الفصل الثالث والعشرون- أشواك وحرير
الفصل الثالث والعشرون
جلس "يحيى" في حجرة الإستقبال أمام والدته بعد أن قدمت له كوبًا من الشاي، لم يستطع أن يخفي فضوله عن حالة "رنا" معه في الفترة الأخيرة؛ يخشى أن يكون هذا تأثير والدتها كما سبق! فسأل "سهير" بإهتمام :
_متعرفيش يا ماما رنا عاوزه إيه؟
حركت كتفيها لأعلى ولأسفل بعدم معرفته، وأخبرته بجهل :
_مش عارفه يا ابني زمانها جايه وهتتكلموا.
صمتت قليلًا ثم سألته بقلق :
_إلا قولي يا يحيى أبوك عامل معاك إيه؟
رشف بعض القطرات من الشاي، ثم أخبرها بلامبالاة :
_عادي يا ماما هو هيتغير؟!...بس الأيام دي بيقول إنه تعبان، مش عارف بجد ولا إيه!
مصمصت شفتيها بتهكم، ولكنها لم تجد أي داعي للشماتة؛ فتراجعت وأخبرته بقلة حيلة :
_يلا يا ابني ربنا يهديه ويحل عنك!
أمن على دعائها، فلاحظ دخول "رنا"...هب واقفًا من مكانه لكي يسلم عليها؛ فخرجت والدته بهدوء حتى تترك لهما مساحة كافية للحديث وتركت باب الحجرة مفتوح حتى لا يكونان في خلوه محرمه....ابتدأ "يحيى" الحديث فسألها بإهتمام :
_سماء عامله إيه؟
أجابته بإقتضاب :
_الدكتور قال إنها اتعرضت لصدمة نفسية وهتحتاج علاج نفسي كتير الفترة الجاية.
تشنجت قسماته بتأثر، فدعا الله لها بالشفاء العاجل، ثم انحنى في اتجاهها فكانت تجلس في مقابلته، وأسترسل بقلق :
_طب إيه الموضوع اللي عوزانا نتكلم فيه؟
بدت وكأنها تفكر في كيفية صياغتها للموضوع، فشبكت كفيها بتوتر وسألته بتردد :
_أنت مبسوط في شغلانتك دي؟
تجعد حاجبيه تلقائيًا من سؤالها ولم يستوعب إلى ما ترمي؛ فرد بعفوية :
_أيوه مرتاح بتسألي ليه؟
احتوت أسنانها شفتها السفلية؛ ففهم أنها متوترة تستعد لقول لشيئًا ما لكن لا تدري كيف؛ لذا قرر أن يسهل مهمتها :
_لو عاوزه تقولي حاجه قولي على طول.
تملكتها الشجاعة عقب حديثه المحفز؛ فأخبرته مباشرةً :
_الوظيفة دي مش هتعيشنا يا يحى!
اومأ لها بتفهم، ورد مؤكدًا لحديثها :
_عارف وعلشان كده كلمت واحد صاحبي هيشغلني بالليل نادل في مطعم كبير في المنصورة.
نفخت أوداجها، وسألته بإنفعال مكتوم :
_وأنت ليه متكلمش أختك تشوف لك وظيفه في أي شركة بدل خدامة الناس دي؟!
_خدامة الناس!!
ردد جملتها بدهشة، ثم سألها بإستنكار :
_أنتِ شيفاني خدام؟!
أصابها سؤاله بالتوتر، وعلمت من نظراته أنها أخطأت وجرحته، ولكن أقنعت نفسها بأنها تسير في الطريق الصحيح حتى تجعله يُحّسن من حالته المادية والإجتماعية؛ فهبت واقفه بالقرب من الباب وأعطته ظهرها حتى تتحاشى النظر إليه، ثم أخبرته بتردد :
_مش أنا اللي شايفه يا يحيى!...الناس هم اللي شايفين!
استقام واقفًا واقترب منها حتى وقف في مواجهتها، وتسائل بجمود :
_أنا هتجوزك أنتِ ولا هتجوز الناس؟!
صمت قليلًا يتابع صمتها، واستطرد بعتاب :
_هعيش معاكِ أنتِ ولا مع الناس يا رنا؟!...ما تردي!
حاول أن يكون هادئًا حتى لا يفقد أعصابه، ولكن خرجت كلمته الأخيرة بنبرة غاضبة جعلت الإرتباك يزداد بداخلها، فردت بثبات زائف للدفاع عن نفسها :
_أنا اللي هعيش معاك، بس ولادنا ذنبهم إيه يتعايروا؟!
فهم أنها تحت تأثير والدتها، وخشي أن يفقد أعصابه فقرر أن يهدأ بقدر الإمكان حتى لا يتفوه بحماقة يندم عليها لاحقًا...مسح وجهه بإحدى كفيه محاولًا الهدوء وسألها بنبرة هادئة مسالمة :
_إيه اللي أنتِ عوزاه بالظبط يا رنا؟
نظرت لعينيه مباشرةً ، وكتفت ذراعيها أسفل صدرها :
_لو قولتلك تسيب الشغل؟
لم يقطع التواصل البصري بينهما، وسأل بتشكك :
_ولو قولت لأ!
كانت فرصتها الأخيرة لتتشبث بفكرتها حتى تثنيه عن رأيه؛ لذا قررت الضغط عليه أكثر بآخر كارت تمتلكه، ثم أردفت بتحدي وبرود وهي مازلت بنفس وضعيتها :
_يبقى آسفه! مش هقبل أبدًا إن أصحابي يعايروني ولا ولادي يتعايروا بأبوهم زي ما أنت وأخواتك كنتوا بتتعايروا!
حديثها شطر قلبه لنصفين؛ لم يكن يتوقع أنها ستصل بحديثها لمعايرته هو وأخوته، لقد ذكّرته بالماضي الذي يطارده إلى الآن ويأبى فراقه كلما حاول نسيانه...لقد جُرحت كرامته، بالطبع كان يعلم أنها تفوقه علميًا وإجتماعيًا لكنه أحبها، ولكن كبرياؤه كان أكبر من عشقه لها...راقبته بترقب محاولة سبر أغواره، هي متأكدة إنه لن يردها خائبة، ولكن أتسعت عينيها حينما وجدته ينتزع دبلته ويضعها في كف يدها...تدلى فكها من مفاجأته؛ فأبتسم لها بإصتناع حمل الكثير من الألم :
_وأنا ميرضنيش إن أنتِ وولادك تتعايروا بيا زي ما أنا وأخواتي اتعايرنا!
شدد على كلمته الأخيرة، وخرج مسرعًا من المنزل كأعصار حل على إحدى المدن الساحلية فأصابها بالكثير من الخراب، بينما هي فبقيت ساكنه في مكانها تتطالع الدبلة في يدها بصمتٍ شديد دون أن تشعر بتلك الدمعة الخائنة التى تسللت ببطئ من جفنيها!
❈-❈-❈
ربط حزام الأمان في الطائرة واستلقى بظهره أكثر في مقعده، ثم أغمض عينيه بإرهاق يتذكر أحداث اليومين الماضيين....خطى معًا نحو بهو الإستقبال، فأستقبلتهما طبيبة شابة بشوشة الوجة تدعى "غادة ياسر" وبعد بضعة دقائق قضوها في الأسئلة والدردشة حول حالة "ميرا"...أخبرتهما الأولى أنها لن تُطيل فترة إقامتها معهم لأنها تعتبر في البداية وليست حالة مستعصية، بالإضافة أنها ستحتاج للدعم الأسري ووجود أصدقائها سيشكل حافزٍ نفسي كبير لها لأجل العلاج، ولكن الفترة الأولى من العلاج سيُمنع عنها الزيارات...ابتسمت لها "ميرا" بإصطناع وأخبرتها أنها لن يزورها سوى "مجد" فقط، فلم تمانع "غادة" واصطحبتهما إلى غرفة "ميرا" التي ستقيم بها، كانت غرفة متوسطة الحجم جدرانها بيضاء ذات ستائر ورديه، تطل على حديقة كساها اللون الأخضر...همت الدكتورة بالمغادرة فأوقفها سؤال "ميرا" الذي أتضح به الخوف و القلق :
_هو أنا مش هعرف أمسك حاجات بإيدي، أو ممكن يحصل لي تبول لا إرادي؟
ابتسمت "غادة" وردت بعمليه :
_الحالات اللي بتقولي عليها دي بيكون الإدمان تمكن منها والمخدر بيكون دمر الأعصاب، أنتِ مش هتوصلي للدرجة دي!
اومأت لها ببطئ، ثم ألتفتت لـ "مجد" الذي كان يتابع حديثهما في صمت تام ، وسألها بهدوء :
_أنا لازم أمشي دلوقتي محتاجه حاجه؟
نفت برأسها، ثم رددت برجاء :
_مش عاوزة حد يعرف إني هنا.
أومأ بتفهم، وهم بالرحيل فسارعت بإمساك ساعده، وسألته بأمل :
_هتيجي تزورني صح؟
لاحظ تجمع الدموع أعلى حدقتيها؛ فربت على كفها بدعم :
_إن شاء الله هاجي لك متقلقيش.
فتح عينيه بخضه حينما شعر بتلك اليد التي أمسكت كفه، فطالعها بعتاب :
_حرام عليكِ يا يارا خضتيني.
عرفت أنه يفكر في شيئًا ما، فأرادت أن تشغل تفكيره عنه، ثم لوت شفتيها بإمتعاض وأردفت بتهكم :
_بقى أقولك عاوزين نغير جو تقوم مسفرنا الصين! طب ما تودينا السنغال أحسن!
حاول أن يداري بسمته، وردد بجدية وضيق مصطنع لكي يثير حنقها :
_والله أنا رايح شغل أنتِ اللي لزقتي فيا زي العلقة أنا أعملك إيه؟
لكزته في ذراعه بغيظ، وطالعته بسخرية :
_تلاقيك شاقط مزه من هناك علشان كده كل شويه ملهوف على السفر!
قهقه بعدم تصديق، ووضع كلتا يديه أعلى وجهه، ثم حدثها بنفاذ صبر :
_يا بنتي الصين ناشفه والله.
بادلته الضحك هى الأخرى، وأخبرته بدلال طفولي :
_بعد ما نخلص عاوزين نسافر فرنسا نزور مريم.
_هو أنا السواق بتاع أبوكم؟!...ما تروحي لوحدك.
رمقته بضيق ممزوج بالقرف :
_أنا غلطانه إني سبت شغلي وجيت معاك، نام اتخمد.
لم يبادلها الشجار كعادته، فقد كان يكتفي بتناول طعامهم جميعًا إن حاولوا تعكير مزاجه ولا يترك لهم شئ ليأكلوه حتى يزدادوا عصبية وفي النهاية يضحك عليهم لـ يثير حنقهم أكثر، المهم أنه لا يرفع صوته...أبتسم لها بإستفزاز حتى يزيد من حنقها فلا يوجد لديها هنا ما يأكله، ثم تصنع قراءة كتابه دون أن يأبه لوجودها، وابتسامة لامبالاة تزين وجهه.
❈-❈-❈
في إحدى منتجعات الساحل الشمالي
استقامت "روان" لتزيل أطباق الطعام شبه الفارغة بعد وجبة العشاء، فأستوقفها نداء "مالك" :
_خلصي وتعالي على الاوضة فوق يا روان، عاوزك في حاجة.
اومأت له برأسها، واتجهت إلى المطبخ مسرعة حتى تنتهي من مهمتها وتلحق به، وبعد مرور عدة دقائق دلفت إلى حجرة نومهما بخطوات سريعة فوجدته يجلس على الأريكة في انتظارها، وارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة بمجرد أن رائها، أقتربت للجلوس بجانبه؛ فسارع لإخلاء مساحة لها وخبط بكفه على الأريكة قائلًا بحماس :
_تعالي هنا جنبي!
_قعدت اهو، خير يا سيدي؟
قالتها بنبرة مرحه، واتكأت برأسها على قبضة يديها تطالعه بتركيز؛ فأخرج بعض الحقائب البلاستيكية من ورائه وأمرها بفتحها، فعلت مثلمًا أخبرها، ولمعت عينيها بفرحة لأنه أحضر لها الهدايا...كانت مجموعة من أغطية الرأس ذات الطابع العصري الحديث؛ فأخبرته بإمتنان :
_شكرًا جدًا يا مالك، بس ليه كلفت نفسك أنا عندي كتير للصلاة!
تناول كفها بين كفيه، وطبع عليه قبلة هادئة، ثم أخبرها بعتاب :
_أنا جوزك وأنتِ ملزمة مني، فمتقوليش كده تاني! وثانيًا يا حبيبتي أنا جبتهم مش علشان الصلاة!..أنا جبتهم علشان قررت إنك تلبسي الحجاب!!
رمشت بأهدابها عدة مرات حتى تستوعب حديثه، فردت ولم تفارقها البسمة :
_أيوة بس أنا مش مستعدة ليه دلوقتي، على الأقل استنى شويه!
أعاد خصلاتها الشاردة خلف أذنها، ورد مبررًا هو الآخر بتأني :
_ليه مش مستعدة؟!..أنتِ بتصلي وبتحفظي قرآن ولبسك محتشم يبقى ليه عاوزة تستني؟
تحركت مقلتيها في كل الإتجاهات تفكر فيما ستقوله له بشأن قناعتها وتفكيرها الحالي...احتوت شفتها السفلية بين أسنانها، وأردفت صراحةً بما يجيش في صدرها :
_مش حاسة إني هقدر ألتزم بيه في الفترة الحالية، يعني المفروض ألبس أوسع من كده وشعري كله يدخل جوه علشان ضوابط الحجاب الصحيحة، ده غير إني خايفه أضعف وأقلعه وأنا مش عاوزه كده!
سأم من قناعاتها الوهية؛ مما جعله يردد بملل ونفاذ صبر :
_يا روان أنا مش حابب حد يشوف شعرك غيري!..من حقي تكوني ليا لوحدي، ألبسيه دلوقتي وكل اللي قولتي عليه ده نشوفه بعدين!
ضيقت عينيها بذهول من حديثه فهي لم تفهم ما يرمي إليه بقوله "من حقي تبقي ليا لوحدي!" فأرتفع صوتها تلقائيًا وسألته بهجوم :
_وهو أنا كده لكل الناس ولا إيه؟!..قصدك إني بلبس علشان أقول للرجالة اتفرجوا عليا؟!
وقفت في مكانها بعصبية، فتمكن حديثها من إثارة حنقه؛ واستقام في مواجهتها هو الآخر، ثم أمسك كتفيها قائلًا بدعم وضيق مكتوم :
_يا حبيبي أنا واثق فيكي أنتِ لكن مش واثق في الناس...افهميني!
طالعته بتردد، وبدأ عقلها في تحليل كلامه "هل هو على صواب؟!...لكن تشعر أنها ليست مرتاحه! "...أجلت صوتها قائلة برجاء :
_طب استنى عليا شويه!
تملكت منه العصبية، فصاح في وجهها بإنفعال تراه عليه للمرة الثانية :
_أنتِ مفيش مره تسمعي الكلام من سكات؟!...لازم تحطي التاتش بتاعك على كل حاجة!...أنتِ اللي تطلبي وطلباتك تتنفذ لكن أنا مش من حقي أطلب حاجة تنفذيها؟!
أتسعت عينيها بدهشة، لم تتوقع أبدًا أن تراه بتلك الحالة! لا تستطيع أن تنكر أنه أخافها ذكّرها بشجار أبيها مع والدتها في السابق...تقسم أنها رأت ملامح والدها وليس زوجها!...هتفت بشجاعة زائفة :
_من حقي أناقشك في أي قرار أنا مراتك مش عيلة صغيرة!
_مراتي!... دلوقتي افتكرتِ إنك مراتي؟!
رددها بإستهزاء، ورمقها بغضب...فتدلى فكها لأسفل، وشعرت بأن الدموع تدفع إلى مقلتيها، ولكنها قررت الصمود حتى لا تُريه ضعفها...لم يؤثر به تخبطها الواضح أمامه وتابع بقسوة يعلم أنه سيجرحها ولكن لا يمتلك خيارًا آخر :
_في دينك اللي بتدعي إنك تعرفيه من حقي ألبسك الحجاب، ومن حقي كمان أقعدك من الشغل...بس واضح إن أهلك لا علموكِ حاجة في الدين ولا الدنيا!
ألقى قذيفته في وجهها وخرج صافعًا الباب خلفه بقوة خلّفت تشققات في جدارن قلبها...تابعت إنصرافه بحزن، وخارت قواها فسالت دموعها بحرقة ألهبت وجنتيها!
❈-❈-❈
بعد مرور بعض الوقت قضته في الإنتحاب بصمت حتى لا يعلو صوتها...أمسكت بهاتفها المحمول وضغطت زر التشغيل بعدما أطفأته لثلاث أيام، كانت في حاجة ماسة للحديث مع شخصٍ ما لذا اختارت عدة أزرار وتناولت أنفاسها حتى تهدأ من أنفعالاتها، وأستمعت للطرف الآخر :
_عامله إيه يا حبيبتي؟..وحشتيني.
ابتسمت "روان" بهدوء، وردت بلطف :
_الحمدلله، وحشتيني أكتر يا ماما.
قهقهت والدتها بصخب، ثم أخبرتها بمكر :
_يا بت وحشتك برضه!..ما هو من لقى أحبابه بقى!
فضحكت "روان" حتى لا تثير ريبة والدتها، ولكنها صمتت عندما أسترسلت والدتها الحديث :
_جوزك عامل إيه معاكِ؟...اوعي يكون بيزعلك!
ابتسمت بمرارة، ونفت ادعاء والدتها، ثم سألتها بتردد :
_ماما...مالك عاوزني ألبس الحجاب.
سمعت تهليل والدتها وسعادتها عبر سماعة الهاتف مرحبة بالفكرة، فأعترضت روان بخفه :
_بس أنا مش مستعدة!
أجابتها "سهير" بحزم لين :
_حافظي على جوازك يا روان وبلاش مشاكل! اسمعي كلام جوزك مادام هو كويس معاكِ!
هزت رأسها بموافقة وكأنها تراها، وانهمرت دموعها بقلة حيلة، فأكملت والدتها بحنان أمومي :
_ربنا يهدي سرك يا بنتي ويفرح قلبك.
أمنت "روان" على دعائها، فهّمت الأم بإغلاق الخط، ولكنها سارعت كمن تذكرت للتو :
_ابقي كلمي يحيى لأنه محتاج يتكلم معاكِ.
تمتمت موافقة، فأغلقت "سهير" ولكنها ندمت عندما تسرعت وأخبرتها، فكان يجب عليها التكتم على الأمر قليلًا حتى لا تزعج ابنتها في أيام زواجها الأولى، ولكن حزن ابنها ألح عليها بشدة لأخبارها لعلها تُزيح عنه القليل.
❈-❈-❈
جلس يتناول فنجان قهوته في مكتب ڤيلته ويطالع بعض الأوراق أمامه بعصبية لازمته منذ رحيلها؛ لم يخمن قط بأنه سيخلد للراحة فيستيقظ يجدها رحلت بل وتركت له ورقة لعينه تطلب فيها أن يسامحها وتحذره من خطيبته...بحث عنها كالمجنون فلم يجد لها أثر واختفى "مجد" من بعدها ولكنه سافر عبر المطار أما هي فلا شئ يدل على سفرها خارج البلاد!...لقد اتجه إلى مجموعة "الدويري" فأخبره "كامل" بأن وحيده رحل إلى خارج البلاد، وعندما ادعى "مازن" معرفته بالأمر لأنه سافر مع ابنة عمه بالإضافة لفريقٍ آخر من المهندسين، اندهش "كامل" قائلًا :
_لا مجد سافر مع أخته، المهندسين سافروا الجلالة علشان التدريب!
شعر بالغرابة"فلماذا إذن أخبرته بسفرها مع مجد وهي ليست معه؟! "حاول مهاتفتها، ولكن دون فائدة فالهاتف كان مغلق!...تأكد من وجود إسمها في قائمة التدريب، ولكن استمر القلق يراوده طوال اليومين الماضيين، أخذ قراره بالذهاب إليها عقب إستقبال وفد الشركة الأجنبية...طرقت الخادمة الباب بهدوء فأذن لها بالدخول :
_مازن بيه!...فيه واحد بره اسمه دكتور سامح عاوز يقابلك.
أصابه الإندهاش، ولكن سرعان ما هز رأسه حتى تسمح له بالدخول...ثوانِ ودخل "سامح" طبيب في الثانية والثلاثين من عمره، وسيم، خمري البشرة، طويل، يرتدي نظارة عصرية، صافحه "مازن" بحرارة فقد استمرت زمالتهما لأثنتي عشرة سنة، ودعاه
للجلوس :
_احكي لي بقى!
قالها "سامح" براحة بعدما اضطجع على كرسي المكتب، تجعد حاجبي "مازن" تلقائيًا وشعر بالدهشة؛ فسأله بعدم فهم :
_احكي إيه؟...مش فاهم!
اقترب منه "سامح" برأسه، وشبك أصابعه :
_احكي ليه خدت مخدرات؟!
_إيه؟
قالها "مازن" بذهول، فأردف "سامح" بهدوء يعاكس الأجواء المتشاحنة في الغرفة :
_اليوم اللي جيت كشفت عليك فيه، أنا عارف إنك كنت واخد مخدرات!..بس متكلمتش قدام خطيبتك، وصاحبك!
هب "مازن" واقفًا، ورفع يده في وجه الآخر، ثم سأل بإستنكار وأعين جاحظة :
_أنت بتخرف تقول إيه؟!
ظل الأخير في مكانه، وأردف بثبات :
_اهدي يا مازن، واسمعني.
_اسمع إيه؟!...جاي تقولي إني بتعاطى مخدرات وتقولي اسمعني!
أجابه بعملية بحته ليبرر حدثه الطبي :
_واحد بيرجع وعنده اسهال، ودايخ دوخه خفيفه وأنت ما شاء الله زي الطور اهو هتكون دايخ من الأنيميا مثلًا؟!
قال جملته الأخيرة بسخريه فرمقه "مازن" بشزر؛ جعله يبتلع لعابه ويكمل حديثه العملي :
_كنت مسترخي، وهادئ ورايق صح؟
هدأت قسمات "مازن" المتشنجة، فهذه الأعراض التي كان يعاني منها حقًا!...صمت لبعض الوقت ثم سأله بشك :
_وليه مقولتليش يومها أو طلبت نعمل تحاليل؟!
رفع الأخر يديه بقلة حيلة، وردد بجدية :
_كنت فاكر إن أنت اللي أخدته بس واضح من كلامك إني كنت غلطان!...الدادة بتاعتك قالت إنها عملت الفطار وخطيبتك وبنت عمك فطروا معاك منه ومحصلش لهم حاجه، وأنت أكدت لي إنك مأكلتش حاجه تانيه، وأنا متأكد إن دي مخدرات يبقى أنت أخدته!
أثارت الجملة الأخيرة حنق "مازن" فهّم بلكم فمه، ولكن الآخر تفادها ببراعة وضحك بهدوء، ثم سأله بإهتمام :
_طب أنت متأكد إنك مأكلتش حاجه تانيه بعد الفطار؟
أمسك برأسه فقد أصابه الصداع بسبب التفكير الزائد والعصبية، وأجابه بضعف :
_مخدتش حاجه تاني والله!
_اهدي وفكر بعقل لأن دي مصيبه، اللي حطلك البودرة دي كان عاوز يقتلك بس صحتك ساعدتك ويمكن يحطلك تاني علشان تموت أو تدمنه!
نفى تلك الفكرة برأسه بألحاح فمن المستحيل أن يكون تناول أحد المخدرات...لا يوجد بالمنزل من يريد له الضرر، بالإضافة لتناول "ميرنا" و"ميرا" من نفس طعامه، لابد أن ذلك الطبيب صدم رأسه!... أخيرًا تخلى عن صمته، وهمس بهدوء :
_أنا مقدر يا سامح إنك خايف عليا، بس أنا عارف أنا أكلت إيه كويس وصدقني مفيش حد هنا ممكن يضرني، ده غير إن البنات فطروا معايا!
لم يستطع "سامح" أن يجادل معه أكثر من ذلك فسلم أمام إصرار الآخر فهو أدرى بنفسه وبأهل بيته، لكنه ندم على عدم إجراء التحليل له حتى يتأكد، ولكنه فعل كل ما في إستطاعته، وحذره من القادم...سلم على" مازن" إستعدادًا للرحيل؛ فرافقه إلى باب الڤيلا الداخلي وأغلق باب المنزل خلفه، و الشك يزداد بداخله حول إحتمالية تناوله المخدرات فعلًا!..لم يكن "سامح" فاشل أبدًا حتى يخطئ التشخيص! ولكن ما أرهق تفكيره إن كان ذلك تأثير المخدر " فمَنْ وضعه له في الطعام؟!"... بالتأكيد لن تضره "سعاد" فهي من تولت رعايته منذ موت والديه! بالإضافة أنها غير مستفيده من ضرره، و "ميرنا" كاد القلق أن يقضي عليها حينما رأت حالته...لا يوجد سوى صاحبة رسالة الإعتذار فهي من طلبت السماح!!
❈-❈-❈
خرجت من باب الشالية، فوجدته يقف مقابل البحر الهواء يداعب شعره وثيابه...فبدا وكأنه شاردًا في إضطراب البحر أمامه، اقتربت منه بخطى ثابتة، تتطاير ملابسها بقسوة بفعل الرياح؛ احتوت كتفيها بذراعيها حتى تمد نفسها بالدفء، ووقفت بجانبه تطالع البحر هى الأخرى، ثم تكلمت بدون سابق إنذار :
_مكنتش أتخيل إني لما احكيلك عني وعن حياتي مع أهلي تعايرني!
ألتفت إليها مباشرةً بملامح قاسية متجهمه، ولكنه استمر على صمته، وأشاح وجهه في اتجاه البحر مره أخرى؛ فتابعت هي بسلام نفسي يلازمها دائمًا :
_عارفه إني معنديش خبره لا في جواز ولا علاقات ولا حتى صداقة!
تناولت نفسًا عميقًا زفرته بقوة حتى تستطيع المتابعة :
_عيشت عشر سنين لوحدي، زمايلي كانوا بيخافوا يقربوا مني بسبب هدوئي...مكنش فيه غير "مجد" وهو اللي كان دايمًا بياخد الخطوة الأولى أنا لأ!
رماها بسهام غضبه وغيرته؛ فجعلت عينيه تتسع بصدمة من حركتها المباغتة!..لفت ذراعيها حول جزعه واحتضنته بقوة...لم تدري من أين أتتها هذه الجراءة، ولكن كل ما اكتشفته في تلك اللحظة أنها تحتاج للأحتواء وبشدة!...بينما هو تسمر مكانه بدون حركة ذاهلًا من تصرفها، واستمع لنحيبها فقد كانت تبكي بحرقه وتشهق بعنف :
_أنا كنت عاوزه ألبس الحجاب علشان ربنا...بس...بس خلاص موافقه ألبسه!
ربت على رأسها بحنان، وتألم قلبه من رؤياها بتلك الحالة، فتملكه الغضب حيال نفسه بسبب قسوته معها ولكنه لم يفعل سوى حقه!..مسح على ظهرها بحركات رتيبة :
_اهدي...اهدي!
دفعته بذراعيها بقوة حتى كاد أن يسقط للخلف، وأخبرته بهجوم :
_أنا مقبلش أعيش معاك بالحالة دي!...مش كل شوية هتتخانق معايا وتتقمص كمان!...انا عاوزة أعيش زي الناس المحترمة!!
أبتسم لها بحب، واومأ لها برأسه، ثم سارع بضمها مره أخرى حتى يهدأ من روعها...هدأ نحيبها؛ فرفع وجهها بأنامله، كانت مستكينة ملامحها هادئة، تحالف الهواء البارد مع انهيارها لأجل جعلها سيدة جميل خرجت من لوحة فنية رائعة، فكانت وجنتاها يشع منهما اللون الأحمر، وشفتاها ورديتان انتفختا من آثار البكاء؛ فلم يدري بنفسه سوى وهو ينتهك عذرية شفاهها بلطف ورقة!!
يتبع