-->

الفصل السادس عشر - كما يحلو لكِ - النسخة العامية



 الفصل السادس عشر

النسخة العامية

سرعان ما عدلت دهشتها ولحقت نفسها بابتسامة عذبة ناعمة كي لا تجعله يرتاب بشيء، وتوجهت وحملت طبقه وكوب قهوته ووضعتها على المنضدة الجانبية لفراشه واجابته بمنتهى العفوية:

-        بعد ما اشتريت العربية على طول.

 

ناولته الطبق فتناوله منها وامسك به وهو يعقد حاجباه وامتدت يده لتحتوي شطيرة صنعتها فتابعته بمنتهى التلقائية وقلبها يخفق بعنف بداخلها فهذه الشطيرة تحتوي على دواء لابد له من تناوله ولكنها اخفت تأهبها وانتظرته أن يقول أي كلمة ولكنه بالغ في صمته أكثر من المعتاد ولم تعرف أنه كان واقعًا في حيرة شديدة، فهو بالكاد يتذكر بعض احداث الفترة الماضية، ولكن ليست التفاصيل، وليس معظم ما حدث!

 

تعجب من نفسه، بل؛ شعر بالانزعاج من نفسه، لماذا قام بشراء هذه السيارة بكل هذه الأموال؟ هل كان هناك سبب ما لفعلته؟ ما هذا الغباء الذي ارتكبه؟!

 

ابتلع دفعة من الطعام ثم تناول المزيد ولم يلحظ كيف تتفقده هي فانتشلته من محاولة معرفة ما يحدث له وكيف نسي الكثير من الأحداث بهذه الطريقة واستمع لسؤالها:

-        تحب تاكل ايه على الغدا النهاردة؟

 

سيكون من الغباء أن تنبهه أنها تحاول أن تعرف ما الذي نساه وما الذي يتذكره، ولقد علمها كيف يكون المرء خبيث، بل؛ ويستخدم خبثه بمنتهى البراعة، لقد اخبرته عن أمر السيارة لأنها لن تستطيع أن تخفيها وهناك ما يُثبت أنها موجودة بالفعل، ولكنها تستطيع إخفاء الكثير مما حدث ولن تخبره سوى عن كل ما وجد عليه اثبات بأنه موجود، عليها التأكد أولًا مما استطاع عقله الحصول عليه!

-        عمر!

 

نادته كي يستيقظ من شروده فالتفت إليها بملامح متسائلة فكررت سؤالها بل وأضافت عليه بذكاء:

-        تحب تاكل ايه على الغدا النهاردة؟ ولا تحب ناكل برا؟

 

سترى الآن هل يتذكر أنه يقوم بأسرها في هذا السجن أم لا من اجابته عليها فذهب تأهبها عندما أنهى أولى شطائره ويده امتدت للثانية بتلقائية كما هز كتفيه واجابها بنبرة معتدلة:

-        زي ما تحبي.

 

هي تتعامل مع الأمر كمسألة رياضية عسيرة ولكنها لديها كامل المُعطيات ولن تنتهي حتى تُثبت لنفسها ذكاءها وتفوقها، لن يستعصي عليها أن تنجو منه هذه المرة، ولكن عليها الاحتراس، قد يكون هو من يتلاعب بها.

 

دنت بالقرب منه وهي تقبل كتفه وابتسمت له ثم اخبرته بنبرة مقترحة وهمهمت في البداية:

-        ايه رأيك تيجي نعمل الاكل سوا النهاردة، كتغيير يعني.

 

أومأ لها بالقبول، ولكن باقتضاب وعلى ما يبدو كان غارقًا في التفكير فتعلقت بذراعه وهي تريح رأسها عليه ولم تعلم كيف كان مُحرجًا بشدة عندما تذكر تلك الكلمات التي تحدث بها أمام أُسرة خالتها، لا يدري كيف تفوه بهذا الغزل الصريح لها أمام الجميع!

 

لقد قام بدعوتهم، ومكث معها هذه الليلة بالفندق، وثمل بشدة، تشاجر مع أخيه، وأخته كانت تحتفل بيوم مولدها، تناولوا العشاء، ثم ما الذي حدث؟

 

ارتشف من قهوته وهو يحاول تذكر المزيد، لقد كانت مصممة على الطلاق، ما الذي تغير؟ ولكنها اخبرته منذ قليل أنهما قد قررا أن ينسيان الأمر ويحاولان سويًا مرة أخرى. كيف تناسى كل هذا؟ متى تحدثا معًا وما الذي أقنعها بالعدول عن قرارها؟ هل كان ثمل لدرجة أنه لا يتذكر تفاصيل احداث يومه؟!

 

التفت إليها بعد أن ترك كوب قهوته وتحرك ليجلس في مقابلتها تمامًا مما جعله يتفحص ملامحها مليًا واعتدلت هي الأخرى ونظرت له بتلقائية وتساءلت بابتسامة متعجبة:

-        فيه ايه؟ أنت كويس؟

 

تزايدت عقدة حاجباه ليسألها بنبرة تحمل بعض الحدة:

-        روان أنا كنت بشرب كتير اوي اليومين اللي فاتوا؟

 

هذه النظرة، نعم تعرفها وتحفظها عن ظهر قلب، هو لا يحدقها هكذا إلا إذا كان يريد أن يتبين صدقها من كذبها، وكل ما عليها هو أن تحترف الادعاء بالمصداقية.

 

كل هذا دار بعقلها في خضم جزء من الثانية، فهي ليست غبية، كل ما تحتاجه هو أن تعتاد الأمور، وبعدها دائمًا تبرع في التصرف بها، كل مشكلتها أنها تفزع بالبداية عند مواجهة الصعاب والأحداث الجديدة، ولكن بعدها تستطيع الإبداع بمنتهى الحزم والثقة فيما تتعامل معه.

 

اجابته وهي تومأ وابتسمت وهي تنظر له بتلاعب ونظراتها تعج بالدلال ولمحة من الحماس:

-        ايوة، وكنت غريب اوي بصراحة!

 

تأهب بانزعاج فوجدها تلمسه بأناملها وهمست له تواصل كلماتها بين ابتسامتها التي توسعت ببعض الخجل:

-        مكنتش اتخيل كل اللي حصل ده الفترة اللي فاتت وانت بتسكر وبتهزر وبتضحك معايا، بس بصراحة عمري ما كنت مبسوطة معاك زي اليومين اللي فاتوا!

 

عضت على شفتها واعينها يتصاعد بها التلاعب ليختلط غضبه بابتسامة اجبرها على شفتيه كي لا يخسر مزاجها الرائق فهو لا يتذكر سوى بكاءها وصراخها وتصميمها على الطلاق والافتراق وقضية الخلع تلك ومحاولاته الكثيرة في أن يستعيد علاقتهما التي كانت أفضل ما يكون لمدة شهر كامل لم يختبر في حياته ما يضاهيه سعادة وراحة قبل اكتشافها أنها نسخة طبق الأصل من حبيبته السابقة!

 

فجأة وجدها تنظر له بتعجب شديد وسألته بمنتهى العفوية:

-        مش ممكن متكونش فاكر، انت بتهزر مش كده؟

 

لم يُرد أن يظهر حقيقة ما يُخفيه وأومأ لها بالإنكار واجابها باقتضاب:

-        لا فاكر طبعًا.

 

ابتلع وهو يبتسم لها فوجها تنهض جالسة على ركبتيها واستندت بيديها على صدره واقتربت لتقبله مستنشقة أنفاسه فتعجب بداخله دون أن يُظهر لها ما يدور بعقله وبادلها ورأسه لا تتوقف عن محاولة التذكر بينما شعرت هي بفتوره الشديد في قبلتهما.

 

ابتعدت عنه وتعلقت بعنقه وهي تتفقده وسألته بمصداقية زيفتها ببراعة:

-        مالك فيه ايه؟

 

رمقته بدلال ونظرة حُزن بعينيها فاختلط عليه الأمر ولكنه ادعى العفوية واجابها:

-        مفيش.

 

-        امال حساك غريب كده ليه؟

 

 

ابتسم لها وأومأ بالإنكار وهو يحاول أن يتفحصها ليعرف ما الذي تفعله معه وبداخله الارتياب لا ينتهي ثم اجابها:

-        مفيش صدقيني، عايزاني اعمل ايه علشان تعرفي إني تمام؟

 

رطبت شفتيها وهي تنظر له بعسليتين مداعبتين واقتربت تُقبله ثم ابتعدت قليلًا لتهمس مجيبة:

-        ممكن نعمل كده.

 

اعادت الكرة ثم واصلت:

-        أو كده

 

قبلة أخرى منها وهي تقترب منه وهتفت بأنفاس تسارعت:

-        أو زي امبارح.

 

من جديد فعلتها وتابعت:

-        أو أول امبارح

 

لم تتوقف وأخذت تهمس لها بأنفاسها التي تحولت للهاث من لذة قبلاتهما وتلك المشاعر التي أدركت أنها يستحيل أن تتخلص منها كلما اقتربت منه وتأكدت أن هذا الانجذاب الجسدي بينهما سيكون أصعب ما ستواجه إلى أن تتحرر من زواجهما:

-        أو من أسبوع أو شهر.

 

دفعته بحركات لطيفة دون مبالغة وأخذت تقبله لتجده بدأ يستجيب لها بمنتهى التناغم لتشعر وكأنها انتصرت فيما تريد أن تفعله فهي لا تريد سوى أن يُصدق أنهما بخير وعادا كما سابق عهدهما قبل اكتشافها حقيقة أنها تُشبه حبيبته السابقة!

 

الانجذاب الجسدي وتلك الكيمياء اللعينة يتواجدان، تلك المشاعر التي تمنت أن تحافظ عليها للأبد لا تزال بداخلها بمكانٍ ما، تحاول أن تنسى قسوته مؤقتًا وتصرفاته المرضية التي لم تكن بمحض ارادته كما أخبرتها "مريم" عن تلك الأعراض وما تُحدثها بعقله من فساد، وجدته يستجيب ببراهين وأدلة عديدة، من أول طريقة تقبيله لها إلى أن اعتلاها وهو يتفقدها برغبة هائلة، هي لا تزال لها قدرة في أن تؤثر عليه، العلاقة الحميمة بين الزوجين ليست بممنوعة، أمّا استغلالها بخبث هذا حتمًا لا يصح، ولكنه لم يترك لها حلًا آخر.

  

--

 

لقد كانت العلاقة الحميمة والاستمتاع بها أمر من الأمور التي استخدمها مرارًا وتكرارًا معها، ما الذي استخدمه كذلك؟

 

الحديث الكثير، السيطرة على وقتها، ملازمتها إلى أن شعرت بالاختناق، وعمله بمنتهى الاحترافية على جعلها تسقط في عشقه وهو يحاول بمنتهى الاجتهاد إيجاد طُرق ووسائل لقلبها حتى تتعلق به وتقدم له كامل ثقتها به على طبقٍ من ذهب، حسنًا عليها اتباع نفس خطواته واستخدامها ضده، ولكن عليها الاحتراس بكل الحذر والذكاء كي لا يُلاحظ فهو ليس بساذج ولا غبي!

 

اغمضت عينيها وتلك المياه تتساقط على جسديهما وهو يعانقها فعاد لها شعور الشفقة الشديدة، هي ليست امرأة خبيثة ولم تكن فتاة تتبع مثل تلك الوسائل، ولكن ما الحل الذي تركه لها؟

 

نفضت ذلك التفكير بعيدًا وحاولت ألا تلتفت له، تشبثت بتلك اللحظة التي تعايشها معه، أرغمت نفسها على تخيل أن كل شيء بخير بينهما وهمست له بخليط بين الكذب والمصداقية:

-        أنا خايفة اوي يا عمر

 

ابعدها قليلًا عن صدره وابعد خصلاتها للخلف ثم احتوى وجنتيها بين كفيه وتفقدها بينما اكتفى بإعطائها نظرة استفهامية ورأى الخوف جليًا بعينيها فأجابته:

-        خايفة اننا مع أي مشاكل نخسر اللي احنا وصلناله ده، ارجوك اوعدني اننا مهما حصل هنحاول ومش هنسيب أي حاجة تسرق مننا سعادتنا دي.

 

نعم هي خائفة لو اكتشف ما تخطط له، ولكن تلك الكلمات كانت عبارة عن مجموعة من الترهات حتى يُصدق صدق نواياها فالمرحلة القادمة لن تكون بهينة أبدًا، عليها أن تُصبح مثل ظله وتُلازمه صباحًا ومساءًا وحتى اثناء النوم عليهما أن ينامان ويستيقظان سويًا حتى تضمن عدم عبث أي أحد بخطتها بداية منه ونهاية بأي شخص قد تسول له نفسه أن يُفسد ما تحاول فعله!

 

وجدته يتفحصها بنظراته العميقة وبسهولة ظهر الارتباك عليها فسرعان ما واصلت:

-        احنا تعبنا اوي أنا وأنت لغاية ما بقينا كويسين، مش عايزة اضيع ده!

 

استشعر صدقها فأومأ بالموافقة واقترب وقبل جبينها وعقب باقتضاب:

-        أوعدك.

 

فرغا من اغتسالهما سويًا ثم ساعدته ليرتدي ملابسه لتجده بين الحين والآخر يغرق بشروده فأخذت تنتشله تارة بالمزاح حتى اضحكته وتارة ببعض القبلات إلى أن ارغمته بذكاء أن يلازمها اثناء اعدادها للطعام وشعرت بالراحة عندما لم يُفكر في هاتفه أبدًا.

 

وجدته من جديد يغرق بصمته فلم تترك له الفُرصة ليفعلها، الصمت سوف يدفعه للتفكير، والتفكير سيحرضه على تذكر الكثير من الأمور، أو على الأقل سيجعله يُلاحظ عدم منطقية الأمر، لقد مرت بالأمر بالسابق، معرفة أنه رجل بهذه الطباع لو كانت ملكت الوقت بالتفكير كانت ستُقرر أن تبتعد عنه منذ شهور وحتى بعد ما فعلت وأدركت أن علاقتهما حُكم عليها بالفشل لم يتركها لتحظى ببعض الهدوء حتى تُقرر بموضوعية وتتخذ قرار واعيًا صحيحًا، ستفعل المثل تمامًا، ستحاول أن تؤثر عليه كما فعل معها يومًا ما!

 

-        أنا زعلانة بصراحة من حاجة بس ممكن تسيبني أتكلم من غير ما تبقى خناقة؟

 

همهم بتعجب فلقد كان غارقًا في التفكير وهو بالكاد يتذكر عدة مكالمات مع "باسم" مُساعده وعدة تفاصيل قليلة بصحبة حصانه، شجار عنيف دار بينها وبينه مما جعله يُقيدها، ولم يتذكر إلى الآن سوى ذلك.

 

التفتت ونظرت له باستغراب وتشبعت نبرتها بالحزن وأخبرته بتساؤل وهي تدفع نفسها بأعجوبة على التحلي بملامح المصداقية:

-        هو أنا كلامي معاك مالوش لازمة، ولا هنرجع نزعل من بعض زي زمان!

 

انزعجت ملامحه وعقب بملل متنهدًا:

-        مخدتش بالي، قولي كنتي عايزة ايه؟

 

ادعت خيبة أمل واضحة على ملامحها ورهصته بنظرة لائمة ثم التفتت وتصنعت الانشغال بما تعده وغمغمت:

-        خلاص مفيش حاجة.

 

استمعت له خلفها يزفر حانقًا بينما هي لم يُعجبها ما تفعله، لم تكن بهذا الخبث في حياتها، هذه المرأة التي تدفع نفسها أن تبدو عليها لم تعرفها بحياتها قط.

 

أحست به يُمسك ذراعها دون مبالغة بالأمر ثم سألها ببعض الحدة:

-        فيه ايه مالك؟ مكونتش مركز بتقولي ايه وسرحت شوية في كام موضوع!

 

رفعت عينيها نحوه بعد أن التفتت إليه ولجزء من الثانية شعرت بالألم من أجله، كيف يستيقظ المرء بين يوم وليلة وهو لا يتذكر ما عاشه بالأيام الأخيرة؟ لابد من أن شعوره مزري إلى درجة لا يتحملها أحد، ومجرد تخيلها مكانه أن تستيقظ وتنسى بعض تفاصيل حياتها جعلها تشعر بالشفقة تجاهه!

 

رطبت شفتيها ولاحظت نظراته فارغة الصبر لتتذكر اعراض ما يمر به وخمنت أن مجرد كلمة واحدة تجعله يرتاب أو تدفعه لغضبٍ شديد فهدأت من نفسها ودفعت نبرتها لتكون نبرة هادئة وأخبرته بمنتهى الذكاء:

-        انا أجلت كل حاجة في حياتي ورضيت بكل كلامك علشان خاطر ناخد فترة لنفسنا، بعيد عن كل حاجة في الدنيا، على عكسك، بتشتغل وبتكلم باسم، وكل ما اندهك تبقى مش مركز معايا، وأنا مش عايزة غير نفضل مبسوطين، مش ممكن يا عمر، يوم كويسين واسبوع لأ، حاول معايا شوية، ولا خلاص الحل اننا نتطلق ونبعد عن بعض!

 

استخدمت كل المعطيات بمنتهى الذكاء، فمساعده الشخصي سيجد معه الكثير من المكالمات على هاتفه، وعمله سيجد أنه قد فعل به أمر واثنان، لا تستطيع أن تخفي ذلك عنه!

 

كاد أن يلكم السطح الرخامي بجانبهما من شدة الانزعاج الذي طرأ عليه وصرخ بها:

-        بقولك ايه، هو احنا كل شوية هنعيد الكلام ده ولا إيه بقى

 

ابتلعت وتفقدته برمقة مُعاتبة فأومأت له بالموافقة ثم همست:

-        خلاص أنا آسفة، الغلط من عندي أنا، ولا كأني كلمتك في حاجة

 

التفتت من جديد وابتعدت تتصنع اكمالها ما تفعله فتبعها وأرغمها على الالتفات ثم سألها بنبرة لانت عن سابقتها:

-        انتي عايزة ايه؟

 

هزت كتفيها بعفوية عكس تأهبها بداخلها كي تصل لما تُريده واجابته:

-        اللي يريحك، عايزنا نرجع بيتنا ونرجع شغلنا مفيش مشاكل، عايزنا نقضي كام يوم تاني هنا سوا مع بعض لوحدنا مفيش مُشكلة برضو، حابب تسافر ونغير جو والصيف لسه في أوله وفيه كذا مكان هيكونوا حلوين، أنا برضو موافقة، بس متحسسنيش إنك مشغول عني طول الوقت وتسيبني لواحدي، أنا مفيش حد معايا هنا غيرك، يا تفضالي ونقضي وقت حلو سوا يا نرجع لحياتنا، اللي شايفه صح نعمله، لكن متبعدش عني!

 

الاختيارات تضمن لها التحرر، تضعه بنفس المأزق الذي وضعها به سابقًا لأكثر من مرة، يُعطيها اختيارات ظاهريًا بينما في الحقيقة هي مجرد اجبار خفي!

 

تنهد وهو يشعر بالشتات الشديد، عمل ماذا وما الذي تركته هي؟ ما لعنة ما يحدث له؟ هل هو يحلم حلم ممل أم هو يخوض معها هذا الشجار حقًا؟

 

-        هنشوف كل حاجة، نبقى نختار سوا، أنا بس من ساعة ما صحيت وأنا مصدع ودماغي وجعاني.

 

ادعت الاهتمام ورفعت يدها وتلمست لحيته بلطف ثم سألته بجدية:

-        أنت كويس؟ تحب اجيبلك مُسكن أو حاجة؟

 

أومأ بالإنكار ثم قال مُجيبًا:

-        لا لأ، أنا هاعمل قهوة على ما تخلصي الأكل، الظاهر من كُتر الشرب مزاجي مش مظبوط، يومين كده وهبقى كويس اكيد هاخد وقت لو كنت بشرب كتير الفترة اللي فاتت.

 

ابتلعت وعاد إليها الشعور بالشفقة فاقترحت بحذر:

-        تحب نروح لدكتور نطمن أو حاجة؟

 

رفض الأمر بهزه لرأسه ثم اتجه ليصنع القهوة فتركته وشأنه واكملت ما تفعله ولكنها ظلت تتابعه وهي تحاول أن تتذكر كل ما فعله وهناك اثبات عليه لتستخدمه بحذر معه، لابد من تطابق كلماتها مع كلمات أي شخص تعامل معه الفترة الماضية، ولكن عليها أن تحترس وهي تبحث في عقله عن تفاصيل ما يعرفه، وعليها أن تبعده بكل الطرق المتاحة لديها عن هاتفه، فلابد من أنه لو امسك به سيصل للكثير من التفاصيل التي ستُفسد خطتها.

 

--

أخذت تراقبه طوال فترة تناولهما للطعام بينما هو غارق بشروده ولاحظت أن مقدار ما تناوله أقل نوعًا ما من الفترة الماضية، ولكن تتمنى أن الدواء الذي وضعته في غفلة منه بداخل الطعام سيأتي بمفعوله.

 

بدأت في رص الأدوات المستخدمة بداخل غسالة الأطباق وسألته باهتمام:

-        حاسس إنك بقيت احسن؟

 

أومأ لها مهمهمًا ثم عقد حاجباه بانزعاج وقال وهو ينهض:

-        حاسس دماغي تقيلة شوية، هاطلع أنام.

 

تابعته بعينيها مليًا، لن تسمح له أن يبقى بمُفرده فيتبين كل ما كان يحدث بينهما، ويستطيع الوصول لأن كل ما تفعله معه مجرد حيلة منها حتى تتخلص منه للأبد.

 

سرعان ما قامت بتشغيل غسالة الأطباق ثم لحقت به ونادته مستفهمة:

-        عمر، استنى، متأكد إنك مش محتاج مسكن أو حاجة؟

 

اجابها دون أن يلتفت لها باقتضابٍ شديد:

-        لا!

 

زفرت بتوتر ثم سارعت لتسير بجانبه وتشبثت بيده وهي تصعد معه فاستغرب تصرفها والتفت ناظرًا لها بتعجب مما جعلها تبتسم لتحاول أن تخفي ما تريد فعله واخبرته:

-        ننام سوا علشان نصحى بليل سوا، بدل ما كل واحد فينا يبقى لواحده.

 

هز رأسه بقبول وأكمل كلاهما الصعود واتجه هو للفراش مباشرة دون تبادل أي حديث معها ليجعلها تشعر بالرعب، فهي لا تدري ما الذي سيصل له عقله من أحداث وهي لا تملك ما يؤهلها للتحدث مع "مريم" أول بأول لتفهم ما حقيقة ما يمر به وما إن كان سيتذكر أم لا.

 

اتجهت للحمام لتفرش أسنانها وهي تُفكر مليًا، لو كان منزعج بهذه الطريقة فهناك احتمالان لا ثالث لهما، الأول وهو أنه منزعج من نسيان تفاصيل ما حدث، والثاني هو أنه قد تذكر كل شيء ويتساءل بينه وبين نفسه عن تلك الطريقة التي تعامله بها، والاحتمال الأخير هو أكثر ما يخيفها.

 

انتهت وأخذت تدلك يديها بمستحضر طيب الرائحة ثم حررت شعرها واتجهت إلى الفراش هي الأخرى لتلاحظ في هذا الضوء الخافت أنه ما زال مستيقظًا ويحدق بسقف الغرفة في شرود تام.

 

اقتربت منه واستمرت في تفقده لتشعر بالآسف على حاله، لو وضعت نفسها مكانه لتستيقظ يومًا ما وهي ناسية تفاصيل شهر ونصف بأكملهم ستنتابها حالة من الذعر ليست بهينة!

 

بالرغم من تلك الشفقة بداخلها ولكن لقد اقترحت أن يذهبا لطبيب ولكنه لم يستجب، هل لو تأكد من حقيقة مرضه بألسنة المختصين، سيستجيب للعلاج بعدها؟ أم سيقول إنه بخير ولا يعاني شيئًا؟ ومتى وكيف سيرضخ لهذه الحقيقة؟

 

حاولت أن توقف هذه العواطف التي لم ينتج عنها بالسابق سوى الدمار والهلاك والاهانة والجنون وقائمة طويلة لا تنتهي مما تتقبله أي امرأة واقتربت له أكثر عندما رأته لم يغمض عينيه بعد وداعبت لحيته وهي تستند على صدره ثم سألته بهدوء:

-        منمتش ليه؟

 

اخفض بصره نحوها ثم قلب شفتاه كعلامة على عدم المعرفة لتدرك أنه ما زال واقعًا في تلك الحيرة بالتفكير فيما حدث له بالأيام الماضية فسألته مرة أخرى بنبرة ناعمة:

-        فيه حاجة بتفكر فيها؟

-        لا!

 

آتت اجابته مقتضبة وقالها دون تردد بالرغم من أن عقله قارب على الانفجار من شدة التفكير وكثرة افتراض الاحتمالات بأن ما حدث له ليس بمنطقي أبدًا.

 

كيف يحدث هذا له؟ هل تناول الخمر كل ليلة لدرجة أنه لا يتذكر كل ما حدث؟ ولكنه لا يستطيع أن يُصدق هذا فهو يتذكر بعض مما حدث، يتذكر حديثه إلى "باسم" ورغبته في العمل، يتذكر عدة مكالمات مع والده، لماذا حدثه بأمر الإنجاب كثيرًا بالفترة الماضية؟! ويتذكر أنه قيدها يومًا ما ولكنه لا يدري لماذا فعل ذلك، يتذكر أنه قضى وقتًا كبيرًا في القراءة ووقت بصحبة برق، وثمل أكثر من مرة، بل الكثير من المرات، ولكن وكأن كل ما يتذكره ليس له بداية أو نهاية، هل من الممكن أن ما يتذكره كان يحدث في الأوقات التي لا يتناول بها الخمر وبعدها يثمل فينسى؟!

 

لقد واجه الأمر سابقًا بأن يتنقل بسيارته بصحبة "محمود" وهو ثمل، هل من الممكن أنهما حضرا إلى المنزل وهو ثمل؟ وما الشيء الذي جعلها تعدل عن قرارها بشأن الانفصال؟ رأسه ستنفجر حتمًا عما قريب!

 

-        ما أنت ياما شربت يعني، عادي، وفيه حاجات بتنساها!

 

هذا كان صوت عقله يُحدثه بأن هذه هي الحقيقة الوحيدة لكل ما يحدث له الآن، وربما مع الوقت سيتذكر، عليه فقط ألا يُسرف في الشراب بالأيام المُقبلة وسيتذكر كل شيء عما قريب!

 

-        طيب احكي لي فيه ايه؟

 

أيقظه صوتها ولاحظ أنها تحتضنه بكامل ذراعها الآن فأدرك أنه شرد مُفكرًا لدرجة أنه لم يشعر بما تفعله فتنهد وقال ببعض الانزعاج:

-        قولت لك مفيش حاجة!

 

تصاعد قلقها بداخلها فحاولت أن تنتشله من تفكيره، فلقد فعل الأمر مرارًا معها ومن حقها أن تستخدمه مثله بمنتهى الخبث فعدلت من جسدها واستندت بيديها على صدره وسألته مُقترحة:

-        ايه رأيك نروح سينما، أو نجهز حجز في أي مكان ونتعشا برا النهاردة بليل أو ممكن أكلم عُلا تحجزلنا في أي مكان جديد عمرنا ما روحناه، تحب ايه؟

 

عقد حاجباه وهو يتفقدها باستغراب لوهلة وأومأ بالرفض وقد بدأ انزعاجه في التحول لغضبٍ جم فكل ما برأسه ذكريات مشوشة وهي لا تتوقف عن التحدث ولا تنفك تُشتته عما يُريد أن يجد له تفسير بداخل عقله فزفر بنفاذ صبر وهو لا يتذكر كيف أصبحت ثرثارة للغاية هكذا فابعدها بهدوء وسرعان ما حاول أن يستكمل تفكيره ولكنها بالطبع لن تتركه وشأنه!

 

نهضت جالسة ثم التفتت نحوه بعد أن فكرت لوهلة، إمّا عليه أن يساعدها فيما تريد الوصول له وإمّا على الأقل يُعطيها استراحة قصيرة من كل هذا، سترى ما الذي سيحدث بعد أن تعبث بعقله وتبدأ في اخباره أمور لم تحدث قط.

 

تلمست ساعده برقة ثم انتقت نبرتها فهي تعلم أنه لا يتقبل الأوامر ولا يُعجبه الصراخ:

-        عمر أنا حاسة إني بقى عندي ملل، بعد ما اتفقنا نقعد مع بعض وحتى اديتك الموبايل واللابتوب بتاعي عشان مفيش حاجة تشغلني عنك فمبقيتش لاقية حاجة اعملها خالص، ايه رأيك يا نقوم نعمل حاجة جديدة يا اما نرجع البيت ونقعد مع مامي وبسام، زمانهم كمان قلقوا عليا اوي لأني بقالي كتير مش بكلمهم!

 

رمقها لعدة لحظات، هو يتذكر أنه تحدث لوالدتها وأخبرها أنهما سيُقضيان وقتًا بمفردهما كي يحاولان أن يُصبحا بخير، نعم، لقد حدث هذا في نفس صباح يوم دعوته للجميع على العشاء، ولكن هاتفها وحاسوبها، متى اعطتهما له؟ ولماذا هي لحوحة اليوم للغاية؟!

 

فهمت أنه يحاول التذكر ورأسه ما زالت مشوشة ولكنها لم تتوقع أبدًا رده الذي تفوه به بمنتهى الاقتضاب:

-        بعدين نبقى نشوف، سيبيني أنام!

 

زفرت بحرقة والغضب يتملكها لعدم وصولها لأي شيء معه حتى الآن وانزعجت بشدة عندما وجدته يُعدل من حرارة الغرفة مستخدمًا جهاز التحكم عن بُعد ثم جذب الأغطية وادعى اغلاق عينيه وهو يوليها ظهره ولوهلة انطلى عليها الأمر لتعاود ادراجها في غضون جزء من الثانية، لا؛ لن تصدق تظاهره بالنوم، فحتى ابسط الأمور لا تستطيع أن تُصدقها خاصة منه هو بعد كذبه واخفاءه للكثير.

 

 شعر وكأنما ثنايا عقله تتمدد بداخل رأسه وهو يحاول من جديد أن يُسلط تركيزه على ما يحدث له، هذا النسيان بأكمله وكأنه كان ميتًا ثم فجأة بُعث للحياة، لقد كان يريد أن يقوم بإبعادها عن الجميع وعن كل شيء حتى لا تستطيع القيام بمتابعة إجراءات القضية، وحتى لا يتثنى لها فعل أي أمر يُزعجه، فهو إلى الآن لا يتقبل فكرة أن زوجته ستتخلص منه أمام كل من عرفه يومًا كما أنه على يقين بأنه يعشقها، هل من الممكن أنها فعلت معه شيء ما جعلته ينسى كل ما حدث؟ ولكنه يتذكر بعض الأمور، ما لعنة ما يحدث له؟ كما أنه يعلم جيدًا أن امرأة مثلها لن تستطيع فعل أي أمر يؤذيه، هذه نفسها هي نفس الفتاة التي لجئت إلى القانون كي تستعيد ما تملكه من عمها يومًا ما، وهي نفس الفتاة التي كانت لا تعرف كيف تتعامل مع رجل، يستحيل أن تقوم بفعل شيء يجعله يتناسى الفترة الماضية!

 

كما أنه لا يوجد أمر كهذا بالحياة، أن تجبر شخصًا ما على نسيان ما حدث له، حتى ولو بعقاقير ما فهو لا يُنكر أنه يتذكر بعض التفاصيل ولكنها مشوشة للغاية، فهي للتو اخبرته أنها لا تملك هاتفها ولا حاسوبها، وهنا بهذا المنزل الذي لا يدخله أحد لن تستطيع التواصل مع أي شخص، لذا لا تملك سوى أنها بقيت معه طوال هذه الفترة.

 

الكثير من الشراب، بعض الاجهاد لو عاد لعمله الذي لا يطيقه كما يتذكر تحدثه مع مساعده الشخصي، بالإضافة إلى كل تلك التفاصيل الماضية التي يتذكرها، الأمر منطقي الآن، لقد أفرط في الشراب بشراهة اذن، هذا هو التفسير المنطقي الوحيد، لابد من أن الخمر عبثت بعقله، عليه أن يُلاحظ بعناية مقدار ما يتناوله وإلا قد يتعرض للأمر من جديد!

 

أحس بذراعها تطوقه وهي تقبل كتفه في صمت وتمرر رأسها بلطف عليه ولكن دون أن تمس ظهره بالكامل كما لفت نظرها لأكثر من مرة بالسابق فالتفت إليها وكان على وشك الصراخ بوجهها ولكنه رأى تلك العسليتان في هذا الضوء الخافت تبرقان كما الهرة الصغيرة وهي تتوسل له بنظراتٍ أثرت به للحظات ولكنه آبى نظراتها الراغبة به سريعًا فتنهد بإرهاقٍ وأخبرها قائلًا:

-        أنا مودي مش كويس دلوقتي، سيبيني أنام!

 

استطالت نظراتها له فبادلها، يتعجب من أنها تلمسه بهذه اللمسات المطالبة وهما في صباح اليوم منذ عدة ساعات كانا معًا لمدة ليست بهينة، متى أصبحت بهذه الشراهة؟ ما الذي دفعها للتغير لتصبح بهذه الطريقة؟

 

استمرت في تقبيل ما استطاعت شفتيها الوصول له من ذراعه ومررت يدها بلطف بالغ على كل ما استطاعت أناملها العثور عليه وهي تُفكر أن كلاهما بالفعل بالغا بكثرة في ممارساتهما الحميمة ولكن لو كان هذا الشيء الوحيد الذي سيُلهي عقله ستفعله، فلقد حاولت اقتراح الذهاب للطبيب، والعودة لمنزلهما، وأن يسافران، ويذهبان للتنزه، لقد فرغت كل الحيل من بين يديها وهذا هو الأمر الوحيد الذي لا يرفضه منها بالآونة الأخيرة لذا لن تستطيع سوى اللجوء لهذه الحيلة الرخيصة.

 

صدمها بشدة عندما صاح برفضٍ قاطع:

-        قولتلك تبعدي يبقى تبعدي!

 

حسنًا، حتى ولو كان الأمر برُمته مجرد حيلة منها، فنبرته الغاضبة وهو يصيح بها بمنتهى الغضب رافضًا إياها قد جرحت أنوثتها، وحتى لو كانا بأفضل حال وفعلها بهذه الطريقة ستُجرح حتمًا بمنتهى الصدق الذي ليست في حاجة للتصنع به.

 

رفعت عسليتاها نحوه بلومٍ واندفعت قطرات دموعها لتقف كالحاجز فيما بينهما علاوة على حاجز تشتيته وحائط حيلها التي لا تنفك تصده به عن الكثير مما يُريده ثم أخبرته بنبرة شارفت على البُكاء ولكنها لم تكن تقصدها:

-        وأنا لما كنت بقولك تبعد مكونتش بتبعد، واضح إن أنا الغلطانة، آسفة!

 

نهضت لتهرب بعيدًا عنه واختفت بغرفة الملابس وهي تشعر بثقل على صدرها يخنقها لتجد نفسها تبكي عندما عصف سيل جارف بصور متلاحقة من كل مرة حاول أن يقترب لها بها وخاصة في هذه الآونة الأخيرة التي تستطيع تسميتها بالإجبار التام وليس مجرد علاقة حميمة بين زوجين، ويا ويلها لو رفضته أو حتى لمح عدم تقبلها بملامحها، كان يتحول ليُصبح كآلة مجردة من المشاعر ليحصل على ما يرغب به غير مُكترثًا لمشاعرها.

 

اشتد بكاءها وكل ما شعرت أنها قاربت على فعله هو العودة والصراخ به لافتعال شجارٍ لا تكترث كيف سينتهي بينهما وهي تخبره عن جنونه وما لحق به بالأيام الماضية ولكنها حاولت التماسك بأعجوبة كي لا تفعلها وفكرت بما يحدث الآن وكيف تستفيد منه لصالحها، فهي لن تتوقف حتى يكون لها اليد العُليا وستجبره على الانفصال مهما حدث، عليها أن تتحمل فقط إلى أن تتملك تلك الأوراق بأي طريقة.

 

حاولت السيطرة على احاسيسها المختلطة بين خيبة الأمل وبين ادراكها أنها لا تملك عليه نفس التأثير الذي لا يملكه هو عليها لتشعر بالكراهية الشديدة تجاه نفسها وسالت عبراتها والتقزز الذي يندفع بداخلها أصبح يجعلها تود أن تترك جسدها اللعين وتهجره دون رجعة ولكنها فُزعت وهي تفتح عينيها بخوفٍ عندما تيقنت من لمسته ليدها وهتفت به بعفوية شديدة دون أن تخطط للأمر:

-        ابعد عني!

 

نظر نحوها ورأت الأسف يتجلى على ملامحه ولكنه لم يُصرح بها عندما قال:

-        متزعليش، أنا الصداع مش مخليني مستحمل أي صوت.

 

نظرت له بحُزن وتوقفت عن البُكاء عندما استشعرت نبرته المُهتمة من أجلها وعقبت بصوت ما زال يحمل اثار استياءها مما فعله:

-        على الأقل كنت قول، لكن اللي عملتـ..

 

قاطع كلماتها بقبلة استطالت حتى عبرت لها عن ندمه الشديد على رفضها بهذا الأسلوب ولم يبتعد عنها سوى عندما احتاج لبعض الهواء وأغمض عينيه وهو يحاول أن يضع حدًا لما يُفكر به كما حاول أن يستجيب لها، فهي لا تعرف كيف تشتته بمجرد ادراكه أنها تريده بشدة!

 

-        قولت لك مش في المود، وعرفتك إني مصدع، بس مقصدش!

 

رطبت شفتيها وهي تحاول التخلص من انعدام الهواء وهي تمد نفسها بأنفاس اختلطت بخاصته وتفقدته وهو ما زال غامضًا لعينيه وعقبت على قوله بتلقائية مستفهمة:

-        اشمعنى أنا لازم أقول حاضر وطيب ومرفضش أي حاجة منك؟ بس أنت كل حاجة بتعملها معايا بتكون زي ما تحب وفي الوقت اللي تحبه، ولو صديتك في مرة مبتقبلش وبتصمم على اللي أنت عايزه، ليه يا عمر؟

 

فتح عينيه وتفقد ملامحها بشتاتٍ لا يريد التوقف بداخل رأسه ولا يظن أنه انتهى بعد ولكنه اجابها بمصداقية هامسًا أمام شفتيها:

-        أنا لما فكرت دقيقة واحدة بالظبط في اللي حصل حسيت إني ضايقتك عشان كده أنا جيتلك، وبعدين ابقي ارفضي براحتك بعد اللي أنا عملته ده، ولو عايزة تعرفي السبب في كل اللي بتسألي عنه ده فهو إني مبقدرش ابعد عنك، مبقدرش امنع نفسي، وصدقيني انتِ الوحيدة اللي بتقدر تخليني كده، مش قصدي اجرحك بكلامي عن كل مرة قربت فيها من أي ست غيرك، بس عمرها ما حصلت غير معاكي انتِ وبس، أنا مش فاهم من يوم ما قربت منك أول مرة لغاية النهاردة ايه اللي بيحصلي لما بنقرب من بعض، مش لاقي تفسير!

 

تبادلا النظرات لوهلة، فكلماته الهامسة المختلطة بأنفاسه الدافئة داوت ولو بعض من هذا التأثير المخزي الذي شعرت به، وهذه الطريقة التي يتفقدها بها اعادت لها تلك العواطف التي تفيض بداخلها عندما يُسلط تركيزه عليها مرغمًا إياها على تصديق أنها أجمل امرأة خُلقت بهذه الحياة، فحاولت أن تتجاوب معه بإجبار نفسها على نسيان أنها تشبه حبيبته السابقة، وأنها تعرضت للكثير من العذاب على يديه، وحتى أنها تريد الحصول على حُريتها منه، ولم يشق النسيان في خضم قبلاته ولمساته لها التي تجعلها تدرك كل مرة أنه عندما يكون بهذا الهدوء والتفهم، لن تجد نفس هذه المشاعر مع رجل سواه.

 

دقائق قليلة تُعد على أصابع اليد الواحدة استطاع خلالها مدها بتلك الرغبة به، البداية كانت هادئة، واعدة بالانسجام والتناغم، أطمئنت هي بأنها تنتشله من أفكاره لتُلهي عقله عن أيًا كان ما يُفكر به، ولبعض الدقائق الأخرى التي توالت بعد الدقائق الأولى كانت مُحقة.

 

تطور الأمر بينهما كما عهدا، تلهف كلاهما بدأ يُسيطر على هذه اللحظة فيما بينهما، حاولت هي أن تطيل قدر استطاعتها من الوقت الذي يمر عسى أن تنجح في إيقاف عقله عن التفكير والاستجابة للرغبة المحضة كما فعل بها مرارًا وتكرارًا إلى أن فقدت زمام السيطرة تمامًا.

 

وجد نفسه مرة ثانية يرتاب بأمر ما حدث له، انتشلته الأفكار من جديد، فأصبح مشتتًا بين الرغبة وبين التفكير، ليؤثر في النهاية شتاته على ما يتبادلانه في اشتهاءهما لبعضهما البعض، ولسوء حظه أدركت هي هذا بعد أن اتضح الأمر على منتصفه الأسفل من جسده.

 

تعجبت من الأمر واستغربته ولكنه كان يعلم أنه ليس لديه المزاج المتجاوب لهذا، لم يخجل، لم ينتابه أي شعور بالإحراج، بل؛ كرر كل ما فعله معها من جديد، وتلاشت ملاحظتها للأمر عندما انغمست في الرغبة الهائلة مرة أخرى.

 

تملك زمام الأمور وهي تتشتت أسفل عينيه مطالبة بكل ما فيها من قدرة على التحدث والتحرك بالمزيد منه ومن افعاله، ولكنه لم يصل لمثل هذه الدرجة التي وصلت هي لها، لم تتوافق رغبة كلاهما ليبدأ في الغضب الشديد من نفسه ومن قراره الأهوج بأن يُعطيها ما ارادته منذ ما يُقارب من ساعة كاملة.

 

لا يدري ما الذي يحدث بعقله ولا حتى لجسده الذي لا يريد الاستجابة بالرغم من أن كل ما يراه منها يجعله يريدها بشدة، ربما محاولاته قد اثرت قليلًا في جعله يسترد رغبته ولكن ليس مثل ما ينبغي لإتمام الأمر فيما بينهما.

 

تصاعد غضبه فشعرت هي به، احست بالاستغراب الشديد فبدأ عقلها يقف بينهما مُلاحظًا ما يحدث، فحاولت السيطرة على لهاثها وسألته باهتمام:

-        مالك يا عمر؟ أنت كويس؟

 

أومأ لها بالموافقة بالرغم من ذلك الغضب الثائر بداخله فنهضت كمحاولة منها أن تساعده في الاستجابة مثل ما عهدت منه وحاولت بالكثير من الحيل والقبلات والملامسات ولكنها لم تنجح في فعلتها.

 

اشتد غضبه واشتد شعورها بأنها فشلت في كل ما حاولت أن تصل له معه ليتعقد الأمر وحاولت أن تعود لنقطة البداية، ما الذي تملكه بين يديها تستطيع أن تساعده وتساعد نفسها خلاله حتى ينتهي الأمر بتصديقه أنهما بأفضل حال، بل؛ أنها لم تعد تُفكر سوى في سعادتهما وتنازلت تمامًا عن فكرة الانفصال ولا تُفكر سوى في هذا الرجل الذي تعشقه وغفرت له كل ما حدث بالسابق.

 

تعالت أصوات عقلها الباحث عن أي ذريعة تملكها بينما احتدمت افعاله وكأنه يستخدم كل ما يعرفه عن العلاقة الحميمة بإرغام نفسه مستخدمًا جسدها أن يشعر بنفس الاشتياق والرغبة لها ولكن عقله أصبح كالقنبلة التي ستنفجر حتمًا ولا يستطيع أن يُسيطر على ما ستسببه من اضرار.

 

-        عمر، ممكن تربطني، أو، تعمل حاجة من الحاجات اللي أنت بتحبها!

 

قالت بنبرة مُقترحة فتحولت فحميتيه لها بنظراتٍ ثاقبة وكلاهما يحاولان الصمود بين لهاثهما المُرهق من كثرة المحاولات ولوهلة اطرت بداخل نفسها على ما قالته، لو بدأت أن تفعل تلك الأفعال التي لا تتقبلها امرأة واعية تملك عقلًا قد ينتهي بها المطاف بعد عدة مرات بغرفة العذاب تلك وهذا ما تريد أن تصل له تمامًا فهذه هي وجهتها التي تحاول الوصول إليها بكل الطرق إلى أن تحصل على ما بداخل الخزينة الموجودة هناك، هذا بالطبع لو أن كلمات "يمنى" كانت صحيحة!

 

ابتلع وهو يتفقدها بحيرة اتضحت بتجلي على وجهه ونهض مبتعدًا وتفحص ملامحها التي انعكست الحمرة بها من شدة شبقها بالمزيد ووجدها مستسلمة تمامًا لا تمانع أي قول أو فعل، سألها بنظراتٍ عدة عن قبولها وفي نفس الوقت شعر بالغضب ما لو تبادلا الكلمات فيما بينهما فيجدها تسرق تلك الفُرصة من بين يديه وهي ترفض افعاله، فقرر أن يُنهي هذا التشتيت، لقد صبر كثيرًا وخصوصًا فيما يتعلق بعلاقتهما الحميمة وفعل كل ما يُرضيها لوقتٍ ليس بهين!

 

اتجه ليرتدي ما يستر به اسفله فتعجبت للغاية مما يفعله ولكنه عاد سريعًا ممسكًا بخصلاتها بقبضة تملكت حركات رأسها وهو يدفعها أمامه واقترب وهو يسير خلفها ليهمس بأذنها بحروف تجلى بها الحزم:

-        افتكري إنك انتِ اللي طلبتي.   

 

ابتلعت ببعض الارتباك وهي تخبر نفسها أنها مجرد البداية معه، وأنها لابد عليها أن تعيش الماضي من جديد حتى تحصل على هروبها الدائم منه والحصول على مُستقبل خالي من كل الافتراضات عما يُخفيه وما قد يفعله محامي خبيث مثله ويا تُرى كم قضية مشبوهة سيظلم بها اشخاص ليس لهم أي ذنب، خوفها كلما تذكرت ما عرفته عنه يتصاعد بداخلها، ومجرد تصور أب مثله لأطفالها لا ينتهي سوي بتخيلات نتائجها كارثية!

 

استيقظت من تفكيرها عندما وجدته يدفعها أمام كرسي ذو مسندان بركن الغرفة، بجانب غرفة العذاب التي تعرف أنها لو دخلتها ستُصاب بالذعر حتمًا، لقد أصبحت جالسة ارضًا وجلس هو أمامها لتضطرب مشاعرها وافكارها على حد سواء.

 

نفس تلك النظرات الموترة التي ظنت أنها ودعتها منذ زمن، ملامحه التي تصيبها بالخوف، تعلم تلك الخفقات اللعينة التي تتعالى بداخل صدرها من شدة الفزع، ولكن الغاية تبرر الوسيلة، عليها أن تعتاد هذا لبعض الوقت حتى تحصل على ما تبتغيه!

 

عقد شعره للأعلى فباتت ملامحه بصحبة لحيته تتسم بالقسوة والظُلمة، وأومأ لها للأسفل بصحبة نظرة آمرة فاتجهت عينيها نحو ما أشار له لتجد قدميه المجردتين وقبل أن ترفع عينيها له وجدته يدفع رأسها بقوة لتنتهي شفتيها فوق قدماه ونبس بأريحية ونبرة عميقة:

-        ده اللي أنا بحبه، يالا، اسمعي الكلام يا قطة!

--

 

حاولت دعم جسدها كي لا يسقط مستندة على الجدار أمامها بينما شعرت وكأن قلبها ستوقف من شدة خفقاته ولهاثها المتسارع في عجلة أن يصبح أنفاس طبيعية بعد أن ظنت أنها ستلفظ أنفاسها الأخيرة بين قبضته المحكمة ببطشٍ حول عنقها وهو أخيرًا قد تخلص من دُفعته النهائية لما بدأ كلاهما به منذ وقت لا تريد حتى أن تعرف كم مقداره!

 

أغمض عينيه ودفن وجهه بخصلاتها وهو يلتقط أنفاسه، لقد اشتاق لهذا، أن يتملك امرأة وهي تفعل كل ما يأمر به، تلك النظرات بعسليتيها وهي ترتجف خوفًا منه، الجلوس أسفل قدميه بطاعة عمياء لكل ما يُحبه ويرضيه، أصوات صراخها وتوسلها، كيف ترك كل هذه المتعة وودعها من أجلها؟

 

ولكنها سترفض حتمًا أن يكرران الأمر، وستغضب، وستنزعج، ستجادله بأن هذا فعل مرضي بينما هو يرى الأمر مجرد ميول شخصية، وسيعود كلاهما لنقطة البداية، وكأن كل ما حاول أن يفعله من أجلها لم يكن، وستبتعد عنه، وستتركه، وسيرغمها على الاستمرار معه، لأنه وببساطة أصبح مهووسًا بها ولا يُطيق فكرة أن تبتعد عنه. فهو رجل سادي وهي لا تقبل هذا وها هي الدوامة سيخطو كلاهما بها من جديد وسيستمران في العدو خلف بعضهما البعض وهو لا يدري كيف انتهى هذا الكابوس واستطاع أن يصل معها لهذا الهدوء، بل؛ وتقبلها بأنها قد تتنازل عما تقتنع به من أجله.

 

أجلى حلقه بعد أن استطاع أن يسيطر على لهاثه ثم اجبر جسدها على الالتفات وامسك بذقنها ليبحث بعينيها عن المصداقية فعليه التراجع الآن والتأكيد بأن هذا لن يتكرر إلا لو ارادت هي فكلمها مُستفهمًا بنبرة مُهتمة:

-        انتِ كويسة؟

 

أومأت له بالموافقة وهي تتفقده بتلقائية حاولت أن تُظهرها بالرغم من فزعها مما حدث ولكنها ليست سوى البداية، فهم لم يُدخلها لهذه الغرفة اللعينة، لقد بقيا بغرفته ولكن تلك السادية المريض بها سيطرت على عقله وانعكست بتجلي في كل تصرفاته وأفعاله وحتى على جسدها الذي لم يستطع الصمود أمام ما سببه من ألم له، وحتى بداخلها لم تترك ذرة دون إهانة خفية آلمتها وسببت لها الشعور بالتقزز!

 

-        اشمعنى المرة دي بالذات اللي وافقتي فيها؟

 

سألها بأعين تستخلص اجابتها دون حتى أن تنطق بها فحاولت التشبث بالمصداقية قدر استطاعتها واجابته:

-        عشان احنا بقالنا فترة كبيرة بنعمل كل اللي أنا بحبه، وأنت بتحاول ترضيني دايمًا، وحسيت إنك مش مبسوط معايا فقولت يمكن يكون هو ده الحل الوحيد، إنك يعني تعمل حاجة بتحبها، وفعلًا نجح في الآخر!

 

 تريث لبرهة وهو يُفكر بكلماتها التي بدت منطقية قليلًا، على كل حال لم يبالغ معها، لقد فعل فقط البعض مما دفع رغبته للاستيقاظ وهز رأسه بالموافقة واقترب منها ليُقبلها بلطفٍ إلى أن ابتعد ثم همس بدفء بالقرب من شفتيها:

-        تاني مرة لما اقولك مش في المود بلاش تزعلي وتعملي الحركات دي. اتفقنا يا بنوتي؟

 

أومأت له بالموافقة فقبل جبهتها وضمها إليه ثم همس بمرح:

-        قدامك عشر دقايق نداري على اثار الجريمة اللي عملناها دي وننام لأني مش قادر افتح عيني!

 

ابتسمت وهو يدفعها برفق نحو الحمام فالتفتت له وحاولت أن تتجاوب لمزاجه الذي بات رائقًا نوعًا ما وكلمته بتحدي:

-        دلوقتي مش قادر تفتح عينك، انما زمان أنا اللي كنت بنام وأنت بتفضل صاحي، ده تقدم بالنسبالي!

 

ابتسم لها وهو يُضيق عينيه نحوها وتفقدها من أعلى شعرها الذي تشرد من شدة ما ذاقه إلى أخمص قدميها الذي لا يدري كيف تستطيعان حملها ثم قال بتنهيدة:

-        بنوتي كِبرت خلاص، مش بعيد لو كملنا كده اموت بين ايديكي قُريب!

 

حاول قول هذه الكلمات بمرح لا يقصد سوى أن يبين لها أنها تملك تأثيرًا عليه هي الأخرى، هي حقًا تفعل، ولكن لا يدري ما الذي يحدث له، ولا أين ذهب عقله، هو حتى لا يستطيع التفكير بأي شيء سوى أنه يريد أن ينام ولاحقًا سيُفكر في كل ما يُشغله.

 

ضمها إليه للحظات أسفل هذه المياه وسرعان ما ساعد كلاهما الآخر على الاستحمام وبعدها توجه سريعًا ليرتدي كلاهما اقل القليل ثم توجها سويًا للفراش فعانقها بقوة تعجبت لها لتستغل هذه اللحظة في محاولة معرفة ما يدور برأسه:

-        اشمعنى المرة دي حصل كده؟

 

تنهد بإرهاق ثم اجابها بنبرة شبه هامسة:

-        لأني مكونتش مركز!

 

همهمت باقتناع وسألته مرة ثانية:

-        كنت بتفكر في حاجة؟

 

همهم لها كإجابة فالتفتت لتنظر له فوجدته غامضًا لعينيه فأردفت سائلة:

-        كنت بتفكر في ايه؟

 

قلب شفتيه وأجاب بتعب:

-        عادي، الشغل، هنعمل ايه الفترة الجاية، شربت كتير الفترة اللي فاتت ولازم بعد كده أحد بالي، حاجات زي كده

 

همهمت من جديد وفكرت أن تحاول معرفة المزيد:

-         احكي لي طيب

 

فتح عينيه الناعستين ليبتسم لها واتضحت علامات الإرهاق على وجهه بشدة وهو يهمس:

-        لما نصحى هقولك كل اللي انتِ عايزة تعرفيه، انا مش زيك بعد كل اللي حصل ده محتاج rest شوية!

 

ابتسمت له وأومأت بالموافقة ثم همست له:

-        اوك، تصبح على خير.

 

قربها ليُقبل جبينها واسند جبهته بالقرب من خاصتها ولكنها لم تنس أن تسمح لنفسها بأن تتشبث به كي يُصدق أنها لا تخطط لأي شيء لا يعلمه هو وتنطلي عليه أفعالها وقبل أن يسقط في النوم بالكامل وجد نفسه يُخبرها بهمسٍ اطنب به وهي غامضة لعينيها:

-        أنا نسيت حاجات كتيرة من اللي حصلت الفترة اللي فاتت، عشان كده مش مركز في حاجة غير اني افتكر، متحاوليش تتكلمي في الموضوع ده اكتر من كده، بس أنا متضايق جدًا وحاسس إني تايه، متبقيش تسبيني اشرب كتير مهما حصل، وبلاش تفكريني بالفترة دي تاني، متفكرنيش بس غير اننا كنا كويسين، الحاجة الوحيدة اللي مريحاني إننا مش هنبعد عن بعض!

 

حاولت التحرك اثناء كلماته وحاولت التحدث ولكنها وجدته يُعيق تحركاتها ووضع أنامله على شفتيها كي يمنعها عن قول أي شيء وعندما انتهى شعرت بصدمة شديدة من شدة صِدقه وذلك الاحتياج بنبرته فلم يكن منها سوى أنها قبلت أنامله فلانت يده للأسفل ولم تستطع سوى التعقيب باقتضاب وهمست له:

-        حاضر!

--

 

حاولت لأكثر من مرة أن تنام ففشلت، بالرغم من أنها تريد دائمًا أن تتواجد معه كلما استيقظ ولكن تصريحه منذ قليل جذب عواطفها له من جديد.

 

لم تجد فائدة من التواجد معه هُنا وهي لا تزال مستيقظة فانسلتت بهدوء من أسفل يده عندما شعرت بهوان عناقهما وتأكدت من سقوطه الكامل في النوم ثم نهضت دون أن تحدث جلبة واتجهت للخارج.

 

احتدمت افكارها بصحبة مشاعرها ليخوضا حرب ضارية، منذ قليل لم تُفكر سوى بالاحتياج الشديد بمجرد مشاركة ما حدث له معها، اشفقت عليه بشدة لدرجة أن عينيها قاربت على ذرف الدموع من أجله، لماذا يحدث ذلك؟ لماذا بكل مرة تحاول أن تتخلص منه وتبتعد عنه تجد منه أمرًا يحرك مشاعرها له؟

 

أيًا كان ما هو عليه، لقد حدثها بمنتهى المصداقية التي لا تقبل التشكيك في قوله، لم يسألها، لم يتفحصها بنظراته، بل تفوه بمنتهى البساطة بما حدث له وبما يشعر به، تغلب على احراجه بالنطق بالأمر واخبارها ما يؤلم عقله، وهي أكثر من أي شخص بالحياة، على يقين تام، بأنه يُخبرها الحقيقة، فلقد كانت هي الوحيدة التي عايشت معه كل ما حدث!

 

تساقطت دموعها رغمًا عنها لتجففهما بأنامل مرتجفة وهي تزجر نفسها عن ذلك الطريق الذي ستخوض به، عليها أن تعاود ادراجها والتوقف عن سماع ما يصرخ به قلبها، فكل مرة تُقرر أنه يستحق فرصة أخيرة يخيب أملها بأمرٍ جديد.

 

شردت بالفراغ أمامها وهي تتذكر طريقته معها، حاولت أن تُفكر في تلك الإهانة بتقبيل قدمه، تحث نفسها على إدراك عنفه الذي لا يوجد به أي متعة سوى مُتعة مريضة ممتلئة بشذوذ النفس البشرية في الحصول على الرغبة بإلحاق الألم بمن أمامه في خضم هذه المشاعر الفطرية بالمتعة، عنف أهوج لا ينتهي، خصلاتها التي قاربت على مغادرة رأسها هذا إن لم تكن حدثت بالفعل، وأي لذة لعينة في أن يقوم بإجبارها على التقاط أنفاسها بأعجوبة وهو يقوم بخنقها؟

 

لن تترك نفسها في أن تستجيب لأي أسئلة، ولن تحاول معرفة ما الذي يحدث له، لن تتراجع سوى لطريق الهروب منه وهي تحسب كل خطوة معه بذكاء وباحتراس، كما أنها تريد أن تعرف أين ترك هاتفه اللعين؟ تبحث عنه منذ أيام ولا ترى له اثرًا!

 

بحثت عنه من جديد، بغرفة مكتبه، بكل ركن وزاوية، حتى أنها تغلبت على خوفها وذهبت لتبحث بالإصطبل فلعله تركه هناك، فتشت عنه بأرجاء المنزل بالكامل ولكنها لا تزال لا تجد له اثرًا، أين وضعه؟ ولماذا يُخفيه؟ وهل يا تُرى يتذكر أين وضع هاتفها وحاسوبها أم أنه قد فقد هذه التفاصيل أيضًا؟!

 

زفرت بإرهاق لتتوجه من جديد للأعلى واجبرت نفسها على النوم، حاولت استلهام بعض الراحة بعد عنفه وطريقته البشعة معها التي لا تزال تُعاني منها حتى هذه الثانية وحاولت ألا تلتفت له ولا لملامحه النائمة كي لا يؤثر عليها من جديد!

--

 

فجر اليوم التالي..

استيقظت في حالة من التأهب وتنفسها يتسارع بلهفة وكأنها غفت لبعض دقائق فقط لتلتفت لجانبها الآخر دون أن تشعر بهذا العناق الذي يجمعهما فلقد بات عقلها مبرمج على عدم تركه بمفرده مهما كانت الظروف وقبل أن ينتابها الفزع بالمزيد من هذه المشاعر التي تُحركها بضرورة التخلص منه وجدته لا يزال نائمًا فزفرت في راحة ثم تفقدت الوقت لتجدها الثالثة صباحًا وفكرت في أن تستيقظ كي تسبقه فتفقدته بعناية وقرر عقلها أنه لا يزال مستغرق في نومٍ عميق لن يستيقظ منه قبل ساعات.

 

تمنت لو أنها ملكت هاتفها حتى تستطيع الاستيقاظ في وقت محدد أو حتى ساعة رقمية تُمكنها من الاستيقاظ باكرًا ولكن بالطبع هي تعيسة الحظ منذ أن عرفته، لذا لن تجد شيئًا يُساعدها بهذه الأزمة.

 

تململت وهي تحث نفسها أن تنهض لتجد نفسها تتثاءب وجسدها بأكمله مُتعب والإرهاق يضرب بكل حواسها فرفعت عينيها نحوه وحاولت الاقتراب منه كي تشعر لاحقًا لو استيقظ واغمضت عينيها وسقطت في النوم مرة أخرى!

 

ربما ما عانته معه يدفعها للهروب، عقلها يجعلها تظن أنها تستطيع أن تفعلها، ولكنها لا تُدرك بعد ما الذي يعنيه أن يفترقان للأبد وتتوقف عن رؤيته وتُصبح دونه، هذه معاناة من نوع آخر لم تُفكر بها بعد!

 

بعدها بساعتين..

 

فتح القليل من عينيه بعد أن أزعجه هذا الضوء الذي تسلل من الشرفة فأغلق عينيه مجددًا محاولًا أن يتفادى ما أزعجه وحاول أن يمد يده إلى الطاولة الجانبية الصغيرة ليجد جهاز التحكم عن بُعد حتى يغلق تلك الستائر اللعينة ولكنه لم يفلح فلعن مرارًا بداخل عقله واكتفى بأن يولي هذا الضوء المُزعج ظهره حتى يستكمل نومه الذي أضاع به ما يُقارب عشرة ساعات ولمحة واحدة حصلت على ملامحها النائمة كانت كفيلة بأن تجعله يستفيق.

 

سرعان ما لانت شفتاه بابتسامة وهو يراها ساقطة في النوم وكأنها مرتها الأولى بعد ما حدث ليلة أمس، لا يُنكر تعجبه من قرارها بالسماح له بأن يتواجد كلاهما في تلك البُقعة المظلمة التي لطالما اختلفت آرائهما حول التواجد بها، ولكن في نفس الوقت لا يستطيع سوى الشعور بالراحة والسعادة.

 

أحيانًا لا يحتاج المرء إلا لشخص يعشقه وينغمس معه بلحظة من الجنون الخالص، بغض النظر عما إن كان هذا الجنون صحيح أم خاطئ، تلك المشاعر الناتجة عن وجود من تعشقه وهو يُشاركك اهتماماتك بمنتهى الرضاء منه بل؛ والاستمتاع، يدفع عاطفة السعادة بداخل المرء لأقصى درجاتها!

 

 لقد انهزم عقله لبعض اللحظات وانتصرت هي دون أن تدري، كان لابد لها من رؤية كيف يتفقدها في صمت وهي تسرق النوم من عينيه وتُرغمه على الانتباه لها وحدها، ولكنها تعيسة الحظ لدرجة شنيعة فلم تملك سوى أن تكون غير موجودة لتستمتع بانتصاراتها.

 

لم يكن يُصدق أنه سيملك زوجة يومًا ما، هل من الممكن أن هذا حدث بالفعل وهناك عشق فيما بينهما وسيستمر للأبد؟ خوفها الذي حدثته عنه أمس لا يُنكر أنه يشعر به هو الآخر، فماضيه ليس بهين، ماضيه مُلبد بالكثير من الجرائم والأخطاء، كيف ستتقبل هذا؟

 

ربما عليه أن يوقف تفكيره بهذا، وعليه أن يستجيب لهذه الحياة السعيدة التي تُقدمها له، أمّا ما كان يُفكر به بنسيانه لبعض الأمور واسرافه في الشراب ليس له مكان الآن، ربما من شدة حلمه وتمنيه أن يُصبحان بخير عندما تحقق بالفعل اختار أن ينسى ما حدث ولا يتذكره، هل هذا هو فقدان الذاكرة الانتقائي الذي قرأ عنه يومًا ما؟ هل يُمكن أنه مريض وفقد عقله؟ يستحيل، لا يمكن هذا، هو يتذكر بعض مما حدث بالفعل!

 

كل ما عليه أن يتوقف عن الاسراف في الشراب وسيكون بخير حتمًا، وأمّا الآن عليه أن يختبر نظرية هامة للغاية، فما حدث له أمس وفقدانه رغبته التي لم تعد سوى بأفعال لا تُرضيها وقد عاهدها أنها لن تحدث فيما بينهما أبدًا، اثار حفيظته وجعله يرتاب بشأن نفسه، أن يفقد بعض تفاصيل ما حدث له أمرًا مخيف وأن يفقد قدرته على الاستمرار بعلاقة حميمة أمرًا يستحق الذعر وعليه الانتباه له بحرص!

 

ازاح خصلاتها بأنامله بلطفٍ واقترب ليوزع قبلات بتأني بتقاسيم وجهها، إلى أن شعرت بما يفعله فتأهبت ببعض الخوف ما إن كان استيقظ واستطاع أن يحصل على أية معلومات مما حدث ولكنها هدأت عندما رأت ابتسامته التي لا تدل سوى على راحته وسعادته وثقته بها مثل ليلة أمس تمامًا.

 

-        صباح الخير يا بنوتي.

 

حاولت أن تتخلص من نعاسها حتى تعي ما الذي يحدث له أو ما يوشك على الحدوث وبالكاد همست:

-        صباح النور

 

تفقدته والنعاس لا يزال يسيطر عليها لترى فحميتيه تحدق بها باستفهامٍ لم تفهمه، فتوترت بداخلها ولكنها رفعت كف يدها لتداعب لحيته برفق ليلتقطه مُقبلًا إياه مرات يليها مرات ولم تترك عينيه خاصتها ولو لجزء من الثانية لتتنهد بألمٍ تشبع بسائر كيانها، لولا حقيقة كونه رجل يصعب التعايش معه بكل ما يُسببه من مخاوف تدفعها لفقد عقلها لكانت ظنت أنها حصلت على كنز من الكنوز النادرة لأجل هذه النظرة وحدها.

 

عناق أصابعه الدافئ لأناملها، تلك العواطف التي يأسرها بها من بين عينيه وهو يجعلها تشعر وكأنها المرأة الوحيدة في هذا الكون بأكمله، ابتسامته الرائقة الفرحة عندما يمتلك هذا المزاج الرائق، لا تدري ما الذي يمتلكه بلمساته وعينيه وحتى أنفاسه، يجعلها بصخب سيطرته تميل إليه رغمًا عن أنفها وتيقنت الآن أن الذي يزلزل قلبها هو المشاعر التي تكنها له، العشق الذي لم تختبره سوى معه، ليس التوتر ولا الخوف من أي شيء، ربما الخوف من فقدان كل هذا، أو الذعر من تحول مزاجه مائة وثمانين درجة، والتوتر عندما تفجعه بحقيقة أنها ستنفصل عنه شاء أم آبى!

 

لماذا لا يكون كل شيء بالحياة كامل؟ لماذا لا يوجد شيء مثالي؟ وما الذي ستفيد به المشاعر والعشق عندما يعاود ادراجه ليُصبح في حالة من حالات جنونه بسادية مرضية أو حتى بنوبة من نوباته التي يرفض رفض قاطع أن تكون نتيجة لاضطرابٍ بشخصيته؟

 

لا يمكن أن تحظى بأمان دائم معه، ليس بنوعية الزوج الحامي ولا الأب المسؤول، لا يمكن أن تستمر معه، سوى بهذه المشاعر اللحظية فقط، هي تعلم بداخلها أنه عاشق ممتاز بجدارة، وشريك رائع بالفراش، وعشقها الأول، لكن أكثر من هذا لا يُمكنه أن يكون، ولقد اكتفت من كثرة المحاولات معه.  

 

جذبته نحوها ورهُفت قبلاتها المتأنية إليه واغمضت عينيها لترغم نفسها أنها تعايش حلم، مجرد خيال، سينتهي يومًا ما عندما تستيقظ على الحقيقة المُرة التي مهما تجنبتها وهربت منها تجدها تهزمها في النهاية!

 

مطاف لا ينتهي من رقته ودماثة لمساته لها، انغماس لا ينتهي بأعماق الدفء اللذيذ الذي لم تشوبه ولو ريح من رياح عنفه الذي يؤلمها، لا تعرف كيف يفعلها وينجح بها ولكنه ملك مفاتيح قلبها ولا يملك سواه سلطانًا عليها.

 

-        بنوتي كويسة؟

 

استيقظت على سؤاله بأنفاس متسارعة ولكنها تسارعت تمتعًا وليس لرغبة جامحة مثل ما عهدته من نفسها معه، كل مرة يملك حيلة جديدة يؤثر بها عليها بين يديه، يديه، ما الذي يلمسه وجعله يسألها هذا السؤال؟ نعم، علامات ما يُشابه كدمات من ليلة أمس!!

 

-        كويسة، متقلقش.

 

لم تظن أنه يملك أكثر من هذه القبلات التي يُمطر بها كل تلك العلامات بعد أن انتزع ما يخفيها عنه حتى أصبحت شفتاه تلاطف كل ما تضرر منها، ولكنه باغتها بمزاج رائق للغاية، لا تظن أنها واجهت مثله من قبل وهو يمازحها متسائلًا:

-        مين الكلب اللي عمل فيكي كده؟

 

اخفضت عينيها نحوه بغير تصديق في البداية وغابت عسليتيها خلف جفنيها المتقاربين على الانغلاق وهي تضيقهما نحوه كمحاولة لمعرفة ما يعتريه، من الرجل السادي الذي يُلقب نفسه بهذا؟ هذا يُعتبر انفصام في شخصيته وليس مجرد مزاج رائق!

 

رطبت شفتيها عندما همهم مرة ثانية يحثها على الإجابة اثناء مواصلته معانقة بشرتها الناعمة المتضررة من افتراسه الشره أمس بقبلات مواسية فابتسمت وهي تُجيبه بنبرة ذات مغزى:

-        أظن ده مش سؤال، أنا وأنت عارفين كويس مين الهمجي ده!

 

ارتفع وهو يُحدقها بتعجب مُصطنع كما تعجب بحروفه المستفهمة:

-        وهتجيبي حقك منه ازاي؟

 

نهضت جالسة وابتسامتها تتوسع من ملامحه المرحة واستندت على الوسادة خلفها لتتنهد ثم اجابته مُداعبة إياه:

-        اعتقد محامي زيك، ممم، نكتبله قانون بحاله عشان اعرف اجيب حقي منه!

 

قلب شفتيه وهز رأسه بإعجاب ليقترب منها مُقبلًا إياها قبلات متتالية مرحة وهو يعتليها ثم همس بأذنها:

-        بس ده هياخد وقت، وقت طويل اوي، شوفيلك حل تاني..

 

جذبته لتحدق بملامحه بجدية ولم تقدر أن تغفل الشرود بعينيه للحظات وابتسامته للحظات أخرى فشعرت بخفقات قبها وكأنها تصرخ بداخلها أن تصفح عن كل ما حدث فيما بينهما ولكنها زجرت نفسها وتساءلت بداخلها عما يفعله وعما قاله لتجد ملامحه هو الآخر يعتليها الجدية وسألها:

-        ليه عملتي كده امبارح؟

 

هزت كتفيها بعفوية واجابته وهي ترفع احدى حاجبيها بانتصار:

-        كانت مجرد نظرية ونجحت! أنت اللي كنت محتاج ده مش أنا!

 

حدق شفتيها لوهلة ثم التهمهما بين شفتيه مستنشقًا أنفاسها بقوة ثم أجلى حلقه وحدثها متسائلًا:

-        طيب أنا عندي نظرية تانية وعاوز اجربها، وهموت من القلق لو مجربتهاش، تجربيها معايا؟

 

ضيقت ما بين حاجبيها باستغراب لينظر لها مُضيقًا عينيه ثم جذبها للأسفل بحركة خاطفة ودفن وجه بعنقها قاصدًا أن يداعب بأسنانه بشرتها الناعمة وواصل:

-        وبالمرة تاخدي حقك من الحيوان اللي عمل فيكي ده، لو شوفته هموته!

 

شعرت بتنقلاته المتلاحقة تدغدغها وليست تبعث بها الرغبة فحاولت الحصول على رأسه ولكنه لم يسمح لها وأردف:

-        والنهاردة كله ليكي، نخرج ونتعشى ونسافر المريخ ونروح لمامتك كمان لو تحبي، بس خدي حقك الأول!

 

انضمت يديه لخصرها لتتنقل مداعبة إياها فتعالت ضحكاتها لتصيح تُناديه:

-        عمر، استنى بس.

 

اطلق همهمة مفادها الرفض فتعالت المزيد من ضحكاتها وانخفض هو يُخلصها من المزيد من تلك الاقمشة القليلة المزعجة التي تحول بينهما وانتزعها بفمه ملتهما ما اسفلها بعضات لطيفة ويداه لا تتوقف عن اصابتها بالدغدغة فلم تستطع إلا أن تغرق بتلك اللحظة بكل ما فيها فدفعته لتعتليه ثم هتفت به:

-        قولتلي أخد حقي، موافقة!

 

حاولت أن تفعل المثل فلم تُفلح وهي تراه يتمالك ضحكته ولا يتركها أن تغادر شفتيه وحاول التحلي بالنظرات الجدية ولكنها لم تيأس إلى أن استطاعت أخيرًا أن توقعه بنوبة ضحك شديدة بمجرد تلمسها خلف ركبتيه، وكأنها وجدت ضالتها بعد أن بحثت عليها لوقت ليس بهين فاحتفلت بانتصارها لمدة ليست بهينة!

 

--

السادسة مساءًا بنفس اليوم..

 

وضعت اللمسات النهائية على مظهرها بنثرها لقطرات العطر على عنقها ومعصميها وبمنتصف ساعدها ثم تكرت الزجاجة لتستمع لصافرة اعجاب خلفها:

-        وبالنسبة للناس اللي هتشوف الجمال ده كله مطلوب مني اعمل فيهم ايه!

 

التفتت له بابتسامة كتعقيب لغزله بها ولكنها لم تنس أنها تتحرق شوقًا لمعرفة أين هاتفه اللعين الذي سيهاتف به سائقه إلا إن كان ينوي استخدام تلك السيارة التي ابتاعها ولا تزال متواجدة أمام البوابة مباشرة وحدثته بمرح:

-        اظن لبسي كويس، متهزرش بجد.

 

اقترب نحوها وأمسك بيديها ليتفحصها مبتلعًا ثم همس:

-        افروديت جنبك ولا حاجة، كان معايا حق يوم ما قولت إنك شبه الملايكة، أو يمكن أحلى منهم، أو تقريبًا هم اللي شبهك!

 

تنهدت وهي لا تستطيع مواكبة كلماته تلك لترفع يدها وهي تتلمس جانب شفتيه واخبرته بإعجاب:

-        انت كمان شكلك حلو اوي، بالذات لما بتقصر دقنك كده بشعرك الطويل ده!

 

ضيق عينيه وهمس بابتسامة مرحة:

-        تزعل اوي لو مردتش! اديني فُرصتي طيب!

 

ضحكت بخفوت ثم قضمت شفتيها ووضعت يدها فوقها ونظرة منها كانت كفيلة بأن يفهم أنها تسمح له بالفرصة التي يُريدها فقبل يدها قبلة سريعة ثم اخفضها ليُمسك بها وأخبرها بجدية:

-        لما نرجع هقولك كل الكلام الحلو اللي نفسك تسمعيه، بس هموت من الجوع، فطار الصبح ده منفعنيش خالص!

 

أشارت بيدها أن يغادرا غرفة الملابس وادعت العفوية وهي تسأله:

-        يالا بينا، بس كلمت محمود؟

 

حمحم بتردد وهما يتجها نحو الخارج فتفقدته بنظراتٍ متعجبة وانتظرت اجابته ليبتسم ببلاهة وهو ينطق كلماته بتريث:

-        واضح كده لما كنت سكران، الموبايل شيلته في مكان مش عارف اوصله

 

ضيقت ما بين حاجبيه وتفقدته لتهز رأسها بالتفهم وسألته بهدوء ونبرتها تحمل توتر زيفته باحترافية:

-        ويا ترى شيلته في نفس الأماكن اللي شيلت فيها موبايلي واللابتوب بتاع شغلي بردو؟

 

توسعت ابتسامته بمزيد من البلاهة وهو يومأ بالإنكار واجابها:

-        مش فاكر بالظبط

 

رفعت حاجبيها وتوسعت عينيها وقبل أن يسمح لثورة غضبها بالوقوع أردف بسرعة:

-        متقلقيش، النهاردة بعد ما نتعشى نروح نشتري موبايلات ولابتوب، وبرق هيوصلنا لغاية العربية برا.

 

ابتعدت عنه وعقدت ذراعيها وهي تتفحصه من اعلى رأسه لأخمص قدميه وسألته بسخرية وابتسامة لم تغب عن محياها:

-        وهنروح نعمل shopping باللبس ده؟!

 

عقد حاجباه وهو يقترب منها واختلفت ملامحه للجدية وحذرها دون مبالغة بنبرته:

-        روان honey، ما بلاش نتخانق، قولنا هنجيب غيرهم ولا نخلي محمود يشتريهم واحنا بنتعشى، مفيهاش حاجة يعني، ويالا بقى علشان منتأخرش!

 

قدم يده لها لتنظر نحوها فتمسكت بها ولكنها عاودت ادراجها وهي تجذبه نحو غرفة الملابس فسألها:

-        ايه ده احنا مش المفروض خارجين؟

 

عقبت باقتضاب وهي تنظر له بلمعان مُقلتيها الذي أخبره بأنها لديها خطة ما:

-        هنخرج، بس عندي فكرة أحسن.

 

رفع حاجباه متعجبًا ولكنه تابع ما تفعله دون أن يعترض على خطتها تلك إلى أن وصلا إلى غرفة الملابس من جديد ليجدها تتخلص من ثوبها ولا تقف أمامه سوى بالقليل مما يحجب مناطقها عنه واتجهت له وهي تساعده على خلع سترته وقميصه فحدثها مبتسمًا:

-        أنا مقدر اننا مش قادرين نبعد عن بعض بس احنا محتاجين ناكل على الأقل عشان نقدر نكمل اللي بنعمله ده!

 

رفعت عينيها نحوه ورمقته باستخفاف وعقبت قائلة:

-        متخافش مش اللي بتفكر فيه!

 

تمتم مشتقًا من كلماتها:

-        أخاف!!

 

همهمت له بالموافقة على ما قال ثم اتجهت لتخرج ملابس غير رسمية له أولًا ثم ناولتها له وبعدها فعلت هي الأخرى واستخرجت ملابس لنفسها وهي تخلع حذائها الذي سيُقيض تحركاتها بكعبه العالي واكتفت بارتداء ثوب قطني غير رسمي باللون الأبيض فضفاض دون أكمام ينتهي بعد ركبتيها بكثير ويرتفع عن ساقيها فكشف منها القليل وحدثته قائلة:

-        نتعشى في مكان تاني ونشتري الحاجة بنفسنا واعتبره تغيير ونتمشى حبة

 

تتمنى أن يتقبل فهي تريد التهام أكبر وقت ممكن دون أن ينفرد بهاتفه أو بعقله ثم واصلت:

-        وممكن نتفرج على فيلم جديد، مش قولت إن اليوم النهاردة كله ليا!

 

تنهد وهو يتابعها تغير من تصفيف شعرها الذي كان منمق، مسترسلًا على احدى كتفيها وينتهي أسفل مفاتنها من الجهة اليُمنى لتنثره على ظهرها وهي تُعطيه مظهر طبيعي غير متكلف فسألها وهو يشير بسبابته إليها:

-        وانتي هتخرجي كده بدراعاتك وسط الناس وهتقوليلهم اتفرجوا على القرون اللي ماشية جانبي؟

 

تفقدته مضيقة ما بين حاجبيها وأومأت له بالإنكار ثم اجابته:

-        طبعًا لأ.

 

اتجهت لتُمسك بسترة غير رسمية تصل لخصرها، وتنتهي اكمامها فوق رسغي يديها بقليل وجلست بعد أن جذبت حذاء يكشف عن أصابع قدميها لا يفرق بينه وبين الأرضية سوى حاجز بسيط بالكاد يقي قدميها ملتفًا به الكثير من الجلود فضية اللون ثم رفعت نظرها نحوه لتحدثه قائلة:

-        يالا غير هدومك بقى علشان منتأخرش!

 

أكملت تبديل حقيبتها وغيرت قرطها الماسي لتنحيه بعيدًا ثم حاوطت عنقها بسلسلة فضية غير رسمية وأخذ يتابعها وهو يبدل ملابسه بينما عقله يتمزق بداخله، فهو لا يدري لماذا يترك لها زمام الأمور في كل شيء حتى باتت هي من تسيطر على كل ما يفعلاه!

--

 

الواحدة صباحًا..

 

تثاءبت ولكنها لم تتصنع هذا والتفتت له وهي تتفقده فسألته:

-        اتبسطت؟

 

همهم موافقًا وهو يهز رأسه والتفت إليها ليقول:

-        بس الفيلم كان ممل شوية

 

ضيقت عينيها نحوه بانزعاج وغمغمت:

-        أنا غلطانة بجد، بعد كده هبقى اروح مع بسام أو عنود وهسيبك أنت تقعد في وسط كُتبك ومكتبك ولما تزهق تقوم تروح لبرق

 

أطلق ضحكة خافتة باستخفاف واعطاها نظرة جانبية وقال بخفوت وغطرسة انعكست بكل حروفه:

-        لو كنتي لحقتيني زمان كنت بشغل وقتي كويس اوي بحاجات كتيرة متخطرش على بالك، غير كُتبي ومكتبي وبرق!

 

من تلك الطريقة التي يتفقدها بها تعرف تمامًا أنه يُشير إلى علاقاته السابقة فانزعجت منه وتأهبت بمقعد السيارة فلقد كانا على وشك الوصول ولكنه قبض على يدها وهمس بأذنها:

-        بس دلوقتي مبقاش فيه حاجة أجمل منك اشغل بيها وقتي.

 

طبع قبلة على وجنتها فالتفتت نحوه بشبه ابتسامة لتتوسع بغيظ واخبرته بخفوت قاصدة أن ترد له الصاع بعد أن وقفت السيارة وتأهبت للخروج:

-        أوعدك جوازتي الجاية هسأله عن اهتماماته قبل ما اتجوزه.

 

شعرت بالانتصار لمغادرتها له تاركة ملامحها المغتاظة خلفها دون اكتراث بينما تحدثت إلي السائق بلُطف لتقول:

-        لو سمحت دخل الشُنط جوا.

 

أومأ لها بالتفهم بينما فرت هي سريعًا لتُبدل ملابسها فشعرت به خلفها ولم ينتظر ليقترب منها وسألها بملامح اختلطت جديتها بابتسامة حاقدة:

-        قولتيلي بقى جوازتك الإيه؟ مسمعتكيش كويس!

 

همهمت بتفكير ثم اجابته بتنهيدة عميقة:

-        كل ما تجيب سيرة أي واحدة عرفتها، أو حتى لمحت عن علاقاتك القذرة دي، متتوقعش مني اسكت واقبل!

 

ابتعدت عنه وهي تخلع سترتها ثم انخفضت لتتخلص من حذائها فوجدته يجذبها بقوة وهو يدفعها للجدار خلفها وحذرها بنظرة جعلتها تبتلع:

-        نتكلم ونقول بتضايق من كذا، إنما هبل في الكلام مش عايز، ماشي يا قطتي!!

 

حدقته بنظراتٍ مُتحدية وهي تقلب شفتيها وأومأت بالموافقة ثم سألته:

-        افهم من ده إنك غيران مثلًا من مجرد الفكرة؟

 

ابتسم وهو يومأ بالإنكار ثم اجابها:

-        لا يا بنوتي، عمر الجندي مبيغرش من حد علشان مفيش حد زيه.

 

حدجته بتعجب ساخر لغروره الشديد وتشدقت بمنتهى السماجة:

-        ليه يعني، عندك أربع ايدين وخمس عينين؟

 

أومأ بالإنكار وابتسم بغطرسة وضيق عينيه واخفضها لما ظهر منها أسفل عُنقها وعقب بزهو:

-        عشان أنا الوحيد اللي يعرفك أكتر من نفسك، وعارف بتحبي ايه وبتكرهي ايه وعمر ما أي راجل في الدنيا هيقدر يفهمك زيي.

 

كادت أن ترد بتعقيب ساخر على كلماته المليئة بالغطرسة ولكنها اوقفها بقبلة جامحة ليحمل جسدها واتجه نحو ذلك المقعد الجلدي الخالي من المساند الذي ينتصف الغرفة واعتلاها وهو يُحدق بها ملتقطًا أنفاسه ثم صدمها بقوله الذي تفلت من بين لهاثه:

-        والوحيد اللي هيكون أبو ابنك!

 

نظرت له بصدمة شديدة بأعين توسعت بدهشة ورأى العديد من الأسئلة بداخلها ولم تعلم من أين آتت هذه الفكرة برأسه ولكنها لم تكن يعلم أنه يتذكر بعض تلك المرات التي حدثه والده عن أمر الإنجاب خلالها وبعد كل تلك السعادة التي يُعايشها معها لقد أخذ قراره بالفعل بشأن تملك قطعة صغيرة منها فواصل بابتسامة:

-        أو بنتك!

 

ابتلعت بارتباك وهي ترى مدى جديته الشديدة التي يتحدث بها فانعقد لسانها وتصاعدت خفقات قلبها في فزع، فهي كانت تحاول أن تتهرب منه، الآن يأتي ليُحدثها عن الانجاب، حسنًا، عليها الادعاء بالتلقائية وابتسمت له لتقول:

-        اكيد، اكيد هيحصل في يوم

 

جذبته لتقبله فتفادى ما تفعله ثم تفقدها بعناية وأخبرها بجدية:

-        أنا بتكلم جد، واوعدك إن المرة دي مش هتكون زي المرة اللي فاتت أبدًا!

 

ورطة جديدة، ومأزق آخر، كيف عليها أن تقنعه بالنقيض؟ هذا ما كانت تحاول أن تتجنبه وها هو يضيق عليها الخناق! أو ربما، كان يعرف أنها تُخطط للابتعاد عنه للأبد!

 

حاولت أن تستخدم نفس الحيلة مرة أخرى فهمست له بدلال وهي تمرر سبابتها على شفتيه:

-        وهتقول لابننا أو بنتنا ايه؟ إنك كنت بتسيبني في اللحظات المهمة دي عشان ترغي، مظنش كده هتبقى قدوة لإبنك أبدًا.

 

سلطت نظراتها نحو شفتيه برغبة حاولت تصنعها فانطلت عليه الحيلة وأردف مُعقبًا قبل أن يمطرها بسيل قبلاتٍ لم تنتهِ سوى بليلة جامحة:

-        لأ، هم هيسمعوا صوتك وهبقى اسيبهم يحكموا بنفسهم!

--

 

في صباح اليوم التالي..

استيقظت لتشعر به خلفها واصوات أنفاسه تدل على النوم العميق، يا لها من ليلة؛ لم تنته سوى بشق الأنفس، شعرت بالارتباك ما لو أنه استطاع التوصل لما بهاتفه، فلابد أن هناك معلومات عن إجراءات القضية، أو قد يكون أحد بلغه عن مقابلتها هي و "يمنى"، أو قد يجد سبب يُفسر تغيرها المفاجئ، لا تدري، ولكنها تشعر بالرعب!

 

حاولت أن تهدأ من نفسها ووأدت محاولة عقلها للاستجابة لتلك المخاوف، سلطت تركيزها على الجانب الإيجابي، لقد أعطاها هاتفها وحاسوبها أمس بمنتهى السهولة، بالكاد استطاعت الولوج ببريدها الالكتروني وكلمة السر، ولكنها لم تملك ولو دقيقة واحدة تستطيع أن تتفقد خلالها تلك الرسائل التي وصلتها، تتمنى فقط أن برامج المحادثة لديها كانت تحتفظ بآخر ما تم ارساله إليها!

 

لقد قررا ليلة أمس اثناء تناولهما للعشاء بالخارج أن يعودان لمنزلهما، ما طمئنها هو عدم استطاعته تذكر كلمة المرور فأخبرته أنها ستساعده بهذا الأمر ولكنها امتنت كثيرًا أنها استطاعت أن تنتشل انتباهه ببراعة بعيدًا عن تشغيل هاتفه واستعادة ما به، من أين آتت فكرته بالإنجاب؟ ولماذا يريد هذا الأمر خاصة الآن؟ يستحيل أن تُنجب منه، بل هي لن تستمر معه بهذا الزواج!

 

انسلتت بهدوءٍ شديد واتجهت تخطو على أطراف اصابعها حتى حقيبتها التي تركتها ليلة أمس بغرفة الملابس واخرجت هاتفها الذي لم يسعها أن تستعيد عليه أي تطبيقات ولا تعرف ما الذي وصل عليه حتى من رسائل نصية.

 

توجهت بحرصٍ شديد كي لا يستيقظ نحو الخارج وسرعان ما بدأت في الاتصال بشبكة الانترنت اللاسلكية بالمنزل وبدأ حسابها في استعادة الكثير من التطبيقات فتركته جانبًا وأعدت ماكينة القهوة لتصنع البعض لها ومن جديد اتجهت للهاتف لتجد أن بقية التطبيقات لا تزال قيد التحميل فقامت بالاتجاه لواحدًا من تطبيقات التواصل الاجتماعي التي انتهى تثبيتها لحين اكتمال التحميلات الأخرى وبمجرد قراءة ما وجدته توسعت عينيها بدهشة شديدة، هل يوجد حقًا أمر كهذا؟!

 

بدأت في تفقد التعليقات وفغر فاهها بما قرأته وملامحها يعتريها عدم التصديق حتى أنها نست تلك القهوة التي كانت تريد أن تتناولها ونست تلك التطبيقات الهامة التي تريد أن تستخدمها وسلطت كامل تركيزها على التعليقات الغريبة والمُدهشة لتفزع وسقط الهاتف من يدها عندما استمعت لصوته المتسائل:

-        ايه المهم اوي اللي مخليكي مرعوبة كده؟

 

اقترب نحوها لتبتلع وهي تنظر له وأجلت حلقها لتتلعثم بتردد وهي تجيبه:

-        مفيش، مفيش، بوست غريب مش أكتر!

 

رفع حاجباه باندهاش ولم يُصدق ما تقوله واتجه ليقترب نحوها فسرعان ما حملت هاتفها وقالت بنبرة مهتزة:

-        كنت فكراك نايم، خضتني.

 

همهم بتفهم واتجه نحوها ثم أمسك بهاتفها من بين يديها ونظر به ليجدها أغلقت شاشته فحدثها بلهجة آمرة:

-        افتحيه!

 

ضيقت ما بين حاجبيها وسألته باستغراب:

-        فيه ايه يا عمر؟

 

لن يُنكر أنه ارتاب بتصرفها لينفذ صبره فأرغمها على الوقوف أمامه ممسكًا بذراعها بقوة وأعاد اغلاق الشاشة مرة أخرى ثم وضعه أمام وجهها حتى يتمكن من فتحه والولوج لما كانت تنظر له بتلك الصدمة الشديدة وثبتت هي أمامه فهي يستحيل أن تخبره بما وجدته أبدًا ولا تستطيع النطق بمثل هذه الكلمات بنفسها ولا يُمكنها أن تجعله يرتاب بتصرفها، فهي لم تفعل شيء خاطئ!

 

يُتبع..