-->

الفصل الحادي والعشرون ج1 - بعد الاحتراق After Burn


الفصل الحادي والعشرون

(الجزء الأول)


عليّ أن أصدق أنك وحش

ما من طريقة أخرى

الأمر أشبه بالأفلام،

عندما يفسرون لنا كيف أصبح الشخص السيئ مؤذيًا، ليمنعونا من كراهيته!


لا أريد أن أفهم أية شيء؛

عندما أفهم، أحبك،

وأنا لا أريد أن أحبك بعد الآن!


علي أن أصدق أنك وحش،

لأني لو عدت للاعتقاد في أنك لطيف وكسير فحسب

ستكون نهايتي!


سوف يتهامس الناس بشأن حبنا لسنوات

كيف كان مرعبًا الوجود في غرفة واحدة

مع شخصين يرغبان بشدة في تحطيم بعضهما

كيف حطم كل منا الآخر تمامًا.


سوف يتهامس الناس بشأن حبنا لسنوات

وهذا ما سوف يتذكرونه

كيف كنتُ شجاعة

كيف تفهمتُ وتفهمتُ حتى عجزتُ عن المزيد

كيف -وآسفة لذلك- عجزتُ عن المزيد!!


-فورتيسا لاتيفي-



هذه الليلة امتنع عن دواءه المسائي كي يظل صاحيًا في انتظارها، كان يعلم أنها تتعمد الاستطالة داخل الحمام قدر الإمكان لحين نومه، لكنه الليلة سيفسد خطتها..!!

راقب أدهم الاندهاش على محياها عندما ولجت من حمام الغرفة ووجدته لايزال يقظًا .. وكعادتها منذ أن شد عافيته وفارق غرفة الرعاية المركزة، اتخذت مقعدًا قصيًا حتى ولو لم يكن بالغرفة سواهما.. تبقى صامتة تمامًا لا يمكن لأحد الشعور بوجودها أو حتى ملاحظتها، وكأنها خفية، غير مرئية .. ربما هذا ما رغبته، ألا يلاحظها أحد وبالتالي لن تكون مُجبرة على محادثة أحد، فأقصى ما أمكنه الحصول عليه منها بعد محادثة طويلة من طرفه كان محض همهمة لعينة!! .. وما علمه أنها كذلك مع الجميع، حتى مريم، لم تخرج كلمة من فمها منذ ما فعله بالطبيب الغبي!، الحقيقة لم يكن نادمًا أو مباليًا بأي شكل، لكنها لم تكن بخير مع ذلك، علم هذا .. وعلم أيضًا أن هدوءها وصمتها بمثابة قنبلة موقوتة يحاول تلافي انفجارها، لكنها واللعنة لا تمنحه فرصة!!

حتى بعد أن أجبرها على النوم معه بنفس الجناح الطبي بسرير مقابل له وعدم العودة لتلك الشقة الغبية متحججًا بشأن تأمينها، لكنها في المقابل تظل تحجب نفسها عنه طوال الوقت وحتى النوم خلف ذلك الكتاب ذو الغلاف الممحو عنوانه دلالة على قِدَمُه الذي خمن أنه يرجع لسنوات دراستها الجامعية، وعندما أصابه الفضول في إحدى المرات وامسك بالكتاب ليتفحص محتواه، لم يجد سوى عنوان غبي بالداخل كاد يصيبه بذبحة صدرية .. فقط لم يفهم، ما الممتع في كتاب تاريخ علم النفس حتى تدفن رأسها داخله بالساعات ولأيام متواصلة تقلب صفحاته مرارًا وتكرارًا دون ملل؟!

حسنًا، تبًا لذلك، لقد اكتفى من هذا الهراء، سيخرج ما بداخلها حتى لو انتهى الأمر بمحاولتها قتله كالمعتاد!!

- ماذا قالت تلك اللعينة!!

سأل أدهم دون استباق، وبالكاد أنزلت فريدة الكتاب عن وجهها ليتبدى عليها إرهاق شديد، أرادت تجاهله بشدة ثم لعنت داخلها لأنه لا يسعها ذلك بالوقت الحالي، فلن يزيده هذا إلا إصرارًا على مضايقتها .. ذلك ما قرأته واضحًا بعينه التي يملأها التصميم، بينما يجلس باستقامة على الفراش بالنسبة لشخص مصاب برصاصة في صدره .. فقط لمّ لم يأخذ دواءه ويُخمد، ألا يتألم عليه اللعنة؟!

سحبت نفسًا عميق عبر انفها قبل أن تهز رأسها بإيماءة جاهلة لمَن يقصد .. تجهمت تعابير أدهم ليضيف بنزق من طريقتها التي باتت تستفزه:

- أقصد العاهرة سمر!!.. اعترضت طريقك منذ قليل وأوقفتك، ماذا قالت لكِ؟؟

زفرت بسأم.. الآن ماذا؟!.. هل عدنا لسابق عهدنا من التحقيق والاستجواب على كل نفس يصدر منها، اللعين لا يكلف نفسه عناء إخفاء مراقبة كلبه ماتيو لها، بل على العكس بدى لها الآن متفاخرًا بعلمه لكل ما يجري حوله وهو في فراشه .. على ما يبدو أن ليلتها ستكون طويلة!!

حدقته مليًا بينما تتسابق الشتائم بحلقها لكنها كانت بعيدة جدًا عن خوض أي جدال .. بالأخص معه هو!! .. مع ذلك ما امكنها كبح سخريتها من الاندفاع:

- وماذا ستفعل لها؟؟ .. لا تخبرني أنك ستقتلها كالسابقين أو تفقأ عينها كالطبيب!!

دحرج عينه بملل، فقد كان يعرف أن حالتها تلك سببها ما فعله مع الطبيب الأخرق، بحق الجحيم ماذا تنتظر منه أن يفعل حينما يفيق وأول ما تلتقطه أذنه هو مغازلة ذلك العاهر واحتكاكه بها؟! .. تبا، لربما إذا تركه حينها كان ليموت حقًا بغيظه، فالألم الذي تكون بصدره وقتها كان أكبر من أن يتحمله!!

لوى ثغرة ببسمة ساخرة وأخيرًا استطاع إخراجها من شرنقة صمتها المجحف:

- هذا أمر لا مفر من حدوثه يومًا ما!!.. ثم هيا بيبي، لا تكوني سيئة الظن، اخبرتك، لم أقصد ما فعلته، لم أكن بوعيّ، خُيل لي أنه يريد قتلي.. ماذا يسمونها؟؟.. "هذيان إفاقة" أم "صدمة إفاقة"؟؟.. لا يهم، هذا ما حدث!!

الوغد، يواصل استخفافه بعقلها!!

هذيان إفاقة، ها؟! .. لقد استهدف عين الرجل اليمنى الذي اقترب منه ليتفحصه ما إن سمع صوته، وبعد أن كان ممددًا كالموتى، باللحظة التالية، رشق الإبرة المغذية التي لم تعرف حينها متى نزعها .. لا تنسى ابدًا كيف كان يواجه الجميع بملامح متجبرة في حين أن دماء عين الرجل التي تصفت كانت تغرق وجهه!! .. ملامح الحالكة لم تفشل قط في تجسيد الطاغية الذي تعرفه ببراعته المعتادة في قلب الأدوار.. لقد اقنع الجميع بأن الطبيب مُسلّط لقتله، ولولا افاقته بآخر لحظة لكان قتله!! وبذلك، انطوت صفحة المسكين دون أن يهتم أحد لعينه التي فقدها، وفوق كل هذا فقد سُمعته ومهنته وأصبح السجن مصيره المحتم!!

انفرج فمها ضاحكة باستهزاء دون صوت، بينما تُرجع رأسها للخلف متمتمه في قمة سخطها:

- اللعنة اللعنة!!

- اللعنة اللعنة..

بادلها اللعن على وضعهما بينما يحتفظ بابتسامة مستمتعة وقد خُدع لحظيًا في ضحكتها ليكمل بعدم اكتراث:

- ثم هو كان يستحق ما حدث له!!

- لأنه نظر لأملاكك!!

اردفت فريدة بسخرية ناوشت صدرها وما أمكنها كتمها.. ليحتج أدهم مصححًا لها بنظرة حادة وكأنه يدافع عن حقٍ له:

- لأنه نظر لِزوجتي..!!

- لكنني لستُ زوجتك..

استنكرت فريدة ليهز كتفيه بنظرة ثاقبة ويقين شديد:

- هذا أمر مفروغًا منه، وإلا لمً أنتِ هنا؟!

هذه المرة تجاهلته وقلبت الصفحة التي تقرأ بها بينما تحاول تشتيت عقلها عن الأحاسيس التي تحتدم داخلها الآن.. مع ذلك لم يفلح هذا معه لتسمعه يعتدل في فراشه وكأنه يهم بالنهوض:

- لمّ أنتِ هنا، فريدة؟؟.. ولمّ قلتِ على المركب أننا قد عدنا معًا؟! .. انكرتِ أمر اختطافيّ لكِ، لم تأخذي أي خطوة ضدي منذ استعادتي الذاكرة، ولم تتدخلي وتُبرأي الطبيب رغم شهودك على ما حدث، والآن أنتِ هنا؟؟

عقبت على الفور باندفاع ما أنهى حديثه علّه يصمت:

- أنت قلتها، لقد فرّطت في حقي، فلمّ بحق الجحيم سأكترث لحق شخصٍ آخر؟!

فقط هذا، وأغلقت الكتاب ونهضت لتضجع فراشها ثم أطفأت النور ليعُمّ الظلام جانبها .. أولته ظهرها مُسدله الستار على ذلك الحوار العقيم، لكنه كان بعيدًا ليتركها وحالها!! .. اخترق صوته العتمة ليحاصرها بالأسئلة بتصميم على كسر القشرة التي تختبئ خلفها:

- وهذا ما أريد معرفته!! .. لماذا لم تسعي لحقكِ مني فريدة؟؟.. لمّ لم تفارقي جانبي وتنتهزي الفرصة لترحلي؟!

وأمام هذا الكم من الضغط على أعصابها سأله بنفور:

- أنت تريد إجابة الآن؟؟

- نعم، من فضلك!!

- حسنًا..

اعتدلت واضاءت النور لتقابله وجهًا لوجه، ثم ارتخت جفونها حاملة نظرة غير مبالية وهي تردف بلا عاطفة:

- لقد تعلمت الدرس، سيدي .. آسفة، لن أكون فتاة سيئة مرة أخرى!!




بعد نظرة حالكة اخترقت صميم روحها وبثت الرعب داخلها، خرج صوته بشكل أشبه بالزئير:

- هل تهزئي بي؟!

 ارتعش طرف أنفها وهي تجيبه من خلف أسنانها المتلاحمة بملامح جادة وثابتة:

- لا أجرؤ صدقني.. هذا تمامًا الدرس الذي تعلمته من وراء ما حدث.. والذي أكده لي مصير الطبيب.. ألا استهزأ بـأدهم الشاذلي!!

- فريـدة..!!

زجرها بنبرة مهددة من المنطقة الوعرة التي تخطو لها.. لقد خُيّل إليه عند سؤالها عن سبب وجودها معه أنه بذلك ربما ينتزع منها اعتراف ضمني بخوفها عليه ورغبتها ولو بقدرٍ ضئيل في قربه، خُيّل إليه أن ما جرى سيغير من حقيقة ما بينهما ويزحزح كراهيتها ولو قليلًا خاصة بعد ما سمعه من مريم عن ردة فعلها الانفعالية وقت تأزم حالته .. وبعد ما سمعه هو شخصيًا لحظة إفاقته.. كانت تبكي من أجله، تبًا لا ينكر أن تلك الكلمة ليس فقط جددت الأمل داخله بل وإن جاز التعبير.. لقد اعادته للحياة!!

لكن ها هي تواصل هدم أحلامه وتحطيم أي أمل بائس ينبت بين أضلعه..!!

عاد لسماعها تتذمر على مقاطعته لها:

- اسمعني..

تجاوزت فريدة نبرته المهددة لتجلس أمامه جامعة يديها بين ساقيها، ربما لتخفي ارتجافها.. ثم سكتت هُنَيهة كليهما يحدق بالآخر.. لم تكن تعرف ماذا تخبره بالتحديد، ثمة أشياء كثيرة تحارب لتخرج ولكنها في حيرة إذا كان من الطبيعي قولها؟! .. إذا كان من الطبيعي قولها له هو بالتحديد؟!

لا تعرف..!!

استشعرت الانشطار داخلها ذاته مجددًا يمنعها من اتخاذ قرار والثبات عليه.. بدأت تسترجع العديد من الامور التي تصارعت داخلها للخروج وتلك اللحظة لم تكن قادرة على تمييز الأشياء التي لا يجب قولها .. أرادت أن تخبره أن وضعها على المركب كان شيء ووقت اطلاق النار عليهما شيء والآن شيئًا آخر.. حالها معها يتغير بسرعة الضوء لكن الوضع الذي هي عليه الآن كان الأسوأ على الاطلاق .. مرّ على بالها أن تُخبره ذلك بشدة، أنها كانت صادقة فيما قالته، ولم تكن تهزأ به.. أنها تخشى النظرة التي يحدقها بها الآن، بعد ما حدث مع الطبيب لم يعد لديها أي شك أنها تتعامل مع الجزار البشري الذي احتجزها بالقلعة.. أنها خائفة منه لدرجة تمنعها من النوم معه في غرفة واحدة حتى ولو كان ممددًا وثمة ثقب لم يلتئم في صدره، تظل جالسة على المقعد تِجهد عينيها بكلمات تحفظها جيدًا حتى تسقط فاقدة الوعي بضع لحظات!! .. تتخذ من كتابها ساترًا لتختبئ خلفه فقط لأن عقلها يظل يستنكر وجودها معه، لا ينفك يفكر في طريقة تتخلص بها منه، من رائحته التي تقبض أنفاسها وتعزز من رغبتها في الفرار لآخر بقاع الأرض.. تهرب من صوته الذي يزلزل كيانها.. لكن بالنهاية تجد نفسها تصطدم بالواقع، وأن الموت أو الهرب كلاهما لن يحلا معضلتها معه .. كلهما حل أناني ينقذها هي وحدها، لتترك الجميع من خلفها..

 تتصرف بأنانية مجددًا!!

لذلك تحدثت دون ترتيب أو ترابط بين جملها.. تركت العبارات الحبيسة تخرج كما هي لأنها -وللأسف- كانت في آمسّ الحاجة لتُخرجها:

- منذ استعدت الذاكرة، ومنذ عرفت حقيقة ما حدث من مريم، وثمة فكرة واحدة تلّح على عقلي حتى شارفت على الجنون.. ماذا كان ليحدث لو ألّنت رأسي قليلًا ولم اندفع وراء مشاعري، لو فقط تخليت لمرة عن عنادي وكبريائي السخيف وتصرفت بحكمة؟! .. ماذا كان ليحدث لو.. لو لم أهرب ذلك اليوم وأتصرف وكأنني بفيلم أكشن، لو.. لم ألجأ لأحد ولم أُدخل أحد فيما بيننا.. لو عُدت لك، تواجهنا وتصارحنا بكل شيء، وبكل بساطة.. ماذا لو.. لو أطعتك، واطلقت الرصاصة الفراغة؟! .. ها؟!.. ماذا كان ليحدث ليّ بحق الجحيم؟! .. لم يكن لينقص مني قطعة واحدة، لكن.. لكان الجميع، الجميع بخير .. و يزالون أحياء!!.. ولم أكن لأمـرّ بكل هذا الألم!!.. لكنني كنتُ غبية لآخر لحظة، وتصرفت بأنانية لا مثيل لها، اخترت كبريائي وغاليت في شأن ذكائي رغم أنني كنتُ أعرف.. تبًا، كنتُ أعرفك جيدًا لأعرف ماذا سيحدث لأي شخص سأورطه معي!! .. مع ذلك فعلت بكل أنانية..!!

رطبت شفتيها بلسانها بعدما جفت بفعل ما قالته والضغط الكبير الذي تستشعره.. تحاشت النظرة مباشرةً له لكنها عرفت أنه على وشك أن يقول شيئًا فعاجلته واضعة تتمة قولها:

- لذا ها انا هنا، لأنني قد تعلمت الدرس، وبقوة هذه المرة!!.. لا مزيد من الهروب وألاعيب القط والفأر، لا مزيد من ارتكاب الحماقات التي يدفع كُلفتها غيري.. لا مزيد من الدماء.. أنا هنا لأنني اكتفيت من جرّ الآخرين للموت.. حتى لو كنت أنت أدهم!!

نفخت الحريق الذي تكون في جوفها ما إن تذكرت ما عانته بسبب احتمال موته.. كل شيء تضائل أمام الموت.. حتى الكراهية!!.. ربما قد تراجع لديها هذا الشعور بعد نجاته ولكنه ترك لديها ندبه هزت كيانها وكل قناعتها.. حتى ما ستقوله الآن لم تكن أبدًا متأكدة منه:

- وإذا كان أمر زواجنا سيوقف كل هذا، فأعتقد أنني سأعود وارتكب تلك الحماقة!!

حسنًا، كل ما كانت متأكدة منه تلك المرة أنها ليس لديها استعداد لتحمل نتيجة القادم، يكفيها ما تكبدت وستظل تحمله حتى النهاية.. عبئ المسؤولية كان يخنقها كبذلة حديدية كلما ثقل وزنها، كلما خنقت الفارس الذي بداخلها واغرقته حينما يحين الطوفان .. وهي بالفعل غارقة.. تقبع في القاع، حيث لا أمل في رؤية أحدهم لطرفها.. لا يمكن لأحد رؤيتها.. لا يمكن لأحد أن يساعدها..!! .. لذلك فكرة أن تساعد هي شخصًا وتتولى مسؤولية أمر ما كانت فكرة عليلة للغاية!!

كان هذا ما يدور بذهنها تمامًا، تلك المرة عزمت ألا تتحمل مسؤولية شيء، مسؤولية تقرير مصير أي شيء ولو كان صغيرًا، ولو كان يخص حياتها.. تذكرت تلك المرة التي كان يستقطبها فيها ناحية الخضوع وأنه سيعفيها من عبئ تحمل أي ذرة من المسؤولية .. حسنا، هذه اللحظة قدرت كم كان عرضًا سخيًا لا يُفوت، وتمنت لو يكرر عرضه الآن لأنها ستكون أكثر من مقبله على ذلك!!


 ❈-❈-❈




”لقد عشتِ عمرك فريدة تعتمدين علي نفسك .. تخيلي أن أعفيكِ من عبئ هذه المسئولية .. أن أحررك من ذلك المجهود والقلق الذي تبذلينه مع كل قرار تأخذيه .. أن أفكر وأقرر وأتحمل المسؤولية بدلًا منكِ .. جربي أن تعتمدي عليّ .. أن تعيشي كما تريدين .. أن تُحرري تلك الطفلة التي بداخلك .. فقط اتركي نفسكِ ليّ .. سأثبت لكِ أن السادية ليست بذلك السوء الذي تتوقعينه.“


❈-❈-❈

- إذًا الطبيب المغفل كان محق.. صدمتنِي، لم أتوقع أن يُحزنك موتي!! .. ظننت أن الأمر سيكون عادلًا بالنسبة لكِ!!

”ماذا قال واللعنة؟!“

تقلص وجهها بنفور من الزاوية التي ينتوي اجتذابها ناحيتها، وحينما جاءت لتنهشهُ بالقول، سبقها وهو يفرق كلمات على قدرٍ مؤكدًا على كل حرفًا فيها بنبرة في طياتها سخرية واستنكار شديد وجذوة شك:

- حسنًا.. حسبما فهمت، أنتِ تخبريني أنكِ ستخضعين لسيطرتي مجددًا وطواعية هذه المرة .. أليس كذلك؟!

- كلا..!!

نظراته المتسلطة عليها، شعرت وكأنه يحاول اختراقها والتغلغل لروحها ليعرف ما يدور داخلها.. لكنه كان بعيدًا جدًا ليعرف، إذا كانت هي لا تعرف!!

تجهمت كامل قسمات وجهها من إشاراته المبطنة، وزجرته بإزراء صريح:

- ليس الخضوع كما يفهمه عقله المقزز!!.. كل ما في الأمر أنني سأسلم لك حرية التصرف فيما يخص الورطة التي وضعتني بها معك.. كل ما لك عليّ أنني لن أتدخل أو أتصرف من تلقاء نفسي، وإذا كان الزواج سيمنعهم عن قتلنا فلن تكون أول مرة أتزوج مقابل حياتي.. فقط ريثما من الورطة التي وضعتني بها.. لكن أبدًا لا تجمح بخيالك المريض لأبعد ذلك!!

ملأ الصمت الفجوة بينهما عقب جملتها واعتقدت بأنه لم يعد في الكلام ما يُقال.. تراجعت فريدة لتريح ظهرها على مسند السرير استعدادًا للخطوة التالية وهي غلق النور لتختبئ خلف ظلامها، لكن صوته المحقون بالندم وكل وعود العالم منعها هذا:

- أعدك سأخرجك من هذا ولو على حساب حياتي .. ستنعمين بالحياة الهادئة التي تستحقينها!!

”ثقي بي، لن أؤذيكِ!!“

الرنين الساخر لهذه الجملة صدَّى بأذنيها وجعلها تشهق بالضحك رغمًا عنها ثم ارتمت على الفراش تمسح الدموع التي غزت عينها من فرط الضحك.. لا تنكر، اللعين يمتلك حسّ فكاهي:

- ما الذي يضحكك الآن؟!

بدت نبرته باردة وفاقدة لأدنى درجات الصبر.. لتمتمت بصوت مبحوح من أثر الضحك:

- لا شيء!!

- فريدة.. للمرة الثانية أنتِ تستخفين بي!!

اهتاج أدهم في ردة فعله تلك المرة، وشعرت بأنها على المحك معه، فمن زاوية عينها رأت عروق نحره وهي تنفر باتقاد.. لذلك تراجعت سريعًا نافية بكل صدق معيدة له الكلمات:

- لا تكن سيء الظن هكذا.. كل ما فالأمر أنني تذكرت قولك على المركب .. عن أنك عاجز عن العودة لعالمك من بعديّ .. ماذا إذا كان هذا حالي أيضًا؟؟

ارتاحت على وسادتها رافعة ذراعها أعلى عينيها، وهي تشعر جيد بعينيه التي تمسحها وكأنها معادلة فيزيائية يحاول حلها، وللوهلة تساءلت هل هو مرتاح في جلسته تلك؟! لابد أنها تؤلم صدره!! .. على الفور استنكرت نفسها لتُكمل مشتتة نفسها عن الطريق الذي تنجرف فيه أفكارها السخيفة:

- لقد جربت العودة لعالمي وحياتي الهادئة، لكنها لفظتني!!.. لم أتكيف معها كجسدٍ رفض عضو مزروع به حديثًا.. ثمة شيء خاطئ أو ناقص، لا أعرف ما هو .. لا أعرف سوى أنني لابد أن أكون معك!!

أخذ كامل وقته مجربًا تمرير الكلمات لرأسه، ولكن تبًا ابدًا لا تمر!! .. لم يفهم ماذا أصابها، صحيح اعتاد على كلماتها المحمومة بفعل الصدمة وتأثير الدواء، لكنها الآن من المفترض أن.. عقله لا يسعفه في فهم ما تقول، لا يعرف في أي خانة يضعه، سخرية أم حقيقة؟! .. لأنه واللعنة لا يمكن أن يكون حقيقة!!

دلك صدغيه ليبدد الصداع الذي اعتراه ثم حك لحيته بلامبالاة قبل أن يجرب مجاراتها فيما تقول علّه يصل لمبتغاها، أو حتى يفهمها:

- ما تقوليه يُسمى بالمواقف الغير مُنتهية.. أوتعرفين؟!.. دكتور 'مايك' هو مَن أخبرني عنها أول مرة، أملًا منه في أن يحثني على للعودة لفض هذا الصراع الغير منتهي معك فريدة، ووضع نهاية مرضية!!.. بدلًا من إعادته داخل عقلي كل يوم مرارًا وتكرارًا!!

- يبدو أنه معالج جيد..

همهمت فريدة بهمسٍ شديد ليعقب:

- يبدو كذلك..

- إلا أنه لم يشفيك من رغبتك في إيذاء الآخرين!!

تبًا، ليس مجددًا، لن تكون فريدة إذا لم تختم جملتها معه بكارثة.. ستصيبه بجلطة يومًا ما بينما يحاول تحجيم غضبه عنها.. تشنجت خلجات وقد أصبح قاب قوسين أو أدنى من إفلات زمام السيطرة:

- إذا كنتِ تقصدين الطبيب الأحمق، فلا تخلطين بين المرض والغيرة .. تلك شيء لن يتغير فيّ فريدة .. إذا تغيرت لن أكون رجلًا!!

”لن تكون أدهم الشاذلي الذي أحرقت غيرته كل حياتي!!“

حلقها آلمها من شدة رغبتها في قول ذلك له، لكنها خشت أن يأتي عليها هذا بمزيد من التعكير والثرثرة الإجبارية معه بعد أن كانت تُبلي حسنًا في تحاشيه وتجنبه الأيام الماضية!! .. وها هو كالحرباء استطاع استدراجها دون أن تدري!!

- سيأتي يومًا وأعرفك عليه!!

نظرت له بمزيج من السخرية والتقرف، كانت تعلم مَن المقصود لكنها سألته متعمدة التقليل من شأن كليهما:

- مَن؟؟

- دكتور 'مايك'..

- لماذا؟؟

استشف أدهم من النبرة الحادة المتنمرة التي تسلكها أنها على أُهبة الانفجار، وينقصها أن يشد فتيلة قنبلتها وستدوي بكل الحقيقة الكامنة داخلها، وليست التخاريف التي تهذي بها!! .. تأني في القول وهو يرتجع بجسده للخلف وقد تنبه أخيرًا لتأوهات عضلات جسده:

- إنه الوحيد الذي أثق في أن يرشدك لما تحتاجينه

الوغد يستفزها ولا تعرف هل يتعمد هذا أم أنه اصبح غبيًا إلى هذا الحد؟!.. عن أي علاج يُحدثها، فجأة أصبحت هي المريضة هنا وهو الذي يسعى لعلاجها؟!.. بحق الله، من أين تأتي له بعقل وأعصاب عوضًا عما فقدته معه؟! .. مسحت وجهها المتغضن لتشعر بكم السخونة التي تتصاعد منه.. آوه، تبًا لادعاء الهدوء، تبًا للجبن القاطن داخلها منه، ستموت مختنقة إن بلعت لسانها الآن ولم تركب هذه الموجة من إعصارها!!

استدارت له متكأه على مرفقها بنصف جلسة ثم سألته بنبرة عدائية متصيدة لأي فلتة لسان آتية:

- ومَن أخبرك أنني أحتاج لمساعدة منك أو من دكتور مايك خاصتك أو أي شخصٍ كان؟!

رغمًا عنه، اللعنة رغمًا عنه خانته عيناه وتاهت في هيئتها الناعمة، في أهدابها الناعسة، وجهها المختلط نقاءه بحمرة تضخ بخديها وتحاصر أنفها وشفتيها، وشعرها الذي تستكين أطرافه بكسل على وسادتها.. كانت جميلة، كانت فاتنه حتى وهي مجهدة.. فاتنته هو!!

مرر إبهامه برفق على طرف شفته بينما ينظر في صميم عينها بنظرة أقل ما يُقال عنها أن كانت كافية لتكسر موجة غضبها:

- إذا، ماذا تحتاجين لتكونين بخير، فريدة؟!

- أحتاج..


مر وقت طويل دون أن تجد إجابة، لتكبس أصابعها زر الإضاء كي تتهرب من عينيه التي تطاردها، وتختبئ وسط عتمة الغرفة.. تاهت منها الكلمات، وتلك اللحظة تبدد عقلها في كل اتجاه باحثًا عما تحتاجه، ولم تجد أشد قسوة من رغبتها المميتة في العودة لذكرى بعينها.. لحظة قدر ما كانت حًلمها ومصدر بهجتها ذات يوم إلا أنه اليوم بدت لها أمنية مستحيلة وذكرى تعيسة.. لأنها، أبدًا أبدًا، ومهما فعلت، لن تعود لتلك اللحظة التي كانت تتمدد فيها على كرسيها الوسيد داخل شقتها بكاليفورنيا وتحتضن كلبتها المدللة 'بيري'، غير عابئة بأي شيء لعين يدور بالعالم!!


وللسخرية، بدلًا عن هذا، ها هي محبوسة في غرفة واحدة مع الشخص الذي سلبها تلك الذكري الهانئة وحولها لأتعس ما تحمله روحها!!

 

 هزت رأسها بضحكه باهتة وتلونت عيونها بلون أحمر دامي يلائم الدماء التي تنزف داخلها، ليخونها ذراعها وتعود للوضع التسطح محتفظة بابتسامة الكاذبة ومحدقة بسقف الغرفة تزامنًا مع هبوط دموعها من جانبي عينها بصمت:

- أتعرف أشد ما احتاجه؟!.. الهروب!!.. كلما أراك، كلما أسمعك، كلما أدرك أنني وإياكِ تجمعنا الآن غرفة واحدة!!.. بالكاد أتحمل أنفاسك بينما تسرق أنفاسي!!.. تبًا، عقلي لا ينفك يفكر في الهروب طيلة الوقت.. تركك وترك كل شيء لطخته بيداك.. لكني لا أعرف إلى أين أذهب أو ماذا أفعل، ومجددًا لا يمكنني هذا!! .. لأنني الوحيدة التي تدرك كم هي فكرة غبية .. ومع ذلك، لا أتوقف عن تخيل نفسي أهرب، أهرب منك، أهرب من العصابة التي تَضلّع بها .. أهرب من عائلتي لأنني لم أكن الابنة التي أرادوها .. أهرب من النوم، ومن أشباح الماضي التي أراها كلما أنام .. وأهرب من نفسي .. أشد ما أرغب به هو الهروب من نفسي، ألا أراها ولا أسمعها تتنفس .. أرغب بالموت، نعم، هذا ما احتاجه، لكن واللعنة هذا أيضًا ليس راجعًا لي، لم تعد حياتي تخصني منذ أمدٍ بعيد.. في البداية لأنني وهبتها لك، والآن لأنها مرتبطة بحياة أناس آخرين وسأكون أنانية عن حق إذا اختر نفسي مجددًا .. ليس بيدي سوى أن أسلم حياتي لك لتقودها من جديد .. كيفما تشاء متمتمًا لي بيقين ”ثقي بي، لن أؤذيكِ!!“



يتبع