-->

الفصل الخامس عشر - كما يحلو لكِ - النسخة العامية



 

 الفصل الخامس عشر

النسخة العامية

 

بعد مرور ما يقارب من شهرٍ ونصف الشهر..

          تفقدت الغرفة التي ينام بها لتجد عدم وجود أي إشارة تدل على استيقاظه ولا حتى حركة وحيدة تُوضح أنه قد تحرك مقدار أُنملة، ينام منذ خمس ساعات، لقد وصلت أخيرًا إلى هذه النتيجة بعد أن ظنت أنها ستفقد عقلها كما فقد هو عقله. لقد أصبح ينام بانتظام كما البشر الطبيعيين.

 

أغلقت الباب بمنتهى الهدوء ثم توجهت إلى الخارج، تسلقت الدرج لأسفل ثم جلست بغرفة المعيشة، اغمضت عينيها وهي تزفر كمن تُزيح ثقلًا من فوق صدرها، لقد حققت حُلمًا كان يبدو مُستحيل، ولقد كلفها الأمر ثمنًا غاليًا لا تدري كيف ستستمر في تكبده إلى أن تهرب بعيدًا عنه!

 

لو يرى أحد ما في رأسها سيشفق على ما يحدث بها، تفاصيل كل الفترة الماضية تتوالى بطريقة مُرعبة على عقلها، لا تُصدق أنها عانت معه فقط في عدة أيام كل هذه المواقف التي لا تدري كيف تحملتها.. كيف استطاعت الصمود؟ كيف تغلبت على كل ما فعله؟ تُقسم بأنها تشعر بأن جهازها العصبي قد دمرته تلك الأيام الماضية، وهي إن لم تجد مفرًا منه قد تستيقظ يومًا وتجد نفسها في عداد الموتى!

 

عادت رأسها لتتذكر بداية ملاحظتها اعراضه التي كلما توالت عبر الأيام بدت غير منطقية، تصرفات لم تظن أنها قد تصدر منه هو خاصةً، لو كانت انتبهت منذ العشاء بالفندق ربما كانت تستطيع أن تتصرف حينها، لن تُنكر أن هناك شعورًا يؤنبها ويصرخ بها، لقد كان يحتاج مساعدتها وليس غضبها وبُكائها ورفضها الدائم له ووصفه بالجنون!

 

ربما تصرفاته كانت شنيعة معها، ولكنها لن تنسى أبدًا كيف جعلها تشعر، منذ أن أرغمها على تناول الخمر وقيدها بالفندق وابتاع تلك السيارة التي كلما لمحتها تُذكرها بأنها كادت أن تكون قبر لها وليست مجرد سيارة جديدة، وتُذكرها بأقسى جرعة من الإهانة والانتهاك قد شعرت بهما في حياتها ووقتها معه!

 ❈-❈-❈


منذ شهر ونصف الشهر..

-        عمر، أرجوك كفاية الأسلوب ده، استنى حتى لما ندخل البيت!

 

توسلت له ببكاء شاعرة بالإهانة الشديدة ولكنها لم تعد تملك المقدرة على الصراخ من هذا الخزي الذي سيطر على سائر حواسها ولكنها ظنت أن مع أول فُرصة نحى يده عن فمها سيستمع لها فوجدته لا يملك أي شفقة في افعاله، وعلى غير العادة هو لا يكترث بمشاعرها، لطالما كان يمزج خبثه الهائل في اصابتها بالمتعة لتتشتت بين الرغبة والألم أمّا هذه المرة فلم يعد لديه سوى الغريزة التي تحركه لإفضاء شهوته غير مكترثًا لا لمكان ولا لطريقة أو حتى لمشاعرها أو ردة فعلها!

 

-        اخرسي ومتخلنيش أكتفك المرة دي يومين بحالهم!

 

اشتدت يده التي تُمسك بكلتا يديها والأخرى تجذب شعرها حتى تيقنت أن بعض منه قد تمزق بالفعل وأكمل فعلته حتى انتهى بما أراد وتركها لاهثًا ليلتقط أنفاسه وبمجرد سكونه أعاد ملابسه وكأن شيئًا لم يكن واختفى لساعات كثيرة بالإصطبل بصحبة حصانه!

 

الانتهاك، ومرارة مذاقه، عندما تشعر المرأة بأنها مجرد صندوق للنفايات، هذا لم يكن الرجل السادي الذي تزوجته بأوامره ونواهيه وعقابه وتلك المتعة التي كانت تشعر بها ولو لحظيًا اثناء علاقتهما الحميمة التي كانت مؤلمة في بعض الأحيان، بل كان مُغتَصِب يتعامل بمنتهى الهمجية والحيوانية التامة وكأنه قد جُردَ من مشاعره!

 

لقد جلست تبكي لساعتين، وبم فاد بُكائها؟ هذا الوغد الذي تركها وكأنه قد قام بإلقاء ما تخلف من قاذورات بسلة النفايات الموضوعة بالخلاء لعامة الناس كي يستخدمونها بالشارع ثم مشى وتركها وكأن شيئًا لم يكن، ليقتلها أو لتقتله، ولكنها لن تنتظر معه ثانية واحدة بعد الآن!

 

اتجهت وهي تستشيط غضبًا ولم تعد تحتمل مذاق الإهانة وهذا الرُخص اللانهائي واتجهت نحو الاصطبل وقبل أن تصرخ به رأت ما دفع لسانها وسائر حواسها للشلل التام ولم تتأثر سوى عينيها التي دُهشت لتتوسع مما تراه!

 

ما الذي دهاه؟ ما الذي يظن أنه بفاعله؟ يقف بقدميه فوق ظهر حصانه ويتناول المزيد من الخمر!! ما لعنة ما يحدث له هذه الأيام؟

 

ابتلعت ولانت ملامحها وهي تحاول ربط تصرفاته منذ ليلة أمس ببعضها البعض لتمسى خاوية الوفاض بعد أن اغلق عقلها كافة السُبل لوجود سبب منطقي، السبب المنطقي الوحيد أنه فقد عقله، أو هي التي فعلت وتتخيل كل ما يحدث لها معه!

 

-        عمر!

 

نادته ليلتفت لها وتهللت ملامحه ثم حدثها قائلًا:

-        تعالي، تعالي، أول مرة يرضى اعمل كده معاه، وأول مرة يـ..، آه!

 

لم يكمل جملته ليتأوه عندما تحرك حركة خاطئة اختل لها توازنه ودفع "برق" لتحركه وكانت النتيجة سقوطه هو وزجاجة الخمر التي تهشمت لتحدث جرحًا بيده!

توجهت نحوه بعد أن استمعت لنبرته التي آتت بمنتهى التلقائية وكأنه لم يرغمها منذ قليل وفكرت وهي لا تدري هل عليها قتله أم مساعدته أم الانتباه له أم لمشاعرها أم عليها هي بنفسها الانتحار حتى تنتهي من هذه الدوامة.

 ❈-❈-❈


عودة إلى الوقت الحالي..

عادت من تلك الذكرى وهي لا تدري هل عليها الامتنان لما فعلته أم عليها كراهية نفسها لمساعدته، وقتها لم تره سوى رجل فقد عقله، هناك عدم اتزان واضح وصريح التقطته عينيها ووعيها وادراكها، لم تكن ملامحه نفس ملامح الرجل الذي عرفته، حتى بعد ما فعله بها، وهذه التصرفات الغريبة التي من المستحيل أن يفعلها، ولولا أنها استطاعت أن تتحدث للطبيبة بأعجوبة وفي غفلة منه لكان لاقى أحدهما حتفه بالتأكيد.

 

لو كانت فقط تحدثت إليها منذ البداية كانت على الأقل استطاعت أن تُسيطر على نوبة هوسه الخفيف التي لم تكن اعراضها بهينة، ثرثرته المبالغ بها، شهيته المفتوحة على غير العادة، تحدثه لنفسه، تغير امزجته بسرعة، شدة شعوره بالملل وهي تراه كل ساعة في شأن جديد، كلمة واحدة منها كانت تدفعه للغضب الشديد، ولم تُصدق أنه كاد أن يُرغمها على القفز من شُرفة غرفته ظنًا منه أنه سيهبط بالمسبح بنجاح وكأنه لا يعي فرق المسافة بين الشرفة وبين وجهته، والذي لا تُصدقه أكثر أنها كان عليها أن تُلهيه عن هذه الفكرة باستخدام العلاقة الحميمة وهي تقترب منه بدلال لينسى تمامًا فكرة القفز!

 

دلكت رأسها ثم نظرت بساعتها، تتمنى لو تستطيع أن تتحدث إلى "مريم" مرة أخرى، ولكن هذا صعب للغاية، فيكفي ما فعلته المرة السابقة حتى استطاعت الوصول لها. ربما عليها الانتظار المزيد من الأيام بعد.

 ❈-❈-❈

 

منذ ثلاثة أسابيع..

استمعت لأصوات ارتطام الكثير من الأشياء بالأرضية في تمام الرابعة صباحًا مما أزعج نومها فنهضت وهي تتجه نحو الصوت لتقع عينيها عليه وهو يُلقي بالكتب تباعًا بعد أن ينظر نظرة سريعة بها ثم يُنهي أمرها أرضًا لتحدث نفس صوت الارتطام الذي جعلها تستيقظ.

 

تعجبت من فعلته ثم نادته سائلة باحتراس:

-        عمر، أنت بتعمل ايه؟

 

اجابها بانزعاجٍ وهو يُكمل بنفس النمط:

-        بدور على بيت شعر نسيته.

 

لم تعد تتقبل هذه التصرفات منه لتصيح به:

-        الساعة أربعة الصبح، بيت شعر ايه اللي بتدور عليه دلوقتي، نام والصبح ابقى شوفه براحتك

 

رد مغمغمًا وعدم اكتراثه جلي بنبرته:

-        نامي انتي، أنا لما الاقيه هبقى أنام

 

كادت أن تذهب وتتركه بعد أن سأمت من أسره لها وهي لم يعد بيدها حيلة ولكنها لمحت أرضًا الكثير من الأشياء التي يستحيل أن يُلقيها رجل عاقل بهذه الطريقة، حافظة نقوده مبعثرة، بطاقته الشخصية ورخصة القيادة الخاصة به، يعتلي كل هذا الكثير من الكتب التي تبدو أنها أصبحت في حالة يصعب على أي شخص أن يقرأ بها بعد ما لحقها من عذاب وحتى حاسوبه مُلقى ليستتر أسفل كتابين!

 

نظرت إليه مرة ثانية وتفحصته بعناية وهي تربط كل تصرفاته ببعضها البعض، لقد أصبح رجل غريب لم تعرفه في حياتها، هذا ليس من تزوجت منه، ق يكون به الكثير من الخصال السيئة ولكنه ليس همجي، لا يفتقر للترتيب، أين هوسه بالنظام؟ أين هدوءه؟ أين ذهب صمته وقراءته وكل ما عهدته عنه؟!

 

اقتربت منه بمنتهى الهدوء ثم سألته بنبرة هادئة لعله يستمع لها ويتوقف عن أفعاله:

-        ايه رأيك نطلع ننام والصبح هنلاقي بيت الشعر وممكن كمان نروح نفطر برا في مكان هادي وجديد؟

 

امسكت بيده وحاولت أن تُقبلها وابتسمت له بالرغم من عقلها الذي قارب على الخروج من رأسها حتى تُصبح مجنونة للأبد وهمست له بدلال:

-        أنت وحشتني، وبطلت تنام جانبي، ممكن تنام جانبي النهاردة؟

 

تفحصها لوهلة ثم تابع لمساتها ليُحدثها بنفاذ صبر:

-        قولتلك مش عايز أنام

 

حاولت مرة ثانية وتوسلت وهي تقترب منه:

-        عشان خاطري، خليك جانبي لغاية ما أنام.

 

تنهد بملل ثم أومأ لها بالموافقة في النهاية واتجها للأعلى لتدرك أنه لا يعي أي مما يحدث أو على الأقل هو لا يلاحظ ما يحدث، فليلة أمس لم تنته دون ارغامها على ممارسة علاقة معه وغرقت في النوم بعدها وهو بجانبها، ما يحدث له بالتأكيد ليس بطبيعي، لابد من أن هناك حل لما يمر به، ولكن كيف عليها التحدث إلى "مريم" وهي لا تملك هاتفًا وهاتفه هو نفسه مُغلق بكلمة مرور لا تعرفها!

 

انتظرت إلى أن سقط في النوم لتعلم أن أيًا كان ما ستحاول أن تفعله لابد أن يكون بسرعة، فهو بالكاد يُغلق عينيه هذه الأيام، وهي ليس لديها الوقت لفعل أي شيء.

 

اتجهت وهي تجاهد بصعوبة ألا تحدث جلبة ثم بدلت ملابسها إلى ملابس رياضية ثم نزلت إلى غرفة المعيشة وهي تمسك بجهاز التحكم عن بُعد، لابد من أن هذه الشاشة شاشة ذكية توفر على الأقل اتصالًا بالإنترنت.

 

كم تمنت لو أنها تستطيع الاتجاه لتطبيق يُساعدها على اجراء اتصال بوالدتها وأخيها ولكنه سيُلاحظ الأمر ولا تضمن ردة فعله، حاولت أن تتحامل على حقيقة أنه تزوجت رجل بشع لا يُطاق وبدأت في فتح المتصفح لتنزعج من عدم استطاعتها التحكم بسهولة بالمؤشرات ولكنها بدأت في طباعة اسم الطبيبة لتجد هاتف العيادة الخاص بها فأخذت ورقة وقلم ونقلت الرقم ثم قامت بمسح تاريخ التصفح حتى لا يرتاب بشيء لو رأى ما كانت تبحث عنه وأغلقت الشاشة مرة أخرى.

 

حاولت أن تقضي الساعات في ترتيب غرفة مكتبه من جديد، فهي لا تضمن ما الذي سيفعله لو لاحظ الغرفة بهذا المنظر، ومجرد فرصة اصابته بالشك أو الغضب وهي معه هنا وحدها لن يأتي من ورائها خيرًا، وخصوصًا لو سول له عقله بأن يجعلها بداخل غرفة العذاب تلك من جديد! لا تستبعد أن يقوم بإيذائها حتى تودع الحياة بكل ما فيها.

 

انتظرت حتى أصبحت الثامنة وقبل أن يلتقي بها وهي تعلم أنه قد استيقظ منذ ما يقارب ساعة اتجهت لتعدو بمشقة وجهزت مبرر لغيابها بأنها ذهبت كي تتريض وأخذت تجري حتى استطاعت الوصول إلى بوابة المنزل الأمامية وهي تحمل معها ورقة كُتب بها بعض الاحتياجات المنزلية ليفاجئ بها الحراس فصاحت بهم لاهثة:

-        فين محمود بسرعة؟

 

هذا هو سائقه الشخصي والوحيد الذي رأته يعامله أفضل من الجميع نوعًا ما وقام الحراس باستدعائه لتجد عليه القليل من أثار النوم وبمجرد اقترابه نحوها عملت أن تحدثه بهمس حتى لا يستمع لهما البقية:

-        محمود، أنا محتاجة أكلم الدكتورة بتاعتي من عندك لأني مش معايا موبايلي، بس لسه عيادتها بتبدأ الساعة عشرة، ومتقلقش، أنا هاخليك تسمع المكالمة بنفسك، بس أرجوك الكلام ده ميطلعش لحد ولا لعمر نفسه، وعلى فكرة لو متصرفناش بسرعة عمر ممكن يؤذي نفسه ويؤذينا كلنا!

 

نظر لها وهو لا يدري كيف يتهرب مما تطالب به فقال بتردد:

-        أنا آسف يا مدام، بس أنا مش هاقدر اعمل حاجة زي دي من وراه

 

هتفت به وهي تُشدد من نبرتها لتصبح حازمة:

-        مفيش حاجة اسمها مش هاقدر، أنت لازم تعمل اللي اقولك عليه ومتقولش لا!

 

شعرت بأنها تعدت خط المسموح ففي النهاية هذا الرجل يكبرها بالكثير من الأعوام وهي التي في حاجة لمعروفٍ منه فحمحمت وتحدثت ببعض الندم وأطنبت بالتفصيل:

-        أنا آسفة مش قصدي اكلمك كده، بس يا محمود أنا لو كان قدامي حل تاني ولا حتى فيه حد غيرك أقدر اثق فيه كنت اتصرفت من بدري!

أنت متخيل إن الأكل كله اللي جبته من أسبوع خلص خالص؟ أنت مصدق إنه جايب اكتر من فرس علشان برق؟ فاكر يوم العربية اللي اشتراها فجأة وأنت كنت معانا ومسقهاش من يوها غير مرة واحدة بس؟ الاوتيل اللي قعد فيه يومين من غير أي سبب؟ كل ما بيقولك تعمل حاجة مبتشوفش هو سكران ازاي ومش فايق؟ أنت شايف إن كل ده طبيعي وعادي؟ مش ملاحظ أنه متغير في كل حاجة؟

 

نظر لها بمزيد من التوتر لتبادر هي قبل أن تتركه يتحدث:

-        محمود أنا هحتاجك تجيب للبيت شوية حاجات وأكل، وعايزاك تجيلي الساعة عشرة والنص بالظبط في البيت لو حد سألك قوله إني كنت بقولك عايزة ايه من الـ supermarket وده اللي هقوله لعمر بردو.. وأنت بتنزل الحاجة هاخد الموبايل منك خمس دقايق بالكتير.. مش هحتاج أكتر من كده، ويا ريت متعرفش حد، أنا عارفة هو قد ايه بيثق فيك وهعتمد عليك في الموضوع ده!

 ❈-❈-❈


عودة للوقت الحالي..

لا تدري لولا نصائح "مريم" للتعامل معه والعلاج الدوائي الذي شددت على ضرورة تناوله بانتظام وبجرعات محددة بالإضافة إلى مساعدة سائقه بعد أن توسلت له أن يعاونها، وكان رجل في غاية الرسمية والوقار، بعد أن استمع للقليل من المكالمة تركها لتحصل على الخصوصية وحدها فاستطاعت أن تتحدث بالمزيد من التفاصيل، لا تتصور لولا احضاره العقاقير اللازمة التي القاها بداخل الإصطبل في غفلة منه كما اتفقا وباتت هي تدسها له في طعامه ما الذي كانت ستؤول إليه الأمور، وما الذي عليها فعله الآن وكل ما بدر من تصرفاته كانت مجرد تصرفات مرضية ونتيجة لنوبة هوس خفيف يُعاني منها مرضى اضطراب ثنائي القطب، هل عليها أن تكرهه أم تُشفق عليه؟

 

 

وهناك هذا السؤال الذي سألته يومها لـ "مريم" والذي كانت تتعجب منه طيلة الفترة الماضية قبل أن تتحدث لها، لماذا لم يُعاني من نفس هذه الأعراض بالسابق؟ وما السبب لهذه النوبة؟

 

كان ردها أن النوبة هذه المرة قد تكون أقوى وأشد من أي نوبة سابقة، وربما حدثت له بنفس المقدار في السابق ولكن لم يكن هناك بجانبه من يُتابعه ولا يعرف ما يُعاني منه، فلابد من أن يبقى من يُراقبه مليًا أو الشخص بنفسه لابد من تلقي العلاج بمنتهى الوعي منه وهو يُتابع مع طبيبه الخاص وفي نفس الوقت لابد من أن يكون متقبل لطبيعة مرضه العقلي ويعي ماهيته وكيف يتعامل معه، أمّا عن السبب فقد يكون الضغط الشديد وقد تكون خلافاتهما معًا أو خلافات في العلاقات في المطلق سواء أُسرته أو زوجته، وعدم اتباعه لأوقات نوم منتظمة، قد تجتمع كل هذه الأسباب معًا أو واحد فقط منها لتنشط قابليته للتعرض لمثل هذه النوبة من الهوس الخفيف، وهناك الكثير من الأسباب كالصدمات أو إعادة تحفيزها.

 

لا تزال تتذكر هذه الكلمات، فلقد سافر إلى بلدته، لابد من أنه تذكر ما حدث له وهو صغير، ولقد طالبت هي بالطلاق منه، بالإضافة لزيارة والده له قبل السفر وهي تعلم أن هذا الرجل لا يأتي من خلفه خيرًا.

 

ما الذي عليها فعله الآن؟ أن تحتضنه وتسامحه وكأن شيئًا لم يكن؟ هل عليها نسيان أنه كذب عليها بخصوص تشابهها هي ويُمنى؟ لا تستطيع أن تصدق نفسها فلقد غفرت له الإهانات والعنف ولا تستطيع أن تغفر حقيقة أنها تُشابهها بل هي صورة طبق الأصل منها!

 

لم تعد تعرف كيف يعمل عقلها بعد الآن، اعصابها تبدو كشبكة عنكبوتية بصحبة افكارها لا تستطيع تبين بداية الفكرة من نهايتها، لقد فشلت حتى في تحديد ما الذي تريده معه!

 

حسنًا لو كان هو مريض فهي لا تزال تتعامل بتلك النصائح التي لابد أن تتبعها معه، تعامله بهدوء، تستجيب له قدر استطاعتها في مواجهة الشره الجنسي الذي هو الآخر عرض من اعراض نوبته، تحاول أن تساعده على النوم في مواعيد ثابتة وتشجعه بشتى الطرق على توقف تناوله الخمر، لا تأخذ كل غضبه وتعليقاته بشكل شخصي ولا تفتعل معه أي شجار ولا محادثات مُزعجة، ولكن إلى متى سيستمر هذا الوضع.. لم يكن في حسبانها أنه قد يتحول ليُصبح بهذه الطريقة الغريبة التي لا تحتمل.

 

لقد آتت العقاقير بمفعول لا بأس به بعد هذه الأسابيع، لقد هدأ نوعًا ما وأصبح ينام عكس السابق، وتصرفاته الخطرة والمتهورة بدأت تقل شيئًا فشيئًا، ولكن هل عليها أن تُصبح أسيرته للأبد؟

 

لقد مر الكثير من الوقت وهي لا تعرف شيئًا عن عملها وبالطبع لا تعرف ما آخر تطورات قضية الخلع الخاصة بها ولم تستطع التواجد بأي إجراء ولا جلسة ولابد الآن من أن الجميع يرونها امرأة تمزح مع السُلطات، ما الذي وقعت به؟ هل هذا بزواج أم حكم بالسجن المؤبد؟ وماذا عن والدتها وأخيها؟ ماذا يظنان عنها الآن؟

 

فكرت كثيرًا ثم حسمت قرارها ونهضت لتُمسك بورقة وقلم، بدأت في الكتابة، ما يُحبه وما يكرهه، حتى ولو كان كل ما يهيم به عشقًا لا تحبه هي ولا توافق عليه، السادية، الطاعة، استئذانه في كل شيء، هي لا توافقه على أي من هذا ولكن الغاية تبرر الوسيلة!

 

لو كان سيقوم بعزلها عن العالم وهو يسجنها بمثل هذه الطريقة فتقسم أنها ستسجنه لو وجدت تلك الأوراق التي اخبرتها عنها يُمنى، ولكن بالطبع لن تكون غبية وتُعطيها هذه الأوراق، فهي لا تثق بها أبدًا لو كان هو محق في كل ما أخبرها به عنها، وهو الآخر ليس بمحل ثقة، فربما كان يهذي بتاريخ ما تخيله وكتبه بكلمات أثرت على عواطفها حتى يبدو هو الضحية أمامها!

 

لم يعد أمامها سوى فُرصة واحدة لإقناعه بمرضه، وفرصة أخرى واحدة حتى تستطيع امتلاك تلك الأوراق، إن لم تستطع أن تحصل على طلاقها منه بقضية خُلع، فليكون تحت التهديد إذن بأنها ستُقدم تلك الأوراق للسلطات المختصة، وسيكون طلاقها للضرر وستكون فرصتها للتحرر من هذا السجن أكبر بكثير!

 

ولكن عليها أن تكون غاية في الحذر والاحتراس، وسيأخذ الأمر وقتًا لا بأس به، فهذه الأوراق يحتفظ بها في خزينة داخل غرفة العذاب التي لا تكره مكان في حياتها أكثر منها، لو اخبرته أنها تود التجربة من جديد بعد رفضها مرارًا وتكرارًا سيرتاب بأمرها، ليس عليها سوى أن تكون ذكية، وها هي قد فهمت معطياتها عنه بمنتهى الدقة، ولحل هذه المسألة الصعبة لابد أن تنفذ خطواتها باحترافية شديدة، وهي بات لديها خبرة معه ليست بهينة بعد كل هذه الشهور ورأته بأسوأ حالاته بالفعل.

 

هذه الخطة لو فشلت لم يعد لديها ما تستطيع فعله معه، لم يتبق لها سوى النجاح في اخضاعه هو للانفصال الذي تريده، لن تنسى أنه الرجل الوحيد والأول الذي لمس قلبها لذا ستحاول أن تساعده بشأن مرضه، وإن لم يستجب فوقتها ستكون استخدمت كل الحيل معه بكل الطرق الممكنة وهو بنفسه من سيختار أن يبقى مريضًا أو يُعالج، ولكن بعد هذا فهو بمفرده وليفعل ما يحلو له ولكن بعيدًا عنها..

 

غلطة واحدة منها، مجرد غلطة قد تُكلفها عذاب أبدي معه هي ليست في استعداد له، خيارها الوحيد هو النجاح بحرفية وليس أمامها حل آخر.

--

 

فرغت من تجفيف شعرها، لا تُصدق أنه لا يزال نائمًا كل هذه الساعات، هذه هي المرة الأطول على الاطلاق منذ أيام، لقد بدأ بالفعل في النوم بانتظام ولمدة ساعات طبيعية ولكن اليوم قد بالغ في نومه.

 

تعطرت وارتدت ملابس منزلية لم تتخل عن الأناقة وإظهار ما يُرضيه منها، على كل حال هو يُرضيه كل شيء وأي شيء وكأنه بموسم تزاوج مستمر.

 

لوهلة أطرت على ذكائها باستمرارها لتناول أقراص منع الحمل وابتاعت المزيد عندما ذهب السائق لابتياع الأدوية اللازمة له، هي لن تقدر أبدًا على تربية طفل والده لا يقتنع بمدى مرضه ولا مدى خطورة ما قد يُصيب أطفاله، رجل مثله لو واجه نوبة هوس خفيف مثل التي واجهته بالأيام السابقة قد يقفز هو وطفله من الشرفة، وقتها لن يُفيد العشق ولا الأموال في شيء عندما تجد أن ابنها وطفلها قد مات نتيجة لمرض والده العقلي!

 

اتجهت لتصنع له بعض القهوة والشطائر البسيطة حيث أنها باتت تُراقب ما يتناوله بالآونة الأخيرة وهي تدس له العلاج بكل ما يتناوله، فهي لا تريد أن يُصاب بتسمم ما بعد كثرة ما يلتهمه من طعام في الفترة الماضية ولو أنها بدأت تلاحظ اعتداله في تناول الطعام نوعًا ما بالأسبوع الأخير وحضرت القهوة كما يُحبها ثم صعدت إلى غرفته وازاحت الستارة قليلًا لتقوم ببث بعض الضوء بالغرفة دون مبالغة واتجهت لتجلس على طرف الفراش بجانبه.

 

داعبت خصلاته المجعدة نوعًا ما ولحيته بأطراف أناملها وتحاملت على كل ما تشعر به وكل ما تكنه بقلبها من أجله، فلابد لها من النجاح حتى يقتنع بما تحتال عليه به، كما أنها ألزمت نفسها بأن التفكير بالعشق وكل تلك المشاعر لن تُفيدها أبدًا.. الشيء الوحيد الذي سيُفيدها هو الهروب!

 

استطالت لمساتها الهادئة له لتجده في النهاية يفتح عينيه بصعوبة بالغة وهو يتفقدها بنعاس لا نهائي لتبتسم هي له ثم اخبرته بدلال:

-        صباح الخير، اصحى يالا عملتلك الفطار

 

اغلق عينيه من جديد فدنت لتطبع قبلة حنونة بجانب شفتاه ليغمغم بتساؤل ناعسًا:

-        هي الساعة كام؟

 

استمرت في تمرير يدها على لحيته بهدوء واجابته:

-        حوالي حداشر!

 

همهم ثم امسك بكف يدها الذي يداعب لحيته وقبله قبلات متتالية ثم فتح عينيه وتفحصها للحظات وهو يحاول مواجهة شعوره بالنوم ثم سألها وهو لا يزال يتلمس اصابعها بين أصابعه:

-        لسه زعلانة مني؟

 

ضيقت ما بين حاجبيها وادعت البلاهة بدلًا من أن تجيبه بالحقيقة واجابته متعجبة:

-        زعلانة منك في ايه؟

 

تنهد وهو يحاول صوغ سؤاله من جديد كي يوضح لها مقصده وما زالت عينيه لا تترك عينيها وشأنها:

-        موضوع يُمنى؟

 

سرعان ما أومأت بالإنكار واجابته بابتسامة ناعمة:

-        ما احنا اتفقنا إن ده ماضي خلاص وراح، واتفقنا إن مفيش طلاق، وكمان قولنا هنحاول مع بعض، صح ولا ايه؟

 

ابتسم لملاحظته ملامحها الرائقة الصادقة كما شعر بتشبثها بيده فجذبها نحوه ليُقبلها بنعومة متنعمًا برائحة أنفاسها ثم قبل جبهتها واحتوى وجنتها بكف يده فبادلته كل تلك المشاعر رغمًا عنها لتحاول إقناعه بأن كل شيء على ما يُرام وأخبرته في النهاية:

-        تعالى افطر بقى.

 

أومأ لها بالموافقة ثم قبل يدها مرة أخرى لتجبر نفسها على الابتسام بسرور وكأنه لم يُفقدها عقلها بالأيام الماضية ونهضت لتفسح له الطريق فتحامل هو على رغبته في العودة لفراشه واستكمال نومه ليتسمر جسده عن الحركة ونظر حوله متفقدًا الغرفة التي لا تقع سوى بمنزله.

 

التفتت لتنظر له بتعجب لتأخره وازداد استغرابها عندما رأت تلك الملامح على وجهه وهو يلتفت نحوه يمينًا ويسارًا فسألته بهدوء:

-        مالك يا عمر، أنت كويس؟

 

نظر لها باستغراب ثم تفوه بعفوية شديدة متسائلًا:

-        هو احنا جينا البيت هنا امتى؟!

 

تابعته بدهشة شديدة ولكنها لم تنسَ ما نوته وأعدت له، على ما يبدو أنه نسي ما حدث، عليها أن تستخدم هذا بمنتهى الذكاء لصالحها، وعليها أن تبحث بعقله ما الذي يتذكره وما الذي نساه، فبعد كل ما تحملته منه منذ أول يوم تزوجته به وحتى الآن لن تترك الفرصة تضيع من بين يديها، ولقد تتلمذت على يديه، فلقد عهدت منه استخدام كل السُبل للوصول لغايته، وكما فكرت بالسابق، الغاية تبرر الوسيلة، حتى ولو كانت وسيلة خبيثة مثل ما نالته من خبث منه قبلًا مرارًا وتكرارًا.

يُتبع..