقك ولا يبصلك بصة مش كويسة مثلا وانتي بتديه ملف ولا فنجان قهوة.. هتقولي لابسه نقاب أقولك ميمنعش برضو لأن عينيكي فِتنة صح ولا انا غلطان؟


لم ينتظر ردها و تابع و هو يمسح يديه و فمه بمحرمة بينما نظرت له هي بعتاب و تأنيب لوجود الأطفال :


- و بعدين الشغل ده يإما للستات الي جوزها عايش علي قفاها و مش بيصرف عليها أو اللي بيصرف بس مش مكفيها و ناقصها حاجة.. هل إنتي ناقصك حاجة؟ 


انتظر إيماءتها التي لم تصحبها إلا ترطيبها لريقها الذي جف لتضيقه الخناق عليها و لجذعها لخسارتها لتلك الوظيفة، بينما أردف هو دون اهتمام بمشاعرها :


- تمام.. النوع التاني بقي هما الستات الفاضية اللي مش وراهم مسئوليات فبيشغلوا وقتهم إنما إنتي عندك طفلين محتاجين رعايتك و اهتمامك لأن أمي ست كبيرة و مش هتقدر تخلي بالها منهم و لو لساعة واحدة في اليوم 


استقام واقفًا من علي كرسيه و قال و هو يضع المحرمة جانبًا بنبرة خائب الأمل :


- أظن إني فهمتك وجهه نظري وأتمنى تحترميها و تدوري على حاجة تانيه تملا وقتك من غير ما تسيبي بيتك و جوزك لحد تاني يرعاهم. 


في المساء.. وقفت "مريم" أمام المرآة في غرفتها و هي تضع بعض المرطبات على يديها بشرود فجاء "حسام" من خلفها يحيط جذعها بيديه و يضمها من ظهرها لصدره، و لم تبدي هي اعتراض كما لم تتفاعل معه أيضًا بل كانت كالدمية التي يحركها بين يديه، فهمس بجانب أذنها بعد أن أبعد خصلاتها الذهبية عنها و طبع قُبلة عليها :


- اوعي تكوني زعلتي مني عشان رفضت حكاية الشغل دي.


عندما لم تُعلق أدار جسدها ليواجهه و حدق بزمرديتيها و هو يحاول اقناعها مستخدمًا الغزل كوسيلة تدق على قلوب النساء فلا يستطعن تسريحها بل تدخل و تفترش أوسط مُهجتهن بدون إستئذان، فمرر يديه علي ذراعيها قائلا :


- صدقيني إنتي جميلة.. جميلة اوي كمان و تفتني و الناس نفوسهم ضعيفة فممكن يضيقوكي بأي شكل و انا طبعا مش هسكت و ساعتها هتحصل مشكلة كبيرة احنا في غنى عنها.


اقترب منها أكثر و استند بجبهته على خاصتها و أردف بأنفاس دافئة اصطدمت بوجهها جعلتها تغلق عينيها و يديه تعبث بأصابعها :


- انا بخاف عليكي من الهوا الطاير يا مريم. 


عندما لاحظ إرتفاع أنفاسها اقترب بحيث تلامس شفتيه وجنتيها و هسهس :


- لما حد بيبقي عنده جوهرة غالية بيعمل فيها ايه ها؟ مش بيخبيها و يحفظها بعيد عن عيون الناس كلها.. أهو انا بعمل كدة. 


فتحت عينيها فاصطدمت بمقلتين سوداوتين ثم اصطدمت شفتيها بأخرتين تُقبلها بنهم معتادة عليه و استسلمت له كالعادة و لو بغير إرادتها. 


❈-❈-❈



بعد أسبوع.. وقف "حسام" أمام المرآة و علي ثغره طيف بسمة و هو يسمع صوت "جهاد" تودع "يزيد" و "خديجة" قبل ذهابهما للمدرسة ثم حديثها مع "مريم" عما حفظته الاسبوع السابق من القرآن، و عندما تأكد من ترك "مريم" لها و دخولها المطبخ عدل من هندامه و تأكد من مظهره قبل خروجه ثم خرج ليلقي التحية قائلاً ببسمة رسمية تخفي حقيقة مشاعره الحارة اتجاه القابعة أمامه :


- السلام عليكم.. إزيك يا آنسه جهاد؟ 


ردت عليه بابتسامة صغيرة دون أن ترفع وجهها الذي ينظر أرضًا خجلًا و أدبًا :


- بخير الحمدلله يا شيخ حسام.


ما الذي يجذبه بها؟ هو لا يعلم، و لكن ما هو على يقين به أنه مُغرم بها، مُغرم بالخمرية! ليس بجمالها الذي يختفي خلف الملابس الفضفاضة و الذي لا يضاهي بالتأكيد فتنة و جمال مريم، ولا برقتها و خجلها الذي تمتلكهما مريم أيضًا بقدر ضخم، ربما وقع في عشق عينيها التي اصطدام بهما مرة يوم ذهابه للدار ليقل "مريم" و يومها لقاها للمرة الاولي و سقط قلبه صريع ابتسامتها و عينيها البندقيتان التي في نظره أجمل و أعمق من زمرديتي زوجته، ربما هو يرتكب معصية و لكن هل على القلب سُلطان؟ هل سيحاسبه الله علي عشق أسقطه به و لو كان من طرف واحد؟ لن يصده فهو يريده و يريد أن يعيش به يحمله سرًا في قلبه حتي يحين وقت الجهر به! تمنى ألا ينتهي الحوار معها ابدًا حتي لو ستظل تنظر أرضًا دون أن يرى مَن يُسيل دمه فداءً لهما، آه من بندقيتيها و من لوعة عشقهما! قال محاولًا الاطناب في الحديث معاها :


- مَريَم عاملة معاكي ايه؟


أومأت و ردت بخفوت و بشاشة ظهرت في صوتها :


- كويسة جدًا ما شاء الله عليها.


أردف بمداعبة و هو يستغل فرصة نظرها لأسفل ليتمعن في تفاصيلها المغطاة بإدنائها الوردي :


- بجد يعني مفيش أي مشاكل كدة ولا كدة؟ 


بعفوية شديدة و بتلقائية كانت من حظه رفعت رأسها لتقول بنبرة مشبعة بالحيوية و بابتسامة بهية :


- لا خالص هي استيعابها كويس جدًا و مَلَكة الحفظ كمان عندها عالية فبتحفظ بسهولة و بسرعة. 


لم يستطيع منع نفسه من التمعن بتفاصيل وجهها الخمري و الابتسام بصدق ابتسامة اضحت تظهر لها وحدها، و عندما لاحظت هي رفعها لوجهها بوجهه اخفضته بسرعة و قضمت شفتها السفلية حنى كاد أن ينصهر مَن يقف أمامها مِن شدة غليان دمائه ببدنه، فابتلع ريقه؛ ليرطب حلقه الذي جف و قال برسمية تصنعها بإتقان :


- طب الحمدلله.. كل ده بفضل حضرتك طبعًا بعد ربنا. 


كل ما يعلمه أنه رأها تبتسم و قالت شيئًا لم يسمعه و بالطبع لم يرضى قلبه بهذا الحوار القصير فأراد أن يمد المدة و لو لثوانٍ أخرى فسألها بعد أن حمحم :


- اه صح.. كنت عايز اعرف لو حضرتك ينفع تبقي مع "يزيد" و "خديجة" برضو؟ 


اجابت سؤاله بأخر بنبرة مشبعة بالرسمية التي تتعامل بها مع الغرباء :


- هما أول مرة ليهم ولا حفظوا قبل كدة؟ 


رفع أنامله ليحك بها ذقنه قائلا بتفكير انقلب لمدح و تبرير ليحاول حيازة مساحة و لو ضئيلة من قلبها في صفه :


- لا طبعًا هما بيحفظوا من سن سنتين ونص تقريبا أو تلات سنين مش متذكر.. بس انا قولت يعني بما إن حضرتك بسم الله ما شاء الله عليكي أريح أم يزيد من عناء مشوار المُحفظة ده و يحفظوا معاكي هما كمان. 


أومأت بتفهم ثم قالت بصدق من شِيمها :


- بس هما كدة أفضل ليهم يكملوا مع المُحفظة بتاعتهم اللي متعودين عليها. 


و مع دخول "مريم" شعر بالاضطراب يسري بعروقه كالمخطيء المنتظر لعقابه فقال بتخبط و هو يشير للخارج محاولاً الحفاظ علي ثباته باحثًا عنه بكل شُعيرات أعصاب جسده :


- خلاص تمام.. تمام مفيش مشكلة.. هستأذن انا عشان متأخرش على المكتب.. السلام عليكم. 


رد كلتاهما التحية في صوت واحد قائلتان :


- و عليكم السلام. 


سارعت "فاطمة" بالنداء عليه فجأة بعد أن جلست عندما تذكرت أمرًا ما :


- شيخ حسام.. عايزاك دقيقة بعد إذنك. 


قَلْقَل جفنيه ثم رد عليها بتركيز منشغل في مَن تقبع بجانبها :


- ايوه.. اتفضلي يا أم يزيد. 


عند دخولهما غرفتهما الخاصة اردفت "مريم" بحيائها المعتاد :


- كنت عايزة انزل اشتري هدوم للولاد.. بعد اذنك طبعًا. 


ابتلع "حسام" ريقه ليرطب حلقه الذي جف خوفًا من أن تبوح ملامحه بدواخله و أردف محاولًا التركيز :


- اه اه مفيش مشكلة.. بس خدي بالك و إنتي بتشتري لبس خديجة تمام؟ 


قضمت شفتها السفلية متذكرة كلمات "خديجة" لها الأسبوع الماضي و قالت بصوت خافت :


- بصراحة انا قعدت أفكر في الموضوع ده و مفهمتش برضو و مش قادرة استوعب.. إنت عايز تحجب خديجة من دلوقتي ازاي؟ 


كان النقاش له مَنجى من أفكاره فقرر الخوض فيه قائلا :


- يا حبيبتي الدنيا مفيهاش أمان و لازم ابقي خايف علي أهل بيتي و عايز احميهم. 


قلقلت عينيها عدة مرات ثم قالت باستنكار متلعثم :


- أسفة بس.. الحجاب هيحميها ازاي؟ ربنا هو اللي بيحمينا صح؟.. و هي صغيرة اوي حرام نعمل فيها كدة المفروض تعيش سنها زي صُحابها. 


ضحك بتعجب و أجاب ببواقي ضحك و بتصميم على مبدأه :


- ليه يا روحي هو إحنا هنموتها.. إحنا هنعمل اللي ربنا أمرنا بيه بس. 


ضحكت و قالت بتهكم من ثباته على رأيه :


- ربنا اللي لسه مش بيحاسبها أصلا عشان هي مش بالغة هيقول إن المفروض نحجبها من سن ست سنين؟!


تغيرت نبرته فجأة مع إلتماع حمم الغضب في حدقتيه و أردف بملامح جامدة :


- مفيهاش مشكلة لما نعوِدها من بدري علي الأدب و الحِشمة و الإلتزام.


و قبل أن ترد عليه قال باقتضاب من سُخريتها من رأيه :


- انا اتأخرت و لازم امشي.. هبعتلك العربية بالسواق ياخدك مطرح ما تحبي. 


قضمت شفتها السفلية ثم زفرت بسئم فقد عاملته بطريقة سيئة و هو الذي يبتغي في النهاية حماية ابنته و صونها من العيون.. سوف تقوم بمُراضاته عندما يصل إذن.


يتبع...