-->

الجزء الثاني - ثوب خُدام الإله



ثوب خُدام الإله

الجزء الثاني

"الأيام أفضل جهاز لكشف الكذب"


جورج برناند شو


❈-❈-❈


وقت غروب الشمس.. دخلت "جِهاد" من باب منزلها مُلقية التحية علي جدتها التي تجلس - كعادتها - أمام التلفاز في حجرة الاستقبال، بعد إلقاء التحية أسرعت "جهاد" من خطواتها تدعو الله أن تصل لغرفتها بسلام و لكن قبل أن تصل سمعت صوت جدتها يناديها فأغمضت عينيها بشدة و ثبتت مكانها و ها قد بدأ روتينها اليومي! 


"جِهاد أحمد عبد السلام" فتاة بالواحدة والعشرين من العمر، تعيش مع أبيها و جدتها من جهة الأم بعد أن توفي الله أمها بمرض السرطان الخبيث بعد صراع دام لخمس سنوات تقريبًا، كانت وقتها "جهاد" في بداية مراهقتها و أثر عليها وفاة أمها بشكل سلبي فأُصيبت بالاكتئاب و كان الجميع مشغول عنها في هذه الاثناء فوالدها يعمل بوظيفتين و جدتها سيدة كبيرة بالسن لا تستهوى ما تسميه "دلال الفتيات" هذا فتخطت "جهاد" مِحنتها وحدها و ثابرت حتى انهت دراستها و لم يكن المعين لها غير الله - عز وجل - و هو خير معين في الأرض و السماء، تربت "جهاد" تربية قاسية تبعًا لعادات أهل الجنوب حيث نشأ والدها و جدتها الذي هي عمته بالمناسبة، فكان مرح الفتيات عَيب و عفويتهم جريمة لها عقاب يُحفر في العقول و لكن مع ذلك حافظت "جهاد" علي مرحها و عفويتها بداخلها و هذا ساعدها في تكوين شخصيتها الاجتماعية المخالفة لما تربت عليه تمامًا من انغلاق، لا تعلم كيف نجحت في تكوين هذه الشخصية ولا كيف تحملت نفسيتها ما واجهته في صغرها من صعوبات و لكن ما تعلمه أن الله لم يفارقها خلال رحلتها ولو للحظة! 


- ايوه يا سِتو؟ 


قالت جدتها بصوت عالي من الغرفة الاخري و لكنها تلتزم الرِفق في المعاملة لتفوز برضاها و هي على علم بذلك! 


- تعالي يابنتي عايزة اكلمك في حاجة. 


تنهدت بدون صوت لشعورها بالملل من ذلك الحديث الذي لا ينتهي، و لكن رغم ذلك قالت بأدب :


- حاضر يا سِتو.


غيرت جهتها و ذهبت إلي الحُجرة التي تقبع بها جدتها ثم وضعت حقيبتها على أحد المقاعد الوثيرة و هي تردف بأدب و لكن دون أن تنظر في عينيها :


- نعم يا سِتو؟ 


رطبت جدتها "شفيقة" شفتيها ثم قالت برفق عل "جهاد" توافق تلك المرة و ترفع قلق والدها عنها و تريحه فماذا يضمن أمان الفتاة غير عُش زوجيتها! 


- ابن خالتك كلمني تاني و عايز يخلص الموضوع بقى. 


اغمضت عينيها بشدة و هي تسمع كلمات جدتها المكررة على سمعها كل يوم، و مع ذلك استطردت قائلة للمرة الألف :


- وانا قولت اني مش عايزة اتجوز دلوقتي يا ستو إلا لما أخلص الجامعة بتاعتي.. انا في كلية محتاجة تركيز و مذاكرة و مينفعش اشغل نفسي بالجواز. 


حاولت جدتها إنزال الكلمات التي تربت عليها في بلدتهم الصغيرة، علي سمعها علها تقتنع و تريحهم من عناء القلق على مستقبلها. 


- يابنتي و هو البت مسيرها ايه غير بيت و جوزها و عيالها.. العلام ده شكل عشان الناس إنما اخرك في بيت جوزك. 


دمعت عينيها كعادتها بسبب حساسيتها الزائدة و أردفت و هي تنظر في عيني جدتها و تجلس على عاقبيها أمامها تستعطفها محاولة الحفاظ على حقها في الاختباء في كنف أسرتها حتى يشتد عودها و تستطيع مواجهه الحياة بشهادتها الجامعية و عملها المستقبلي :


- بس انا مش عايزة كدة! انا متعبتش كل السنين دي في الدراسة عشان شكلي قصاد حد، انا تعبت عشان أخلص و اشتغل و بابا يرتاح شوية من شغلانة واحدة حتي من اللي بيشتغلهم. 


أمسكت الجدة كفها و قالت متمسكة بمبدأ أسرتها و متجاهلة دموع حفيدتها و مشاعرها أيضًا :


- عايزة تريحي أبوكي يا جهاد اتجوزي.. هو هيرتاح لما تبقي يا بيت جوزك و في ضل عَدَلك يابنتي. 


قامت من مجلسها تمسح دموعها بنفسها مبتسمة بتهكم ثم أردفت بعد قلة حيلة و هي تشبك ذراعيها أسفل صدرها و تعطي جدتها ظهرها مغمضة عينيها بشدة لتكتم دموع تريد الفرار و الصياح معترضة :


- حاضر يا سِتو.. بس استنو حتى اما اخلص السنتين اللي باقيين ليا في الدراسة عشان انا عارفة انه هيقعدني و مش هيرضى يخليني اكمل تعليمي. 


حسنًا ربما الكذب لا ضرر منه أحيانا في قاموسها، فما فائدة شهادتها و هي في بيت زوجها بين أطفالها! و كان ذلك اتفاقهم هذه المرة حتى ينالوا موافقتها فالله و رسوله يعلمون أنهم لا يبغون من ذلك غير مصلحتها التي تجهلها هي، ألم يأمرهم الله بالستر! قالت الجدة محاولة الحفاظ على ثبات نبرتها بل و إشعالها بالحيوية المشبعة بالكذب الخفي حتى تنول موافقتها :


- يابنتي هيرضى هيرضى.. ده هيموت عليكي و عمال يعجل في الموضوع و أبوكي مكسوف أوي، دي كلمة رجالة و عهد عليه لازم يوفيه. 


دخل السيد "أحمد" والدها من باب الشقة بعد أن رن الجرس مرة احترامًا لحُرمة أهله، ثم توجه للغرفة التي يجتمع فيها عمته و ابنته و القى التحية قائلًا :


- السلام عليكم. 


مسحت "جهاد" وجهها و اخفضت رأسها تقول بخفوت :


- و عليكم السلام.. حمد الله علي سلامتك يا بابا. 


أخذ والدها أنفاسه ثم جلس على أحد المقاعد و أردف بتعب :


- الله يسلمك يابنتي.. ها يا عمتي كلمتيها؟ 


أومأت الجدة عدة مرات بسرعة و قالت ببشاشة و تهليل :


- اه يا حبيبي و موافقة كمان. 


للوهلة الاولى صُدم من موافقتها و لكنه تذكر اتفاقهم على عدم اخبارها شيئا بشأن أمر الدراسة فبارك لها بابتسامة متغاضيًا عن جزءٍ في قلبه يحُثه على اخبارها بالحقيقة أو على الأقل إعانتها على تكملة دراستها كما كانت تآمل هى. 


- بجد! الف الف مبروك يا بنتي.


هل لو كانت أمها على قيد الحياة كانت ستدعمها في قرارها أم ستقف بصفهم؟ هل كانت ستضمها و تبكي من أجلها؟ هي تريد من يربت عليها الآن و لكنها لا تملك غير الله بصفها و بالتأكيد هو خير رفيق. مسحت دموعها التي تصر على السقوط و لا تتوقف و ردت على مباركة والدها قائلة :


- الله يبارك في حضرتك يا بابا. 


اقترب منها والدها و قال برفق و هو يمسد ذراعها :


- بتعيطي ليه بس. 


قالت جدتها بقسوتها المألوفة و هي تشيح بيدها :


- يوه ما كفاياكي دلع بنات ماسخ بقي يا جهاد. 


منعت ضحكة هاكمة أن تخرج بأُعجوبة و لكن عينيها كانتا ناطقتان بكل شيء. مسحت دموعها بيديها حتى كادت تجرح وجههًا انتقامًا من نفسها و ضعفها الذي يتحمل كل هذا الاسى دون مقاومة و، قالت بابتسامة خالية من الحياة :


- مفيش يا بابا افتكرت ماما الله يرحمها بس. 


سحبها والدها لصدره و استطرد قائلا بداية القصة التي كانت سبب هلاكها الله :


- الله يرحمها يا حبيبة أبوكي.. كانت فرحانة اوي ساعة ما قرينا فاتحتك علي صقر و كان نفسها تعيش لغاية ما تشوفك في بيته. 


هل هذا يعني أن والدتها كانت ستأخذ صفهم! هل كانت موافقة هي ايضًا علي تلك العادة الدميمة في بلدتهم؟ هل كانت راضية عن قراءة فاتحتها و عقد اتفاق علي زواجها من و هي رضيعة لا حول لها ولا قوة! فلتطلب العون من ربها ككل مرة فهو كفيل بها و لن يحميها من هولاء - قساة القلوب - إلا هو. 


❈-❈-❈

دخل "حسام" من باب الشقة فوجد "مريم" تنتظره في صالة الإستقبال بإسدال الصلاة فتجاهلها و دخل لغرفة النوم في صمت فقمضت هي شفتها السُفلية بتفكير ثم قامت و دخلت خلفه الغرفة ثم قالت بخفوت و هي تشبك أصابعها :


- حمد الله على سلامتك. 


رد عليها بجمود قائلا و هو يخلع سترته :


- الله يسلمك. 


فإقتربت منه بسرعة لتلتقطها منه و هي تسأل :


- إنت زعلان مني صح؟ 


لوى شفتيه بتهكم ثم أردف بنبرة مشبعة بالسخرية و هو يعطيها سترته : 


- لا خالص.. هزعل من إنك اتريقتي علي كلامي مثلًا.


تركت السترة على السرير و وقفت أمامه تمسك بيده قائلة بتوضيح متلعثم من شعوره بهيبته :


- أنا مكنش قصدي اتريق عليك ابدًا انا.. انا بس كنت بوضح وجهه نظري اللي شايفاها منطقية مش اكتر.. خديجة لسه صغيرة اوي يا حسام.. ليه نكبتها من السن ده بحجاب و نخنقها بيه؟ 


أردف هاكمًا و هو ينظر لها بغضب يشع من مقلتيه :


- هو الأدب و الحشمة بقى كبت و خنقة؟ انا مسئول عن ولادي و ماليش دعوة بعيشة ألمانيا اللي كنتي عايشاها اللي كلها مسخرة و تسيُب. 


تحولت ملامح وجهها من المتعجبة للمنفعلة للغاضبة و تلفظت الكلمات بإستفسار :


- انا عيشتي كانت كلها مسخرة و تسيُب يا حسام؟ 


استطرد قائلا بجنونٍ محض عدة كلمات كانت كقذف سهام مسمومة بقلبها!


- اومال اللي يسمحوا لبناتهم يلبسوا عريان و يختلطوا برجالة و يناموا معاهم كمان ده يبقى اسمه إيه؟


دمعت عينيها و هي تشعر بنغزة في لُبها و أردفت بشفاه تورم أعلها منذرًا بالبكاء الوشيك :


- ايه اللي إنت بتقوله ده.. ازاي بتقول كدة و إنت عارف إن أهلي كانوا متدينين أصلا و عمرهم ما سمحولي بالكلام ده.


صاح بجذع و هو يشيح بيده و ينظر في جهه اخرى :


- بقولك ايه أنا مقولتش انتي اللي بتعملي الكلام ده.. متحوريش الكلام. 


قَلقَلت جفنيها ففرت دموعها على خديها الحمراوين و أردفت بألم :


- عموما شكرا يا حسام.. و اعمل اللي إنت عايزه انا مش هتدخل تاني. 


و مع تفلت شهقتها الأولي دار لها بجسده ليواجهها و قال و هو يمسك ساعدها :


- استني يا مريم. 


حاولت أن تشد يدها من يده و لكنه كان يشدد قبضته عليها مما جعله تقول بخفوت و نحيب ازداد :


- بعد إذنك ابعد عني. 


تأتأ بسأم ثم صاح بها و هو يسحبها إليه و يحيطها بذراعه :


- استني يا مريم قولت.. انا مش قصدي عليكي ولا على أهلك أنا قصدي على الشائع فى المجتمع اللي كنتي فيه. 


مسحت وجهها بيدها و أردفت بثبات حاولت تصنعه و لكنها فشلت بجدارة :


- و المطلوب مني إيه دلوقتي؟ 


مسد ذراعها فأبتعدت بتحريك كتفها للأمام فأحاط وجهها بيديه و رفعه إليه و قال بخفوت صارم :


-المطلوب متزعليش مني و تهدي كدة عشان الولاد أكيد مستنينا دلوقتي.. ممكن؟


قالت بحدقتين متسعتين تحيطهما الشعيرات الملتهبة، بعدم تصديق لطلبه :


- إنت هِنتني! 


قال بهدوء و ندم محدقًا بعينيها و هو يمسد وجنتيها بأصابعه و يميل برأسه عليها :


- مش قصدي والله ما كان قصدي.. إنتي عارفة إني بحبك صح؟


رفع صوته قليلًا مكررًا أمره :


- ردي عليا.


ردت بخفوت و بنبرة تميل للبكاء، مشبعة بالألم و هي تخفض عينيها :


- أيوه عارفة. 


رفع وجهها حتى نظرت له فثبته و قال بثقة محدقًا بزمرديتيها :


- فيه حد بيزعل حد بيحبه برضو؟


أؤمات بالنفي و هي تغمض عينيها و ترطب شفتيها فإقترب منها و طبع قبلة خفيفة على شفتيها و همس لها بمرح :


- يبقي تسمحيلي أصالحك و متبقيش قموصة. 


مطت شفتيها و قالت بصوت خافت و هي تنظر لأسفل :


- أنا مش قموصة. 


ابتسم لجملتها و هو يشعر بالزهو لإختياره فتاة لينة سهلة الإرضاء و تمتاز بملامح امتزجت بين الانوثة و الطفولية تستطيع خطف لُب أعتى الرجال بجمالها، و بالرغم من ذلك تعلق قلبه بالخمرية، فأردف متنهدًا بثغرٍ متبسم و هو يضع رأسها على صدره :


- خلاص أنا اللي قموصة يا ستي.. تمام كدة؟


أومأت بالايجاب و هي مغمضة العينين ساكنة المشاعر و البال. 


❈-❈-❈


قالت الجدة "شفيقة" ببشاشة :


- يا ألف مرحب.. منور يا صقر يابني. 


وضع "صقر" كوب الشاي على المنضدة التي أمامه و هو يقول بابتسامة هادئة :


- البيت منور بناسه يا ستي.. أومال العروسة فين؟ 


قالت الجدة بتخبط و هي تعبث بالاكواب على الطاولة :


- في جامعتها هتكون فين يعني؟.. أصل إنت عارف بقى صيدلة صعبة. 


أومأ بتفهم و لكن يشوبه بعض الضيق و أردف :


- ايوة ايوة.. ربنا يوفقها. 


ابتسمت الجدة قائلة و هي تقيمه بعينيها بإعجاب :


- يارب يا حبيبي. 


حك ذقنه و قال بنبرة عادية اختفى خلفها غيظه :


- بس هي مش عارفة إني جاي يعني. 


قالت الجدة بتلعثم و هي تشير بيديها في الفراغ و بداخلها تلعن "جهاد" مئات المرات لوضعها في مثل هذا الموقف المحرج :


-عارفة بس.. بس قالتلي الصبح عندها محاضرات مهمة و هي عايزة تحافظ علي اسمه ايه ده.. تقديرها.. ايوه تقديرها و تجيب درجات حلوة يعني. 


زفر "صقر" بسأم و أردف بهدوء :


- ماشي يا ستي.. أما نشوف. 


مع سماع صوت باب الشقة يُفتح، قالت الجدة بسرعة و بابتسامة بشوشة :


- اهي جات اهيه. 


دخلت "جهاد" غرفة الاستقبال و قالت بملامح غزاها التعب و رغم ذلك رسمت بسمة صغيرة على ثغرها :


- السلام عليكم 


قام "صقر" بمجرد دخولها و أردف بعينين تلمعان :


- و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته.. ازيك يا جهاد عاملة ايه يا بنت خالتي؟


رطبت "جهاد" شفتيها و قالت بصوت هادىء و هي تخفض عينيها لأسفل كالعادة :


- الحمدلله يا صقر.. و إنت عامل ايه؟ 


جلس مكانه و قال و هو يشبك أصابعه في حِجره :


- بخير الحمد لله.. إيه اتأخرتي يعني؟ 


وجهت "جهاد" نظرات التعجب و اللوم لجدتها ثم أردفت :


- عادي كان عندي محاضرات.. هي سِتو ما قالتلكش؟


حك "صقر" ذقنه و قال بتعبيرات وجه غريبة لا معنى لها :


- قالتلي.. بس اللي اعرفه ان البلد عندكو هنا مش أمان في الوقت ده. 


شبكت يديها أسفل صدرها و رفعت وجهها قائلة بتحدي خرج رغمًا عنها :


- لا أمان عادي و الشارع مليان ناس.. و بعدين انا مش لوحدي انا معايا زمايلي. 


توسعت عينيه لوهلة ثم سأل بنبرة قاسية :


- زمايلك مين يعني؟ 


ردت بصوت مرتفع قليلًا و قنبلة أعصابها على وشك الانفجار :


- يعني ايه؟.. زمايلي و صحابي البنات! 


تغاضى عن رفعها لصوتها و لكن يكفى نظرته الحادة التي قذفها بها، ثم أردف بنبرة حاسمة :


- آه.. طب كويس.. المهم عايزين نحدد معاد كتب الكتاب و الدخلة.. ولا ايه ياستي؟ 


قالت الجدة بتخبط و هي ترى النيران تتصاعد من عيني كلاهما :


- عين العقل يا ابني. 


زفرت "جهاد" ما بصدرها من أنفاس ملتهبة و قالت بهدوء و هي تخفض نظرها :


- صقر ممكن نتكلم مع بعض لوحدنا شوية. 


لا يعلم لما راقته الفكرة و لكن ربما ليتفحصها دون مراقبة من جدته فقال بترحاب :


- اكيد طبعًا. 


قالت الجدة بخوف من أن ينشب شجار بينهما في غيابها :


- طب انا هروح اجيبلكو حاجة تشربوها. 


بعد خروج الجدة.. جلست "جهاد" في مقابل "صقر" و أردفت بجدية :


- بص يا صقر إنت عارف إني بحب كليتي و اظن هنا اتفقوا معاك على إني هكمل دراستي بعد الجواز. 


حمحم و هو يضع قبضته على فمه ثم نزعها و قال بتأكيد :


- مظبوط يا بنت خالتي. 


- تمام.. أنا عايزة نأخر الفرح شوية يعني ياريت لو لما السنة دي تخلص. 


قال بتعجب معترضًا على التأجيل :


- ليه؟ ما كل حاجة جاهزة، الشقة جاهزة ناقصها العفش بس و أنا خلاص خلصت الإجراءات بتاعت الفرع الجديد اللي هيتفتح هنا و هفتتحه في أقرب فرصة. 


رفعت رأسها و قالت بعينين قاربتا على ذرف الدموع مترجية إياه بنبرة صادقة :


- انا عارفة كل الكلام ده.. بابا و سٍتو مش بيبطلو كلام عنه.. انا بتكلم عني انا.. انا محتاجة وقت يا صقر.. وقت عشاني أنا.. عشان حاسه إني لسه مش مستعدة نفسيًا لخطوة الجواز دي. 


- يا جهاد نفسيتك على عيني و على راسي.. بس احنا اتأخرنا أوي على الكلام ده و بعدين أنا مش هخليكي تعملي حاجة غصب عنك يعني ايه اللي ممكن يتعب نفسيتك لما تتجوزي و تجيبي كام عيل يملوا علينا البيت و نفرح أهلنا، و بعدين هنقعد في البلد أجازة الجواز كلها يعني هتقعدي مع أهلك و ناسك و تتعرفي على اللي متعرفيهوش و تشوفي عِزوتك و ضهرك في الدنيا عاملين ازاي بدل قاعدتك مع ناس مصر الخِرعين دول.


تفلتت عَبرة واحدة فرت بسرعة على وجنتها و هى تحاول إقناعه :


- يا صقر انا.. 


قاطعها قائلا بحسم لينهي الأمر بذكورية متسلطة دون مراعاة لها :


- من الاخر يا بنت الحلال اخرك معايا شهر.. شهر و نكتب الكتاب و ندخل و تبقي في عصمة صقر الأسيوطي. 


❈-❈-❈

كان "حسام" متمددًا على سرير "يزيد" و يضم الصغير إلي صدره، بينما "مريم" تتسطح علي السرير الاخر بالغرفة بجانب خديجة النائمة على صدرها؛ ليستمع الأطفال من أبيهم لأحد قصص الأنبياء التي يقصها عليها يوميًا، فبدأ "حسام" حكيه قائلاً :


- كان يا مكان ما يحلى الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام. 


رد الجميع في صوت واحد قائلين :


- عليه الصلاة و السلام. 


تابع حسام بصوت هادىء و هو ينظر أمامه لنقطة في الفراغ :


- كان فيه زمان نبي اسمه سيدنا إلياس عليه السلام وذي ما ربنا قال في كتابه العزيز بسم الله الرحمن الرحيم (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ...؟) 


صدح صوت الولدين مكملين الآيه بحماس :


- (الْمُرْسَلِينَ). 


قبَّل "حسام" رأس "يزيد ثم قال بابتسامة :


- شاطرين حبايب بابا.. ربنا بقي أرسله لقوم اسمهم بني إسرائيل، قوم بيعبدوا الأصنام هما و الملك بتاعهم كمان، و ربنا ذكر اسم صنم منهم في آيه، حد عارفها؟ 


طال الصمت في الغرفة حتى وجه" حسام" نظره ل"مريم" و من نظرتها و قضمها لشفتها السفلية أيقن علمها بالإجابة فأشار لها برأسه أن تتلفظ بها و عندها تكلمت هي بخفوت :


- بسم الله الرحمن الرحيم (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) صدق الله العظيم . 


كانت البسمة تُنير وجهه و هو يسمعها تتلو الآية بصوتها المُشبع بالحنان و عينيها الزمرديتين تُضيئان في الغرفة خافتة الإضاءة، فبعد أن انتهت و صدقّت أردف بصوت يملأه الزهو :


- بسم الله ما شاء الله شطورة يا ماما.. يلا نكمل.. دعا سيدنا إلياس عليه السلام قومه أنهم يعبدوا ربنا و يسيبوا عبادة الأصنام و هما مستجابوش لدعوته و فضلوا يعبدوها برضو فحزن سيدنا إلياس و دعا ربنا عليهم يقطع عنهم المطرة لتلات سنين.. تفتكروا ايه اللي يحصل لو المطرة اتقطعت عنهم؟


بعد نصف دقيقة من التفكير أجابت "خديجة" أولاً قائلة بصوتها الطفولي الذي جعل "مريم" تشدد من ضمها إليها :


- الورد يموت.


بعدها أردف "يزيد" و هو ينظر لأبيه بابتسامة :


- يعطشوا كلهم


قال "حسام" بابتسامة ظهرت في صوته و هو يداعب رأس "يزيد" بيده :


- ايوه شاطرين.. النباتات هتدبل و تموت و هما و الحيوانات بتاعتهم هيعطشوا فهيموتوا.. فلما بقى هما عرفوا إن سيدنا إلياس اللي دعا عليهم راحو ليه و قالولوه احنا إيه؟.. موافقين نؤمن بربك بس تدعيه يرجع المطرة تمطر علينا تاني.. فهو صدقهم و دعا ربنا و المطرة رجعت بس بعدها راحوا رجعوا تاني يعبدوا الأصنام برضو فزعل سيدنا إلياس و دعا ربنا إنه ياخده عنده فوق فالسما فربنا قبض روحه زي ما هو طلب.. و توتة توتة خلصت الحدوتة.


تعالى صوت الطفلين في الغرفة فقال "حسام" بمرح و هو يدغدغ بطن "يزيد" الذي صرخ ضاحكًا :


- ها حلوة ولا منتوتة ولا ايه؟


فقال الطفلين في صوت واحد و كأن أعلهما صوت "يزيد" :


- حلوة. 


قام "حسام" من جانب "يزيد" ثم دثره جيدًا و قبَّل رأسه فسألت "خديجة" بصوت خافت :


- بس يا بابا هما ليه رجعوا تاني يعبدوا الأصنام و كدبوا عليه. 


نحى "حسام" زوجته جانبًا مخاطبًا إيها بعدة كلمات ثم اطنب في الرد على ابنته قائلاً :


- سيبيها انا هغطيها يا ماما.. عشان يا حبيبتي هما قوم إسرائيل كدة أهل خيانة مش بيوفوا بوعودهم و بيكدبوا على طول.. ماشي.. يلا ننام بقي و يكرة نحكي قصة تانية بإذن الله.. تصبحوا على خير يا ولاد. 


و بعد أن زمل "حسام" ابنته و قبَّل رأسها هي أيضًا شبك كفه بخاصة "مريم" و هو يسمع الأطفال يردون عليه بتحية المساء :


- و حضرتك من أهله يا بابا. 


بعد قليل.. في غرفة النوم، بعد تبديل كلاهما ملابسهما لرداء النوم.. قال "حسام" لمحاولة جذب أطراف الحديث معها و هو يجلس على السرير :


- تعرفي ان التصديق (أي قول صدق الله العظيم) بعد القراءة بِدعة؟ 


رطبت ريقها الجاف المشابه للجفاف الذي تشعر به بينهما بعد شجارهما و لكنها قالت لشعورها بالإثارة لإكتساب معلومة تخص دينها الجديد :


- بجد! 


إلتوت شفتيه بطيف ابتسامة لنجاحه في جذب انتباهها ثم استطرد قائلاً ببشاشة و هو يشير لها أن تجلس أمامه :


- ايوه؛ مفيش أحاديث ذكرت إن سيدنا محمد صدّق على قراءته لسورة أو آية و كمان كان فيه حديث بيقولو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه: اقرأ علي القرآن، فقال: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ـ قال: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. و في حديث اخر "أمسِك". 


جلست أمامه و قالت و هي تعيد خصلة شاردة خلف أُذنها :


- طب والناس بتقولها ليه؟ 


مط شفتيه و قال بابتسامة :


- فيه ناس متعرفش أساسًا أنها بِدعة، و فيه اللي يعرف بس بيقولها تمجيد لله عز وجل، و فيه اللي بيقولها عشان يفصل ما بين السور. 


- يعني دي تعتبر بِدعة حسنة؟ 


تأتأ و هو يقطب حاجبيه ثم أردف موضحًا :


- لا طبعًا لإن مفيش حاجة اسمها بِدعة حسنة و أخرى محرمة و الناس اللي بيعملوا تقسيم للبِدع دول.. كل ده مش صح لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كل بدِعة ضلالة و كل ضلالة في النار. يعني عمم كل البِدع مقالش لا أصل فيه نوع كذا مش حرام مثلا، فهماني؟ 


أومأت بفهم و هي تثني قدميها أسفلها كالأطفال ثم قالت برأس مائل :


- ايوه، بس هل كدة حرام يعني إني أقولها؟ 


أمسك كفيها بين يديه ثم أردف بخفوت دافىء :


- بصي هو مش حرام بس يُفضل متعتاديش عليها لأن مفيش دليل على صحتها، بس لو نسيتي مرة و قولتيها مثلاً فإنتي بتقوليها تمجيد لله عز وجل فمفيش مشكلة، فهمتي؟


ابتسمت و قالت بصدق متناسية خلافهما :


- ايوه فهمت.. شرحك مُبسط أوي و جميل أصلا. 


ضحك بخفوت ثم قال بمغازلة و ابتسامة مرحة :


- والله إنت اللي جميل و قمر. 


تابعت متجاهلة غزله مطنبة في شرح مشاعرها إتجه أسلوبه :


- اه و بحب كمان أسلوبك و إنت بحكي القصص.. عشان لو مكنتش قولتلك قبل كدة يعني. 


قال غامزًا و هو يبتسم بعبث أخجلها :


- طب و انا بحبك إنت.


ثم جذبها إليه قائلا بخفوت وترها :


- اه صح.. ليكي حاجة عندي. 


قبَّل رأسها قبلة طويلة ثم همس و هو يريح جبينه على خاصتها و يداعب أنفها بأنفه :


- عشان عرفتي الآية اللي كنت بتكلم عليها.. و انا بوست الاتنين فإنتي كمان ليكي بوسة قمر زيك بيعني الكتير اللي بتقوليها دي. 


نظرت لأسفل و قضمت شفتيها ثم حدقت به بزمرديتيها و قالت بخفوت :


- ممكن اطلب منك طلب بما إن مزاجك كويس يعني؟ 


ابتسم و هو يزفر أنفاسه ثم همس يأذن لها :


- يعني تاني!.. ماشي اطلبي يا ستي. 


ضيقت عينيها و هي تهمس خائفة من ردة فعله حتى لا ينشب بينهما شجار اخر :


- عايزة اعمل رسالة الماجستير. 


ملأ صدره بالهواء ثم قال بإبتسامة أقلقتها في البداية :


- و ماله مفيش مشكلة. 


توسعت حدقتيها فزادتا جمالًا، و هي تقول بتعجب و مفاجأة :


- بجد موافق ! 


مسد وجنتها بأنامله و هو يكلمها بصوت خافت :


- اه يا ستي بس قوليلي عايزة تعمليها عن إيه الأول؟ 


- عن العنف الزوجي و زيادة معدل الطلاق. 


قال بنبرة مرحة متعجبة و هو يضيق عينيه :


- و اشمعنا اختارتي الموضوع ده يعني.. عندك حد بيمارس عليكي العنف الزوجي ولا حاجة؟ 


ضحكت بخفوت ثم قالت بابتسامة و هي تلمس ذقنه المهذبة بأطراف أصابعها : 


- الحمد لله لا.. بس في الجمعية سمعت مشاكل كتير كان ليها علاقة بالموضوع ده و كمان هو السبب الأول للطلاق في مصر فالموضوع شدني أوي يعني. 


كان سيقوم بعض يدها و لكنها سحبتها بسرعة تغطي بها ثغرها المبتسم و تخفي بها صوت ضحكتها، فضحك معاها ثم قال :


- تمام.. تمام طالما شدك يبقي علي خيرة الله.. شوفي لو في إجراءات معينة لازم تعمليها الأول و عرفيني عشان أعملهالك و تبدأي. 


قضمت شفتيها و قالت بترقب و عينين ضيقتين :


- بس.. 


- بس إيه؟ 


- لازم أنزل اتكلم مع حالات العينة و اعمل معاينة بنفسي. 


أومأ بتفهم ثم سأل بجدية :


- طب هتنزلي لوحدك ازاي؟ 


أومأت بالنفي بسرعة و استطردت قائلة بتوضيح :


- لا لا.. مش هنزل لوحدي.. انا اتكلمت مع جهاد في الموضوع و قالتلي هتساعدني و هتنزل معايا كمان. 


سرت في جسده صاعقة باردة اصابته بقشعريرة لجزء من الثانية لسماعه اسمها.. حسنًا هذا بالتأكيد سيسعد الخمرية، إذن لها ذلك. 


- خلاص.. طالما مش هتبقي لوحدك مفيش مشكلة.. ممكن الولاد يبقوا يقعدوا معايا في المكتب لحد ما تخلصي طالما فترة مؤقتة. 


ابتسمت بتوسع و أردفت بحب و هو تقبل خده :


- متشكرة جدا بجد مش عارفة أقولك إيه. 


سحبها له قائلا بخفوت و هو يحيطها بذراعيه : 


- متقوليش ولا تعملي حاجة.. سيبني أنا اللي هعمل كل حاجة.


يُتبع..