الفصل الأول - مشاعر مهشمة (الجزء الثاني)
الفصل الأول
ليس من الهين رؤية أحد أعزاءنا مصاب بمكروه؛ أو بمثل الهيئة الباعثة على الإرتعاد التي أتى بها "عاصم" ل"داليا"؛ جذعه مغطى بالدماء ووجه مليء بالسجحات والخدوش، فما رأته عليه وما حدث نصب عينيها فور فتحها الباب وصدمتها برؤيته هكذا ليس من المشاهد التي يُستطاع تحمل رؤيتها وسيكون مكروها عندها بالتأكيد تكرارها في ذهنها ما إن يواري جسدها الثرى.
بنظرات ممتلئة بالشجن والأسى وقلب يتمزق على ما أصابه جالسة بجانبه على فراشها؛ واضعة الكمادات فوق جبهته لتخفض من حرارته التي ارتفعت كما أخبرها الطبيب التي جلبته لمعالجته وانتزاع تلك الطلقة النارية من كتفه، والتي إلى الآن لا تدري ما الذي حدث وممن ذلك الهجوم والإعتداء الجسدي الواضح عليه.
أفاقها من شرودها صوت آنة متألمة غادرت حلقه، ركزت نظرها فوق وجهه الظاهر عليه الإعياء والشاحب للغاية يتخلله تلك الكدمات التي تحولت للزرقة، لترى ملامح وجهه مشتدة قليلا معبرة عن تألمه الشاعر به حتى وهو ناعس أثناء نومه لا يحتس بشيء من حوله، ولكن سريعا ما لانت ملامحه وعاد وجهه للسكون الذي كان عليه منذ بضعة سويعات منصرمة.
بلمسات حانية تمسح فوق وجنته؛ وهي متخبطة التفكير حول رفضه التام في عدم مهاتفة الإسعاف وقت مجيئه لإنقاذه وإيقاف سيل الدماء الجارف الذي كان ينسدل من جرحه المتوسط كتفه.
شحذت كل ما تملكه من قوة وهي تحاول تحريك جسده المفترش الأرض وجذبه نحو أقرب أريكة بعدما لم يتحمل جسدها -المنهك من الحمل والضئيل نسبيا مقارنة به- إسناده عندما ارتمى بثقل جسده عليها فور فتحها الباب له، تساقطت عبراتها وهي لا يسعفها عقلها لكيفية إفاقته وهو فاقد الوعي ممد على الأرض بجسده الذي لطالما كان شامخا سامقا لا ينحني ولا يضعف أمام أي صعاب تعترضه، تفاجؤها به ورؤيتها لدمائه المغرقة ثيابه جعلت قلبها يهرع في موضعه ولا تشعر غير بتألم غائر به ناتجا عن قوة خفقان وجيبه الثائر ارتعادا وارتياعا عليه.
لا يوجد أدنى طائل من جميع محاولاتها في تحريكه قيد أنملة عن باب الشقة، جلست أرضا بجانبه ومدت يدها نحو أزرار قميصه لترى من أين تلك الدماء وما مدى جرحه الذي ينزف، صرخة قوية غادرت حلقه تبعها وضعها ليدها فوق فيهها عندما أدركت أنها رصاصة مخترقة كتفه، حركت وجهها بعدم استيعاب وتصديق لما تراه والدموع منهمرة بغزارة فوق وجنتيها وراحت تهتف باسمه من جديد تتوسله بنحيب أن ينهض وكأنه قادرا على فعلها بالأساس:
-عاصم، عاصم فوق عشان خاطري.
انتفض الخوف في كل إنش بجسدها ولم تكف عن البكاء وهي ترى جميع محاولاتها في إفاقته باءت الفشل شاعرة بأنها على شفا حفرة من فقده للأبد، تنظر لوجهه المليء بالجروح الملطخة بالدماء بحيرة ممزوجة بالهلع وغمغمت بنشيج:
-أعمل ايه أنا دلوقتي يا ربي؟
تهادى عقلها لمهاتفة الإسعاف لعدم مقدرتها على تحريكه والذهاب به إلى المشفى، حركت بؤبؤا عينيها المحمرتين للغاية في عدة أنحاء متفرقة باحثة عن شيء بعينه وهي متحفزة للوثوب عن الأرض وتردد بصوت مسموع بما دار في خلدها:
-أنا هكلم الإسعاف، هو مش بيفوق وأنا مش هقدر أستنى أكتر من كده لغاية مايموت، فين التليفون؟
نهضت عن الأرض عندما تذكرت موضع الهاتف، وما كادت تأخذ عدة خطوات مبتعد عن جسد "عاصم" حتى استمعت إلى صوته المتعب للغاية وهو يكافح في إخراجه من جوفه قائلا:
-داليا.
وقر في قلبها صوته ولم تصدق أنها استمعت له، هرعت نحوه وتفقدت وجهه بنظرات مرتاعة وأردفت في لهفة جزع:
-عاصم!، عاصم انت ندهتلي؟
انتظرت منه ردا للعدة ثوانٍ ولكنه ظل ساكنا لم يجيب تساؤلها حتى اقنعت نفسها بأنه هُيأ لها استماعها لندائه، وما كادت تتحرك مجددا لتجلب هاتفها حتى توقفت عندما وجدت على حين غرة غير متوقعة تحريكه لبؤبؤا عينيه المجفلتين، واشتدت عضلات وجهه معبرة عن توجعه وهو يقول بصوت خفيض متشبع بالألم المستقر بكل إنش بجسده:
-متتصليش بالإسعاف.
ازداد تنفسها ورجيف قلبها قويت حدة نبضاته، جلست بجوار جذعه ومدت يدها نحو وجنته متلمسة إياها بلمسة متريثة، وسألته بخوف جم وتشتت أمام دمائه التي ماتزال تُنزف بلا توقف:
-أومال اعمل ايه؟، انت هتموت كده، الدم اللي بينزف من كتفك مش بيقف، وأنت نزفت كتير أوي.
نظر لها بضعف محتل سائر جسده، وأخبرها بعد مدة قضاها في ضبط أنفاسه التي يكافح لالتقاطها بصوت بالكاد يُسمع:
-كلمي دكتور سامح.. وعرفيه حالتي.. وهو هيتصرف.
ذلك الطبيب هو نفسه الذي أجهضت عنده جنينيها السابقين لحملها الحالي، والذي على ما يبدو يجمعه ب"عاصم" علاقة وطيدة وعلى دراية شخصية به، وذلك ما لاحظته على مدار السنوات الماضية عندما كانت تذهب إليه لإجهاض جنين أو استشارة طبية، أومأت له عدة مرات برأسها بانصياع وهي تنهض، وردت عليه ونظراتها مثبتة على عينيه المفتحوتين بالكاد يظهر منهما حدقتيه في صوت مرتعش مشبع بالوجل والتوسل:
-حاضر، حاضر بس خليك فايق أرجوك.
ظلت على خوفها حتى بعدما أتى الطبيب وقام بإخرج الرصاصة من كتفه وطمأنها على استقرار حالته، ففقده لكل ذلك الكم الهائل من الدماء آثار ذعرها وعلى الرغم من تعويضه بالدماء الذي جلبها له الطبيب وقام بتوصيلها بوريده إلا أنها لن تطمئن حتى يفتح عينيه ويحدثها بتلك الطريقة القوية، الغير مكترثة، والباردة على الدوام التي لطالما عهدتها عليه، لكن ذلك السكون والتعب المحتل ملامح وجهه تشعرها بالوجل ولا تخلف غير وجع غائر بحنايا قلبها.
ولكن ما يشغل عقلها هو تلك الهيئة التي أتى بها، أنّى له بكل ذلك؟، ممن ذلك الإعتداء الجسدي وكيف تم وهو لا يتحرك دون حراسته الشخصية؟، تساؤلات كُثر تجول في ذهنها ولن تجد لها إجابة حتى يفيق من المخدر المتوغل بدمائه الذي أعطاه له الطبيب قبل إجراء الجراحة له ويجيبها بنفسه.
دنت منه وقبلت جبهته التي تعرقت وانخفضت الحرارة من جسده، تركت الوعاء الموضوع به الكمادات على الكومود، وتمددت بجانبه على الفراش وهي تملس فوق شعره بلمسات رفيقة حتى جفاها النوم من كثرة التعب الجسدي التي تعرضت له ذلك اليوم بداية من ذهابها المشفى لمنع الطبيب مما كاد أن يفعله بزوجة شقيق صديقتها نهاية بقدوم "عاصم" على تلك الحالة الباعثة على الإرتعاد والتي استنزفت آخر ذرات قوة بداخلها.
❈-❈-❈
دلف أحد رجال "عاصم" والذي كان معه وقت مقابلته لذلك الطبيب غرفة المكتب بفيلا والده حيث يوجد "كمال الصباحي" بعدما أذن له بالولوج بالتأكيد، بخطوات متهادية يأخذها نحو المكتب الجالس على مقعده اختلس النظر إليه ليجده يتفقد بعض الملفات الموضوعة أمامه على سطح المكتب، حمحم الرجل بخفة لكي يلفت نظر الآخر لوجوده أمامه مباشرة، ليرفع حينها "كمال" وجهه إليه ونظر إليه بنظرة مستفهمة دون أن ينبس ببنت شفة، لم يجد الرجل بدا من التمهيد حول الأمر الذي حدث نصب عينيه هو والآخرون من بقية رجال "عاصم" الليلة الماضية لذا تكلم مباشرة متطرقا لصلب الموضوع الذي جاء لأجله والذي شعر هو والآخرون بضرورة إخبار والده بما حدث آنذاك من ذهاب "عاصم" رفقة رجال "مجد الكيلاني" وزوج شقيقته "عدي الجمال" واعتراض طريقهم في البداية، ولكن أمام تلك النظرات الثاقبة التي تتسم بهما زرقاوتيه الحادتين يشق الأمر عليه، ضبط نفسه وتكلم باحترام وهو موجه نظره لأسفل:
-كمال بيه، عندي خبر مش كويش لسعتك.
عاد "كمال" بظهره للخلف وأدرك أن ما هو قادم بن ينول رضاءه، ظل مثبت نظره عليه بانتظار متابعته، بينما رفع الآخر نظره نحوه وتابع على نفس الشاكلة مرددا:
-عاصم بيه.
احتل الضيق قسمات "كمال" من عدم قوله ما حاء لأجله دفعة واحدة، وتساءل بنبرة صوته الجوفاء بحنق أضحى جلي للغاية على تعبيراته:
-ماله!
حرر الرجل دفعة من الهواء من رئتيه، ثم أخبره في حذر متابعا بنظراته المتفقدة تعبيراته أثر كلماته عليه والذي يعلم أنها لن تكون متهاونة:
-رجالة مجد الكيلاني كانوا عاملينلنا كمين؛ وعاصم بيه راح معاهم.
حرك جذعه للأمام قليلا معتدلا في جلسته، وتبدلت تعابير وجهه المتراخية للغموض والشراسة وهو يتساءل بغرابة تشكلت فوق وجهه مما تفوه به الرجل:
-كمين ايه؟، وراح معاهم فين؟
ظهر الوجل جليا على وجه الرجل من الإجابة على ذلك السؤال والتي لن تكون سوى بعدم معرفته بالأمر، ازدرد ريقه ولم يدعه ينتظر إجابته أكثر لكي لا يثير عصبيته التي ستندلع بالتأكيد عندما يستمع لرده، بصوت جاد ولكن يتخلله بعض الريبة من القادم أجابه:
-معندناش فكرة.
خبط بيده بقوة على سطح المكتب بعدم هب واقف وتشنج جسده للغاية وهو يتساءل باستجان عارم بصوت اخشوشن للغاية:
-يعني ايه معندكوش فكرة؟، وسيبتوا يروح معاهم يا بهايم ازاي؟
احتل الخوف قسماته من جذوة عصبيت "كمال" التي استعرت فوق وجهه فهو أكثر من يعلم بطشه ولا يريد للأمور أن تتعقد من فهمه لما حدث بشكل مغاير، لذا سريعا ما وضح له ما تم آنذاك مرددا بإيضاح:
-يا كمال بيه عاصم بيه هو اللي أمرنا إننا نمشي؛ وقال هيروح معاهم لواحده.
تراخت ملامحه قليلا وهو ينظر له بنظرات مستشفة، وسأله بطريقة غامضة بعد برهة قضاها يستعرض ما أخبره به بفكره:
-يعني هو رايح معاهم بمزاجه؟
أومأ له بتأكيد على تساؤله، ثم أجابه بشيء من الشرح بصوت مطعم بالريبة:
-ايوه يا باشا، عدي الجمال كان معاهم واتكلم معاه وبعدها عاصم بيه مشى معاهم وقالنا نمشي احنا.
زم شفتيه يستجمع في عقله كل ما أخبره به الآخر، ثم مد يده نحو هاتفه وجاء برقم ابنه وأجرى اتصالا عليه، انتظر عدة ثوان وهو يستمع لصوت الرنين دون رد على اتصاله لتنتهي المكالمة دون رد، اشتاط غضبا من عدم إجابته عليه وتوضيحه له سبب ذهابه مع رجال "مجد"، ولكن عدم رده عليه أشعره بوجود خطب ما غير مريح، رفع عينيه البارقتين بنيران الغضب نحو الماثل أمامه منتظرا إذنه له بالإنصراف أو أي شيء يمليه عليه يريده أن يقوم به حيال ما أخبره به، دمدم بقوة بصوت آجش بأمر غير قابل للنقاش وهو يعاود الإتصال ب"عاصم"
-ساعة وتكون عارفلي مكانه، وأنا ليا كلام تاني معاكم، اعرف الأول ايه اللي حصل بالظبط.
بدت تعابير الرجل هادئة على عكس ما يعتريه داخليا من خوف من عدم رد "عاصم" على اتصال والده متخوفا من أن يكون حدث أمر ما غير مبشر بالخير، فهم حينها من سيلاقوا الجزاء جراء تركهم له يذهب مع الآخرون بمفرده، ولكنهم لم يكن آنذاك بيدهم حيلة؛ فلن يستطيعوا مهما حدث اعتراض أمر الآخر أيضا، أومأ برأسه بخفه ورد عليه في خنوع وهو يشرع في التحرك من أمامه لتنفيذ ما أمره به:
-تمام يا باشا.
نظراته في الفراغ أمامه مليئة بالعدائية نحو عائلة "هشام الكيلاني" وبالأخص ابنه "مجد" تلك العدائية التي لا تجدب حتى بعد مرور العديد من السنوات على نزاعاتهم والتي آلت لزجه بالسجن لسبع سنوات مما ضاعف من كرهه لهم، سحب دفعة من الهواء لرئتيه وزفرها على مهلٍ ثم ردد بفحيح يحمل الوعيد الذي لا يكف عنه:
-ماشي يا ابن الكيلاني.
❈-❈-❈
بنصف عين كان ينظر في أرجاء الغرفة بعد استيقاظه، يحاول التعود على ضوء النهار المنبعث من الشرفة من ناحية ومن ناحية أخرى يتذكر أحداث أمس بعد مجيئه لبيت "داليا" الذي لم يفكر بسواها للجوء إليه، كانت أطياف تمر في ذاكرته من مجيء ذلك الطبيب المسمى ب"سامح" وبرفقته شخص آخر على ما يبدو أنه طبيب وجلبه ليقوم هو بإخراج الرصاصة من كتفه، وعلى تذكره أمر الرصاصة أخفض نظره نحو كتفه ليجد خذعه عارٍ وملتف حول كتفه شاشًا طبيا علم من خلاله أنه تم استخراج الرصاصة.
أغمض عينيه بتألم انتشر في أنحاء جسده من حركة صغيرة كان يحاول بها رفع جسده قليلا، تقلصت ملامحه معبرة عن توجعه والتفت برأسه يمينا عندما شعر بحركة طفيفة بجانبه ليجد "داليا" متمددة فوق الفراش بجانبه وماتزال غافية، نظر لها مطولا ويأتي أمام ناظريه هيئتها الباكية الهالعة وكلماتها التي كانت تخرج رفقة شهقاتها وهي جالسة بجانب جسده بعدما هوى ارضا:
-عاصم، عشان خاطري متسيبنيش أنا ماليش غيرك، متروحش مني زي ما كلهم راحوا وسابوني.
تلك العبارات من بين كل ما قالته حفروا بداخل ذهنه، هو لم يخطيء عندما جاء إليها دونا عن غيرها، على الرغم من خصومتهما وما بدر منه معها آخر مرة من تطاوله عليها بصفعة على وجهها إلا أنه كان متأكدا من عدم تركها له في ذلك الوقت العصيب، حالته التي كان عليها أمسا والتي ما كان ليحب أن يراه أحد عليها؛ لم يتردد لثانية أن تراه هي وهو في أوج ضعفه هكذا ولم يفكر للجوء إلى أحدٍ سواها هي فقط.
لا يدري هل لمعرفته بحبها الجم له أم لتلك الشعور بالألفة الذي لا يشعر به سوى معها؟ ويكذبه دائما متعللًا بأن ما يجمعهما من ناحيته هو ما هي إلا رغبة جسدية يفرغها معها وهي تتقبلها برحابة صدر لكي يستمر في علاقته بها ولا يتركها، حرك رأسه في الإتجاه الآخر عندما وجد تأملها لها قد طال، ولكن هيئتها وهي نائمة بتلك الأريحية، وجمالها الإستثنائي، وأنوثتها المغايرة تماما مع سنوات عمرها الصغير التي لم تتعدَ التاسعة عشر بعد لطالما أجتذبوه وكان لهم بالغ الوطأة على رجولته.
لمح عندما وجه نظره للإتجاه المغاير حافظة نقوده وهاتفه موضوعين فوق الكومود، مد يده بتلقائية ملتقطا هاتفه، متغاضيا عن الألم الذي وخز كتفه، فتح شاشته ليلفت انتباهه وجود مكالفات فائتة، فتح سجل المكالمات ليجد العديد منها التي لم يُرَد عليها لوالده، زفر بضيق وهو متيقن تمام اليقين أنه قد علم بذهابه مع رجال "مجد"، ولكن ما أقلقه حقا أنه يكن علم بما فعله الآخر به، حينها فقط سيلقى الإهانة من والده والتقليل من شأنه مقارنة ب"مجد" الذي يتقدمه في كل شيء، حتى في احترام وتقدير والده له.
نهض عن نومته ليشعر بدوار بالغ أصاب رأسه شوش الرؤية لديه لعدة ثوانٍ، رفع يده ودلك بها مقدمة رأسه وبقى جالسا على طرف الفراش لبعض الوقت حتى تحسنت الرؤية من جديد، تابع نهوضه حتى خارج الغرفة ليجري اتصالا بوالده ليرى ما الأمر البالغ الأهمية الذي دفعه لمهاتفته كل تلك المرات، وقف في الصالة وقد أجرى الإتصال، لم يمضِ سوى بضع ثوانٍ وجاءه صوت والده ذو النبرة الجامدة وهو يقول:
-مبتردش على تليفونك ليه يا عاصم؟
لم يرِد أن يظهر على صوته أي معلم من معالم الإعياء لكي لا يساور الشك والده حول شيء، لذا تنحنح بخفة جاليا بصوته ثم أخبره في جمود مماثل لجموده فقد ورثه منه بالأساس:
-نايم مسمعتوش.
لم يكن من الصعب بالتأكيد على "كمال" علمه بعدم رغبة ابنه للتطرق حول ما حدث امسا وألا لكان أخبره فور تحدثه، ولكنه اختار المراوغة الذي لن يقبل بها "كمال"؛ لتعلق الأمر خصيصا بعائلة "الكيلاني"، لم تمر سوى ثانيتين على الأكثر وكان محتل وجه "عاصم" أمارات الغضب من تساؤل والده بتلك الطريقة المحققة:
-روحت مع رجالة مجد فين؟، ولا ندخل في المهم علطول، وأسألك مجد عرف اللي انت اللي وارا اللي حصل لمراته ولا لأ.
كز "عاصم" أسنانه بغضب ساحق، وهو لا يدري حتى كيف علم بأمر خطته وما كان ينوي فعله بزوجة "مجد"، ولكنه علم أن المراوغة لن تفيده بشيء غير أنها ستكون مماطلة فحسب وسيتحدث بالأخير بالأمر، لذا أخبره بعد برهة حاول فيها ضبط أعصابه بإيضاح:
-الدكتور معملش اللي اتفقنا عليه.
ران الصمت بينهما لعدة ثوانٍ، تعجب خلالهم "عاصم" من الأمر حتى ظن أنه لربما انهى المكالمة، وما كاد يبعد الهاتف عن أذنه ليرى هل ماتزال المكالمة قائمة حتى تكلم والده متوجسا:
-مجد عرف!
لم يكن يريد أن يتطرق لذلك الأمر، لكي لا يعلم بحنكته ما دار الليلة الماضية، سحب الهواء لرئتيه ثم زفره على مهلٍ وأجابه بصوت مغلف بالكدر بإيجاز:
-ايوه.
لم يعبأ والده بنبرة الضيق التي اعتلت صوت "عاصم"، وتابع تحقيقه قائلا بطريقة توحي بتأكده من الأمر:
-وأكيد ماعداش الموضوع بالساهل.
نفخ "عاصم" أنفاسا ساخنة مما يتخالج صدره، ورد عليه في تجهم والكراهية جلية فوق قسمات وجهه:
-معاه تسجيل لكلامي مع الزفت الدكتور وهددني بيه.
على فور نطقه بتلك العبارة سأله والده بسخط جلي استشعره "عاصم" من نبرته:
-هددك بيه ازاي؟
أضحى "عاصم" في أوج حنقه، ناهيك عما سيتعرض له من إهانة حتمية وتقريع من والده عند علمه، ولكن ليس أمامه خيار آخر، فإذا أخفى الأمر عنه حتما سيعلم بطرقه الخاصة، تكلم بعد هنيهة بصوت جاهد كي يخرج على شاكلة جامدة مواريا ما يعتريه من جذوة غضب مستعرة تنهش بصدره:
-يا ابعد عن طريقهم، يا هيسلم التسجيل للشرطة.
استمع لصوت خبطة عارمة، أدرك أنها ليد والده على سطح مكتبه، تبعها قوله باحتدام متعاظم:
-ماعشان غبي، بتعمل كل حاجة بدماغك ومبترجعليش.
أوصد "عاصم" عينيه وزم شفتيه وهو يشعر بفوران دمائه في عروقه، لم يتفوه بشيء ردا على توبيخه، بينما استطرد والده متسائلا بصلابة صوته:
-انت فين يا عاصم؟
بالطبع لن يخبره بأمر بقائه ببيت "داليا"، فمن ناحية لا يعلم بامر علاقتهما السرية والتي تساءل حولها من قبل عندما تشاجر هو و"داليا" يوم معرفتها بأنه هو المتسبب بحادثة "رفيف" ورمت بكلامها ل"كمال" حينها إلى أن حملها "عاصم" هو المتسبب به، بينما نفى "عاصم" الامر وأنكر أنه والد لمن برحمها، ولم يبدِ والده أي ردة فعل حينها لا بالتصديق أو التكذيب، تركه فقط وغادر حجرته، ومن ناحية أخرى سيعلم عن طريق ذلك ما فعله "مجد" به من إشهاره السلاح بوجهه حتى إطلاقه الرصاصة بكتفه واعتدائه عليه بالضرب عاجزا عن صد ضرباته عندما تمكن منه الرهاب من رؤيته لدمائه، ذلك الرهاب من الدماء الذي يعاني منه منذ صغره، لم يأخذ الكثير من الوقت حتى طرأت كذبة في عقلها ونطقها على الفور على نفس المنول الجامد موجزا:
-مسافر، ورايا شغل بخلصه.
كان متهيئ لتكذيبه أو تعنيفه على أمر سفره الذي اختلقه، ولكنه أخلف ظنه عندما وجده يهدر بطريقة آمرة غير قابلة للنقاش فيها:
-تخلص شغلك وتجيلي يا عاصم، لينا كلام مع بعض لما ترجع.
استمع لصوت إنتهاء المكالمة فور إلقاء والده كلماته الآمرة، أنزل الهاتف عن أذنه وهو يزفر في غضب فقد أمضعته تلك المكالمة بشكل مضاعف عما هو عليه، استدار بجسده عندما وقع على سمعه صوت "داليا" أتيا من خلفه بتلك النبرة المهتمة والتي مايزال ظاهرا عليها آثار نومها:
-صحيت امتى؟
بمنتهى السهولة استطاع ملاحظة أمارات الإشتياق الممزوج بالقلق المعترية ملامحها وصرحت بها نظراتها، وضع الهاتف في جيب بنطاله، وأخبرها في وجوم موجوزا:
-من شوية.
تقدمت منه المسافة الفاصلة بينهما، وبنظرات متفقدة لسائر وجهه، ومرتكزة بالأخص في عينيه التي اشتاقت للنظر بهما، متسائلة على نفس الشاكلة المكترثة لطمأنة قلبها:
-انت كويس؟
في قرارة نفسه يدرك أنها لا تريد سوى ردا حانيا يروي جدوبة قلبها، ولكنه لا يستطيع أن يكون سوى ما اعتاد أن يكون دائما، ذلك المتجافي الذي لا يأبه بمشاعر أي من حوله ولا بردوده القاسية التي من المحتمل أن تصيب قلب أحدهم بجرح غائر، لم يحِد بنظرها عنها وهو يجيبها بفتور وإيجاز وكأنه يمِن عليها بالرد:
-ايوه.
انفرج جانبي شفتيها بابتسامة مهزوزة تحمل بعض الرهبة من أحداث الليلة الماضية، ولكنها تمتزج ايضا الطمأنينة لرؤيتها له واقف أمامها بذلك الشموخ والهامة المنتصبة التي اعتادت رؤيته عليها، دنت منه على حين غرة وبلا سابق إنذار وعانقته بكل ما يعتري قلبها من خوف عليه تريد لها طمأنينة وآمان بقربه، وراحت تخبره بصوت به بحة مختنقة من حبسها لغصة مريرة في حلقها لتحاملها على نفسها البكاء:
-كنت هموت من الرعب عليك.
شعوره ببطنها المستدير الحاملة بداخلها جنينيه ملامسا جذعه أربكه ويبس سائر أوصاله، رفع أحد ذراعيه ووضعها فوق ظهرها بصمت دون ردا أو ثناءً على إنقاذها له وبقائها مستيقظة طوال الليل لتخفض حرارة جسده المرتفعة، ظلا لبعض الوقت على حالتهما، فرقت هي العناق دون أن تبتعد عن محيط ذراعيه، رفعت نظراتها له وسألته مستطردة:
-مين اللي عمل فيك كده؟
اعتلى ملامحه الجامدة علامات الكراهية التي لم تفسر معناها، عقد حاجبيه معبرا عن تشنج وجهه، وأجابها بطريقة موحية تحمل بعض اللوم:
-مجد الكيلاني، أخو رفيف اللي انتي جيتي واتخانقتي معايا عشانها.
نظرة مصدومة كست عينيها للحظة، ولكنها سريعا ما تداركت السبب في ذلك، إلا أنها لم تتوقع ان يكون "مجد" هو الفاعل، ضمت "داليا" شفتيها في ربكة وهي متخبطة بين البوح له بما فعلته البارحة من تحذيرها لهم وتوصلهم إلى أنه هو من وراء الامر، أم تؤثر الصمت؟، ولكنها سريعا ما تخوفت من غضبه الحتمي منها رغم علمها بفداحة فعلته، إلا أن هذا سيجعله يغادر وهو في حالته المتعبة تلك؛ وهذا ما لا تريده، قررت أن تتحدث عن النقطة الذي يتكلم عنها وهو حادث "رفيف"، بصوت مهزوز يحمل التوتر أردفت:
-عاصم، أنت..
فهم ما تحاول التحدث حوله، وهو إعادة كلماتها التي قالتها من قبل عن إيذائه لصديقتها التي كانت على شفا حفرة من الموت، وهو متحفز للتحرك رفع يده أمام وجهها مانعها عن المتابعة، مرددا في حزم وصرامة بعد أن بدأ في التحرك نحو غرفتها:
-مش عايز اتكلم في حاجة.
أمسكت برسغه لتوقفه عن التحرك، وبحركة متعجلة وقفت أمامه من جديد، وسألته بتلهف تثرخ به نبرتها ونظراتها:
-رايح فين؟
رمقها بنظرة غير مفهوم لها معنى، وجذب يده بخفة عن قبضتها، وبذلك الجفاء الملبك للأبدان أجاب تساؤلها:
-هغير هدومي عشان ماشي.
تناست شجارهما عندما كانت بفيلا والده وتلك الصفعة التي تلقتها منه آنذاك دون وجه حق، وكل ما تريده الحين هو بقاءه فقط لا غير، أمسكت بيديه على الفور وعلى نفس المنوال المتلهف أردفت في رجاء:
-لا لا لأ، خليك يا عاصم عشان خاطري.
ضاق ذرعا من قبضها على يديه وطريقتها الملحة دائما في إخبارها له برغبتها في بقائه معها كلما أتى إليه، تنهد بضجر وكاد يتحدث رافضا المكوث ولكنها ما لبثت ان تكلمت مجددا تتوسله بطريقة محنكة آملة أن تأتي بنتاجها:
-على الأقل لما تتحسن شوية، انت نزفت كتير، وهيبقى صعب عليك تروح في حتة في حالتك دي.
عن طريق ذكرها لحالته استطاعت ان تستميل فكره، فقد انتبه لعدم رغبته في معرفة أحد بما أُلخق به وخاصة والده الذي يستطيع تتبع خطواته بسهولة ومعرفة بواطن كل شيء وما يعمل جاهدا على مواراته، إلا أن بقائه ببيت "داليا" لا يعلم عنه احد ولن يخطر ببال أي من رجاله هو أو والده، حرك بؤبؤا عينيه بحركة مستجيبة وأخبرها على مضض بموافقة:
-طيب.
قفز قلبها طربا لاستجابته، وارتسمت بسمة مشرقة على وجهها زالت عبوسها، وهتفت معلقة بفرحة فاقت أي تصور:
-طب أنا هروح أحضرلنا أكل، ارتاح انت لحد ما اخلص.
تحركت بحماس مغاير تماما لحالة القلق والجزع التي كانت مستبدة بها منذ هنيهة، بينما ظل هو مكانه مكتظ فكره بالعديد من الأمور حولها، فقد تعب عقله من التفكير في أمرها، فتاة غيرها ما كانت لتتحمل كل ذلك الجفاء، والهجر، والمعاملة القاسية، كثيرا ما حاول إنهاء علاقتهما ولكن ينتهي الأمر بعودتها له من جديد لتجعله يضعف أمام شغفها وهوسها العارم به، في وسط حياته القميئة والمليئة بالجرائر البغيضة غفل عن تدميره الحتمي لها، عن استمالة قلبها المذعن لحبه الجم نحو علاقة محرمة في سنٍ صغيرة لم تكن لتفقه حينها مأثمة ما تفعله، واستمرت في تلك العلاقة لانقيادها خلف رغبتها الملحة في بقائه قربها تخوفا من إقرارها بكرهها للأمر فيتركها حينها، زفر أنفاسا محملة بالضيق لكل ما يختلج به صدره ويشغل فكره، صحوة ضميره التي تواتيه كل آن يخمدها ما يتوغله من شرور وآثام ويجعلها تخبو بداخله، حرك حدقتيه لأسفل وهو يعود بجسده للخلف ثم استدار متحركا نحو الغرفة ليبحث في الخزانة المخصصة له في غرفة ثياب "داليا" عن شيء مناسب يرتديه.
❈-❈-❈
انحنى بجذعه للأمام قليلا ليضع كوب العصير الذي قد فرغ من تناوله توا فوق الطاولة الصغيرة أمامه وهو جالس على المقعد الخشبي في حديقة بيته بعدما أقل زوجته من المشفى صباح اليوم عائدا بها إلى البيت، استقام في جلسته ووجه نظره نحو شقيق زوجته وزوج أخته الجالسين بجواره، منتبها ل"عدي" الذي تحدث متسائلا بجدية بحتة متنقلا بنظره على وجهي "مجد" و"جاسم":
-أنا اللي عايز أعرفه دلوقتي، باللي عملناه إمبارح، كده احنا خِلصنا من عاصم؟
أنزل "جاسم" كوب القهوة عن فمه وعلى الفور أردف معلقا ببديهية بعدما ابتلع رشفة القهوة:
-المفروض إن كده خلاص، يبقى غبي أصلا باللي معانا ليه يقرب من طريق حد فينا.
أظهرت ملامح "عدي" بعضا من الإقتناع على ما قاله "جاسم، ولكنهما ثبتا نظرهما نحو "مجد" بانتظار رأيه حيال ما يتحدثان به، أعاد "مجد" ظهره للخلف في وضعية مريحة له، وتحدث بعد مدة استغرقها في ترتيب أفكاره حول الأمر بنبرة هادئة تحمل القليل من الضيق موضحا:
-كل اللي وصللي من فكرة إنتقام عاصم مننا هو إن بابا قدم الملفات اللي كانت بتدين كمال الصباحي للنيابه وإنه السبب في سجنه، وده مش سبب يخلي واحد عاقل يفضل ستاشر سنة ينخرب ورانا ويحاول بكل الطرق إن يئذي حد فينا حتى بعد ما خرج أبوه من السجن، عاصم عايز يحرق قلبنا، وبالتحديد عايز يحرق قلبي أنا، أي أذى طال حد فينا منه كان بيوصل في النهاية ليا، اللي أنا شايفه إن عاصم استحالة يكون طبيعي.
بقى "جاسم" على حالته المستمعة والمتفهمة لكل ما قيل، بينما استرعى انتباه "عدي" آخر كلماته، ليقتبس مما قاله مرددا باستفهام حوله:
-يعني إيه استحالة يكون طبيعي؟
تنفس بعمق، وراح يخبره بلهجة متريثة ولكنها تميل إلى الإنزعاج من مجيئهم على ذكره الذي أضحى لا يطيق أكثر منه:
-عاصم عقليته بقت مريضة، لإنه مكانش كده، أو مكانش واصل للمرحلة اللي بقى فيها، أنا أكتر واحد عارف عاصم بحكم إننا كنا صحاب، آه هو كان طباعه غريبة شوية وكان بيحب يضايق اللي حواليه، بس عمري ما كنت اتخيل إن ممكن في يوم تفكيره يوصله إنه يقتل.
رمق "جاسم" "مجد" بنظرة توحي بعدم توصله لما يحاول أن يرمي إليه بحديثه، بينما عقد "عدي" حاجبيه وباسترابة واضحة على محياه تساءل بهاجس مازال يراوده إلى الآن:
-يعني أفهم من كده إيه؟، هيحاول يئذي حد فينا تاني؟
لم يكن هذا ما يقصده "مجد" مما قاله، وهذا بالتحديد ما لا يتوقعه في الوقت الراهن، هز رأسه بإيماءة صغيرة وأجابة موجزا:
-مفتكرش.
تشكل الحنق ونفاذ الصبر فوق قسمات "جاسم" الذي هدر بقليل من التشنج:
-مجد، أنا مبقتش ضامن عاصم ولا عارف تفكيره ممكن يوصله لإيه، خلينا نسلم التسجيل اللي معانا للشرطة ونخلص من تعب الأعصاب ده.
هذا تحديدا ليس بالقرار الصائب بالنسبه إليه، احتفظ بملامحه المرتخية وهو يرد عليه بطريقة عقلانية:
-سجنه مش هيفيد، هيقضي مدة سجنه وهيطلع من السجن وكرهه لينا وإنتقامه مننا هيكبر جواه، لكن دلوقتي هو متقيد باللي معانا ومش هيفكر يعمل حاجة.
مزيد من أمارات الريبة ارتسمت على وجه "عدي"، متخوفا من أن يمس أيا من زوجته أو طفله الذي لم يعد على موعد ولادته سوى القليل، ناهيك عن شقيقته التي كادت أن تخسر طفلها وقدرتها على الإنجاب مرة أخرى، رمقه بنظرة مستفهمة وقابل ما قاله بتساؤل مستريب:
- ولو فكر؟
تراءى ل"مجد" القلق الذي يجيش به صدره على شقيقته وزوجته، نقل بصره نحو "جاسم" الذي سارع في الرد على الآخر بعدائية جلية بنوع من التعهد:
-عاصم لو فكر يقرب من حد فينا ولا هوب ناحية رفيف تاني أنا مش هرجع عن إني اقتله.
للحظة عم الصمت من حولهم، كان يدرس "مجد" في عقله احتمالية تفكير "عاصم" في اعتراض طريق أي منهم مرة أخرى، ولكنه ما لبث أن حرك رأسه بإنكار وقال بنبرة واثقة لا يتخللها الشك مرددا:
-عاصم مش هيعملها عشان السبب اللي بينتقم عشانه واللي أنا عارفه هو دخول أبوه السجن، فبالعقل كده مش هيبقى حابب إنه يدخله هو، ولو عملها وقرب من حد فينا تاني، هيبقى عارف إنه هو الجاني على نفسه، وعاصم مش بالغباء ده.
ذلك السببب الذي يدرأ "عاصم" للإنتقام منهم ليس بالمقنع نهائيا، أي شخص طبيع هذا الذي يبقى لكل تلك السنوات مترصدا تحركات أحد متخيرا الوقت الملائم للنيل منه تحت مسمى الإنتقام على فعلة مضت ولم تمسه هو بأذى؟، ناهيك عن أن كرهه ليس لمن مس والده بسوء كما يدعي بل الكره كله يكمن بداخله ل"مجد"، بتعبيرات متشككة تعتري وجه "عدي ونظرات متسائلة موجهة نحو "مجد"، أردف بتخبط وتفكير مشوش:
-هو ممكن يكون في سبب تاني بينتقم عشان؟، الكره اللي جواه ليك مش طبيعي يا مجد، وزي ماقولت هو عايز يحرق قلبك انت، مع إن السبب في سجن ابوه هشام بيه، يعني ليه الكره ده يبقى ليك انت مش لهشام بيه؟
لحظات من الترقب لرد "مجد" سادت بينهم، والذي شرد بتفكيره لأي سبب آخر يجعل بداخله كل تلك الكراهية له، ولكنه بالأخير حرك رأسه في صما بحركة توحي على عدم معرفته أو توصله لسبب آخر غير الذي أذعن به "عاصم" من قبل.
❈-❈-❈
ارتكن بظهره على ظهر الكرسي التابع لمائدة الطعام وهو يتناول رفقة "داليا" وجبة الغذاء التي أعدتها، أغلق شاشة هاتفه ووضعه جنبا ووجهه يعتريه وجوم مريب، نظره مثبت في الفراغ أمامه بنظرة مبهمة، يلوك الطعام بفمه ببطء يوحي بعدم تركيزه في تناوله للطعام، استرابت "داليا" لحظيا من هيئته التي تبدلت بغتة، ولكنها رجحت أنه لربما أعاد في ذهنه أحداث الليلة الماضية ومما تعرض له على يد "مجد"، ظلت تختلس النظر إليه وهي تتابع تناولها للطعام مترقبة أية إيماءة أو حركة تصدر منه، بينما هو كظم قدر المستطاع ما يعتريه من غضب حيال ما علمه توا، فقد اتضح أنه قد أرسل له أحد رجاله الذي كلفه بمراقبة المشفى وإبلاغه بأي طارئ برسالة ليلة أمس لم يرها حينذاك، كان يبلغه بها بقدوم "داليا" المشفى وبقاءها بها لقرابة الساعة، أضحت الشكوك تساوره ناحيتها خصيصا عندما ربط توجهها للمشفى بتواجدها ببيته قبلها، والذي لم يكن على علم به أيضا وقد أخبرته العاملة عندما كانت آتية لها بعصير الليمون الذي طلبته حين مجيئها وأخبرتها أن تجلبه لها في غرفة المكتب حيث توجهها للتحدث إلى "عاصم"، مغادرتها دون دلوفها إليه ليس لها إلا معنى وحيد وهو استماعها لحديثه مع الطبيب قبل إجراء العملية ل"طيف"، وهذا يكمل لديه الحقائق حول كيفية معرفة "مجد" بخطته ومنعه للطبيب من المساس بزوجته، وهو ذهاب "داليا" إليهم قبلا وتحذيرهم من الطبيب، لقد كشفت أمره أمامهم وكانت هي المتسبب الوحيد فيما حدث له، لقد كاد يرديه "مجد" قتيلا بسبب إفشاءها خطته، لم تأبه بحياته التي كانت على المحك، وكل ما عبأت به هو أمر عائلة صديقتها، في وسط خضم أفكاره المريضة، كانت "داليا" في عالم آخر، يشغل تفكيرها رغبة الآخر أمس في عدم ذهابه إلى مشفى لإستخراج الطلقة التي كادت تودي بحياته، لن يكون حماية ل"مجد" بالطبع، فكرهه له أوصله لمحاولة قتل طفله وحرمان زوجته من الإنجاب مرة أخرى، فلن يعمل على حمايته من الزج به في السجن لمحاولته قتله، لن تدع التساؤلت تنهك عقلها في حين لا يوجد ضرر من الاستفسار منه، ابتلعت الطعام ثم وجهت نظرها إليه في نية لسؤاله عن الأمر، بينما هو قد حسم أمر ورأى أن يواجهها بما يدور في رأسها من شكوك يتيقن من صحتها، ولكن لتكتمل كافة الأركان لديه يجب أن يستمع لإذعان منطوق منها، لكي لا تتآكل الظنون برأسه أكثر فهو على دراية بشكه المبالغ فيه بمن حوله، ولكن مواجهتها سيتسنى له من خلالها تحديد الحقيقة والتأكد من حبها وولائها له كما تدعي، والذي سيصبح مشكوك به إذا كانت فعلتها حقا، وعلى حين غرة وقتما حركت شفتيها وكادت تتساءل عن تساؤلها سألها هو مباشرة بطريقة باعثة على الرهبة بصوت حاد ألجم لسانها وزلزل كيانها:
-انتي اللي عرفتي مجد؟
يُتبع