-->

الفصل الثاني والعشرون - اشواك وحرير

 





الفصل الثاني والعشرون



"الزن على الودان أمر من السحر!"


                                            "مثل شعبي"



 دلفت بخطوات رتيبة إلى حجرة المكتب، كانت تحمل بعض المستندات الخاصة بالعمل، أقتربت منه بملامح حاولت ألا تظهر عليها التوتر أو القلق :


_أنت كويس؟


طالعها بإستغراب، ثم همس مبتسمًا :


_كويس يا بنتي هيكون مالي يعني؟!


لم تجب عن سؤاله، فقط وضعت الأوراق التي بيديها أعلى المكتب، وهمت بالجلوس أمامه لمراجعة الورق...ألتفتا كليهما لنبرة "مالك" الذي دلف مباشرةً دون أن يطرق الباب :


_صباح الخير.


_سبينا لوحدنا يا ميرنا، وأنا هراجع مع مالك.


قالها "مازن" مسرعًا عقب رؤيته لصديقه...خرجت الأخيرة على مضض بعدما طالعت "مالك" بلامبالاة :


_أنت إيه اللي جابك؟!


تسائل "مازن" بإستغراب؛ فرفع "مالك" إحدى حاجبيه وأجابه بسؤالٍ آخر :


_وإيه مش هيجيبني؟!


أراح "مازن" ظهره للخلف على كرسيه، و رد بتسليه ومزاجٌ رائق :


_لا أبدًا بس اللي يسيب عروسته بعد الفرح بيوم وييجي يبقى خيبتها!...متخافش قولي بس عملت إيه؟..ده أنا صاحبك و أستر عليك!


_نعم؟!


قالها "مالك" بإستنكار؛ فقهقه "مازن" عاليًا وأنحنى بإتجاهه، ثم أسند رأسه على قبضة يديه متطلعًا إليه في تسليه : 


_إيه يا مَلوكي!.. فين الرومانسية؟!..إزاي متخدش البنت الغلبانة وتسافروا لكم يومين؟!


أجابه "مالك" بتذمر، بعد أن قذف في وجهه إحدى المستندات :


_أولًا تبطل الإسم المقرف اللي بتناديني بيه ده، ثانيًا ورانا شغل أهم من السفر دلوقتي!


صمت "مالك" قليلًا، ثم كرر بإمتعاض اسم الدلع الذي يناديه به صديقه :


_مَلوكي!...بقى يارب الدلع ميجنيش غير من الطحش ده؟!


تعالت ضحكات "مازن" بصخب، ثم شّبك يديه ببعضهما، و أراد مشاكسة صديقه :


_ عاوز تتدلع وأنت عريس وبتقول الشغل أهم؟!...يا بجاحتك والله!


هم "مالك" بلكمه فأشاح "مازن" بوجهه وتابع حديثه وكأن شيئًا لم يكن :


_قربها منك، مراتك باين عليها خجوله ومش من السهل تتعود، بس حظها وقع مع واحد زيك!


لم يرد "مالك" تلك المرة، وإنما تنهد بعمق، ثم أعاد رأسه للخلف، فسأله صديقه :


_لو فيه حاجه مضيقاك احكيلي يمكن أساعدك!


طالعه "مالك" بتردد، وأجابه بهدوء :


_حاسس إنها مبتحبنيش!...هاديه أوي.


استعاد "مازن" ملامحه الجدية، واتكأ بذراعيه أعلى المكتب، ثم أردف بحكمة :


_اصبر عليها يا مالك، أنت كنت متجوز قبل كده، وهي شكلها خام معندهاش أي خبره...أهدى عليها شوية وهي هتفك معاك، وبعدين هو أنا اللي هعلمك يا راجل!...ده أنت نسوانجي قديم!


أجلى "مالك" ضحكاته العالية، وأردف بدهشة :


_لما أنا نسوانجي أنت تبقى إيه؟!


شمخ "مازن" بأنفه بتصنع، بينما سأم الآخر من أفعال صديقه الصبيانية فأسترسل بنفاذ صبر :


_شكلك فايق ورايق!...ارحمني يا ابني وخلينا في الشغل.


اختفت علامات المرح من وجه "مازن" بعدما تذكر حديث ابنة عمه في الصباح بشأن سفرها؛ فلوى شفتيه بتهكم :


_لا فايق ولا نيلة يا أخويا، ميرا عاوزة تسافر مع مجد بره مصر، بتقول شغل!


رفع "مالك" أنظاره عن الورق، وطالع صديقه بإستفهام :


_طب وإيه المشكلة؟!...ما تسيبها تشوف شغلها.


_بصراحة أنا مش مطمن لعلاقتها بمجد ده، حاسس إنها مخبيه عني حاجة وإن علاقتهم مش مجرد شغل وبس!


_حتى لو بتحبه وأنت مالك؟..مش خطبت؟!...خلاص سيبها تشوف حالها!


حمل حديث "مالك" الكثير من التعقل والبرود الذي تصنعه بمهارة لكي يثير حنق الآخر الذي أجابه ببؤس :


_لسه بحبها!...غصب عني، مش قادر!...حاسس إني بخون ميرا مش العكس، وده محسسني بالذنب أوي.


لا يستطيع أن ينكر سعادته بإنشغال "مجد" عن زوجته!...مما زاد الإصرار بداخله بكونه شابٌ عابث عديم الأخلاق!...ولكنه تألم لرؤية صديقه يعاني طوال تلك السنوات؛ مما جعله يسأل بحذر :


_تحب أكلم ميرا؟!


_لا طبعًا.


كانت إجابته قاطعه للحد الذي جعل "مالك" يتراجع عن تلك الفكرة حتى لا يجرح صديقه، صمت "مازن" بضع ثوانِ ثم أردف بجفاف :


_قوم يالا من هنا نكدت عليا ربنا ياخدك!



❈-❈-❈



وضعت "روان" الإطار بمكانه مره أخرى، وقد فهمت بأنه يخص زوجته الراحلة "حبيبة"...لم تستطع إنكار شعور الغيرة الذي خدش جدار قلبها من الداخل، فقد كانت تفوقها جمالًا وأنوثة... بدا لها في الصورة عاشقين؛ مما جعلها تتذكر حديث والدته بأنه كان مُتيمٌ بها، ولم ولن تستطع أي أنثى الإستحواذ على قلبه مثلها!...استغفرت ربها "فهل ستغار من فتاة 

أنتقلت لجوار ربها لا حول لها ولا قوة! " ترحمت عليها، و نفضت تلك الأفكار عن رأسها لكن ما اشغل عقلها "لمَ دس صورتها في ثيابه بداخل الخزينة؟!...هل تسأله عن هذا الأمر؟...أم إنه لا يحق لها؟! "...الكثير والكثير من الأسئلة التي دارت بعقلها؛ فأتجهت نحو غرفة الأبناء فرحًا بتنفذ وصيته بالإضافة أيضًا لرغبتها في التعرف عليهما أكثر...طرقت الباب بهدوء ثم دلفت للداخل :


_صباح الخير.


قالتها بإبتسامة عذبه ارتسمت على وجهها؛ فبادلها الولدان :


_عندكم مذاكرة إيه النهاردة؟


سألت "روان" بإهتمام، فأجابها "كريم" بلهفة فاجأتها فقد كانت أول مره يبادر فيها بالكلام :


_إحنا في إجازة مش بنذاكر.


ابتسمت له بتفهم، ثم أخبرتهما مقترحه :


_أنا في إجازة برضه، إيه رأيكم لو نلعب كمان؟!


لم يتفهم الطفلان ما هو "الكمان" فبدا وكأنهما من عالمٍ آخر!...تفهمت صغر سنهما، وقامت بإخراج هاتفها المحمول لتريهما ما هو؛ فتوسعت عينيهما بإنبهار عقب رؤيتها تعزف بإحتراف....اتفقا على الذهاب معها لمنزلها حتى يحضروا الآلة، وأثناء خروجهم من الغرفة لمحت "روان" بعض اللوحات المعلقة على الحائط، فألتفتت إليها وسألتهما بإهتمام :


_مين اللي راسم اللوح دي؟


_كريم يا مس هو شاطر في الرسم.


أحنى الأخير رأسه في خجل وتوتر عقب جملة شقيقه المتحمسة؛ فأنحنت بجزعها لتصل لطوله وسألته مستفسره :


_أنت اللي رسمتهم؟


هز رأسه "بنعم" فأردفت بإنبهار :


_prefect!


ثم رفع عينيه إليها بحذر، وسألها بأعين متسعة تحمل آثار الدهشة :


_بجد حلوين؟!


اومأت له بتأكيد، وقد فهمت بأنه يعاني من قلة الثقة بنفسه مثلها، فأرادت أن تقدم له الدعم :


_تحفه!...أنت رسمك جميل، بجد لو كملت كده ودخلت هندسة هتبقى عظمه.


ابتسم لها بعدم تصديق، ثم سألها بمكر جعلها تكتشف جانبه المرح الذي يخفيه :


_مش حضرتك قولتي إنك مش بتتكلمي إنجلش؟...إزاي دلوقتي قولتي perfect ؟!


ابتسمت بتوسع بعدما فهمت مراقبته لها، و ردت مبرره :


_أنا قولتلك كلمني عربي مقولتش مش بعرف انجلش، وده لسبب إننا عرب بنحفظ قرآن بالعربي... دي لغتنا فلازم نتكلم مع بعض بيها.


صمتت قليلًا ثم سألته بجهل مصطنع :


_عمرك شوفت واحد من فرنسا بيتكلم عربي؟! 


نفى برأسه، فأسترسلت حديثها مرة أخرى :


_يبقى خلاص نتعلم لغات عادي بس بينا وبين بعض نتكلم عربي...وبعدين بلاش مس وحضرتك دي اتفقنا؟!


_اتفقنا.


أمسك الصغيرين بيديها، واتجهوا معًا لخارج الغرفة إستعدادًا للذهاب لمنزل "روان"...اتجهت الأخيرة إلى "هالة" التي كانت تحتسي قهوتها بعنجهيه وكأنها سفيرة لإحدى الدول :


_أنا هخرج يا طنط وهاخد الولاد معايا.


لم ترفع "هالة" عينيها عن الفنجان، وسألتها بجمود :


_على فين؟


_هجيب حاجات من البيت عندي ونرجع بسرعة.


ردت بنبرة جافة مقتضبة خالية من المشاعر :


_الولاد عندهم دروس بعد الظهر، روحي لوحدك.


_بس مفيش النها.....


قاطعته قائلة بصرامة :


_ولد!...اسمع الكلام وخد أخوك واطلعوا على فوق.


احمرت وجنتي "روان" من الحرج الذي تعرضت له أمام الطفلين وإحدى مدبرات المنزل، تمسك بها "زين"...فهبطت على ركبتيها وأردفت بهدوء :


_اسمعوا الكلام، وأنا لما ارجع هشتري ليكم حاجات حلوه كتير...أوك؟


اومأ لها بالموافقة، وصعدا السلم مسرعين؛ فطالعت "هالة" بعتاب التي أشاحت وجهها عنها بكبرياء وقرف....خرجت "روان" إلى حديقة الڤيلا متجهه نحو سيارتها، شعرت بحرارة تضرب وجنتيها فأحمر وجهها وتكومت الدموع أعلى حدقتيها؛ فتنفست مسرعة وحاولت تهدئة نفسها ببعض الكلمات الهامسة "اهدي يا روان مفيهاش حاجه!...أنتِ بس اللي بقيتي حساسه الفترة دي بزيادة! "



❈-❈-❈



ارتسم على وجهه القلق حينما وجدها تقترب منه بملامح متجهمه وكأنها استيقظت للتو من فراشها حتى أنها لم تغسل وجهها!...استقبلها على باب المقهى سائلًا إياها بقلق :


_خير يا رنا؟!...فيه حاجه؟...أنتو كويسين؟ وأمي كويسة؟


اومأت له برأسها بهدوء، وأخبرته بنبرة لم تحمل في طياتها سوى الجدية :


_عاوزة اتكلم معاك شوية!


تلفت حوله فوجد الجميع يحدق بهما، كان حضور فتاة في ذلك المقهى أمرًا غريبًا؛ فهو لم يكن مخصص سوى للراجل!...سحبها من ساعدها واتجه إلى أحد الأركان حتى لا يجعلها لقمة سائغة في أفواه المارة، ثم أستفسر قائلًا :


_الموضوع ده ميستناش لبليل أكون خلصت شغل؟!


أجابته بهجوم :


_لا ميستناش، وبعدين شغل إيه ده هو أنت يعني كان وراك الوزارة؟!


"لأول مرة يشعر بتفوقها عليه علميًا واجتماعيًا، ولكم جرحه هذا الشعور! " أبتلع هانتها بدون أن يعقب فكانت هذه المرة الأولى التي تهينه بهذا الشكل؛ ظنها في حالة مزاجية سيئة بسبب أحاديث والدتها التي لا تنتهي لذلك لم يعلق!...هم بسؤالها عن سبب زيارتها؛ فقاطعه والدها الذي حضر بشكل مفاجئ، وضع "محمود" يده على كتف ابنته ثم سألها بقلق :


_خير يا رنا إيه اللي جابك هنا؟!


حاولت إخفاء إنزعاجها بسبب حضور والدها في ذلك التوقيت، وردت عليه بوجوم :


_عاوزه اتكلم مع يحي شويه.


ربت على ظهرها بحنان لطالمًا عهدته منه، ثم أردف بتعقل :


_ده مش مكان كلام يا رنا، وكمان يحي عنده شغل بلاش تعطليه.


مطت شفتيها للأمام بضيق :


_بس يا بابا....


فقاطعها والدها قائلًا بصرامة أجفلتها :


_مفيش بس يا رنا، ويلا روحي حضري نفسك عشان هناخد سماء للدكتور. 


في هذه الأثناء طلب أحد الزبائن "يحي" لكي يبدل له حجر الشيشة، فأمره خاله بالذهاب على وعد بالحضور إليهم في المساء...تابعت "رنا" ذهابه إلى الرجل فجلس على ركبتيه أمامه حتى ينفذ له ما يريد؛ كم أهانها هذا المشهد وحط من كبرياؤها بل وزادها تعاسة فوق تعاستها، وأصبح حديث والدتها يحاصرها من كل جانب بل ويطرق على رأسها بقوة أصابتها بصداعٍ لعين!...همت بالرجوع إلى منزلها وأقسمت بداخلها أنها لن تسمح له أبدًا بالإستمرار في تلك الوظيفة إن كان يريد الإستمرار معها "فيستحيل أن تتزوج بخادم!" 



❈-❈-❈



في منتصف اليوم 


طرق "مالك" بعنف على باب ڤيلا المحمدي، وقد كان يتصبب العرق منه بالرغم من برودة الجو قلقًا على صديقه الذي لأول مره يراه بهذه الحالة، بعد مرور ثوانِ مرت عليه كطول الدهر فتحت "سعاد" الباب والذعر يظهر على وجهها؛ فهمت بتوبيخه ولكنها أبتلعت لسانها بعدما رأته يسند "مازن" الذي بدا وكأنه فاقدًا للوعي؛ فهتفت برعب :


_ماله مازن يا مالك؟


أجابها بصوتٍ واهن، ظهر به الخوف جليًا من إحتمال خسارته لصديقه :


_مش عارف، كنا بنراجع الشغل وبنضحك فاجأة لقيته داخ ووشه بيعرق كده مش عارف ماله!


صاحت في وجهه بغضب وكأنها ربة المنزل وليست مجرد عاملة لديهم :


_ولما هو تعبان جايبه هنا ليه؟!..ليه مخدتوش مستشفى جايبه يموت هنا؟!


كاد "مالك" أن ينفجر في وجهها عندما ذكرت "الموت" فضحك "مازن" بوهن، وأردف بصعوبة : 


_أموت إيه يا ولية فال الله ولا فالك!...الموضوع بسيط أنا دايخ بس وعاوز أرجع، بطني وجعاني.


_شوفت أدي آخرة العك اللي بتأكله من بره مع السحلية بتاعتك!


ضحك "مالك" عاليًا على حديثها بالرغم من خوفه وحنقه الشديد منها، ولكنه صمت محرجًا دون أن يعقب عندما ألتفت له "مازن" بغضب :


_والله يا سعاد ما كلت غير أكلك بتاع الصبح منك لله!


طالعته بإستنكار وملامح ممتعضه، فتركهما "مالك" واتجه للشرفة حتى يستعجل الطبيب...حضرت "ميرنا" مسرعه إلى الغرفة، ظهرت عليها علامات القلق والتوتر، وهمت بالجلوس بجانبه على الفراش حتى تقبله؛ فأوقفتها "سعاد" بنبرتها الصارمة :


_متقربيش من السرير إحنا لسه مطهرين الفرش!


كتم "مازن" ضحكه بصعوبه، بينما طالعتها "ميرنا" بشزر ولم تعلق فقد كان خوفها في تلك اللحظة يفوق أي شئ آخر!...بعد مرور بعض الوقت حضر الطبيب الذي أخبرهم بأنه آكل شيئًا ما مسمم، ولكن لا داعي لعمل أي تحاليل فالأمر بسيط بالإضافة لأنه تقيأ ما في بطنه بالكامل فلا داعي للقلق...أعطاه بعض الأدوية للتخلص من الشعور بالقيئ والآلام البطن، كما أوصاه بالنوم لبعض الوقت حتى يستفيق...هم "مالك" بالرحيل، كما أمر "ميرنا" بالذهاب هي الأخرى ففاجأته بأنها تنوي البقاء بجانب خطيبها حتى تتحسن حالته وشعورًا بالذنب يسيطر عليها؛ فلم تكن تريد أبدًا أن تؤذيه هو!...حمدت الله أنه بصحة جيدة؛ فلم يؤثر عليه كثيرًا!...فاجأتها "سعاد" بردها الصارم على أمر مبيتها، وكأن المنزل ملكٌ لأبيها :


_تقعدي فين يا حبيبتي؟!...ده شاب عازب، أنا اللي هقعد جنبه ست عجوزه وسناني وقعت، روحي أنتِ شوفي بابي ومامي تلاقيكِ مشوفتيهمش من أسبوعين تلاته!


رمقتها "ميرنا" بقرف، تعلم أن تلك السيدة تبغضها بشدة، وبدون أي سبب واضح!...نفضت تلك الأفكار عن رأسها فلا يهمها مشاعر الخدم نحوها، ولكن عليها أن تذهب حتى لا تثير غضب "مالك" فهي تعلم تأثيره على الآخر وبالتالي لا تريد العناد معه في الوقت الحالي؛ تشعر بأن نهايتها مع "مازن" أقتربت، بالرغم من معاملته لها بإحترام إلا أنها تلمس جفافه معاها من حينٍ لآخر، وعليها أن تطيل هذه العلاقة لأطول وقت ممكن لربما أحبها!



❈-❈-❈



ارتدت نظارة كبيرة سوداء حتى تخفي ملامح وجهها، حجابها يغطي أجزاء من وجهها حتى لا يتعرف عليها الأخرين؛ وكأنها هاربة من شئٍ ما وليس مجرد جرحٍ في الأنف!...اقتربت من إحدى بائعات الخضار، فوجدت من يهمس في أذنها من الخلف :


_وحشتيني!


انتفضت في مكانها حينما علمت بهوية صاحب الصوت؛ فتركت ما بيدها واتجهت أمامه إلى إحدى الأزقة الهادئة من المارة...ألتفتت حولها يمينًا ويسارًا حتى تتأكد أنهما بمفردهما :


_أنت اتجننت لدرجة تراقبني وتيجي ورايا لغاية السوق؟!...افرض حد من النسوان دول شافوك وقالوا لمـ....


قاطعها قائلًا بحنق :


_محمود محمود...إيه؟! افصلي...ما أنتِ لو بتردي علي رسايلي مش هاجي وراكِ لغاية هنا.


توترت أنظارها، وسألته بنبرة مرتبكة بغضتها فلا تدري لمَ حضوره يشتتها، ويُشعرها بأنها مراهقه تلتقي بحبيبها خلف أسوار المدرسة؛ خوفًا من رؤية الناس لهم :


_أنت عاوز إيه يا هيثم؟


أقترب منها بخطوات بطيئة، رفع نظارتها الشمسية بهدوء وتعمد ملامسة وجهها بأناملة، ثم أجابها بنبرة هادئة بعثرت ما تبقى من كيانها خاصة مع صوته العميق وإتصاله البصري بعينيها :


_قولتلك عاوزك!


سارت قشعريرة بطول عمودها الفقري، استشعرها هو بسهولة، فنظراتها تفضحها بأنها تريده هي الأخرى ولكنها تخشى الإعتراف متشبثه بأخلاقها الواهية!...رفعت أنظارها إليه فأصطدمت بنظراته الثاقبة، وردت بعناد واهي :


_قولتلك مينفعش أنا ست متجوزه!


دفعته بذراعيها للخلف؛ خوفًا من الفضيحة، فأبتسم هو ابتسامة صغيرة لم تصل لعينه، وأردف بإستخفاف :


_وهو فين جوزك؟!...مش ده اللي طردك ومسألش عنك ولا عن الجرح اللي في وشك؟


قالها بإستهزاء لم تستثيغه، ولمس أنفها بأبهامه، فأرتدت للوراء...طالعته بغضب صامت، وهمت بالذهاب من أمامه فحال بينها وبين وجهتها قائلًا بإصرار وعند :


_مش هتمشي غير لما أخدك لدكتور أطمن عليكِ!...عربيتي هناك.


أشار نحو سيارته؛ فلحقت يده أنظارها...كانت سيارة دفع رباعي سوداء موديل العام، فلم ترى مثلها في البلد من قبل؛ فغرت شفتيها في إعجاب، جعله يطرق على الحديد وهو ساخن قبل أن تتفوه بأي شئ :


_أعرف دكتور شاطر أوي للتجميل، وهو كمان صاحبي تعالي نروح وبالمرة تجربي العربية!


صمتت ثوانِ وكأنها تفكر، ظهر عليها التردد والحيرة بحق؛ فلم يدعها تفكر وسحبها من ذراعها في إتجاه السيارة...ألتفتت إليه قائلة بصرامة :


_اللي أنت بتعمله ده مينفعش!


أجابها بلا مبالاه :


_وهو أنا عملت إيه؟!.... متقلقيش عمري ما هجبرك على حاجه، هسيبك براحتك لغاية ما تتطلقي وتجيني برجلك عشان نتجوز!


كان يتحدث بثقه لا متناهية؛ فأشاحت وجهها للجهة الأخرى، وابتسمت بخفه...تخشى مما سيحدث الأيام المقبلة، ولكنها قررت أن تترك نفسها للقدر المهم أن تحيا سعيده؛ فقد حُرمت سعادتها منذ زمن طويل، والمهم أنها لا ترتكب أي عيب أو حرام!!



❈-❈-❈



عادت "روان" من الخارج تحمل حقيبة متوسطة الحجم ممتلئة بالكثير من الشيكولاتة والسكاكر الملونة فرح بها الولدين كثيرًا...أخبرتهما بأنها ستعزف لهما كما وعدت؛ فظهرت السعادة على وجهيهما، ذهبوا إلى الحديقة الخلفية بعيدًا عن الأنظار حتى تكون على راحتها في العزف؛ فلم يسبق لها العزف أمام أحدٍ من قبل يكفيها الولدان!...هتف "كريم" بتساؤل :


_هو أنا ينفع أجرب؟


اومأت له برأسها، ولكنها أخبرته بأن يجلسا ويشاهداها أولًا لأنهت تحب ذلك الكمان، وتخشى عليه من التلف!...وضعت مؤخرته على إحدى كتفيها، وأمسكت المقدمة بيديها، وباليد الأخرى العصا الملحقة به....كانت تعزف إحدى المقطوعات الكلاسيكية التي تحبها، مغمضة العينين، تتمايل بجزعها العلوي على أوتار الموسيقى وكأنها انفصلت عن الواقع تمامًا؛ فلم تدري بمن وقف يتابعها من الخلف ونظرات الإعجاب تتراقص في عينيه...كانت موسيقاها حزينه رقيقه مثلها، انتهت من مهمتها لتتفجئ بالثلاثي يصفقون لها بفرح...اندهشت من وجود "مالك" الذي بدا وكأنه يتابعها منذ فترة؛ فأبتسمت له بتوتر جعله يقترب منها :


_هايلة.


اتسعت إبتسامتها، وسألته بعدم تصديق :


_بجد كان حلو؟!


أجابها متغزلًا ولم يعبأ بوجود أبنائه :


_أنتِ أحلى عندي من بيته‍وڤن!


نكست رأسها بخجل بسبب وجود الولدان بجانبهما؛ تفهم حرجها فأرسل ولديه للداخل، وسألها بإبتسامة :


_نفسي أعرف أنتِ بتتكسفي من إيه؟!


جلست أمامه مكتفه ذراعيها أسفل صدرها، وأخبرته بهدوء :


_كل الحكاية بس إن متعودتش حد يثني عليا، فالموضوع غير مألوف بالنسبالي!


تذكر حديث صديقه بأنها تحتاج لمن يمد لها يده فقط، فجلس بجانبها واحتوى كفها بين كفيه قائلًا بدعم :


_لو كده يا ستي مش هبطل أثني عليكِ أبدًا.


هذه المرة لم تسحب كفها من بين يديه بل شددت من تمسكها به، وقررت أن تتصرف بطبيعتها فقط وتتخلى عن الوجه الآلي الذي ترتديه، ثم أردفت بغزل :


_تعرف إن ضحكتك حلوه!


أجابها مازحًا بغرور وعنجهيه :


_عارف عارف!... علشان كده مش بضحك كتير رأفة بيكم.


أطلقت العنان لضحكاتها، فأرتجت لها جدران قلبه، وضع إحدى خصلاتها الشاردة خلف أذنها، وبقى يداعب شعرها ثم سألها مستفسرًا :


_أول مره أعرف إنك بتعزفي، ليه مقولتليش؟!


_مجتش فرصه بس، أنا بعزف من حوالي خمس سنين كده، ومش دايمًا يعني...حسيت إني لازم أعزف بالليل فروحت النهاردة جبت الكمان وجيت.


أنزل يديه عن رأسها بدون مقدمات...تفاجئت هي من تغيره المباغت، فطالعها بلوم :


_أنا مش قولتلك متخرجيش؟!


رمشت بأهدابها عدة مرات لا تستوعب انقلابه المفاجئ، ثم أجابته بدهشة :


_أنت قولتلي منزلش الشغل، نزلت بس روحت شقتي ورجعت.


هب واقفًا من مكانه تحت نظراتها المتعجبة، وأجاب بما لم تستوعبه :


_النزول للشغل زي النزول لأي شئ تاني...لازم بعد كده تستأذني!


وقفت في مواجهته هي الأخرى، وابتدأت حديثها بالجدال معه :


_إيه طريقة الكلام دي؟ وبعدين هو انا محبوسه هنا؟!


نظر لعينيها مباشرةً، وأردف بصرامة أجفلتها :


_لا مش محبوسة بس مينفعش تخرجي من غير إذني،وبعدين مالها طريقة كلامي يا روان هانم؟!


لاحظ تغير ملامحها مئة وثمانين درجة، ونظرات الإعتراض تنجلي من مقلتيها؛ فأسترسل بلين بما يدور في خلده حتى لا يخسر تقدمه معها في العلاقة :


_افرضي حصلك حاجه؟...لازم أكون مطمن عليكِ أنتِ أمانة عندي يا روان، وأنا مش هقدر أخسرك!


رأت الصدق يتجلى من حدقتيه خاصةً في جملته الأخيرة فلانت ملامحها وعادت لطبيعتها الهادئة :


_ماشي يا مالك اللي يريحك!


بقيا صامتين بدون حديث؛ استشعرت "روان" سخافة الموقف فالأمر لا يستحق الخصام!...ألتفتت إليه :


_أنا استنيتك نأكل مع بعض.


لم يجيب على حديثها وكأنه لم يسمعها من الأساس؛ فنظرت له بأعين متسعة "لمَ كل هذا؟! "...همت بالرحيل من أمامه لتداري حرجها؛ فأمسك بكفها من الخلف وسار معها دون أن ينبت ببنت شفة حدثه عقله "بأنه محق لم يخطئ معها في شئ!...هي فقط لا تتفهم أنه يخاف من أن تتعرض لمكروه فتفارقه هي الأخرى!..بالإضافة لأن من حقه منعها بدون أي مبررات!" بينما اعترض قلبه "لأنه قد قسى عليها في أسلوبه فكان من الممكن أن يطلب منها برفق! "...تأفف عقله من تلك التفاهات التي يختلقها قلبه!...فحاول "مالك" أن يُصمت تلك المعركة الدائرة بداخله دون أي فائدة!



❈-❈-❈



عادت "ريهام" إلي منزلها بعد أن أوصلها "هيثم" ابتسمت شاردة فى أحداث اليوم، معاملته لها برقه، حديثه المستمر عن كونه ما زال يحبها ويتلهف شوقًا لرؤياها كما كانوا في الصغر، تذكرت إصراره للذهاب معها إلى طبيب التجميل وتحمله بالكامل لتكاليف الزيارة....عاد "هيثم" بعد سفره لإحدى الدول الأوروبية بما يقارب الواحد وعشرون عامَ، سافر قبل إقترانها بأيام من "محمود" بعدما فضّله أهلها عن الأول بسبب فقره المدقع وتودده لإبنتهم لأجل التسلية فقط؛ فما كان من أبيها سوى أن رفضه وقام بتزويج ابنته سريعًا خوفًا من الفضيحة التي كادت "ريهام" أن تفعلها بهروبها معه!...تسائلت في نفسها "لمَ عاد في هذا الوقت بالتحديد؟!...هل من الممكن أن تعود قصتهما كما كانت؟! "...كان حنونًا معها طوال اليوم على العكس من زوجها الذي لم يسألها متلهفٍ عن حالها في اليومين المنصرمين على العكس من "هيثم" "تُرى كيف ستكون أيامها القادمة؟! "...الكثير والكثير من الأسئلة التي طرحها عقلها بدون توقف؛ فأتجهت لمطبخها حتى تعد الطعام وتشغل رأسها قليلًا عنه... لاحظت استقبال هاتفها لرسالة من تطبيق واتساب "متنسيش تاخدي الدوا في معاده"...كانت الرسالة مقترنة بأحد القلوب الحمراء؛ فأبتسمت بحبور، وشرعت في مهامها المنزلية بسعادة لم تزرها منذ زمن!



على الجانب الآخر 


أنهت "ميرا" صفها الدراسي الأول بإمتحان مادة التصميم المعماري والذي استمر لثمانِ ساعات متواصلة....جمعت أشيائها في حقيبة متوسطة الحجم عازمة النية على تنفيذ خطتها مع "مجد" لأجل العلاج...خطت بأناملها بعض الكلمات "أنا سافرت يا مازن متحاولش تدور عليا، هخلص شغل وارجع بس مش عارفه امتى، ادعيلي كتير، أوعدني متزعلش مني على أي حاجة عدت أتصرفت معاك فيها بغباء وآخر حاجة كان لازم أقولك عليها من بدري علشان أريح ضميري خطيبتك دي مش هي اللي تستاهلك أبدًا ولا ينفع تكمل معاها...أنا آسفه إني هسافر من غير ما أطمن عليك...bye "...دخلت إلى غرفته بهدوء متسلله على أطراف أصابعها حتى لا توقذه، وضعت الورقة بجانب فراشه حتى يراها بسهولة، ثم ألقت التحية على العاملين بمنزلها وودعت"سعاد" لأنها أقدمهم معها :


_ابقي قولي لمازن يسامحني يا داده.


أجابتها الأخرى متعجبه :


_يسامحك على إيه يا بنتي كفالله الشر؟!


شعرت بأنها إن استمرت لدقيقة إضافية ستنهمر الدموع من عينيها...تحشرج صوتها، وابتسمت بألم :


_على أي حاجة!...وادعيلي الله أعلم ممكن مرجعش تاني!


ربتت "سعاد" على ظهرها بحنان، وحاولت إخفاء دموعها فمنذ فترة طويلة لم تفارقها، وأخبرتها داعمه :


_من عنيا، ومتقوليش الكلام ده تاني ربنا يحفظك.


أمنت "ميرا" على دعائها، وسحبت حقيبتها متجهه للخارج...خرجت من الباب الداخلي فوجدت "مجد" ينتظرها بجانب سيارته، أخذ حقيبتها ووضعها في مؤخرة السيارة وانطلقا نحو الطريق الذي أقسمت "ميرا" أنها لن تعود منه حتى يُؤتى بثماره!



يُتبع