-->

الفصل السابع عشر - كما يحلو لكِ - النسخة العامية

الفصل السابع عشر

النسخة العامية

بدأت يده تلين فوق ذراعها رويدًا رويدًا وهو يتفقد التعليقات الغريبة المكتوبة أمامه على الشاشة فشعر وكأنه لا يفهم ما الذي تتحدث عنه تلك النساء فمرر ابهامه لأعلى حتى يجد بداية كل هذا حتى وقعت عينيه على هذا المنشور الذي دفعها لتبدو شاخصة الأنظار بذاك الذهول منذ قليل فأخذ يقرأ:


-    معلش أنا محتاجة مساعدة منكم بدون تريقة ولا تجريح ارجوكم، دلوقتي جوزي بالصدفة لقيته باعتلي البوست ده اللي في الصورة.. ومش عارفة اسمع كلامه في اللي عايزه ده ولا لأ لأنه واخدها حِجة وبيقول دار الإفتاء قالت حلال.. يا ريت اللي جربوا أو حتى اللي مجربوش يقولوا رأيهم بس من غير هزار يا ريت وباحترام لو سمحتم!

 

انخفضت عينيه إلى هذه الصورة فقرأ ما بها سريعًا ليجد رد دار الإفتاء على رجل زوجته تطلب منه استخدام الألفاظ الخارجة عن المألوف اثناء العلاقة فشعر بالسخرية ونظرت له لتجده يرى الأمر بشكل فُكاهي ثم آخذ في قراءة التعليقات من جديد ليتعجب من تلك النساء:

-        ما تسبيه يقولك اللي عايزه يا فوزية هتنكدي على الراجل ليه

 

-        يا سلام، خناق طول اليوم وبليل يبقى شتيمة! ناقصين احنا قرف!

 

 

-        الست اللي عايزة جوزها يقولها كلام من ده تبقى هبلة ومسكوها طبلة

 

-        أنا مش عارفة ليه الناس بيسخروا جامد كده، بس من رأيي كل حاجة بتيجي بالاتفاق ما دام الموضوع بينكم مخرجش عن إطار العلاقة السوية وجوزك عاوز ده كنوع من أنواع التغير وكسر الملل يبقى ليه لأ، بس كل حاجة وليها حدود

 

-        فين كرامتك يا ست الكل؟ كلكوا كده بقيتو معدومين الكرامة خلاص؟

 

-        بصي يا حبيبتي سيبك من التعليقات الهادمة دي، الموضوع نسبي ممكن حد يقبل وحد لأ، وعمرك ما هتعرفي نتيجة الحاجة غير لما تجربيها، الموضوع يرجعلك انتي الوحيدة اللي هتقدري تحكمي

 

-        اه جربت وبتبقى ليلة شوارع كده، بس كان زمان بقى قبل العيال ومدارسهم

 

-        انتوا بتتكلموا جد يا جماعة؟ الفاظ ايه بس، هو انا اتجوزت جواز غيركم ولا أنا بقيت بقرا الكلام غلط؟

 

-        وعاشروهن بالمعروف، معروف فين بقى في القرف ده؟ دي مزاجها مزاج فتيات ليل اللي يوصل بيها الدرجة انها تطلب من جوزها كده!

 

ضحك على ما يقرأه ثم ذهب لماكينة اعداد القهوة بعد أن ابتعد عنها وافلتها ثم قام بسكب البعض له وأخذ يرتشف منها وهو يقوم بقراءة المزيد ولم يكن يتصور كل تلك الكوميديا تقبع خلف شاشة الهاتف الزجاجية بمواقع التواصل الاجتماعي بين النساء وردودهن كانت مثيرة للضحك بشكل لا يُصدقه عقل، كيف لكل تلك النساء أن يشاركن تجاربهن مع ازواجهن ويخبرن بها الجميع؛ هذا لو كن متزوجات ولا تكذب أي منهن!!

 

تفقدته باستغراب شديد في اللحظات الأولى ولوهلة ظنت أنه لم يتعافى بعد من نوبة هوسه الخفيف ولكنها أطمئنت نوعًا ما وسكبت بعض القهوة لنفسها هي الأخرى وتفادت النظر إليه عندما لاحظته يبتسم بسخرية وابتلعت وهي تحاول تخيل العديد من المحادثات بينهما التي قد تنتج عن رؤيته لهذا المنشور وأخذت تُرتب ردودها بداخل رأسها لو وجه إليها أي أسئلة!

 

-        وانتي رأيك ايه؟

 

اجلت حلقها وقررت التنحي عن التواري عنه والتفتت لتواجه ثم اجابته سائلة وهي تعانق كوبها بين يديها:

-        في ايه بالظبط؟

 

ارتشفت من كوبها وهو لا يدري لماذا تمثل دور الغبية فاكتفى بالنظر إلى هاتفها ثم سلط فحميتيه عليها وأخذ يحملق بها مغتاظًا من سؤالها ولكن تقاسيم وجهه ما زالت محتفظة ببقايا ابتسامته ومزاجه الرائق فحدثته بعد أن رفعت كتفيها واخفضتهما:

-        الموضوع غريب وأول مرة اسمع عنه ومعرفش ازاي اصلًا، بس أظن حاجة زي دي مُقززة جدًا!

 

قلب شفتيه وهو يهز رأسه ثم ارتشف البعض من قهوته هو الآخر وسألها متصنعًا العفوية:

-        يعني انتي مردتيش زي كل اللي ردوا دول؟

 

توسعت عينيها وابتسمت ببلاهة ثم اجابته فهذا واحد من الأسئلة التي فكرت أنه سيطرحها عليها:

-        لا طبعًا مبكتبش comments في أي group من دول، مبحبش حد يعرف أنا مين بصراحة، بتفرج بس!

 

همهم بالتفهم ورفع هاتفها ثم ازاحه بخفة على المائدة أمامه كمن يُلقيه لها ثم نهض وأكمل احتساء قهوته واتجه صاعدًا لأعلى فتعجبت لماذا يغادرها وبم يُفكر الآن ولوهلة ظنت أنها تفوهت بشيء خاطئ فأوقفته سائلة:

-        هتفطر؟

-        ماشي

 

اجابها وهو يُكمل طريقه للأعلى فتنهدت هي ولكنها امتنت لمغادرته ليتيح لها بعض الثواني حتى تضع له الدواء بالطعام وفي نفس الوقت تملكها بعض الخوف من أن يصل لأي معلومات لو قام بتشغيل هاتفه.

 

على كل حال عليها هي أن ترى ما الذي فاتها من عمل وقضية وأم وأخ لا تدري كيف يُفكر بها كلاهما الآن بعد هذا الغياب الذي زاد عن شهرًا كاملًا ونصف الشهر!

 

--

 

المزاج الرائق يستمر، نومه انتظم بشكل كبير، دوائه يتناوله في مواعيد مُحددة، لم يقم بتشغيل هاتفه بعد، هي حقًا ممتنة لكل ذلك، ولكن ما الذي سيحدث لو كل هذا انتهى في ثانية واحدة؟ ماذا لو عادا للمنزل؟ هل عليها أن تتسلل نحو طعامه حتى تتأكد من تناوله لتلك العقاقير؟ ماذا لو عادت للعمل؟ كيف ستراقبه حينها؟ ومتى وكيف ستصل لما بداخل غرفة العذاب الخاصة به؟ وهل "يُمنى" محقة أم لا؟ وماذا عن كل هذا الاختناق الذي باتت تشعر به فهما معًا وسويًا طوال الوقت ولا ترى شخص سواه وأحيانًا سائقه، لو استمرت حياتهما بهذه الطريقة ستموت اختناقًا حتمًا!!

 

تخشى أن تتلفظ بالحقيقة دون أن تقصد، عن أي شيء، سواء حالته ومرضه، أم عن رغبتها في الانفصال، أو حتى عن كل ما حدث بينهما، أو عدم رغبتها في الانجاب، عقلها لم يعد يستطيع المواكبة، وستكون اغبى امرأة خُلقت لو ظنت أن هذا المزاج الرائق سيستمر، فبعد ما عرفته من "مريم" عن حالته التي تختلف بها امزجته من حين لآخر، وبعد ما اختبرته معه منذ بداية زواجهما، لا تستطيع سوى أن تجزم بأنها يومًا ما، بين ليلة وضحاها، ستنقلب سعادتهما إلى هم مقيم، سواء بكذبة جديدة، أو بحقيقة مستترة، أو بنوبة اكتئاب شديدة، وربما بثورة غضب غير مبرر، وليحفظها الله من مواجهة نوبة هوس جديدة معه!

 

-        تحبي تعملي ايه النهاردة؟

 

نبهها من غرقها بالتفكير ولا يزال يُربت على جبهة حصانه فهمهمت وقلبت شفتيها واجابته بعفوية:

-        اللي تحبه

رمقها بطرف عينيه وعاود مسائلتها:

-        عندك شغل كتير؟

 

نظرت إليه واجابته بتلقائية:

-        بصراحة لسه مفتحتش حاجة، بس اكيد عندي حاجات كتيرة، الشغل مبيخلصش، ولو بدأت بس اقرا ايميل واحد مش هاخلص، فقولت خلينا زي ما احنا كده فترة!

 

همهم بالتفهم ثم وجدته يمتطي حصانه وامسك باللجام بيده اليُسرى ثم بسط يده اليُمنى له كي تشاركه فرفعت عينيها نحوه فابتلعت تذمرها من مجرد فكرة هذا الحيوان الذي تخشاه ثم امسكت بيده فساعدها على الامتطاء واتجه نحو الخارج.

 

وجدته يقرب خصرها نحوه ثم حاوطه بذراعيه وهو يُمسك باللجام بينما هي كل ما تتمناه أن تنجح بكل ما تحاول الوصول له، فلو تلهفت على العودة كسابق عهدها باهتمامها بالعمل ومغادرة هذا المنزل لن يُصدق أنها هي بنفسها من اعطته هاتفها وحاسوبها منذ فترة ليست بقليلة!

 

عليه التوقف عن تلك اللمسات التي يداعب بها ظهرها وعنقها، الأمر بات كاقتراب اللهيب من الوقود، وهي تعلم أن بصحبة مزاجه الرائق هذا لن تستطيع الصمود أمامه!

 

-        كان فيه مشروع سفر سمعت عنه، ايه رأيك؟

 

هل ترك كل الطرق التي يُمكنه أن يسأل بها عن أمرٍ ما ولم يجد سوى الهمس بأذنها؟ لماذا يُعذبها بأنفاسه تلك التي لا تصل نهايتها سوى لصورة في مخيلتها تنتهي بكلاهما مجردان من الملابس؟!

 

-        ماشي، اختار المكان اللي تحبه!

 

ازاح شعرها لأحدى الجوانب ووجدته يوزع قبلات لطيفة دافئة على طول عنقها فابتلعت بتوتر، هل هناك دواء ما يجعله شرهًا؟ أو هي من بدأت بهذه اللعنة منذ استيقاظه ناسيًا لكل ما حدث بالفترة الماضية؟

 

-        هاكلم باسم النهاردة لما اشغل الموبايل واخليه يرتب كل حاجة.

 

شعرت بمعانقة دفئه لكل حواسها واستمر بأفعاله المُشتتة وبدأت يديه في التوجه لمناطق أخرى ولكنه كان هادئًا على غير المعهود بشكل غريب لا تظن أنها تستطيع مواجهته فحمحمت شاعرة بعدم الراحة على ظهر حصانه وسألته ببعض التلعثم:

-        أوك، بس ممكن ندخل جوا، هاكلم مامي وبسام، ونحضر الشنط؟

 

انطلقت همهمة من بين شفتيها عندما سيطرت شفتاه على تلك البقع الحساسة التي هزمها عن طريقها بمنتهى السهولة لتتملك الرغبة منها واضطربت أنفاسها وسقطت جفونها ساترة مُقلتيها الصارختان بالمتعة لتجده يغرق روحها وكيانها به هو نفسه من جديد وهمهم بالموافقة وعاد ليهمس بأذنها مجددًا:

-        ماشي، بس فيه حاجة مهمة لازم نجربها الأول عشان بعد كده تعرفي الستات دي بتتكلم عن ايه!

 

تفلتت شهقة منها وعسليتيها تتوسع بذهول لتلاحظه يجذب اللجام إلى أحد الجوانب واتجه للعودة فسألته بارتباك:

-        نجرب ايه يا عمر؟ انت بتهزر؟

 

تأتأة رافضة كانت الرد الوحيد عليها وفي اقل من دقيقة وجدته أمام بوابة المنزل التي لم تبعد كثيرًا وترجل تاركًا حصانه ثم جذبها وحملها فوق ذراعه واشتدت قبضتيه عليها ثم قال بتنهيدة:

-        أنا بتكلم بمنتهى الجدية يا حبيبتي!

 

--

خارت قواه بالكامل ولم يعد يستطيع الاستمرار بجلسته هذه على ركبتيه فاتجه ليلقي بجسده فوق الفراش وهو يحاول التقاط أنفاسه اللاهثة واستمع لطنين غريب بأذنيه ولم تختلف هي عنه حالًا بلك بالكاد استطاعت التمسك بهذه الوسادة أمامها كي لا تسقط واثرت بها تلك الرجفة الشديدة الأخيرة التي لم تدرِ كيف استطاع جسدها الاستجابة لها بعد كل تلك المرات التي سبقتها!

 

استقرت بجانبه وهي تُهدأ من لهاثها لتشعر به يوجه انظاره نحوها لتغمض عينيها لوهلة وهي لا تُصدق أنها تجاوبت لكل هذا الجنون الذي تشاركاه سويًا، كيف نطقت بهذه الكلمات؟!

 

ابتلعت ببعض الارتباك ثم التفتت وتفقدته لترى الكثير من الأسئلة بعينيه، على ما يبدو أنه لم يعد يحتاج للنطق بالكلمات حتى تفهم ما الذي يُريد قوله فأخبرته بتلعثم:

-        أنت كنت، كنت..

 

توقفت الكلمات على طرف لسانها فأكمل بدلًا منها وقال مضيقًا عينيه:

-        عربجي!

 

ضيقت ما بين حاجبيها ونظرت بسقف الغرفة وهي تتذكر تلك اللحظات وقالت غير مُصدقة بنبرة مترددة:

-        وانا زي ما أكون، واحدة مش كويسة، أو، زي ما أكون..

 

أطلق ضحكة خافتة وأعاد كرته:

-        شمال!

 

حدجته بعصبية شديدة من وصفه إياها بتلك الكلمة فأردف وهو يقربها إليه:

-        بس بعد كل ده اتبسطتي، ومعندكيش مانع نكررها تاني!

 

دفن وجهها بصدره وهي تنزعج بشدة فلا تدري اترفض ما قاله أم تُصدقه القول لتتريث لبرهة ولكنها اتكأت بيديها على صدره لتنهض واخبرته على مضض:

-        اتبسطت أوك، لكن نكررها دي مظنش!

 

أعاد رأسه للخلف وهو يُغمض عينيه بقليل من الضيق ثم تفقدها وسألها بتنهيدة:

-        عمري في أي مرة دلعتك زي ما دلعتك من شوية؟

 

تعجبت للحظات من سؤاله وأومأت بالرفض فأردف متسائلًا:

-        اعتقد المرة دي اكتر مرة قولتلك يا حبيبتي فيها، حصل ولا محصلش؟

 

تنهدت وهي لا تدري إلى أين يريد الوصول ثم هزت رأسها بالموافقة فتابع:

-        بعد ما فهمتك معنى كل كلمة، حاسة إن الموضوع كان فيه إهانة أو مضايقة منه ولا كان كله هزار وضحك؟

 

تريثت لبرهة ثم اجابت باقتضاب:

-        لا، كان كويس!

 

جذبها إليه مرة أخرى ليرغمها على الاستلقاء وعقب قائلًا:

-        طيب بقى يبقى اتبسطتي ونكررها تاني بعدين في أي وقت

 

حاولت أن تصمت ولكن لسانها انطلق رغمًا عنها:

-        بس الكلام نفسه غريب اوي عليا

 

لم يعد يمتلك القدرة على معارضتها أو حتى اقناعها فقال بنبرة خافتة:

-        خلاص زي ما تحبي، بس اديكي جربتي وعرفتي يعني ايه كل الكلام ده اللي كنتي مكسوفة تقوليه لغاية ما طلع منك.

 

اتكأ على جانبه حتى ينظر لها مليًا ثم واصل:

-        لو فيه أي حاجة مش موافقة عليها عرفيني ونتفق بهدوء، مالوش لازمة نتخانق في كل حاجة، أظن كل اللي بينا مبقاش زي زمان!

 

رأت عسليتيها المصداقية الجلية بعينيه وملامحه وبداخلها ودت لو صدقت كل ما ينطق به، ودت لو دام هذا الهدوء ولكن لا مفر من الحقيقة الموجعة، ما الذي يحدث له، لماذا يتضح التوجع على وجهه؟ ولماذا فر ناهضًا هكذا؟

 

-        أنت كويس؟

 

اتكأت وهي تتابعه يحاول أن يدلك ساقه وهسهسة ألم غادرت شفتاه ليقول بصوت يتضح به المعاناة:

-        أظن أننا لازم نهدى شوية، أنا رجليا مشدتش بالمنظر ده قبل كده!

 

تفقدته وهو يتوجع ونظرت له بتشفي فلقد توجعت لمرات ومرات بسببه وحاولت أن تسيطر على ابتسامتها التي كادت أن تتحول لضحكة مجلجلة فلمحها ليُضيق عينيه بحقد نحوها ثم توجه إليها وشبح ابتسامة يتلاعب على فمه وأخبرها بتحذير:

-        نهدى، ها، نهدى!!

 

ضحكت رغم عنها ثم رفعت يديها باستسلام وحدثته قائلة:

-        أنا مبتدتش، قول للي كان بيحضني على ضهر الحصان يهدى مش أنا خالص، أو ممكن تبقى تروح gym علشان تعرف تستحمل!

 

اشارت بأطراف أناملها ببعض الغطرسة وملامح مرحة ليرفع احدى حاجباه بتحدي وتفقدها بحنق ارتسم على ملامحه ثم عاد للفراش مرة أخرى فحاولت التقهقر للخلف وهي تدعم وزنها بيديها فجذبها نحوه بحركة سريعة ليمازحها قائلًا:

-        طيب تعالي بقى اوريكي مين اللي هيقدر يستحمل للآخر!  

 

توسعت عينيها بدهشة وهي لا تصدق أنه قد يقترب منها بعد ما فعلاه واستنزف كل قدرتهما فهتفت به:

-        انت هتعمل ايه تاني؟

 

همهم وهو يعتليها وتفقدها بجدية بالكاد استطاع التصنع بها ثم اجابها:

-        تعالي نشوف مين فينا اللي محتاج يروح gym!!

 

لم تصدق ما يرمي إليه فتعجبت:

-        انت اكيد متقصدش اننا نكرر اللي حصل ده من شوية، صح؟

 

تفقدها بنظرات راغبة بينما بداخله يكبح جماح تلك الضحكة التي تلح عليه للمغادرة واجابها:

-        مش شايفاني بقيت خلاص مش قادر استحمل، ما تيجي اوريكي يا قطتي!

 

ابتلعت وهي تنظر له بتوتر وحمحمت وقالت بتوتر:

-        عادي، مفيهاش حاجة يعني، الناس كلها حتى اللي بيروحوا الـ gym بيجلها شد، عادي جدًا، مش ضروري تروح خالص، أنت كده كويس!

 

ابتسامة ماكرة تلاعبت على شفتيه ثم عقب بتنهيدة قائلًا:

-        ايوة كده اظبطي!

 

تفقدته باستغراب لتجده ينخفض حتى قبلها على جبهتها برقة شديدة لم تتوافق مع تلك النظرات منه منذ اقل من دقيقة واحدة وشعر بالاطمئنان عندما وجدته يعود لمكانه مرة أخرى ليستلقي على الفراش ثم جذبها إليه وأطفأ الأنوار بجانبه وقبل جبهتها مرة ثانية ثم أطرى بهمس:

-        بس كنتي هايلة، قطتي كبرت اوي الظاهر كده

 

عانقته واغمضت عينيها ثم لم تجد مفر من مشاركة ولو بعض القليل مما تشعر به:

-        وانت كان معاك حق، انا اتبسطت ومعنديش مانع نكررها تاني، بس بعد فترة!

 

همهم ثم قال بنبرة مُرهقة على مشارف النُعاس:

-        عارف، بس تقيل عليكي اوي إنك تعترفي، نامي بقى وهنرغي بعدين وعشان لما نصحى نشوف أي مكان نتعشى فيه!

--

فتحت عينيها وخفقات قلبها كانت تتسارع كالمذعورة عندما شعرت بثقل غريب فوق جسدها لتكتشف أنها لم تنم إلا لقليل من الدقائق، غفوة استمرت لما يقارب من نصف ساعة، ومجرد تحركه بجانبها أصابها بالفزع.

 

زفرت براحة شديدة وتفقدته بالقرب منها لتتأكد من انتظام أنفاسه وغرقه بنومٍ عميق، أطنبت بناظرها لمزيد من اللحظات وكلما مرت الثواني أدركت أنها تختنق، كل ثانية بمثابة قبضة محكمة حول عُنقها، وكلما ازدادت من ملامحه واستطالت في تأملها إياه يزداد الثقل فوق صدرها إلى أن يوقفها عن إمكانية التنفس!

 

تسللت بهدوء من الفراش وتوجهت إلى الحمام حتى لا يرتاب بشيء، أغلقت الباب بمنتهى الحرص كي لا توقظه، وبعدها لم تستطع أن تمنع تلك النوبة من البُكاء الجارف التي سيطرت عليها، لم يسعها سوى كتم أنفاسها حتى لا يتهادى نحيبها إلى مسامعه.

 

لماذا يُعطي لها الدلائل والبراهين الآن أنه لو التزم العلاج ولو حتى الدوائي فقط سيكون أفضل زوج يُمكن لامرأة أن تتمناه؟ لماذا الآن خصيصًا بعد كل ما مر عليهما؟

 

هادئ للغاية ويتناقش معها بكل الأمور، كل يوم يمر بهذه الأيام الثلاثة يُثبت لها أنه أخيرًا يُمكنه أن يتفق معها على كل شيء دون اجبار أو اكراه، يؤكد لها أنه يومه بأكمله لها وحدها ويكتفي بها دونًا عن أي شيء آخر، وحتى هاتفه الذي ابتاعه لم يقم بتشغيله بعد، هل يثق بها ويعشقها إلى هذه الدرجة التي ترى خلالها أنها تُكفيه عن كل ما في حياته؟

 

وماذا عنها هي؟ هي لا تعرف ما حقيقة ما تشعر به، ولماذا لم تقم بالتحدث لوالدتها وأخيها وإلى "علا"، هل هو الخوف من أن تجد المزيد من خباياه واسراره التي لا تنتهي؟ أم هو الخوف من أن تعود لحياتها الروتينية فتجد مُصيبة جديدة وتفقد تماسكها الذي بالكاد تستطيع السيطرة عليه بهذه الأيام الأخيرة؟ أم سوف تعود من جديد لفكرة أن كلاهما يستطيعان الاستمرار بهذا الزواج؟

 

لقد كان جيدًا معها قبل سفره، وكانا منسجمان، غارقان بالسعادة التي بدت أبدية قبل اكتشافها أمر "يُمنى"، من جديد يُثبت لها أنه الرجل الوحيد الذي يستطيع الولوج لعقلها وقلبها حتى ولو بعلاقة حميمة أو عدة ابتسامات وتبضع ومشاهدة فيلم والعودة بأولى ساعات الصباح الباكر، لماذا عليها أن تترك نفسها للتفكير بأنه يُخفي المزيد؟ أو أن هناك شيئًا ما سوف يحدث وسيُفسد هذه السعادة؟

 

الفكرة وحدها كانت كفيلة بأن تصيبها بالذعر الذي استوطن عقلها وسائر حواسها في خلال جزء من الثانية، لقد قررت أنها لن تُصبح فأر لتجارب لن تُفيد، ولن ينتج عنها سوى الأذى الشديد لها، إما النفسي أو الجسدي ولكنه سيقع وسيحل بها لا محالة!

 

حاولت استعادة رباطة جأشها وجففت دموعها ثم أمسكت برداء معلق بالحمام وسترت به نفسها واتجهت صوب المرآة لترى هيئتها وتأكدت أنها لا تبدو مثيرة للشكوك حتى إذا رآها لا تُثير تساؤلاته، اقتربت من المرحاض ثم افرغت خزان المياه به وبعدها ذهبت لتغسل يديها كي تفوح رائحة السائل العطري من يدها وتُثبت له أنها كانت تستخدم المرحاض ليس إلا، وبالرغم من كراهيتها لنفسها وخبثها وكذبها الذي لا يتوقف بالآونة الأخيرة ولكنه لم يترك لها حل آخر!

--

 

بعد مرور ساعتين..

 

استيقظت مجددًا ولكن هذه المرة بعد أن تسلل لأنفها رائحة القهوة الممتزجة برائحة عطره، تمنت لجزء من الثانية أنها تحلم بحلم ما، جسدها بأكمله يكافح كي يتحرك وعينيها ترفض التحرك، جفونها أصبحت متلاصقة تأبى التفرق ولكن بدأت غيبوبة النعاس تتلاشى وأدركت أنها على أرض الواقع وأنفها لن تتخيل هذه الرائحة أبدًا، لقد استيقظ قبلها!!

 

فتحت عينيها بتريث وهي تضرع داخلها ألا يتذكر شيئًا، تتمنى أنه لم يقم بتشغيل هاتفه، بعد كل هذه الشعور من استنزافها عقليًا وجسديًا وحتى مشاعرها التي انهمرت كشلال له وسيطر عليها بالكامل لا تطمح سوى بتنفيذ أمر واحد وخطة وحيدة ولا تريد سوى أن تنجح بالهروب منه للأبد!

 

وجدته جالسًا على طرف الفراش بالقرب منها، ابتسامته الهادئة ومزاجه الرائق مستمر، لا توجد تلك النظرة المتفحصة الماكرة بعينيه، يستعد على ما يبدو للذهاب خارجًا، ومن تلك الملابس الرسمية خمنت أنهما سيتناولان العشاء بمكان ما لا يذهب إليه سوى الأثرياء!

 

-        صباح الخير يا بنوتي

 

وردة حمراء لا تدري من أين آتى بها تناولتها على الفور، وابتسامته بدت صادقة، مع اعتيادها نظراته وملامحه خلال الوقت أصبحت تعرف متى لا تشوبها أي تفكير أو خطة مستترة أو كذب، ولقد صنع لها القهوة، جعلها لوهلة تتذكر ذكرى بعيدة برأسها تُشابه هذا الموقف تحديدًا منذ شهور؛ ذكرى سمحت  لها بغبائها أن تصبح ماضي يجمعهما، لو كانت استطاعت الفرار منذ البداية لما كانت لتتذكرها الآن، لو كانت قامت بالاختيار الصائب وتعرفت على من تتزوجه جيدًا حتى بفترة الخطبة التي فرطت بها بسذاجة لما تورطت بهذه الورطة، على ما يبدو أن المرء هو الوحيد القادر على التحكم فيما يتذكره وفي كل ما يترتب على قرارته السابقة ولا يوجد هناك ما يُسمى بأن المشاعر من فعلت هذا، هي من سمحت لتلك المشاعر أن تتكون بداخلها وعندما أصبحت جزء من كيانها باتت هي الوحيدة التي تحركها، منذ هذه اللحظة وصاعدًا، ستتذكر آلف مرة ألا تسمح لمشاعرها ولا لقرارتها أن تقودها وتتصرف بناء عليها أبدًا دون مهلة من التفكير الجيد والتريث قبل أن توافق على أي أمرٍ كان!

 

حاولت أن تجلي حلقها وابعدت بعض الخصلات المتدلية على وجهها وحصلت على ابتسامة لا تعرف ما السبب بها هل الذكرى نفسها أم ما تريد أن تصل له وتنجح به وتفقدته بعسليتيها وتدرك جيدًا أنها ترمقه بعشق يُفيض من كلتيهما ولكن يبدو أن الأمر سيُلازمها شاءت أم أبت فردت بنعاس وهي تحاول أن توقف عقلها عن العمل:

-        صباح النور، لحقت تصحى وتعمل كل ده امتى؟

 

اشارت بسبابتها نحو ملابسه فناولها كوب صغير من القهوة ورد مجيبًا:

-        من حوالي ساعة إلا.

 

تناولت الكوب منه وتعجبت من هاتفها الذي يحمله بيده ثم أردف:

-        بسام كان بيتصل بيكي، وعندك مكالمات ورسايل كتيرة اوي.. شوفي لو وراكي حاجة مهمة قبل ما نخرج نتعشى

 

مدت يدها بتلقائية نحو الهاتف ولكنها قلبت عينيها وغمغمت بسخرية متنهدة بسأم:

-        اكيد ورايا مليون حاجة، انا مرعوبة اشغل أي application علشان لو دخلت الدوامة دي مش هخرج منها، من امبارح للنهاردة بس مكالمات ورسايل ولو فتحت بقى ميل ولا تيمز ولا واتساب هيحصل ايه!

 

ضحك بخفوت ساخرًا هو الآخر ثم عقب زافرًا بتأفف:

-        هتقوليلي، ده نفس اللي عملته بالظبط، أنا بس كلمت باسم علشان يحجزلنا العشا ويجبلنا programs لكذا مكان نختار منه وقولتله يبعتهم على الايميل لأن لو بدأنا شغل أكيد مش هنخلص، ده أنا حتى مرضتش أكلم بابا أو أي حد تاني كان متصل بيا والموبايل مقفول.

 

دنت منه لتدفن وجهها بصدره وهي تشعر بالقلق من عودة الهاتف ليده مرة اخرى فربت على رأسها بتلقائية ولمسات مُتأنية بينما اخبرته:

-        أنا عايزة افضل إجازة كده على طول ومش طايقة ارجع الشغل خالص!

 

فاجئها برده الذي لم تكن تتوقع قط أن تستمع له منه:

-        مظنش، انتي اللي يبعدك عن الشغل يبقى بياخد روحك منك

 

رفعت رأسها وتفقدته باستغراب فواصل مجيبًا تعجب مُقلتيها بتعجب ساخر:

-        واحدة درست حاجة في صميم شغل باباها وكانت بتروح من وهي في الجامعة الشغل معاه وبتحب المجال نفسه، حوالي عشر سنين شغل في حاجة بتحبيها، كل يومك تقريبًا بيدور حواليه، تفتكري الموضوع هيكون سهل عليها؟!

 

تنهد وهو يحتوي جانب وجهها بكفه الدافئ وتفقدها متفحصًا ولكنها رأت اعجاب غريب بعينيه ثم تابع:

-        يمكن مبسوطة اليومين دول عشان كان بقالك فترة زعلانة، بس أول ما ترجعي شغلك هتبقي مبسوطة اكتر!

 

أراد أن يبتسم ولكنه لا يستطيع مواجهة تلك الموجة الشديدة من الحزن عندما أدرك أن كل هذا سينتهي يومًا ما ولن يراها سوى لعدة ساعات قليلة بيومه لو عادت من جديد لعملها فاهتز جانب فمه مكونًا ارتجاف طفيف لم تلحظ له اثرًا على شفتيه وقلبت شفتيها ورفعت حاجبيها باندهاش ولكن اتضح به الاعجاب وسألته بمرح:

-        للدرجة دي تعرف عني اللي أنا معرفوش نفسي؟

 

ابتسم هذه المرة بمصداقية وأومأ لها بالتصديق على كلماتها فأردفت متسائلة مرة ثانية:

-        ويا ترى تعرف ايه كمان؟

 

ابعدها قليلًا عنه واخفض بصره وهو يتفقدها بمكرٍ وامسك أسفل شفتيها بين سبابته وابهامه وضيق عينيه واجابها:

-        اعرف بتحبي ايه ومبتحبيش ايه، اعرف إن أهم حاجة في حياتك شُغلك، اعرف إن اللي حصل من شوية عجبك زي ما كان هيعجب أي ست في الدنيا وخايفة تعترفي بده لا ابصلك بصة مش كويسة بس ده عمره ما هيحصل لأني عارف أنا اخترت مين تكون مراتي، واعرف حاجات كتيرة اوي تانية زي إنك بتحبيني اوي، ولو مكونتيش بتحبيني مكونتيش فضلتي قاعدة هنا معايا طول الفترة دي بعيد عن كل الناس!

 

تصنعت الاعجاب وتمنت لو استمر هكذا ناسيًا لكل تفاصيل ما مر بالأيام السابقة لتجادله وتجلى على ملامحها عدم اتفاقها معه بالكلام:

-        على كده أنت خلاص فاهم وعارف كل حاجة عني وكمان عن كل الستات في الدنيا! مظنش عشان عرفت ستات قبل كده ده يخليك خبير يعني في اراء الستات، بطل ظُلم بقى وبطل تعرف نفسك فاهم كل حاجة!

 

هز كتفيه بتلقائية وأطنب بلهجة توضيحية بحتة وكأنه يجيب سؤال باختبار نهاية العام:

-        الموضوع مش صعب، الفكرة كلها ازاي وامتى، تخيلي كده لو واحدة ست زيك بشخصيتك اتضربت واتشتمت وجوزها قالها تقول الكلام ده، هيبقى أسوأ تجربة ليها في الدنيا، إنما لو بالضحك والهزار والكلام الحلو بين الكلام التاني اللي كنتي مستغرباه وكل لمسة وطريقة الست بتحبها هتبقى من أحلى المرات بالنسبة ليها.. وأظن انتي جربتي بنفسك، الموضوع مكنش شتيمة ولا اجبار، هو أنا اخترت اكلمك بطريقة مختلفة مش اكتر وكنت أنا اللي بقولك حاسس بإيه وتأثيرك عليا ازاي بس بألفاظ مختلفة، فيه فرق كبير اوي بين راجل حافظ وراجل فاهم honey، واراهنك إن كل كلام الستات اللي رفضت دي يا إما متعقدة من الرجالة عمومًا يا اما جوزها حمار مش عارف هو بيعمل ايه او حتى لو عارف فهو بينفذ بطريقة غلط، والستات بالذات في الموضوع ده عشان تتبسط بتحب كل شوية حاجة جديدة وبتتخنق من الروتين، يمكن اكتر من الرجالة!

 

اقتربت اهدابها وهي تضيق نظراتها وتفقدته بمحاكاة مرحة فهي لا تُصدق كيف يتحذق عليها بردوده التي لا تُجيبها سوى بما يُريد أن يقنعها به ولكنها واجهت الأمر معه مئات المرات قبلًا ولن يُفلح فيما يفعله الآن وسألته من جديد متنهدة:

-        ويا ترى الخبير الاستراتيجي يعرف ايه كمان؟

 

ابتسم على قولها ثم اجابها متسائلًا:

-        اعرف حاجات كتير، بس اللي مش عارفة انتي لبستي الروب ده امتى؟

 

مع رجل مثله يبدو الوصول لم تريد معرفته حقًا مستحيل ولكنها لن تيأس وستحاول مرارًا، فردت باقتضاب لا يخلو من غيظها:

-        وانت نايم

 

همهم بتفهم وأمال رأسه يمينًا ثم قال بحقد:

-        واضح اني بقيت بتعب اوي لدرجة اني بقيت أنام وانتي اللي بتفضلي صاحية، شكلي كده محتاج اراجع ايه اللي حصلي بالظبط الكام يوم اللي فاتوا وخلاني أوصل للي أنا فيه ده، أنا ابتديت اقلق

 

تنهدت ثم تركت كوب القهوة جانبًا وتلمست صدره بدلال ونظرت له مُدعية البراءة:

-        أولًا، انا قومت دخلت الحمام ونمت تاني مفضلتش صاحية، ثانيًا، ده طبيعي لاتنين مش عارفين يبعدوا عن بعض والفترة اللي فاتت دي بكل اللي كنا بنعمله من حقنا نريح كام يوم كويسين، ثالثًا اطمن، من بكرة عندك خمس أيام إجازة، enjoy (فلتستمتع)، او ارجع الـ gym لو حابب!

 

عقد حاجباه باستفهام وحدقها بجدية لوهلة وتمتم بنبرة تكاد تُسمع:

-        إجازة خمس أيام!

 

همهم مرارًا وقد تفهم ما تُرمي إليه هذه النظرة ذات المغزى التي تخبره بموعد دورتها الشهرية فنهض مغادرًا الفراش وحدثها قائلًا:

-        يبقى نقوم بقى نجهز ونروح نتعشى ونرجع بسرعة وبما إنها إجازة خمس أيام فلسه قدامنا كام ساعة نقدر نستغلها كويس، يالا يا بنوتي عشان منتأخرش!

 

توسعت عينيها كما انفرج ثغرها بضحكة خافتة فأعطاها تلك النظرة المنبهرة التي بات ينظر لها بها بالآونة الأخيرة ودنا ليطبع قُبلة على جبهتها وأخرى متأنية بجانب أذنها وأخبرها بنبرة اقشعرت لها حواسها:

-        انا حضرتلك كل حاجة، يالا قومي ومتتأخريش، هستناكي تحت عشان لو فضلت هنا هتعشا بيكي ومش هنلحق نتعشا برا!

--

 

جلس كلاهما يتناولان طعام العشاء بنهمٍ شديد منه وتفقدته بين الحين والآخر لتبتسم كلما لاحظت اثناء مراقبتها له تضوره الشديد للجوع فقالت بمرح بعد أن ابتلعت دفعة من طعامها:

-        أنت بجد شكلك النهاردة زي اللي مكالش بقاله سنين

 

رمقها بلمحة سريعة ثم سلط تركيزه على صحنه وهو يقطع بسكينه شريحة من اللحم أمامه وعقب بنبرة بالكاد استمعت لها:

-        عايزاني ماكلش بعد المجهود ده كله

 

اتسعت ابتسامتها واستندت بذقنها على كف يدها وهي تقترب من الطاولة وتوقفت عن تناول الطعام وأخذت تشاهده باستمتاع وهمست له كي لا يستمع لهما أحد:

-        كل براحتك بس بالراحة!

 

ابتلع ما بفمه ثم نظر لها بمكرٍ بعد ملاحظته كيف تستمتع بمراقبته وهمس لها:

-        استنى لما تتفرجي عليا في فقرة الـ dessert (حلوى)، هتبسطك جدًا يا قطتي

 

ضحكت رغمًا عنها لتعليقه الذي يسخر به من نفسه وهو يتصنع ملامح مُضحكة ولم تستطع أن تكبح تلك القهقهة الأنثوية التي تهربت منها فرفع عينه نحوها وابتسم بهدوء وهو يراقب ملامحها ليتوقف عن استكمال طعامه وأخبرها بأعين مُسبلة تهيم بتلك الملامح السعيدة على وجهها:

-        تعرفي شكلك حلو اوي وأنتي بتضحكي كده، تقريبًا أول مرة اضحكك كده

 

لانت ضحكتها وللحظة بادلته تلك النظرات وتجنبت تلك الخطة بالفرار لعدة ثواني، فلا ضير من الاستمتاع معه ولو لقليل من اللحظات فأخبرته مبتسمة:

-        أنا عندي استعداد اضحك معاك طول الوقت ونتكلم ونهزر في أي حاجة، ومش أول مرة على فكرة!

 

تلمست يده برقة فاتسعت ابتسامته لها وسألها وهو يتصنع ملامح مُستاءة:

-        أنا كئيب اوي، ماليش في الضحك والهزار خالص لدرجة إني مصدق إن دي أول مرة اضحكك فيها، كئيب وخنيق، مش كده؟

 

أومأت بالإنكار ثم اجابته بمصداقية:

-        أنت هادي، مش كئيب، فيه فرق!

 

قلب شفتاه بعدم اقتناع ثم نظر بصحنه وربت على يدها قبل أن ينتشل يده من أسفل يدها وامسك من جديد بسكينه وشوكته ليخبرها:

-        أنا اخلص على الطبق ده تكوني انتي كلمتي مامتك واخوكي، سلميلي عليهم كتير، وبعدها يا دوب نوصل لفقرة الساحر بتاعتي عشان نروح على طول.

 

ابتسمت له بهدوء وأومأت له بالموافقة ثم جذبت هاتفها وبدأت بالاتصال بأخيها بمكالمة مرئية، فهي لن تُنكر أنها اشتاقت له ولوالدتها بالرغم من انزعاجها من تلك الطريقة التي تكاتفت بها معه وظنت أنها لا يحق لها أن تطالب بالطلاق منه، ولكن هذا أمرًا وأن تشعر بالحب لوالدتها أمرًا آخر، عليها أن تُفرق فرقًا شاسعًا بين حبها لوالدتها وبين اختلاف اراءها معها، وما مضى قد مضى، لقد باتت هذه القاعدة الجديدة والحيدة الآن!

 

نظرت نحو أخيها باشتياقٍ جارف وأخذت تتحدث له لتطمئن على دراسته وعلى حال والدتها الذي بات مُستقرًا لا تغُير به ليباغتها أخيها دافعًا إياها كي تتسلق أول سُلمة من درج الواقع وهو يخبرها متسائلًا بتذمر:  

-        انتي وعمر بقى مش ناويين ترجعوا من اجازتكم؟ بجد وحشتيني اوي ونفسي اشوفك واقعد معاكي!

 

ابتسمت له بهدوء واجابته:

-        قريب، قربنا نرجع خلاص، متقلقش هتلاقيني عندك كمان كام يوم، ركز بس في امتحاناتك وكله هيبقى تمام، وروح ادي الموبايل لمامي علشان اكلمها.

 

رد مُعقبًا ببعض السأم والمزيد من الأسئلة:

-        ماما دخلت تنام من شوية اصلًا ولسه مصحيتش، والدنيا هنا رخمة اوي، هو انتوا هترجعوا يوم ايه؟ وفين عُمر وحشني جدًا؟

 

نظرت نحوه فتناول الهاتف منها على الفور وبدأ بمحادثته وكالمعتاد سأله عن حاله وما الذي قد فاته في هذه الفترة التي غاب هو و "روان" عنه وما فعل بهذه الأيام السابقة واستمع له باهتمام وردوده آتت بمنتهى الود الشديد له فتفقدته من الجهة المقابلة لتلك الطاولة وهو يُشير للنادل برفع الصحون وقام بطلب الحلوى وكل هذا وهو يستمر بمحادثة أخيها فتمنت لو أن لهذه الأجواء أن تدوم فيما بينهما ولكنها بعد محاولاتٍ كثيرة باتت على يقين أن الاستمرار معه على حالٍ واحد أمرًا مستحيل، لن يحدث سوى بأمانيها واحلامها فقط.

 

شردت به وبداخلها تحاول أن تبحث عن شيء يدفعها للاستمرار معه، هي تعشقه، اغرمت به بين ليلة وضحاها بالرغم من كل ما فعله، ولكن؛ أن تحكم على نفسها أن تعيش حلم جميل سيستمر لعدة أيام لتستيقظ على واقع مرير معه، لن تُفيد حياة كتلك معه، ولا مع غيره!

 

ولكن ربما هناك أمل وحيد، الاستثناء أن يقتنع بمرضه، وإن لم يحدث فهي مستمرة بما تريد الوصول له، ستحاول اذن، ستحاول أن تحصل على تلك الأوراق حتى تستطيع أن تقايضه، طلاقها أمام أن تقدم تلك الأوراق والأدلة للصحافة والسُلطات، وستحاول معه للمرة المائة بأن تعرض عليه أمر الذهاب لأخصائي نفسي، لعله يقتنع بالأمر ويُصدق أن ما يحدث له ليس بطبيعي أبدًا.

 

شحب وجهها وسيطر عليها بعض الحُزن وهي غارقة بالتفكير الشديد، ملامحها كانت متأهبة، تلوم نفسها لتراجعها من أجله حتى ولو كان تراجع جزئي، وبنفس الوقت تشعر بالشفقة والندم إن تركته أو تخلت عنه، ولكنها لن تتخلى أبدًا عن فكرة امتلاكها لورقة ضغط تستطيع خلالها الفرار في أي لحظة كانت..

 

كما أن هناك تفكير يسيطر عليها، هل هو المحق؟ هل حبيبته السابقة هي الصادقة؟ من يا تُرى الكاذب؟ لو حكمت بناء على كلماته بتلك الخطابات بالطبع ستُصدقه وستُكذب "يُمنى" وسيكون هذا مبنيًا على ارادتها لتصديق رجل هي مغرمة به، ولو صدقتها هي، حسنًا، لا تدري، ستكون تحكم بنفور عقلها بأن تستمر بزواجها من رجل كذب مرات، ورجل رافض رفض تام أن يُعالج، ولا يُصدق أن هناك ما يُعاني منه!

 

اجلت حلقها تنبهت من شرودها لتجد أنه لا يزال يتحدث لأخيها ولقد آتى النادل بصحنين من الحلوى ووضعهما أمامهما فابتسمت له بعد ذهاب النادل وانصتت لصوت أخيها:

-        بس بجد يا عمر لازم ترجعوا بقى، أنا زهقت من القاعدة لواحدي

 

حدثه بجدية شديدة وتأكيد:

-        اوعدك أقصاها أسبوعين وهتلاقينا عندك

 

استمعت لصوت أخيها المتذمر مرة ثانية:

-        لسه أسبوعين بحالهم!

 

ابتسم له وهو ينظر بشاشة هاتفها ثم أخبره:

-        الأيام بتعدي بسرعة وهتكون خلصت امتحاناتك كلها ونفضى بقى لبعض في اجازتك، وبعدين اعتبر نفسك مكاني في البيت، مشي انت كل حاجة على ما اجيلك، يمكن ساعتها نعرف نقنع حد مُعين كده إنك تروح الشغل معاها!

 

أنهى كلامه بغمزة من عينيه بمرح له ليعقب بخيبة أمل:

-        روان مش هتقتنع غير باللي هي عايزاه، وعلى فكرة ما أنا مكانك اهو وبقايل أي حد يجيلنا وبذاكر كمان وبعمل كل حاجة

 

عقد حاجباه باستفهام ثم بدأ في تناول ما بطبقه ولم يُنه حديثه معه بعد لتتعجب هي من مزاجه الرائق الذي يستمر لدرجة الحاحه أن يتجاذب مع أخيها أطراف الحديث كلما أوشكا على انهاء المكالمة:

-        روان أنا هقنعهالك سيب الموضوع ده عليا، ومذاكرتك دي اللي هتخليك في يوم تبقى اشطر مني ومنها كمان، بتعمل ايه بقى مكاني وبتقابل مين؟

 

تريث أخيها لبُرهة ثم اجابه:

-        يعني، بقول لدادة هدى اني كبرت، ومش لازم انام بدري وممكن اسهر زيك وهي بقت بتسيبني اسهر هي ومامي، وقابلت يونس ويارا ولادها لما زارونا مرتين، وآه صح، يونس قالي أقول لروان أنه عايزها ترد عليه بخصوص حاجة في الشغل ضروري وأنه كلمها كتير ولقى موبايلها مقفول وأنا قولتله أنكم مسافرين فترة زي ما كنت متفق معايا!

 

عقد حاجباه ولم يبد متأثرًا بتلك الكلمات بينما بداخله آلاف التخمينات وعاد ليتذكر تلك الليلة بالفندق عندما قام بدعوة أبناء خالتها لتناول العشاء وتذكر الحاحه بشأن الأموال المتعلقة بدفعة الحواسيب التي ابتاعتها منه ولكن لم تساعده ذاكرته بأن يتذكر بم ردت عليه ولكنه كذلك يظن أنها قامت بتسليمه شيك أو اثنان فأومأ له بالموافقة وسأله:

-        هقولها اكيد، بس الكلام ده كان امتى؟

 

الأمر دعاه للارتياب، ولم يكن يعلم أن هذه ليست سوى مجرد البداية فقط لتكهناته بشأنها هي وابن خالتها، بينما حاول "بسام" أن يتذكر بصعوبة لثواني ثم قال:

-        تقريبًا، مرة من أسبوعين ومرة من حوالي شهر!

 

هز رأسه من جديد ثم نظر لها ليجدها تتصرف بمنتهى التلقائية فقرر أن يُنهي المكالمة وأخبره:

-        سلملي على طنط ولما تصحى خليها تكلمني، وانت كمل مذاكرة وسمعني بس درجات حلوة وأنا اعملك كل اللي نفسك فيه، اتفقنا!!

 

لم تمر سوى ثوانٍ وازاح لها هاتفها على الطاولة بعد أن أنهى حديثه مع أخيها وودعه ليتناول الحلوى في صمت وهو يحاول تذكر المزيد من التفاصيل بتلك الليلة ولكنه لم يستطع ليجدها تتلمس يده وتسأله:

-        فين فقرة الساحر اللي قولت عليها ولا شبعت خلاص؟

 

ابتسم لها باقتضاب ثم اجابها باختصار:

-        شبعت

 

تنهدت وهي تتفقده بسعادة لم تستطع أن تمتنع عن الشعور بها لتمتن له قائلة:

-        شكرًا يا عمر، أنا عارفة إن مالكش أصحاب كتير وحتى مش قريب من عُدي بس دايمًا بتكلم بسام حلو اوي..

 

ابتسم لها وكاد أن يتفوه معقبًا على كلماتها ولكن قاطعهما صوت رجولي وهو يقول:

-        ده ايه الصدفة الحلوة دي!

 

رفع كلاهما رأسهما نحو صاحب الصوت ليلعن "عمر" بداخل نفسه مرارا وتكرارًا فرؤيته هُنا ومصادفته كان آخر ما يتوقع حدوثه في تلك الليلة التي كانت منذ قليل تسير بأفضل طريقة ممكنة وكاد أن يُنهيها بعودتهما للمنزل بسعادة حقيقية ولكن على ما يبدو حظه العاثر له رأي آخر ليُنهي هذه الليلة!

يُتبع..