-->

الفصل الثامن عشر- أشواك وحرير

 




الفصل الثامن عشر



”تأتيك الصفعة على قدر الغفلة...

إن للصفعة لثمن باهظ “

 ”هاكونا مطاطا“



عمت الأغاني الصاخبة أرجاء حديقة الڤيلا بعضها ذو الطابع الرومانسي والبعض الآخر الأغاني العصرية المسماة بالمهرجنات!.. الحديقة منسقة بعناية تامة تغطيها الأنوار المبهجة مختلطة بالورود، بالإضافة لشرائط الزينة الملونة المثبتة بحرص وعناية علي أغصان الأشجار، حلقات الرقص المشتعلة المكونة حول العريس والعروس يفتعل الشباب والفتيات بها أقصي ما يتحملوه ليثبتوا ولائهم لأبطال الحفل بينما البعض الآخر يختار الجلوس في ركنٍا هادئ ليوزع الإبتسامات حينما تلتفت إليهم الأنظار خلسة، كانت "ميرا" من تلك الفئة الأخيرة من الناس، فبالرغم من كونها ابنة عم العريس ومحسوبة كصديقة للعروس إلا أنها لم تشارك، واكتفت فقط بالحضور المشرف في أحد أركان الحفل الهادئة تحت نظرات الذهول من قِبل المعازيم وبعض العبارات الوقحة، حول غيرتها من صديقتها التي ستتزوج قبلها، وبعض العبارات الأخري المثيرة للشفقة حول كونه تركها وذهب لخطبة صديقتها!...انتبهت لظل أحد الرجال يقف خلفها بالإضافة لرائحته الذكية التي تسللت لأنفها فألتفتت إليه حتي تتعرف على صاحب الظل، فلم يكن سوي"مجد" الذي حضر للتو، ألقي عليها بتحية المساء فردت عليه بمضض شاعرة بالحرج من رؤيته بعد أسلوبها الوقح معه في مكتبه، والذي تركت علي أثره التدريب في شركته بدون إذن منه، فكان هو أول من ابتدأ الحديث بينهما :


_عقبالك!


وضعت إحدى خصلاتها الشاردة خلف أذنها بتوتر، ثم ابتسمت له بمجاملة :


_عقبالك أنت كمان.


_ممكن أقف معاكِ؟!


استأذن منها بأدب لطالما لازمه، فأومأت له برأسها، واستمر الصمت حليفهما إلا أن قطعته هي :


_تعرف إن أنت وصاحبتك شبه بعض أوي!


رفع إحدى حاجبيه، وسألها بإندهاش :


_قصدك روان؟!


أومأت له برأسها من جديد، وأجابته موضحه :


_نفس الطباع تقريبًا؛ فحتين نفسكم في الشغل، جادين أوي ومش بتهزروا في شغلكم حتي عندكم ضمير زي بعض...حتي تحسكم أخلاق كده!


_أخلاق!!


قالها بإستنكار، وابتسامة عذبة زينت ملامح وجهه؛ مما جعلها تبتسم إليه هي الأخري مؤكده حديثها :


_أيوه أخلاق.


شمخ بأنفه لأعلي بفخر، ثم سلط أنظاره عليها، وسألها بفضول :


_وإيه خلاكِ تقولي كده؟!


حركت كتفيها لأعلي ولأسفل، وأجابته بلامبالاة بعدما أشاحت بوجهها للجهة الأخري :


_مش عارفه بس حبيت أقول اللي حسيت بيه.


أومأ له برأسه متفهمًا، ثم تصنع متابعتة لفقرات الحفل، بينما عيناه في الأساس كانت منشغله بالبحث عن حبيبته الغائبة "تُري لما تأخرت؟!" لقد طمأن قلبه اليوم برؤيتها فحتي وإن كان غاضبًا منها بسبب تصرفاتها الغريبة والطائشة مع المدعو خطيبها إلا أنه لم يستطع منع قلبه الخائن من التطوق لرؤيتها...لا يدري كيف استطاع السيطرة على أعصابه حين رأها تبتسم له وهو تقريبًا محاصرًا لها بين أحضانه، تناول نفسًا عميقًا حتي يهدأ أعصابه قليلًا وذكر نفسه بأنها لم تكن أبدًا ملكه ولن تكون أبدًا؛ فلا داعِ للغضب!...برر له شيئًا ما بداخله بأنه قد انزعج "حتي لا يرميها الناس بالباطل وليس لشئٍ آخر!" بينما حدثه عقله "اهدأ مجد إذن فماذا ستفعل عند إتمام زواجها؟!" انزعج من وصوله بتفكيره إلى ذلك الحد، وقرر إلهاء نفسه في أي شئ حتي لا يصاب بالجنون!...استمع لفتاتين مرتا من جانبه كانتا و

تتحدثان عن هيئة العروس الغريبة!


_شوفتي رقبتها يا سلمى؟


ضحكت الأخيرة بتشفي نسائي، ثم ردت بسخرية :


_الظاهر غاصبينها علي العريس، دي مش رقبتها بس ولا وشها يا نهار أبيض؛ دي لولا الميك آب كانت هتبقي ولا اللي خارجه من التخشيبة!


لم يستسيغ ذلك الحديث الدائر بينهما ووجه أنظاره لشريكته في الطاولة سائلًا إياها بإمتعاض :


_هي ليه دايمًا البنات منافقين؟!...من شوية البنتين دول كانوا بيباركوا لها علي الخطوبة وبيضحكوا في وشها، ودلوقتي بيذموا في شكل وشها!


ضيقت "ميرا" عينيها بتعجب مصطنع، وسألته بجهل زائف :


_ماله وشها؟


طالعها بحاجببن مرفوعين، وسألها بإستنكار :


_مش أنتي صاحبتها؟!...إزاي مش ملاحظه الميك آب الأوڤر، ولا الشال اللي علي رقبتها؟!


قهقهت عاليًا حينما تذكرت أحداث أمس، فلقد قاربت علي الظفر بحياتها لولا دخول اثنتين من الخدم استطاعتا تحريرها من بين يديها، ولكنها تركت بعض الخدوش، والجروح علي وجهها ورقبتها لم تستطع مساحيق التجميل إخفائها بالكامل... شعر "مجد" بالتعجب من ضحكها، وعدم إجابتها لسؤاله فآثر الصمت، وعاد بأنظاره مرة أخرى في اتجاه الحفل.


علي الجانب الآخر لم تستطع عينيه مفارقة تفاصيلها طوال الحفل، فلقد سيطر عليه السأم من حضوره المشرف في حفل خطبته، كره توزيع الإبتسامات الزائفة التي يخص بها خطيبته وضيوف الحفل، نظر للماثلة بجانبه بحزن فلطالمًا تمني وأنتظر ذلك اليوم، ولكن برفقة حبيبته التي اختارها قلبه من بين نساء العالم!...لم تفارقها أنظاره طوال الحفل سوي ثوانِ متفرقة، هدوئها، واحتوائها لجسدها الصغير بذراعيها كطفلة صغيرة تخشي برد الشتاء، وأخيرًا جلوسها وتسامرها مع شريكه وضحكها وابتسامتها له!... فبالرغم من تلك الإبتسامة البلهاء التي ظهرت على وجهه بدون مقدمات حينما رأها تضحك إلا أنه شعر بنيران الغيرة تنهش قلبه لأنها تضحك لغيره، وحرمته من إبتسامتها وضحكتها منذ عيد مولدها!!... انتشله من الغرق في عينيها صوت رجل الدي جي يدعو المرتبطين لمشاركة العروسين رقصة جماعية، فأمسك بيد خطيبته واتجه بها لساحة الرقص، موجهًا أنظاره نحو نقطة ثابته حتي لا تخونه عيناه بالنظر إليها!...بينما علي الجانب الآخر جذبت "ميرا" كف "مجد" بين كفيها وسحبته إلي مسرح الرقص في حركه جريئة منها اندهش لها الأخير...طوقت رقبته بذراعيها بجرأة أكبر، بينما هو اقترب من أذنها بفمه وسألها بضيق مكتوم :


_أنتِ إزاي تعملي كده؟!


نظرت لعينيه مباشرة واعتذرت مبررة فعلتها الطائشة :


_أنا آسفه بس فيه واحده حابه تشوفني مكسورة النهارده، وأنا مش عاوزه أحقق لها أمنيتها.


بادلها النظرات المباشرة حتي يتفهم الى ما ترمي بحديثها، وفي داخله لم يعجبه كونه وسيلة لأهوائها!...استمر في التحرك بها دون أن يشعر بسهام الغيرة المسمومة الموجهة إليهما، والتي لو كانت حقيقية لإسقطتهما محلهما في الحال...لم تكن "ميرنا" مغفلة لتلك الدرجة، حتي لا تلحظ تواصل خطيبها البصري بإبنة عمه طوال الحفل؛ هذا الأمر مما أزعجها كثيرًا، وحط من كبرياؤها أمام الضيوف؛ همست في أذنه بنعومة مصطنعة حتي ينتبه لها :


_عارفة إنك بتتعذب بسببها بس ركز معايا يا حبيبي الناس بتبص علينا.


طالعها بأسي، وشعر تجاه نفسه بالحقارة، فخطيبته لا تستحق منه الخيانة ولو حتي بمجرد نظرات، ابتسمت له "ميرنا" بحب، ثم قبلته برقه أسفل ذقنه لتتعالى صافرات الإعجاب والدهشة من الجمهور، واتكأت برأسها علي صدره حتي تخفي حرجها المصطنع، ناظرةً لغريمتها بخبث فبادلتها الأخيرة النظر بقرف وامتعاض. 



❈-❈-❈



جلست "روان" قبالة "مالك" علي أحد الطاولات تتابع العرض بلمعة سعيدة ملأت عينيها فهي لم تنعم بمثل هذا الحفل ولن تنعم أبدًا!...أخذت تفكر "هل أخطأت بكونها لم تطالب بحفل خطبة أو زفاف كغيرها من الفتيات؟!...أم هذا هو الصواب؟! " فلطالمًا كانت تخشي التجمعات الإجتماعية...لا تحبها بل وتمقتها، لا يعجبها أن يتجمع الناس ليدققوا في ثمن ثياب بعضهم البعض بل والترقب لإفعال وتصرفات الحضور...نظرات الناس لها ترعبها تذكرها بتلك الأيام التي كانت ترتدي فيها الثياب الممزقة، والتي اهترأت بسبب كثرة الإستخدام، كانت نظرات الناس في تلك السنوات تجردها من ثيابها القديمة، تُشعرها بالدونية بجانبهم... تتذكر ذلك اليوم الذي سألتها صديقتها "عن كونها ترتدي نفس الثياب ألا تملك سوى تلك القطع المعدودة؟! "...شعرت بالحرج من الإجابة وخاصة أنها تجلس في تجمع طلابي لأحد الدروس فأضطرت للكذب!..نعم كانت تكذب وهي طفلة لم يتجاوز عمرها الحادية عشر، كانت تبغض نفسها في كل مره تضطر فيها للكذب حتى تُشعرهم بكونها تماثلهم؛ مما جعلها تنفرد بحالها تمامًا عن كل زملائها وأصدقائها؛ فبقيت منفردة حتي لا تشعر بالدونية أو تضطر للكذب...لقد أصابت حينما لم تطلب أي مظهر للإحتفال فبالتأكيد لن يحضره أحد سوى أقاربها لقد اتخذت القرار الصحيح تمامًا، وتستطيع أن تعوض فرحتها بأي شيء آخر!...فكل ما حصلت عليه الآن لم تكن أبدًا لتحلم به "فهو كثيرٌ عليها! "..لم تستمع لـ "مالك" الذي ناداها أكثر من مرة، فكانت تطرق بأظافرها علي سطح الطاولة منشغلة بالنظر لمظاهر الحفل أو هذا هو الظاهر فقط، حرك كفه أمام عينيها فرمشت بأهدابها عدة مرات، وابتسمت له وكأنها لم تكن منذ ثوانِ تقاسي وتتجرع مرارة النقص الذي عانت بضع سنوات!


_هو ليه مجد مش متجوز لدلوقتي؟!


سألها "مالك" بنبرة مرتفعة قليلًا؛ حتي تسمع له بسبب أصوات الموسيقي العالية بعدما لاحظ أن الأول يرقص مع صديقته، ثم حرك كرسيه بجانبها حتي يصبح قريبًا منها...بينما هي حركت كتفيها لأعلي ولأسفل، وأجابته بهدوء :


_لأنه ملقاش بنت الحلال أكيد بلس إنه مشغول ومعندوش وقت.


أومأ لها بتفهم وعاد يطالع أجواء الحفل فأنتبه لجملتها المدهوشة :


_تعرف إن دي أول مره أشوفه بيرقص مع واحده!


طالعها بإستغراب، ثم سألها بإهتمام حقيقي :


_أنتو تعرفوا بعض من زمان؟!


_سبع سنين.


_تعرفي أنتِ إن صداقتكم دي بتعجبني أوي!


قالها بسخرية لم تستشعرها هي، فنظرت إليه بفخر وأردفت بحماس شديد :


_أيوه إحنا متفاهمين كتير، وكمان مجد محترم أوي وجدع أي حد يقرب منها يحبه!


قالتها بعفوية شديدة بينما الآخر انفجرت الحمم السائلة في دماؤه من الغيرة، فغير الموضوع حتي لا يتصرف معها بهمجية يندم عليها لاحقًا!


اقترب منه "مصطفي" بعدما حيا "روان" وهمس في أذنه ببعض الكلمات المقتضبة التي كان يظهر أثرها على وجهه فتبدلت معالم "مالك" مئة وثمانين درجة غير مستوعب أبدًا الخبر وتمتم بحزن :


_لا حول ولا قوة إلا بالله!


توسعت أعين "روان" من حالته وسألته بقلق :


_خير يا مالك؟!...إيه اللي حصل؟


وجه أنظاره إليها، وأردف بملامح حزينه :


_جد مازن وميرا توفي في انجلترا!


تبدلت ملامحها هي الأخري لملامح حزينة، وشعرت بذلك الثِقل علي قلبها، لم تعرف المتوفي، ولكنها تخشي الموت كثيرًا ولا تحبه ينتابها الخوف والرهبة حينما تشعر بشبحه يطوف في المكان؛ تخلت عن صمتها وتسألت بإهتمام وقد كسى الحزن ملامحها لأجل ليلة مازن التي لن تكتمل :


_هتعملوا إيه؟


أجابها "مصطفي" بهدوء :


_مالك هيقول لمازن علي جنب وأنا هاخد ميرا بعيد الأول، وبعدين هنعتذر للناس ونبلغهم خبر الوفاة!


وبالفعل لم يمر سوى عدة دقائق، وقد انطفئت الأضواء وتبدلت صوت الأغاني إلي سكون الليل، كما أصبحت الحديقة فارغة سوي من بعض المقربين.



❈-❈-❈



في مقابر العائلة


لم تستطع "ميرا" تقبل حقيقة موته بالرغم من مرور الكثير من الساعات والكثير من الأدلة التي تؤكد موته بالفعل...كانت ترتدي ملابسها السوداء وتتوسط بعض الفتيات والنساء، لم تستطع زرف دمعه واحده من عينيها غير مستوعبه موته إلي الآن...لم يكن يعتريها سوى الهدوء المريب وتتبلدها مشاعر الخواء فقط، دمعت عينيها بقوة حينما أخرجه الناس من النعش مُكفن في ثوبه الأخير يحيط به الشيوخ من كل مكان ييرددون له بالأدعية....لا تصدق أن ذلك الذي ينهال عليه التراب هو جدها "أحقًا لن تراه بعد الآن؟!"...لقد ظنت أنها بغضته بعد موقفه الأخير معها، ولكن هذا لم يحدث، فلقد كانت تشتاق إليه تلك الليالي الماضية....أجهشت في بكاءٍ مرير ووضعت يديها أعلى فمها شاعرة بالألم يجتاح جسدها والبرودة التي غزت أطرافها...شعرت "روان" بمدى الألم الذي تعانيه الأخرى، فهي أكثر مَنْ تدري بمعني فقدان عزيز؛ اتجهت إليها لا تدري بما تخبرها أو كيف تهدأها فمدت يديها على مضض تمسح أعلي كتفها وظهرها بوداعه حتى تهدأتها بمشاركة "صفية" التي كانت تحتضنها....بعد إنتهاء مراسم الدفن اتجه إليها "مازن" حتي يهدأها، وقد لمعت عينيه بالدموع التي تأبى الهطول؛ احتوى رأسها بين ذراعيه ضاممًا إياه لصدره :


_اهدي يا حبيبتي، هو في مكان أحسن من هنا...ربنا رحمه من الألم.


لم تجبه وإنما أنتحبت بصمت، فأمسك بكفها واتجه بها نحو سيارتهم حتي يوصلها للبيت، ثم وجه حديثه لـ "ميرنا" التي وقفت تتابع المشهد بملامح لا يظهر عليهما أي مشاعر؛ فأومأت له، وقبلته علي إحدى وجنتيه تحت أنظار الجميع ومن ضمنهم "روان" التي طالعتهم بسخط مستهجنة تلك الأفعال المنافية تمامًا للأخلاق والزمان!



❈-❈-❈


في اخر أيام العزاء


بداخل غرفة المكتب، سردت "صفية" حكايتها علي "مازن" بأكملها متممة إياها بأنها قد تزوجت عقب سفرها مباشرةً؛ تملكه شعوران متغايران من الغضب والشفقة تجاه تلك السيدة...الغضب حيال ما اقترفته في حق ابنة عمه، والشفقة تجاهها "فلم يكن لها أي ذنب حتي تتحمل ذنبٌ لا يخصها"...فكلًا من ابنة عمه و"صفية" قد تجرعا ويلات من الظلم علي يد جده.... الآن تفهم سبب تلك الحالة التي لازمتها منذ سفر جده، ولكنه لا يفهم لمَ تخبره؟!...لمَ أبعدته عن حياتها بتلك الطريقة؟!...الكثير والكثير من الأسئلة التي دارت برأسه في ثوانِ معدودة؛ مما جعله يتسائل بهمس يائس : 


_طب ليه ميرا مقالتليش؟!


_مش عارفة يا ابني!...أنا استغربت لأن حالتها كانت صعبه أوي ساعتها.


تنهدت بقوة، ثم أردفت بأسف :


_هي دلوقتي خلاص مش هتقبلني أبدًا، فلو سمحت خليك جنبها مبقاش لها غيرك أنت ومصطفى، ومتنساش تقولها تسامحنا!


استمع لطرقات هادئة نوعًا ما علي باب المكتب، أذن للطارق بالدخول فكانت مدبرة منزله :


_مازن يا ابني فيه واحد اسمه مجدي طالب يقابل ميرا علشان يعزيها.


رمش بأهدابه عدة مرات شاعرًا بالدهشة من ذلك الأسم الغريب فلم يستمع إليه مسبقًا، ثم سألها بإهتمام :


_قصدك مجد؟!


_آه هو.


_طب يا دادة أنا هخرج أقابله.


استندت "صفية" برأسها علي كف يدها، وسألته بفضول :


_مين مجد ده، ويعرف ميرا منين؟


وقف في مكانه إستعدادًا للمغادرة، وأخبرها بعجله :


_ده يبقي مدير ميرا في الشغل وكمان شريكي...عزاني قبل كده بس ميرا كانت نايمه فجاي لها تاني.


اومأت له بتفهم فخرج من المكتب مسرعًا حتي يلاقي ضيفه، صافحه "مجد" بحرارة وأخبره بحرج :


_أنا آسف إني جيت بدون معاد، بس حسيتها قلة ذوق لو معزتهاش بنفسي!


ابتسم له إبتسامة صغيره مصطنعه، ثم ربت علي فخذه بحماس حاول أن يداري به غيرته :


_فيك الخير، ثوانِ هبعت حد يناديها.


بعد مرور عدة دقائق مضت في الثرثرة بينهما في أحاديث واهيه، حضرت "ميرا" ترتسم علي وجهها ابتسامة باهته حينما رأته، ومدت كفها تسلم عليه تحت نظرات "مازن" الغامضة والتي لاحظتها سريعًا، فلم تدري بنفسها سوي وهي تسحب الآخر من يده وتتجه به نحو ركن الغرفة للجلوس ولم يكن لديها أي هدف سوي رؤية الشياطين المتراقصة في أعين ابن عمها!  



❈-❈-❈



بمحازاة كورنيش النيل ببلدة "روان" كان يسير كلًا من "يحي" و "رنا" يتناولان البطاطا المشوية والمناسبة لبرودة الطقس، لاحظ "يحي" شرود الأخيرة طوال الطريق بعكس ثرثرتها المعتادة معه؛ وقف أمامها مباشرة كحائط سد ليمنع سيرها؛ مما جعلها ترفع أنظارها إليه بملامح متعجبه :


_مالك يا رنا؟!... بقالك فترة مش تمام معايا، وحتى النهارده شكلك مش كويس خالص.


مطت شفتيها للأمام و تنهدت ثم أخبرته بلامبالاة :


_مفيش يا يحي.


_أنا مش لسه عارفك امبارح علشان تقولي مفيش، اخلصي وقولي إيه اللي مضايقك؟!


رفعت أناملها إلى رأسها مدعية إنشغالها بإدخال شعرها أسفل الطرحة، حتى تأخذ وقتها لتفكر أتخبره بما يدور معها أم لا...راقبت نظراته المتفحصة لها فلم تجد بدٌ من إخباره فسألته بتردد :


_هي شقتنا هتكون جاهزة امتى؟


لم يرف له جفن بعدمًا استمع لسؤالها، ثم أخبرها بتعجب :


_ما أنتي عارفه إني متفق مع خالي علي سنه ونص.


اومأت له برأسها متفهمه، ولكنها طالعته بعدم رضا؛ مما جعله يستطرد حديثه بسؤال متوجس :


_هي أمك كلمتك في موضوع جوازنا؟


هزت رأسها من جديد، وأجابته علي مضض :


_بصراحه يا يحي هي ضاغطه عليا أوي وعوزاك تستعجل.


انزعج من حديثها الغير متعقل، وضرب كفيه ببعضهما البعض؛ هادرًا بنبرة مرتفعه قليلًا :


_استعجل اعمل إيه يعني؟!...ما أنتي شايفه اهو إني بحاول، وحتى كنت بدور على شغلانه تانيه!


صمتا كلاهما بضع ثوانِ رأت "رنا" عجزه وقلة حيلته، فلم ترد أن تضغط عليه أكثر من ذلك، وكان هو أول من أردف بتحذير :


_بصي يا رنا بلاش ترمي ودانك لأمك في أي حاجة، أنا خوفت تضيعي من إيدي ودخلت البيت من بابه وعرفتك وعرفت خالي ظروفي، فبلاش تضغطوا عليا وتعجزوني دلوقتي!


طالعته بعدم تصديق، وردت بإعتراض :


_بس دي ماما وعاوزة مصلحتي، إزاي مسمعش كلامها؟!


_أنا مقولتش متسمعيش كلامها، لكن بقول تحكمي عقلك في كل حاجه مش تسمعي وخلاص!


أكملت أكل البطاطا في صمت دون أن تعقب، وأخذت تنظر له بين الحين والآخرى بتردد" أتخبره بما سمعته من والدتها حينما كانت تُحدّث شقيقة مالك بشأن روان؟!...أم تصمت وكأنها لا تعلم؟!"...استمرت علي صمتها وهي تطالع المياة الجارية أمامها، وقررت ألا تخبره بما تخطط إليه والدتها بشراكة أهل العريس "فبتأكيد لن يصيب ابنة عمتها أي أذى فقط ستُفسخ الخطبة فقط!!..المهم ألا تتفوق عليها "روان" في الزواج كما تفوقت عليها في كافة النواحي كما كانت تخبرها والدتها دومًا! "



❈-❈-❈



في صباح اليوم التالي



جلس "مازن" يحتسي فنجان قهوته بملامح متجهمه...كان يطالع ساعة يديه بين الحين والآخري متلهفًا لنزولها كشخصٍ يسير على جمرات متقده ويتلهف إلى نهاية الطريق...هبطت "ميرا" درجات السلم الداخلي، وقد تأنقت كعادتها التي تناستها الفترة الماضية، ولكن رغم تأنقها استطاع المخدر أن يترك علامته على صفحة وجهها، فخلّف شحوب لبشرتها بالإضافة لتلك الهالات التي أتخذت من جفناها ملجأً لها....ناداها "مازن" بنبرة غلب عليها الإقتضاب والجدية :


_ميرا!


اتجهت إليه بملامح متجهمه، ثم كتفت ذراعيها أسفل صدرها وردت بنبرة جافة، فلم تستطع أن تخفي ضيقها منه :


_نعم!


لم يُعني لهجتها المتذمرة أدنى إهتمام، ولكن طالعها بحاجبين مقتضبين وهو مسلط كامل أنظاره عليها :


_ليه مقولتليش عن موضوع طنط صفيه؟!


بلعت غصه مسننه علقت في حلقها حينما ذكرها بذلك الموضوع الذي أرق ليلها طوال الفترة الماضية...ذكّرها؟!..."وهل قد نسيت من الأساس؟!"...لم يرف لها جفن، وسألته بسخرية :


_ليه هو أنت كمان مكنتش متفق معاهم؟!


مرة أخرى لم يلتفت لسخريتها، وإنما أعاد سؤاله عليه بقلبٍ ينفطر من كثرة الآلام منها وعليها :


_ليه مقولتليش؟!



استشفت من نبرته براءته من ذلك الذنب تجاهها؛ فأبعدت خضراوتيها الباهتتين عنه وأردفت بيأس متسائل :


_كان هيفرق؟


_أنا فين من حياتك يا ميرا؟


تعجبت من سؤاله؛ فسألته بإستنكار :


_أنت اللي فين من حياتي، ولا أنا اللي فين من حياتك؟!


صمتت قليلًا ثم تابعت حديثها، وقد بدأت نبرة صوتها في الإرتفاع :


_أنا اللي سافرت وأنا وعداك إني هرجع تاني يوم؟!...ولا أنا اللي سافرت ومفكرتش اتصل أشوف عامله إيه خصوصًا إنك عرفت إن جدك سافر وإن ماما مش مهتمه بيا؟...وأنت عارف ومتأكد إن مفيش حد بيسأل عني غيرك!



نظرات الألم المنبثقة من عينيها، مزقت قلبه لـ أشلاء...كان يريد إحتضانها في تلك اللحظة، ولكنه شعر وكأن يديه مسلسله بأغلال فولاذيه صلبة؛ وهم بالحديث فسبقته هي مكملةً بعتاب :


_أنا اللي رجعت من السفر ومسألتكش عامل إيه؟!...كفاية يا مازن الله يخليك، أنا لا قادرة ألوم ولا أعاتب!


_طب قوليلي مالك؟


ابتسمت إبتسامة صغيره لم تصل لعينها وأجابته بحزن على حالها :


_ مبقاش ينفع خلاص...باي!


تركته متصنمًا في محله واتجهت ناحية الباب...سارت بضع خطوات؛ ثم ألتفتت إليه قائلة بتشفي :


_نسيت أقولك إن مش ميرنا اللي تغيظني بيها!



❈-❈-❈


خرجت "روان" من إحدى العيادات النفسية الشهيرة بمدينة نصر ، وابتسامة سعيدة متوترة تزين ثغرها...فقد قصت محاولة إغتصابها للإستشارية بالإضافة لمحاولة التحرش بها، وتوابعها النفسية عليها ليومين ومخاوفها الشخصية من تأثير ذلك على علاقتها الزوجية...أخذت الطبيبة تسألها بعض الأسئلة عن عمرها وعملها، وكم من الوقت مر علي تلك الحادثتين...كانت الطبيبة تأخذ إجاباتها وتدون بعض الملاحظات أمامها، ولكنها في نهاية الجلسة طمأنتها بأنها بخير تمامًا، ولكن هي منْ أصابت نفسها بهاجس الخوف من العلاقات فقط ليس أكثر سيزول عند زواجها....ارتدت "روان" نظارتها الشمسية، واتجهت نحو سيارتها ثم ابتسمت بسخرية فبالطبع إن رأها أحدٌ من أهل بلدتها تخرج من عيادة نفسية بالتأكيد سيرميها بالجنون، ولن يتوانى باقي أهالي البلدة في إرسالها للعباسية!...أمسكت بهاتفها المحمول، وضغطت بعض الإزرار لإرسال رسالة نصية قصيرة محتواها "قابلني بالليل في ستاربكس عندي ليك مفاجأة"...لقد قررت أن تخبره بموافقتها لعقد القرآن كما كان يريد، أرادت إخباره في ذلك الوقت حتى تخرجه من قوقعة حزنه على جد أصدقائه....لم تكن موافقتها بالأمر السهل أبدًا فبغض النظر عن هواجسها، هي لم تكن بتلك الغباء كي لا تلاحظ إختلاف شخصية "مالك" عنها!!...نعم هي ترى و تلاحظ بالفعل فلقد أكسبتها سنوات العمل خبرة كبيرة في معرفة وفهم الناس فسبع سنوات ليست بالفترة الهيّنة، ولكنها أكدت لنفسها بأنها بعض الطباع فقط به التي لا تناسبها به، وهو قد سهل عليها الأمر في كل المرات بالنقاش المتعقل معها حول ما يضايقها تجاهه وقد حاول بالفعل لأجل أرضائها....إذن يكفيها كونهما متفقان أو على الأقل يحاولان تقريب وجهات النظر بكل إحترام وهدوء بالإضافة لأنه يحبها وهي معجبة به إذن فماذا ستريد غير ذلك؟!...ستتغاضى النظر عن أهله فهي لن تتزوج بهم بل ستتزوجه هو، وستحاول جاهدة معه حتى تبيت تلك الزيجة مكللة بالنجاح!!



❈-❈-❈



انكب "مجد" علي أريكة مكتبه يطالع الحاسوب المحمول أمامه بتركيز شديد، ولم يدري بهولاء الثلاثة الواقفين خلفه بملامح متهلله سعيده لرؤيته...اقتربت منه بهدوء تسير على أطراف أصابعها ثم جلست على طرف الأريكة فشهق متفاجئًا حينما لمح بطرف عينه من يجلس بجانبه بينما هي استقبلته بإبتسامتها المثيرة :


_وحشتني يا مجز!!


يُتبع