-->

الفصل الثاني - مشاعر مهشمة (الجزء الثاني)

 




الفصل الثاني



ساد صمت ثقيل بينهما مُحمل بنظرات "عاصم" المتفرسة لكامل إيماءات "داليا" المرتبكة؛ والتي إن كانت توضح شيئا فلن يكون سوى برهانا على صحة ما يساوره من شكوك حيالها، ابتلعت بتلبك عارم واشتد وجيب قلبها في خفقانه من مباغتته بتسؤال سيؤول بها إلى ما لا يحمد عقباه حتما، أدركت أنها أضحت الآن قاب قوسين أو أدنى إلى الهلاك، رفرفت بأهدابها وهي غير قادرة على النظر بداخل عينيه اللتين ازدادتا اضطراما أمام تغاير هيئتها، تداركت صمتها الذي طال، بالطبع لن تعترف خيفة من نتائج هذا الإعتراف، لذا ستلجأ إلى إظهارها عدم فهمها لتساؤله المبطن، حاولت إخراج الكلمات من حلقها على نحو منضبط موارية ما أصاب لسانها من رعشة واضحة وهي تتساءل بمراوغة:


-ع. عرفت مجد إيه؟


بسهولة كبيرة تراءى له لجلجتها التي تبين تزييفها لعدم العلم عما يتساءل حوله، للحظة تدارك سؤاله النزق، كبح جموحه وراح يتساءل عما كان ينبغي أن يأتي بذكره أولا، بهدوء مريب ردد وهو يتكئ على نطقه للحروف:


-كنتي في المستشفى امبارح بتعملي إيه يا داليا؟


تضاعفت بداخلها الصدمة الممزوجة بالهلع، تهدجت أنفاسها وهي تتهرب بنظرها عن نظراته المسددة نحوها كالسهام التي تخترق ذهنها رآيًا ما تجاهد لإخفائه، تشوش بالغ أصاب عقلها ولم يسعفها لاختلاق أية كذبة لتبرئة نفسها من اتهامه الذي لم يصرح به كاملا بعد، ولكنها تفقه ما يرمي إليه بالتأكيد، لم يكن هناك ردا لديها ينقذها من وطأة الموقف المحيط بها ولكنها تمتمت محاولة إيجاد أي شيء تجيبه به متلعثمة:


-اا. أنا..


توقفت عن إتمام جملتها أو بالأحرى التفوه بشيء بعينه، بينما هو أراد أن يضيق عليها الخناق لكيلا تستمر في إدعائها أو إختلاق أمر مكذوب، وبتعابير ماكرة خاطبها في لهجة مستفسرة ولكنها تحمل التكذيب بين طياتها:


-إيه مروحتيش المستشفى إمبارح!


لم يتحسن حال "داليا" بل ازداد سوءً مع هدوءه الغامض الذي لا يبشر بخير على الإطلاق، رفعت يدها المرتعشة وقامت بوضع شعرها الذي انزلق على إحدى عينيها خلف أذنها، محاولة بقصارى جهدها أن تتظاهر بالتلقائية وهي تعلق بتوتر مضاعف بما طرأ بعقلها:


-لأ روحت.. كنت.. حسيت إني دايخة فروحت أقيس ضغطي لإن الفترة دي بيوطى كتير و..


بُتر باقي حديثها في حلقها عندما هب "عاصما" واثبا عن مقعدة بغتة، وصرخ بها بخشونة أصابت لسانها بشلل للحظة:


-كدابة.


انتفاضة واضحة سرت بكامل بدنها، دق قلبها هلعا من التغير الذي طرأ على سائر تعابير وجهه التي تحولت للشراسة، انحنى بجذعه العلوى نحوها وهي ماتزال جالسة على مقعدها منكمشة على نفسها وأضاف بصوت لاهث من اهتياج أعصابه:


-إنتي كنتي كويسة، بدليل إنك كنتي قبلها عندنا في الفيلا، قولتي للخدامة إنك دخلالي وطلبتي منها ليمون وتجيبهولك على المكتب لما عرفتي إني جوا، ومع ذلك مدخلتيش، إيه تفسيرك..


لم يأبه بالوخزات القاتلة التي تصيب كتفه مع كل كلمة ينطق بها أو حركة منفعلة تشتد عضلات جسده على إثرها، ولاحقها متابعا باتهام صريح بصوت ارتعدت أوصالها له:


-غير إنك سمعتي كلامي مع الدكتور وروحتي تعرفي مجد، روحتي تقفي معاهم ضدي.


ازدادت قوة صوته الصارخ في تتمة ما قاله تزامنا مع ضربه بكفه بعنف فوق الطاولة أمامها، رفعت يديها بتلقائية أمام وجهها كدرع حامي لها خشية من تطاوله عليها كما فعل من قبل، وردت عليه على الفور بقلب يدب بخوف متعاظم مدافعة عن نفسها:


-أنا مقولتش عليك حاجة لمجد ولا لا اي حد هناك.


لم يبتعد عنها خطوة واحدة، وظل على انحناءة جسده وهو يسألها بسخط عارم:


-أمال قولتيله إيه؟


ابتعلت بوجل وأجابته بصوت مهتز من شدة روعها وقلبها يكاد ينخلع من صدرها من قوة نبضاته:


-قولتلهم ميدخلوش الدكتور عشان هيموت البيبي، بس والله ده اللي حصل.


كز على أسنانه بغضب من استهانتها بفعلتها، وبحركة مفاجئة التقط كوبا زجاجيا من فوق الطاولة وألقاه بالحائط ليتهشم مصدرا صوتا صاخبا أجفلت "داليا" عينيها له، عاد بنظراته التي يتطاير منها النيران وعقب بغلٍ وزئير غاضب:


-وأما يبقى فيه بيني وبينهم عداوة، وبنت خالتي رايحة تحذرهم من الدكتور، وهما عارفين بعلاقتنا يبقى كده معرفتيهمش حاجة!


ظنت من فرط إنفعاله المرئي إنه سيحطم كل ما يقابل يديه، نهضت بذعر عن مقعدها وهي تحرك رأسها بالسلب، ونطقت بدون تفكير معقبة:


-محدش فيهم يعرف بعلاقتنا، هي رفيف بس، ورفيف استحالة تقول لحد.


أوصلته عبارتها النزقة إلى أوج غضبه، فها هي على طبق من ذهب أعترفت له بإخبارها لصديقتها حول علاقتهما السرية، والتي من المؤكد هي من قامت بإخبار شقيقها، اندفع بكامل عنفوانه وقبض على ذراعها، تحديدا ما فوق مرفقها، وبغضب أهوج صاح بها:


-كلهم عارفين، ومجد أولهم، جالي وقالي إني بدوس في عرضي وبحمل وارمي، عرف منين إني محملك لو مش رفيف اللي قالتله؟، قولتيله انتي!


ارتعدت فرائصها، وتضاعفت رعشة جسدها وتهز رأسها بالسلب، محاولة نفي الإتهام عنها بوجلٍ وهي تقول بصوت بدأ في الإنتحاب:


-والله ماقولتله حاجة ولا كلمته أصلا.


لم يأبه بالعبرات التي تكومت بحدقتيها، ولا بإيلامه لذراعها الذي إزداد في شده قبضته له حتى خرج من حلقها تآوه مكتوم، وأطنب على نفس الشاكلة المهتاجة ملقيا كامل الذنب عليها فيما تعرض له الليلة الماضية وهو يلوح بذراعه الآخر أمام وجهها:


-إنتي بقّيتي صاحبتك وعيلتها عليا، اختارتي تقفي في صفهم وبعتيني ليهم، كل اللي حصلي إمبارح ده إنتي السبب فيه.


لم يكن كل ما حدث له ما كانت تسعى إليه من البداية، ولم تفكر بنتائج فعلتها التلقائية؛ وأنها لربما تعرضه لأذى، انهمرت دموعها أمام إحساسها بالذنب حياله، كان من الممكن أن تهاتف صديقتها على رقم والدها عندما وجدت هاتفها مغلق، وأخبرتها بالأمر حتى تكون هي بعيدة عن الصورة ولا تذهب شكوكهم نحو الماثل أمامها يتملكه غضب العالمين، تعلم أنه ما كان ينبغي أن يصل تفكيره إلى إيذاء طفل أو تخطيط لقتله بالأحرى مهما بلغت العداوة بينه وبين والده، ولكن ما يهمها هي بوجه عام شأنه هو فقط وألا يمسه اي مكروه، بانفاسٍ متلاحقة أخبرته مبررة فعلتها بمصداقية:


-مكانش قصدي أبيعك ولا كنت عارفة إن كل ده هيحصللك، كل الموضوع إني اتعاملت بعفوية، مقدرتش اتحمل إني ابقى عارفة إن في طفل هيموت وأنا بإيدي أنقذه واسكت.


حدجها بنظرات مشتعلة، نفض ذراعها بقساوة، ولكنه لم يتحرك من أمامها، دنا بوجهه منها أكثر وأخبرها بجمود وصوت خبت منه العصبية التي كانت متأججة منذ لحظة مرت مما آثار ريبتها:


-وعملتي حركة البطولة بتاعتك، شاطرة، برافو، انسي بقى أي حاجة بينا.


مع نطقه لآخر عبارة قالها حتى خفق قلبها بقوة هزت وجدانها، رغم فقهها لمضمونها الصريح إلا أنها أرادت تكذيب لما تراءى لها للمرة الثانية وسألته بصوت متخوف يعبر عما أصاب قلبها المكلوم:


-يعني إيه أنسى أي حاجة بينا؟


أكتسبت ملامحه شراسة متزايدة مع نطقه موضحا المعنى الضمني بنبرة حادة قاسية خالية من أي شعور إنساني غير مكترثا بما سيخلفه على روحها من جروح معنوية لطالما تسبب لها بها:


-يعني من النهارده مفيش حاجة تجمعنا ببعض، حتى قرابتنا مبقتش تعنيني.


ألقى آخر كلماته كما يُلقى السهم بالقلب ليصيبه في مقتل، سار نحو باب شقتها مغادرا، بينما هي كعادتها الغير متقبلة لفكرة تركها لها، ركضت خلفه مسرعة قبل وصوله إلى الباب، وهي تقول بصوت متلهوج آسفة ومتوسلة إياه بطريقة باعثة على الذل:


-عاصم، استنى متمشيش، أنا آسفة والله..


لم تتابع سيل كلماتها الذليلة لإزاحته ليدها التي أمسكت برسغه فور لسمها له بنفضة قوية وهي يهتف بها بحدة:


-أوعي.. آه.


تفلتت آنة متألمة للغاية من حلقه، لتلك الحركة الخاطئة المتشنجة التي أصابت جرحة، وعملت على تدفق الدماء من جديد من كتفه، دق قلبها خوفا عندما وقع صوته المتألم على أذنيها، استعادت اتزانها بعد حركة يده الهوجاء التي تسببت في ترنح جسدها، هرعت نحوها وهي تتكلم بتساؤل مرتعد وهي تتفحص جانب وجهه الموجه إليها:


-إيه اللي حصل.


التف بجسده قليلا ليصبح مواجها لها، بأمارات وجها تملأها الرهبة وهو موجها بصره نحو قميصه الذي ظهرت عليه بقعة حمراء موضع جرحه دلالة على سيلان الدماء أسفله من جرحه الذي تم خياطته الليلة الماضية، أردف بصوت متألم وبتآوه مكتوم ردد:


-آمم.. الجرح شكله اتفتح.


شخصت بصرها نحو بقعة الدماء التي لطخت قميصه، شهقة خافتة خرجت منها واضعة يدها فوق فمها وهي تنظر له بعينيه جاحظتين من الرعب الذي دب قلبها، بينما هو راح يفتح أزرار قميصه بيدين مرتعشتين لذلك الخوف المستبد به من رؤية للدماء، نحى الضمادات الموضوعة فوق كتفه جنبا والتي لم تعد صالحة لغزارة الدماء التي سالت من جرحه ولوثتها، وجد أن الخياطة ماتزال كما هي، ولكن من حركته الغير متأنية انسدلت بعض الدماء من نهاية الجرح، غادر حلقه تآوه صارخ عندما علقت الضمادة بكتفه جاذبة لحمه المجاور لموضع الخياطة:


 -آاه.


برجفة متمكنة من جسدها جابت بعينيها المكان لتتذكر موضع تركها لعلبة الأسعافات الاولية؛ والتي استخدمتها أمسا، وعلى تذكرها ذلك توجهت على الفور نحو غرفتها، بقت بها لعدة ثوانٍ ثم عادت وبين يديها ما تحتاج إليه، ثم أخبرته بصوت هادئ بأنفاسٍ متلاحقة بعض الشيء لما يختلجها من بعض الخوف من رفضه:


-تعالى أغيرلك على الجرح.


لم تكن منه سوى استجابة لطلبها دون أدنى مماطلة لما يتمكن منه من هلع أصاب أوصاله، جلسا على أقرب أريكة منهما، خلعت له قميصه بتؤدة كي لا تؤذيه، التقطت قطعة قطن ووضعت فوقها القليل من المطهر ووضعتها بتريث فوق الجرح، تمسح بخفه حوله وفوقه مزيحة بقع الدماء وعاملة على تطهيره ايضا، بينما هو كان يكز فوق اسنانه متحاملا على نفسه الوجع الذي كان يمزق كتفه، كانت تفرق نظرها بين ما تفعله وبين عينيه الموجهه للا شيء أمامه متحاشيا النظر لها، حز في قلبها ذلك الوجع المعتلي وجهه، فهي رغم كل ما تلقاه منه من جفاء وقساوة وهجران في كثير من الأحيان، إلا أنه سيظل حبيبها والوحيد الذي تأبه له وتكترث لأمره، وسيبقى حبه محفورا بداخل جنبات قلبها مهما حدث.


حرك بؤبؤا عينيه بندقية اللون نحوها عندما علم بانتهائها وقيامها بوضع اللاصق الطبي فوق الشاش لتثبيته، أمسكت عينيه عضتها فوق شفتها السفلى وهي تثبت اللاصق فوق كتفه بحذر لكي لا يسقط عنه، لتدفق الإثارة بعروقه، وتتأجج الرغبة بداخله بها، كما إنه اجتاح خلاياه غضبا عارما لن يتبدد إلا عن طريقها، ناهيك عن أن غضبه هي المتسبب به. استشعرت إقترابه منها لترفع عينيها الخضراوتين المشابهتين بحد التطابق لعيني والدته الراحلة، تراءى لها القتامة التي غامت خلفها حدقتيه لتفطن ما الذي يريده، قاطعت اقترابه نهوضها وهي ممسكة بالضمادات المستهلكة إيحاءً منها على ذهابها لإلقائها في سلة النفاية، بينما هو لم يدعها تتحرك قيد أنملة قابضا على رسغها وأجلسها جبرا، لتشهق بخفوت من سرعة فعلته ووجهت نظراته المرتبكة نحو عينيه اللتين تفافم بهما الرغبة، أمسك بجانب وجهها ودنا برأسه منه من جديد، تهدجت أنفاسها وارتعش صوتها وهي تخبره محاولة التماسك بآخر ذرات قوة بخلاياها لكيلا تنساق معه فيما يريد، فبداخلها يكمن مزيج بغيض من الإشتياق له والنفور مما يوده:


-انت تعبان.


ظهر على وجهه عدم الإكتراث لعبارتها الواهية، والتي لن تمنعه عما يريده وفي الحال، فقد أضحى يشعر بنيران تنهش بكامل جسده ولن يكن لها إخماد من دونها، اكتسبت قسماته شراسة متزايدة وبأنفاسٍ ازدادت في سرعتها وصوت أجوف طغت عليه كل معالم الرغبة ردد:


-ششش.


ضاقت نظراته من الإنتشاء الفج الذي سرى بعروقه، وما تحفز بداخل سائر خلاياه، طوق خصرها بذراعه الآخر وجذبها نحوه ليجعلها ملاصقة له، لم يكترث للمسة بطنها المتكورة له أو بالمعنى الأصح لم يضع التريث في حسبانه تلك الليلة لأجل حملها، وانحنى أكثر ليأخذ شفتيها المرتجفتين في قبلة هوجاء فوضاوية للغاية تحمل الكثير من الغضب ليس الإثارة فحسب، كان كمن يجاهد لإدماء شفتيها وليس تلثيمة شغوفة كما كانت تظن في بادئ الأمر، لاحظ عدم رغبتها الواضحة فيما يحدث فهي لم تبادله حتى القبلة، ولكن هذا آخر ما قد يعبأ به الآن، فهي المتسبب الأول بكل ذلك الإختناق الجاثم على صدره وهي من ستلقى نتائجه الوخيمة أيضا، أدركت هي باقي السيناريو وما الذي ستؤول إليه تلك الليلة، لم تكن بحاجة لتخمين كيف ستكون حالة جسدها بنهاية المطاف، فسيمر الوقت بينهما وسيهمد جسده وإما يجافيه النوم بحانبها أو يقرر بدون سابق إنذار المغادرة، وهي التي ستظل طوال الليل تتألم مما أصاب جسدها والذي سيكون من صنيعه بالتأكيد، أي امرأة لديها ولو قدر قليل من العقلانية سترفض وتتمنع وربما تثور، ولكنها مغايرة تماما لأي توقعات، تعلم كل العلم أن رفضها سيكون عامل حفاز في إصراره في تنفيذ تهديده بتركها، تلك التهديدات التي لا ينفك يلقيها على مسامعها باستمرار، لذا فهي مسالمة ومتقبلة لجل ما يحدث مهما بلغت وطأته على جسدها المنهك أو روحها المهشمة، وكل ذلك من خوف بل رهاب من فقده؛ وهذا ما يستغله هو بالتحديد باشنع طرق الإستغلال.



❈-❈-❈



لكل نفسٍ طاقة تحمل عندما تبلغ قمتها؛ لن يقدر كاهليك على تحمل المزيد من المصائب، سيصبح مدخرك من الصبر نافذ، لن يكون لالتزام الصمت أدنى طائل، وسيكون التحدث بكل ما يختلج النفس وتحملته لدهور مشروط، وهذا ما أضحى عليه "هشام" بعدما قضى سنوات طوال في تحمل كل ما ألم به من مصاب والتغاضي عن كل أمر غادر، تحتم عليه المجيء لأساس كل مصيبة وبلية حلت عليه، ألا وهو البغيض الأكبر "كمال الصباحي"، واقف في بهو الفيلا بعدما أبلغ العاملة برغبته في رؤيته وأخبره باسمه الذي سيكون مفاجأة كبرى عند وقوعه على مسمعه.


قطع الصمت المطبق حول "هشام" صوت "كمال" الذي حول الأول بصره نحوه ليجده هابطا الدرج؛ وعلى محياه إبتسامة لزجة تحمل الكثير والكثير مما تضمره نفسه له من كره وحقد دفينين لم يجدبا من أعوام مضت، وببروده المعهود مرددا:


-مصدقتش لما الشغالة قالتلي إنك هنا، يااه يا هشام، أمتى آخر مرة شوفتك؟، من ستاشر سنة!، مش كده برضه؟


قال عبارته الأخيرة بعدما وصل إليه واصبح قبالته، يناظره بتلك الندية التي إلى الآن لا يعلم الآخر ما السبب فيها، علم علام يلمح بتلك العبارة، والتي تحمل معنى ضمني عما قام به به من ستة عشر عاما، وهو خطفه لابنته الغالية وحرمانه منها لطوال تلك الفترة، لم تهتز نظراته وظلت ثابتة مرتكزة على عيني الآخر المليئة بالشر، وعلق في تأكيد مليء بالأسى والحسرة على ما اقترفه بدم بارد في حقه:


-ايوه يا كمال من ستاشر سنة، لما خطفت بنتي.


تحولت تعبيرات الآخر لتتشبع بالعدائية، وأكمل ما ينقص عبارة "هشام" قائلا بجمود فج:


-ولما انت سجنتني.


لم يستسغ طريقته التي توحي بإجحافه عليه؛ عندما سلم تلك الملفات التي كانت تدينه في عمله المشبوه للشرطة متسببا في سجنه، صحح صياغة عبارته وإدعائه المكذوب في كونه ضحية له قائلا بحرقة اعتلت صوته بقوة:


-سجنتك لما بنتي ضاعت بسببك، سجنتك لما مراتي كانت بتموت بسببك.


على ذكره لزوجته الراخله، انفرجت شفتيه من الحانبين بابتسامة مليئة بالغل، ودمدم في كراهية عارمة واستهجان أمتلأت به نبرته:


-مراتك!، مراتك اللي كان المفروض تبقى مراتي.


عززت عبارته تذكيره بالعديد من أحداث الماضي، وأطياف منها مرت للحظة بذهنه، وكان تحدثه في تلك النقطة تحديدا؛ ما جعل جذوة غضبه الذي يحاول كبته تشتعل بصدره، ولم يستطع التحكم في صوته الذي ارتفع صائحا به في احتجاج على ما خيله له عقله المريض بشأن زوجته الراحلة:


-نجوى عمرها ما كانت هتبقى ليك، وانت عارف كده كويس، عمرها ما كانت هتختار تبقى مع واحد.


بعينين لم يرف لهما جفن؛ كان يرمقه بجمود رغم ما يعتري صدره من غضب إن لم يكبحه لدمر البيت كاملا بمن فيه ذلك الماثل أمامه الذي لا يبغض أكثر من تلك الثقة التي تنبعث من حدقتيه، ظهرت علمات نفاذ صبره على تعابير وجهه، وهدر بصوت آجش متسائلا:


-جاي ليه يا هشام؟


تنهد "هشام" بعمق ليثبط كا اعتراه من مشاعر بغيضة من رؤيته له بعد كل تلك السنوات، حدجه بنظرات محذرة يعلم الآخر معناها جيدا، وبجدية وبغير تهاون استطرد:


-جاي أقولك ابعد عن ولادي يا كمال.


تظاهر بعدم الفهم، وحرك وجهه بطريقة توحي بذلك، واستفسر بوجه خالي من أي تعبيرات؛ بنبرة فاترة قاصدا استثارة أعصاب "هشام":


-وأنا مالي ومال ولادك؟


اشتاطت نظراته أمام ما يدعيه غضبا، وراح يهدر في عصبية جمة وهو يلوح بيديه في الهواء:


-خلي عاصم يشيلهم من دماغه، رفيف بنتي كانت هتموت بسببه، كان عايز يقتل ابن مجد لولا ستر ربنا، هتخلي جحودك يوصله يعمل ايه تاني فينا يا كمال؟


لم تتأثر ملامحه وظلت على نفس الشاكلة المرتخية، عقد ذراعيه أمام صدره، وعلق عليه مستمرا في تظاهره بعدم فقهه لكل ما يقول:


-ومين قالك إني عارف حاجة عن اللي بتقوله ده كله؟


دنا منه أكثر، ووجهه أصبح عبارة عن كتلة حمراء جراء إثارة الآخر لأعصابه، وأردف بصوت جاد بثقة غير مشكوك بها:


-عاصم مش هيعمل البلاوي دي من غير مايكون ليك يد فيها، لإنك عايز تخلي ابنك نسخة منك في شرك وقرفك، انت فاكر إنك بتخليه يجيب حقك زي مابتقولوا، لكن انت بتدمره، أو انت فعلا دمرته.


قست نظراته وهو يستمع لسيل إهاناته الصريحة له، كز أسنانه ثم سأله بضيق ظاهر على محياه:


-خلصت اللي جاي عشانه؟


تدارك إنهائه للحديث بينهما بصورة غير مباشرة، كان قد أخبره بما أتى لأجله؛ ولكنه أراد إضافة المزيد لتوعيته من ناحية ولإشعال فتيلة غضبه كما فعل معه من ناحية أخرى، لم يبعد عينيه الحانقتين عنه وهو يطنب بهدوء وعن إيحاء مقصود لكل كلمة غادرت فمه:


-أيوه خلصت، بس حاجة أخيره عايز أقولهالك قبل ما امشي، مهما عاصم حاول يئذينا مش هيطولنا أذى منه لإن مجد في ضهرنا، وعدي وجاسم أجواز بناتي واقفين في ضهره، إنما ابنك لواحده، وانت عمرك ما كنت ضهر ليه، وبرضه مهما عمل أنا هفضل مشفق على اللي وصلله من تحت راسك.. وإنه أبوه واحد زيك.


قال آخر عبارة بازدراء كان جليا على تعبيراته، رمقه من رأسه لأخمص قدميه بنظرة ناقمة غامطة، ثم التفت متحركا نحو باب الفيلة؛ بخطوات مسرعة وكأنه كارها الوقوف في محيط الأكثر للحظة أخرى.


لم تخبُ شرارات الكراهية من حدقتي "كمال"؛ حتى بعدما غادر الآخر المكان، فتلك الكراهية ليست مرهونة بوجوده، وليس منذ تسببه له بدخوله السجن كما يزعم، وإنما من حقد زُرع في قلبه نحوه، وكراهية لم يُكن لها سبب وجيه، رؤيته له بعد كل تلك السنوات جعلت الكثير من الذكريات تتكتل في ذهنه، بعضها لأيام صباهما معا والبعض الآخر تشمل اوقات تناحرهما، كان لاختيار زوجة "هشام" الراحلة الزواج به بعد رفضها له هو الأثر الأكبر في كل ما آلت إليه علاقتهما آنذاك حتى الوقت الحالي.


بخطوات حثيثة سارت "نجوى" نحو مكتب المدير، الذي طلب من سكرتيرته الشخصية أن تبلغها بالصعود إليه، كانت حديثة العمل في الشركة، لم يمضِ على مجيئها غير شهرين فحسب، أتى بها "يحيا الجندي" الشريك الثالث لكل من "هشام" و"كمال" في تلك الشركة التي شيدوها فور إنتهاء تعليمهم الجامعي، فقد كانت إبنة لأحد أقربائه؛ أخبر "كمال" كونه المدير العام برغبتها في التدريب بشركتهم، لما أصبح لها من صيت واسع؛ وكان ذلك خلال فترة ضئيلة، رحب "كمال" بها للغاية وخاصة عندما علم بتفوقها الدراسي وما كان متوقع لها من مستقبل باهر، لم يبدِ حينها "هشام" أي اعتراض وكان على توافق معهما، بابتسامتها الصافية أردفت برسمية حينما توففت أمام المكتب مباشرة:


-ايوه يا Mr كمال، حضرتك طلبتني؟


ترك الملفات عن يده، ووثب عن مقعده وعلى محياه ابتسامة متسعة تشكلت لرؤيته لها، دار حول مكتبه بهامته السامقة حتى وقف أمامها، رمقها بنظرة عميقة وأردف بهدوء:


-مردتيش عليا.


حركت حدقتيها بحركات متوترة بعض الشيء، لم تفقه الأمر الذي يقصده، حتى ظنت أنه لربما يكون شيئا خاص بالعمل وتغافلت عنه، كانت هيئته ملبكة قليلا دونا عن شريكيه بالنسبة إليها، ظهرت القليل من الريبة على إيمائتها وهي تسأله مستفسرة:


-مردتش على إيه بالظبط؟


خطوة وحداة أخذها نحوها؛ وهو يجيبها موضحا بكلمات موحية عن شيء بعينه:


-على اللي كلمتك فيه بقالي شهر.


توصلت إلى قصده ليس من عبارته فحسب، بل أيضا من نظراته المترقبة، والذي كان ينتظر منها ردا عن طلبه الزواج بها، ولم تعطي له إجابة محددة وقتها غير أنها ماتزال تدرس وغير متفرغة الفكر لتلك الأمور، وها قد أنهت آخر امتحانا لها في عامها الآخير، رطبت شفتيها واعتلى الإرتباك صوتها وهي تجيبه متحججة كي لا تسبب له الحرج:


-أنا بصراحة مبفكرش في موضوع الإرتباط حاليا.


ضاق ذرعا من مراوغتها معه، زفر دفعة من الهواء الساخن من رئتيه، ثم أخبرها في جدية مضاعفة:


-أنا مش بقولك نتجوز دلوقتي، ممكن نتعرف على بعض الأول، وخدي كل الوقت اللي انتي عايزاه بعد كده.


نظرت أرضا بتخبط ولم تدرِ ما الكلمات الصحيحة التي ينبغي عليها الرد بها في موقف كذاك، ببنما هو ظن أن صمتها استجابة لحديثه المغري، ليتشجع حينها ومد يده ملتقطا يدها، لتشعر بصدمة شتتها للحظة، وما ضاعف من تلك الصدمة؛ هو اعترافه لها بصوت أجوف محمل بمشاعره نحوه:


-أنا بحبك يا نجوى.


رفرفت بأهدابها من تصريحه المفاجيء، اعترافه ذلك ضيق عليها الخناق، لم تجد أمامها حلا آخرا غير إخباره بحقيقة شعورها والذي حتما لن يتبدل، سحبت يده من قبضته، حادت بنظرها عنه وهي تقول بصوت خفيض بجدية:


-أنا آسف يا Mr كمال، بس أنا مش هقدر أبادلك أي مشاعر انت مستنيها مني.


كانت تعبيراته جامدة رغم ما أصاب قلبه من سهام قاتلة، استشعر من كلماتها احتمالية وجود آخر بحياتها، تكن له تلك المشاعر التي لن تستطيع مبادلته إياها، تجرأ على سؤالها لكي يحسم أمر تلك المشاعر التي ترسخت وجدانه:


-في حد تاني؟


لم ترِد أن تعطيها إجابه مائعة ورغم أنه لا دخل له بتلك الشئون المحظورة والخاصة بها فقط، ألا أنها أعطت له إجابة حتمية، عن طريقة ايماءة متريثة بالإيجاب من رأسها، تنهد بصوت مسموع وزم شفتيه وهو يوميء لها بالتفهم، عاد للخلف الخطوة التي سبق وتقدمها، ثم أخبرها بجمود يتسم به ونبرة صوته القوية مرددا وهو يشير لها بذراعه تجاه باب المكتب وقد تحول صوته من اللين إلى الحزم:


-تمام، تقدري ترجعي على مكتبك.


لم تكن هذه سوى بداية لما امتلأت نفسه به من ضغينة لما اعتبره -مجازا- منافسا له، كانت تلك الضغينة لشخص غير معلوم الهوية، ولكن مع مرور الوقت علم من الذي تربع على عرش قلبها، وتسبب في رفضها الزواج به، صديقه والذي كان بمثابة أخ له بالرغم من عدم وجود صلة دم تجمعهما، وما اعتبره خيانة منه علمه بمبادلته لها نفس الشعور، وهو الذي قد أخبره قبلا بميل قلبه نحوها، اقتناعه التام بأخذ الآخر حق من حقوقه؛ كان الدافع الأكبر نحو كل ما قام به بعد ذلك.


❈-❈-❈



لم تجفل لها عين طوال الليل، رغم أنها حاولت بقصارى جهدها أن تخلد إلى النوم، إلا أن تألم جسدها حال دون ذلك، بينما كان هو مستلقيا على ظهره غافيا منذ أخذ وطره منها وأحس براحة وقتية سرت بكامل عروقه وتوغلت أوصاله، حانت منها التفاتة صغيرة نحوه، كان نائما بمنتهى الأريحية، ظاهرا على وجهه السكون الذي حرمها منه، لم تكن نظراتها كارهة له بل كانت تحمل كافة معاني الحب والوفاء، تعلم أن ما بداخله من مشاعر لها مغاير تماما، أو يمكن أن يصح القول باعترافها لذاتها أنه لا يحبها بالأساس.


كانت تود أن تجد معه الحب والسكنى التي فقدتها مع فقدها لأبويها، لم تكن تريد أن يتطرق حبها له الذي كان نقيا لتلك الأمور المحرمة التي لا يأبه في علاقتهما سوى بها، كل ما يكترث به هو إشباع رغباته الذكورية الجامحة، وكيفية احتواءها له في أوقاته العصيبة التي يتضاعف بها اهتياج أوداجه وزيادة عنفوانه، لا يعطي اهتماما لها ولتألمها ولا لأوجاعها المعنوية قبل البدنية، فهي في كثير من الأحيان لا ينتابها غير شعور أنها مثل العاهرات التي لا ينفك يذهب إليهن، وما الفارق بينهما إذن؟، غير أنها له هو فقط.


انخفضت يديها نحو بطنها تتحسسها بحركة متريثة، التمعت عينيها بعبرات حبيسة، لم يكترث حتى لتقدم شهور حملها، ولربما تتأذى هي أو جنينيها مثلما حدث من قبل، ذانك الجنينان اللذان لا تدري حتى ما المصير الذي ينتظرهما، كيف ستدبر أمرهما بمفردها؟، ألن ينتسبان لأحد؟، هل سيكون راضيا أن يكونا ابنيه بلا أب وهو على قيد الحياة؟، أي قلب ذلك الذي بداخله؟، كيف سرى حبه بداخل قلبها وهو على تلك الطباع؟، قلبه مجرد هكذا من أي شعور إنساني!


منزوية في أحد الجوانب، بجوار الباب الخارجي للفيلا، حيث سيخرج "عاصم" منه في أي لحظة قادمة، كعادته كل يوم في نفس الموعد بالتحديد، في التاسعة صباحا من كل يوم، تنتظره في ذلك المكان، لتملي عينيها من هيئته البهية التي ما إن يطل عليها حتى يدق قلبها بقوة، وتشعر بضجيج نبضاته يتردد في أذنيها، ذلك الشعور الوليد بداخل قلبها والجديد من نوعه عليها.


لمحت بطرف عينيها ترجله من باب الفيلا، بهامته الساحرة وجسده الفارع المشدود، بتلك الحلة الرسمية التي لا تزيده سوى وسامة فوق وسامته، لن يكون الإنتظار اليوم لأجل نظرة تسترقها نحوه ككل يوم، بل حسمت أمرها ورتبت العبارات في رأسها، ستعترف له بما احتل ثنايا قلبها، بذلك الحب الذي مايزال في مهده، حمحمت بصوت مرتفع نسبيا كي ينتبه لوجودها، وبالطبع التفت "عاصم" برأسه نحو مصدر الصوت، ليجدها ابنة خالته واقفة على بعد عدة خطوات منه، لم يعطِ لها بالا وتابع سيره، ولكن أوقفه من جديد صوتها الهاتف باسمه وهي تلحق به:


-عاصم!


تابع سيرها نحوه بنظرات فاترة، لاحظ الإرتباك الجلي عليها والصمت المبهم وكأنها منتظرة إذنا منطوقا منه لجعلها تتحدث، عقد حاجبيه من صمتها فهي من استوقفته، وأردف باستفهام بجمود صوته:


-عايزه إيه؟


كانت تحاول أن تتحلى بثباتها المتزعزع في وجوده، وخاصة مع استماعها لصوته ذات النبرة القوية حتى خفق قلبها وتتطايرت جمبع الكلمات من فوق لسانها، فركت يدها بربكة واضحة له وغمغمت بصوت خفيض مهزوز:


-كنت.. عايزه اتكلم معاك في حاجة كده.


بالكاد استمع لكلماتها الهامسة، تفاقمت عقدة حاجبيه من مماطلتها الغير مفهومة، وتساءل بصبر نافذ:


-حاجة إيه؟ اتكلمي علطول، مفيش عندي وقت.


ازدردت ريقها وهي تشعر بقدميها أصبحا كالهلام أمام نظراته المترقبة، وبنظرات متنقلة بين وجهه وأي شيء آخر بالمكان حولهما، تكلمت على نفس الشاكلة المتوتر متلعثمة:


-بص.. أنا عارفة إن، أنت يعني أكبر مني بكتير، بس أنا مش عارمة أمتى حسيت بكده.. وأنا..


ضجر من عدم قولها شيء بعينه يفهم من خلاله ماذا تريد، رمق ساعة يده بنظرات ضائقة، ثم أخبرها في تعجل وهو متحفز للمغادرة:


-لما أرجع يا داليا.


تداركت الضيق الذي تشكل على ملامحه من عدم تفوهها بعبارة تحمل معنى محدد، نفخت أنفاسا ساخنة من رئتيها وراحت تتكلم دون تفكير باندفاع نزق:


-عاصم أنا بحبك.


فور نطقها بتلك العبارة توقف عن سيره واستدار بجسده إليها، وعلى محياه جمود مريب، رمقها بنظرة ثابتة غير مقروء لها معنى، تعجبت "داليا" من صمته المبهم، وشعرت لوهلة بالندم من تسرعها، ولكن ما زاد من تعجبها هو ملامحه الجامدة التي أخذت في التراخي رويدا رويدا، وانفرجت شفتيه من الجانبين بابتسامة أخذت في الإتساع إلى أن تحولت لضحكات مجلجلة، اهتز جسده وعاد رأسه للخلف على إثرها، اغتاظت من ضحكه الذي لا تجد له سببا وجيها، وكادت تستفسر عما يضحك فيما قالته، ولكن منع ذلك قوله لها بصوت مايزال يحمل آثار الضحك باستخفاف ولا مبالاة لإعترافها الواهي:


-روحي ذاكري يا داليا.


عبوس طفيف سيطر على ملامحها من عدم أخذه اعترافها بحبه على محمل الجد، بل تحمل كلماته عدم الإكتراث بشخصها قبل ما تكن له من شعور لتوها صرحت به، تقدمت منه ما يفصل بينهما من خطوات قليلة، وبجراءة غير معهودة مدت ذراعها والتقطت يده، نظرت بحدقتيه ذاتا اللون البندقي، أخبرته بصوتها الناعم بجدية مضاعفة مكررة اعترافها له:


-أنا بتكلم بجد، مش بهزر، أنا بحبك يا عاصم.


زم شفتيها بغير رضاء واضح على محياه، فما تقوله كان غير مستساغ بالنسبة إليه، وفقدت عقلها إن كانت تظن أن واحدا مثله لديه من العمر ثلاثون عاما سيبادل فتاة في السادسة عشرة مشاعر مراهقتها الغبية، تغايرت ملامحه واشتدت تعبيراته، قام بسحب يده من قبضتها، وتكلم بنبرة صوت حادة زاجرا إياها قبلما يغادر المكان ويتركها في أوج حزنها:


-شيلي الهبل ده من دماغك، أنتي عيلة صغيرة ومش فاهمة حاجة، ومش عايزك تتكلمي معايا في حاجة زي دي تاني.


فاقت من شرودها على اهتزاز جسد النائم بجانبها في انتفاضة أو ربما تشنج عنيف، مصحوبا بصوت آنات مكتومة بداخل حلقه، أصابها الفزع من حالته والتي ليست بجديدة عليها، مدت يدها نحو ذراعه، وربتت فوقه ربتات متتالية وهي تهتف في صوت مرتفع نسبيا محاولة إيقاظه:


-عاصم، عاصم فوق.


أهتزت أهدابه وهو مجفل العينين، وتهدجت أنفاسه وكأن هناك من يهاجمه بضراوة، ويكافح هو للتملص منه والذود عن نفسه، بعد عدة محاولات من الأخرى لإفاقه، فتح عينيه على مصراعيهما تزامنا مع انتفاضة جذعه للأمام، وتسارعت أنفاسها للغاية بعد شهقة مفزوعة غادرت حلقه، حملق بوجهها لبرهة وهو يشعر بقليل من التيه وأمارات الهلع متشكلة فوق وجهه، وضعت يدها فوق ظهره العاري، وسألته وهي تتفقد هيئته مستشفة:


-بتحلم برضه؟


هدأت أنفاسه قليلا واستفاق من حالة التيه التي كان عليها متداركا وجودها، رمقها بنظرة متخدرة بعض الشيء من تمكن النعاس منه ورد عليها في إيجاز متحشرح:


-آه.


استلقى على ظهره وجبر جسدها هي الأخرى على توسد الفراش بجانبه، وبحركة لا واعية منه تحت وطأة نعاسه، دنا بجسده منها ، ليصبح جذعه ملاصقا لجانب جسدها، ثم أطبق بذراعه فوق خصرها، ودفن وجهه في جانب رأسها، كأنما حالته الملتاعة منذ برهة هي الدافع في ذلك، حتى تودده إليها والذي تتوق له يكون في أوقات غير واعيا بها ولا تصدر منه حبا بها ورغبة لدفئها، انسابت عبرة حارقة متحسرة على أحد صدغيها، أوصدت عينيها محاولة استحضار سلطان النوم، علّه يذهب بكل جروحها في غياهبه.


يُتبع