الفصل العاشر - مرآة مزدوجة
وصلت هاجر للجامعة أخيرًا، ولكنها لم تجد سوى زين بالمقهى، بحثت عن ليلى وسليم ولكنها لم تجدهما، فقالت موجهة حديثها لزين:
- أومال ليلى وسليم فين؟
- معرفش، أنا جيت متأخر بردو وقعدت أدور عليهم ملقيتهمش.
جلست هاجر بتوتر وقالت:
- بس ليلى مبتحضرش محاضرة دلوقت، أنا عارفه هي بتعتبر المادة دي سهلة وبتذاكرها لوحدها.
رفع زين كتفيه وأخفضهما كدليل على عدم معرفته، بينما نظرت له هاجر نظرة ثاقبة وقالت بتهديد:
- عارف لو طلعت متفق مع الزفت التاني ده على ليلى قسمًا بالله ما هحلك أنت وهو.
كانت تريد أن توضح له ازدرائها الشديد له ولسليم علهما يبتعدان عنها وعن ليلى، فهي لا تثق بهما ولا تشعر بالراحة من وجودهما حولها وحول صديقتها، عليها فقط أن تتماسك ولا تتوتر أمام هذا الزين.
دافع زين عن نفسه قائلًا:
- أنا عملت ايه يا بنتي ما أنا قاعد معاكِ أهو.
تابعت هاجر تهديدها:
- أنا بعرفك بس، علشان دخلة الزفت التاني دي مكانتش قد كدا ومدخلتش دماغي وأنت كمان.
رفع زين حاجبيه باستنكار وقال:
- يا بنتي خفي أفلام بوليسية شوية بدل ما روح شيرلوك هولمز جواكِ تموتنا!
نظرت له هاجر بشك ولم تتفوه بشيء، فكرت هاجر في أمر ليلى واختفائها هي وهذا اللعين الغريب وقد راودتها ملايين الأفكار السيئة وقد انتابها الخوف على صديقتها فجلست بصمت تفكر ولم تهتم بالذي يجلس أمامها ويحاول فتح حديث معها عندما شعر أن القدر يقف في صفه الآن وعليه أن يغتنم تلك الفرصة، مرر زين أنامله في شعره وقال بتوتر ما استطاع التوصل إليه بعد وقت من التفكير:
- وأنتِ عاملة ايه بقا؟
نظرت له هاجر بشك مجددًا وهو لا يفهم لماذا تنظر له بتلك الطريقة وأجابت بحذر:
- كويسة
عليها أن تكشف جميع ألعابه، عليها ألا تكون سهلة، يجب أن يخافها وأن يحذر منها.
حمحم زين بتوتر وعاد للصمت، فلهجتها لم تبدُ مشجعة بالنسبة إليه، حاول إيجاد حديث يتحدثان به ولكنه لم يجد سوى الدراسة كحلقة مشتركة بينهما، ولكنها لم تكن تتحدث بحرية في هذا الشأن؛ لهذا لجأ للشيء الوحيد الذي تحدثت معه بحرية فيه، فقال:
- هاجر أنا كنت عايزة أسألك على حاجه.
انتبهت له هاجر وتركت هاتفها الذي كانت تحمله للاتصال بليلى ولكنها وجدت هاتفها مغلقًا، فازداد خوفها بينما حدقت به منتظرة ما سيقوله بعقل مشغول:
- اتفضل
- يعني أنا قولت لك قبل كدا إني لاحظت إنفعالك المستمر وده بيخوف الكل منك بصراحة.
قاطعته هاجر بلا مبالاة دون أن تدرك أنها تصدق على قوله:
- وايه المشكلة في كدا يعني؟
أجاب زين موضحًا:
- مش حلو إنك تخوفي الكل كدا، مش هقول لك علشان ياخدوا انطباع سيء أو لا لأني أعتقد إنك بنسبة تسعين في المية مش هتهتمي بده، بس ده هيضرك أنتِ، يعني لو أنا تفكيري صح أنتِ بتدعي العنف فـ ده هيضرك أنتِ لأنك هتتعبي على فكرة من الإدعاء ده، كمان ده غلط ومينفعش حد يفضل يخفي مشاعره ويداريها، هاجر هو أنتِ بتبصي لي كدا ليه هو أنا قولت حاجه غلط؟
قال جملته الأخيرة بقليل من الخوف عندما رأی ملامح وجهها المصدومة، بينما هي كل ما شعرت به هو أنا يجب أن تهرب الآن وأصبح عقلها يصرخ بـ: « حالة طوارئ جيم » مقلدة إحدى الأفلام الكارتونية المفضلة لديها، ولكن لتكون صريحة هي باتت تخاف منه وتخاف من قدرته على قراءتها، لماذا عليه أن يوترها ويعصف بكيانها بتلك الطريقة المخيفة؟ لماذا يضرب صميم معتقداتها؟ لا تعلم، ولكن بالنسبة إليها قد كُشف الحجاب وأصبح كل شيء واضح وقد حان وقت المواجهة والاعتراف، رغم كونها لا تثق به، رغم كونها لم تصارح أحد بتلك الحقيقة أبدًا، ولكنها ستعترف له لأنه بالأصل يفهمها وليس بحاجه سوى للتأكيد منها على تلك الحقيقة، فتنهدت وقالت بخفوت:
- أنت صح، أنا بتعمد أعمل كدا علشان أبعد الكل عني بس.
ابتسم زين بلطف عله يشعرها بالإطمئنان ويهون عليها قليلًا، هو نفسه لم يدرك أنه يعرفها بتلك الطريقة، لم يعلم أنه يحفظها عن ظهر قلب، ولكنه سعيد بهذا، هي تستحق أن تحب وهو يريد أن يقدم لها أكبر قدر ممكن من الحب، فهي بنظره تشبهه، متوترة ووحيدة، كان يستطيع أن يفهم هذا ويراه بوضوح لأنه بدوره يراوده مشاعر كتلك من وقت لآخر، أو إن كان صادقًا معظم الوقت، ولكنه إندهش من قدرته على قراءتها، فهو لم يدرك أنه فهمها بتلك السرعة والبساطة، فهو كل ما كان يعرفه أنه يحب مراقبتها عندما تتحدث بحماس مع صديقتها وعندما تبدو متهورة ومندفعة رغم أنها لا تفعل شيء دون التفكير به جيدًا، هو حتى وإن راوده الشك في صدق مشاعره لها من وقت إلى آخر فالشيء الوحيد الذي يمكنه أن يجعله يتجاهل هذا الأمر هو كونها حولها وبجانبها، خاصة إن تحدث معها، هو يريد التحدث معها لأشهر وسنين ولن يمل من هذا أبدًا، أن يستمع لها وأن تستمع له، أن يخبرا بعضهما البعض عن كل شيء يخصهما، ولكن لا يستطيع في الوقت الراهن؛ لأنها تعرفه منذ وقت قصير لهذا لن تثق به بسهولة كما أنها لا تسمح له بالحديث معها لفترة طويلة.
رفع نظره لينظر داخل عينيها مباشرة مما جعلها تشعر بالارتباك وهي لا تفهم المغزى من تصرفاته، بينما هو ابتسم قال بامتنان:
- شكرًا إنك شاركتيني باعتراف زي ده.
حسنًا لماذا تشعر بالاضطراب الآن؟ هل لأنها لم ترَ يومًا شابًا يمتن ويعبر عن شكره تجاه شيء ما؟ فشقيقها لم يخبرها كلمة بسيطة كتلك والتي رغم بساطتها كانت ستدخل السرور على قلبها لأعوام، ولكنه ببساطة لم يفعل مثله مثل بقية الشبان، ولكن هذا الذي أمامها يحيرها، هذا اللطف وتلك اللمعة الغريبة بعينيه وكلماته اللبقة التي رغم كونها متطفلة إلا أنها لم تشعرها بهذا قط، ماذا يريد منها؟ أتراه يحاول أن يوقعها بشباكه؟ ولكن لماذا يفعل هذا؟ ليتسلى مثلما يفعل الآخرون؟ ربما، بل يكاد يكون مؤكد ولهذا يجب ابعاده عنها.
لفت انتباهها صوته الذي اتخذ نبرة أكثر هدوءًا وكأنه يقول ما يقوله بصعوبة:
- يعني لو هتستغربي أنا عرفت ازاي هقولك لأني من وقت للتاني بحب أعمل كدا بردو ومتستغربيش إني شاب وبحب أبعد الناس عني عارف إنه موضوع يبان غريب شوية لأن معظم الشباب أو كلهم بيبقوا عارفين نص كوكب الأرض بس أنا مبحبش تبقا ناس كتيرة عارفاني أو ليا معارف وصحاب كتار، الموضوع ملهوش فايدة بردو لأنك هتلاقي إن ما بينهم كلهم فيه كام واحد بس اللي الأهم عندك ومتقدريش تكملي من غيرهم، فـ أنا في حياتي كام شخص كدا عارفهم كويس وهما عارفني ومقتصر عليهم.
صمت ليلتقط أنفاسه ثم تابع دون أن يترك لها فرصة للرد:
- خلاصة الكلام إني عايز أوضح لك إن اللي بتعمليه غلط، عايزة تبعدي الناس متاخديش الطريق العنيف والسلوك الهجومي، أبعديهم بهدوء حتى لو هتبقي قليلة الذوق في نظرهم مش مهم هو كلام الناس هيعمل ايه مثلًا؟ ولا حاجه، بس أنتِ بنت ومحتاجة تبقي رقيقة مش علشان الناس بردو بس علشان ربنا خلقك كدا وعمرم ما هتستحملي تبقي عنيفة أو خشنة وهيجي عليكِ وقت وتنهاري، فـ ليه كل التعب ده؟
نظرت له بتشوش وهمست:
- أنت عايز ايه بالظبط مني؟
ابتسم وأجاب بخفوت:
- في الحقيقة أنا كنت عايز نتكلم ونتعامل مع بعض بشكل أوسع بس أنتِ بتبعديني بعنفك، فـ حبيت أفهمك إنك لو عايزاني أبعد عنك ممكن تقولي لي كدا مباشرة ومش هزعل، اللي هيزعلني بجد هو ردة فعلك العنيفة معايا على أي حاجه بقولها من غير ما أفهم السبب.
ثم نهض ورحل، لتحدق هاجر بطيفه بصدمة وقد شل لسانها لأول مرة وعجزت عن قول شيء، لا تفهم ما الذي حدث الآن، كانت تستمع لكلماته وكل ما يدور في بالها هو ماذا يريد منها حقًا؟ وفي تلك اللحظة كانت مشوشة بطريقة لم تسمح لها بالتفكير في إجابة لها، تأفأفت بامتعاض بينما مسحت على وجهها، لماذا على الإنسان أن يواجه تلك التعقيدات كلها؟ ألا يمكنه أن يقرأ الروايات ويدرس فقط؟
❈-❈-❈
كانت ليلى قد أجبرت نفسها على حضور تلك المحاضرة لتتهرب من ذلك الثور اللعين، ولكن هيهات قد لحق بها الثور وحضر المحاضرة بدوره، كانت تشعر بالضيق الشديد منه، لا يبدو لها أنه سيتوقف عما يفعله، وهذا ما زاد ضيقها، فهي تكره أن ترى شخصًا يتجه للطريق الخاطئ وتفشل في نصحه، هي بالأصل قد طمحت لتكون طبيبة نفسية لتقدم النصح للجميع، فإن كانت نصيحتها لا تجدي نفعًا، فما فائدة نصيحتها؟ ما فائدة كونها طبيبة نفسية؟ ولكن السؤال الأهم، هل تريد التعمق في حياة سليم ومساعدته على أن يكون شخصًا أفضل لأنها بطبيعة حالها تحب مساعدة الغير وتقديم النصح والدعم النفسي لهم والذي كان السبب الأصلي في التحاقها بكلية الطب ورغبتها في التخصص في الطب النفسي؟ أم أن هناك سببًا آخر بداخلها هي لا تعلمه وما زالت لم تكتشفه بعد؟ فقد شعرت بشيء غريب وغامض بداخلها لم تتمكن من إعطاء مسمى واضح له، كان شعورًا غريبًا، كان كإتحاد كل شيء ونقيضه، الأبيض والأسود، الحامض والحلو، رغبتها في التعمق بحياة سليم ومحاولتها للعدول عن تلك الرغبة حتى لا تقع في المتاعب والإثم، لا تعلم هي حقًا لا تعلم، وقد أزادت حيرتها من المشاعر السلبية المتراكمة على قلبها والتي قررت تجاهلها بالتركيز في المحاضرة فأخرجت دفترها من حقيبتها ولكنها وجدت أنها أحضرت الدفتر الذي تدون به يومياتها بدلًا من دفتر محاضراتها، تملك اليأس من قلبها ولم تعد تستطيع تحمل تلك المشاعر والأفكار السلبية، فبدأت تظهر طبقة رقيقة من الدموع على عينيها وقد جعلاها لا تريان بشكل جيد، حاولت ألا تبكي وأن تحاول منع تلك الدموع من الهطول ولكنها وجدت دموعها تنساب ببطء على وجهها المحمر وكأنها تتمرد عليها، ولحسن حظها أنها جلست بنهاية المدرج فلن يشعر بها أحد.
كان سليم يراقبها بصمت وهو لا يعرف ما تفكر به، حتى وجدها تحمل دفترًا جديدًا لم يره قبلًا وتبكي، لا يعلم لماذا شعر بالهلع فور رؤيتها تبكي ولكنه فعل، لماذا تبكي الآن؟ هل أخطأ معها بشيء؟ هل شعرت بالاحباط لأنه لم يستمع لنصيحتها؟ أم لأنها أحضرت الدفتر الخاطئ؟ ولكن ليلى أكثر عقلانية من أن تبكي لأنها أحضرت دفترًا خاطئًا، ولكنه لا يعلم حقًا أي سبب قد أبكاها، أم أن جميع تلك الأسباب قد اجتمعت عليها حتى أصبحت لا تحتمل؟ لا يعلم ولكنه حاول أن يقوم بشيء للتخفيف عنها، فأخرج دفترًا جديدًا كان قد اشتراه لتوه ولم يكتب به شيء، وضع به منديل ورقي، ثم أشار للذي بجانبه أن يمرر الدفتر حتى يصل إليها.
نقرت إحدى الفتيات التي جلست بجانبها على كتفها، فرفعت نظرها لها وهي تمسح دموعها فأعطتها الفتاة الدفتر، نظرت لها ليلى بعدم فهم فأشارت الفتاة نحو سليم الذي نظر لها، ولكنها لم تهتم لنظرته وأخذت المنديل فقط لتجفف دموعها وطلبت من الفتاة أن تعيده إليه، فأعطت الفتاة الدفتر للذي بجانبها ليمرره حتى أخذه سليم باحباط، بينما جلس يراقبها وقد جففت دموعها ولكن أنفها كان محمرًا بشدة مما جعلها تبدو لطيفة بطريقة أو بأخرى، ولحسن حظه أنهما جلسا بنهاية المدرج، في المنطقة التي لا يهتم أي أستاذ لما يحدث بها.
❈-❈-❈
انتهت المحاضرة وانصرفت ليلى بصمت ولكنها شعرت بالتوتر لأنها شعرت بعيني سليم المعلقتان عليها وسمعت خطوات تلحقها، فعلمت أنها خطواته، ولكن صوت تلك الخطوات توقف فجأة ثم بدأ صوت الخطوات بالخفوت، فنظرت من وراء كتفها لتجده يبتعد نحو البوابة الرئيسية فأدركت أنه سيرحل، ولكنها ادعت اللا مبالاة وذهبت للمقهى للبحث عن هاجر.
سألت هاجر بريبة ما إن لاحظت احمرار أنف ليلى ما إن جلست والتي كانت بمثابة المنقذ لها من أفكارها:
- ليلى أنتِ كنتِ بتعيطي؟
أومأت ليلى وقالت:
- كنت حاسة بالاحباط ومخنوقة شوية فـ عيطت.
ضيقت هاجر عينيها بشك وقالت:
- يعني مش علشان البيه سليم عملك حاجه؟
نفت ليلى برأسها رغم كونها تعلم أنها تكذب، فهو السبب الرئيسي لشعورها بالاحباط، ولكنها قالت لتغير مجرى الحديث:
- هو أنتِ مشوفتيش زين صحيح؟
حمحمت هاجر وابتسمت بتوتر وقالت بتلعثم:
- أه.. جه فعلًا.. بس.. يعني..نوعًا ما اتكلمنا ومشي.
- حصل ايه يا مصيبة؟
ابتلعت هاجر لعابها وبدأت بسرد ما حدث، وعندما انتهت قالت ليلى:
- ما هو معاه حق فعلًا يا بنتي، وأنا لاحظت الحوار ده كتير فعلًا يا هاجر ومكنتش بحب اتكلم معاكِ فيه، مش معنى إنك مش عايزة تتعاملي نهائيًا مع أي ولد أو شاب إنك تستعملي العنف وقلة الذوق، أنتِ تقدري تبعدي أي حد عنك على فكرة بس مش بقلة الذوق والاندفاع الغريب اللي أنتِ بتبقي فيهم دول، متخسريش أخلاقك علشان راحتك يا هاجر، دي مش قوة دي وقاحة.
شعرت ليلى بالحزن داخليًا كون هاجر لم تصارحها بما تشعر به، فهي لطالما لاحظت طريقتها في التعامل بالفعل ولكنها فضلت ألا تسأل وقررت أن ننتظر حتى تأتي هاجر بنفسها وتخبرها، ولم تتوقع أن تذهب هاجر وأخبر شخص آخر بهذا، خاصة وإن كان شابًا، مما يجعل ليلى تشعر أن علاقة هاجر بهذا الشاب لن تستمر على هذا الحال لوقت طويل، وسرعان ما ستقع في حبه، فهاجر رقيقة مثلها مثل أي فتاة بلا خبرة بل وحرصها الشديد هذا سينقلب عليها ويتسبب في وقوعها في الحب بسرعة البرق
تنهدت هاجر وبدا عليها التفكير، ثم قالت:
- ما هو أنتِ معاكِ حق، بس أنا ما أنا مبعرفش أتعامل.
- طب هو فاهم ده يعني؟
زمت هاجر شفتيها وأجابت:
- أعتقد؛ لأن طريقة كلامه كانت محسساني إنه فاهم.
قالت ليلى بخفوت:
- خلاص يبقا مفيش حرج عليكِ.
أومأت هاجر، فقالت ليلى:
- سيبك بقا منه دلوقت ويلا نقوم نشوف محاضراتنا.
- طب وسليـ..
قالت هاجر لتقاطعها ليلى قائلة:
- يلا يا هاجر المحاضرة هتبتدي.
كانت ليلى لا تريد التحدث عن الأمر، خصوصًا أمام هاجر التي ستبدأ في استجوابها وهي لم تكن في مزاج جيد للإجابة عن أسئلتها؛ لهذا فضلت إنهاء النقاش قبل بدءه.
❈-❈-❈
عاد سليم لمنزله مبكرًا أكثر من المعتاد، فوجد والده نائمًا بعد أن أنهى نوبته الليلية ووالدته بالمستشفى ووجد علي يبحث عن شيء يأكله بالثلاجة، فدلف المطبخ وقال:
- شايفك بتزوغ كتير الفترة دي من الشغل.
وضع علي خيارة بفمه وقضمها وقال:
- أعمل ايه طيب؟ مش عارف بقيت بزهق بسرعة كدا ليه ومبصدق تجيلي فرصة أزوغ.
غمز له سليم وقال ممازحًا:
- عايز تتجوز ولا ايه يا نجم؟
نظر له علي بحدة وهو يمضغ الخيار بفمه، ثم ابتسم بشر ونزع النظارة من على وجه سليم وركض خارج المطبخ ليصيح به سليم برجاء:
- يا علي لا يا علي بلاش الهزار الرخم ده.
ضحك علي واستمر في الركض يمينًا ويسارًا حتى يشتت سليم الذي قال بتذمر:
- يرضيك تعمل كدا في أخوك يعني؟ والله ما شايف حاجه!
استمر علي في الضحك وقال وهو يلوح بالنظارة في الهواء رغم أنه يعلم أن سليم لا يرى شيئًا بدونها وقال:
- علشان تبقا تتلامض كويس يا ابن دكتور شريف.
توقف سليم عن محاولة اللحاق به بعد أن اصطدم بجميع أثاث المنزل، تنهد بتعب وقال:
- طب رجعها علشان أعرف أحكيلك على حاجه طيب.
تنهد علي بقلة حيلة ثم أعادها له وقال بتهكم:
- ياما جاب الغراب لأمه.
نظر له سليم بحدة ما إن ارتدى نظارته، ثم أشار نحو غرفتهما ليتقدمه علي نحو الغرفة.
أخبره سليم كل شيء وصمت لينتظر منه نصيحة تساعده في تلك المسألة، صمت علي للحظات يفكر ثم نظر له بجمود، مما جعل سليم يظن أنه سيقوم بتوبيخه ولكن لم يتوقع أن يسحبه علي من ياقة قميصه وقال بحدة:
- ولا أنت جيبت الرمرمة دي منين؟ دي أمك كانت ناقص سِنة وهي اللي تعرض الجواز على أبوك من كتر ما هو مبيركزش في الحاجات دي وأنا الحاجه الوحيدة المؤنثة في حياتي السماعة اللي بكشف بيها، أنت جيبت الجينات دي منين؟
دافع سليم عن نفسه قائلًا:
- الله! ما حوار نهال انتهى من شهر فترة كافية دي ولا مش فترة كافية؟
دفعه علي بعيدًا باشمئزاز وقال:
- وزعلان إنها مش طايقاك؟ ده أنا لو مكانها كنت عجنتك، البنت عمالة تديك في نصايح وتساعدك أنك تبقا أحسن وأنت ضربت بكل اللي قالته عرض الحيطة؟
نظر له سليم بصمت وقد شعر بالذنب ولكنه عاد يهمس:
- بس علا جامدة بصراحة، بعدين أنا قولت لك إني بس عايز اأدبها مش ارتباط حقيقي يعني.
قبض علي على ياقة قميصه مجددًا وقال:
- لم نفسك يا عديم الرباية، مهبب الدنيا وده كل اللي شاغل بالك؟
قال سليم وهو يبعد قبضة علي عن ياقة قميصه:
- تخيل بابا لو صحي وسمعك وأنت بتقول عليا عديم الرباية هيعمل فيك ايه؟
ترك علي ياقة قميصه ونهض وقال:
- خلاص خليك في حوستك بقا وملكش دعوة بيا.
قفز سليم يعانق ذراع علي وقال برجاء:
- لا وحياة أبوك ساعدني، أنا مش مبطل تفكير في الحوار ده ومش عارف أقولها ايه تاني.
نظر له علي بتقزز وقال:
- ده منظر واحد مش مبطل تفكير؟
- ما أنا أتألم ولا أتكلم، وبعدين قولت لك مينفعش أقول لها على السبب الحقيقي.
جلس علي على الفراش مجددًا وقال بانفعال:
- ولا أنت ملبوس يلا؟ عليك عفريت بتاع بنات؟ شوية عايز تقضيها مع الشمال بتوعك وشوية عايز تراضي ليلى، أنت بتعمل الحاجه وعكسها يا ابني جننتني!
ترك سليم ذراعه وصمت لبرهة يحدق في الفراغ بشرود، ثم قرر أن يكون صريحًا مع شقيقه، فعدل نظارته وقال:
- أنا نفسي مش عارف يا علي، شوية أبقا عايز الرسم ومش طايق طب، وشوية أسيب الرسم وأقرر إني أكمل في طب بطريقة صح، شوية أبقا مش عايز أعرف أي بشري، والشوية اللي بعدها أبقا زعلان إني وحيد، شوية مبقاش عايز ارتبط بأي بنت واللحظة اللي بعدها أبقا عايزة ارتبط بفلانة، أنا تايه ومتناقض وخايف، خايف من ده وخايف من ترددي وتشتتي المستمر.
استمع له علي حتى انتهى ثم قال بنبرة هادئة لينة عله يساعده:
- طب مجبرتش تحسب كل حاجه ونقيضه وتحسب المميزات والعيوب لكل واحدة منهم؟ مش يمكن ده يساعدك أنك تعرف تقرر كويس وتعرف أنت عايز ايه بجد؟
خلع سليم نظارته وأخذ يلمعها وأجاب بلا مبالاة:
- عملتها قبل حوار المذاكرة وكدا، ولما عملتها اخترت الطب، بس في نفس الوقت حاسس إن روحي فاضية من غير الرسم، وده مخليني حاسس إني لو فكرت أتخلى عن حاجه على حساب حاجه تانية أحسن هخسر جزء كبير مني، ومقدرش أقولك إن مبسوط بالحال ده، أنا حاسس بالذنب، بطريقة غريبة، حاسس بالذنب اتجاه كل حاجه، ومش عارف أخلي الاحساس ده يوقف.
تنهد علي وقد فهم ما الذي يحدث مع شقيقه، هذا بسبب تلك الحياة التي فرضاها والديهما عليهما منذ أن وُلدا، وهذا جعلهما لا يستطيعان أن يتخذا قرارًا بمفردهما بسهولة، المئات من القوانين الصارمة، والقرارات الذان قد أُجبرا عليها، كل هذا لم ولن يساعد في تشكيل شخصية سوية، وهو بدوره كان قد وقع بذلك الموقف عندما كان في الجامعة، تلك اللحظة التي تقف بها وتكتشف أنك لم تكن سوى دمية في يدي والديك يحركانك مثلما يريدان دون الاهتمام بالشخصية المشتتة التي يخلقانها في نفس طفلهما، فإن كنت شخصًا اعتاد على وجود شخص يقرر عنك ويفرض عليك قراراته ويستخدم أسوأ أنواع الأسلحة، العاطفة، يستمر في الضغط عليك عن طريق استعطافك، يستمر في اخبارك بأنه يكد ويتعب ليوفر لك كل العوامل التي من المفترض ستجعلك تنجح وأنك عليك أن تتعب بدورك حتى تحقق حلمه هو وليس حلمك أنت!
كان علي يعلم هذا الشعور جيدًا، ولكنه لم يظن أن سليم يمر بنفس الموقف الذي مر به منذ سنوات؛ لأن سليم يتمتع بروح متمردة ترفض ما قبله هو سابقًا، ولكنه وجده مشتتًا بين الصواب والخطأ، ليس لأنه لا يستطيع التفريق بينهما، ولكن لأن الصواب قد فُرض عليه بأكثر الطرق المثيرة للنفور، حتى يبدو في تلك الحالة أن الخطأ لا بأس به ما دام من اختياره الخاص.
تنهد علي بثقل ولم يجد ما يقوله، ولكنه حاول أن يهون عليه ببعض الكلمات القليلة التي يعلم أنها عديمة النفع ولكنه لا يمتلك غيرها:
- بس أنت بردو عارف الصح من الغلط يا سليم، أنت مش عيل صغير، أنا عارف إن الصح لما بيتفرض علينا بنشوفه أكتر حاجه غلط في الدنيا، وفي اللحظة دي الغلط بالنسبالنا بيبقا أصح من الصح لمجرد إننا اخترناه بإرادتنا الحرة مش اتفرض علينا، بس أنا عايزك تفكر وتختار بكل حيادية، إنسى إن الصح اتفرض عليك وأحكم بالعدل علشان متتعبش.
أومأ سليم وقد فكر في كلمات شقيقه بكل جدية، عم الصمت لبضعة لحظات قبل أن يرفع سليم رأسه لعلي وقال:
- مقولتش بردو، أصالح ليلى ازاي؟
نظر له علي للحظة قبل أن يضحك بخفوت ووضع يده على وجهه، ثم قال:
- يا ابني أومال أنا لسه قايل ايه؟ ما أنت لو عملت اللي قولته هتختار الطريق الصح، بإذن الله، وساعتها ليلى لما تشوفك بالطريقة دي هتتصالح لوحدها.
هز سليم رأسه بالنفي وقال:
- بس أنا مش عايز أبين لها إني اتغيرت لو اتغيرت فعلًا، علشان متبقاش هي اللي معاها حق وأنا كنت غلط.
نظر له علي بغيظ وضربه على رأسه وقال:
- طب خليها مقموصة منك بقا طالما أنت راسك جزمة وعمال تعاند.
ضحك سليم وكان على وشك التفوه بشيء، ولكن رنين هاتفه منعه فأخذه من فوق الفراش ونظر لهوية المتصل، بينما زم علي شفتيه بتهكم وقال:
- الجو الجديد؟
- لا ده زين، بعدين مش جو لا نسبة قولت لك إني مرتبط بيها علشان I can fix her.
قال سليم وهو يجيب على المكالمة ليأتيه صوت زين من الجهة الأخرى، بينما حدث به علي بسخرية وهمس:
- عبيط وربنا وعايز يجيب لي المرارة.
لم يستمع سليم له، فقد كان منشغل بالاستماع لزين الذي كان يسرد له ما حدث صباحًا مع هاجر، ليقول سليم بعد لحظات:
- والله ما عارف يا ابني أقولك إيه، أنت من تاني أو تالت كلام بينما تهبدها كل ده؟
نظر له علي بفضول وتابع حديث سليم بصمت.
- طب بص، تعالى البيت عندي ناخد رأي علي أخويا في الحوار ده.
صاح علي باستنكار مقاطعًا إياه:
- المستشار العاطفي بتاعكوا يا خايب منك ليه؟
- طب ماشي هبعتلك الـ location، يلا سلام.
أنهى سليم مكالمته، ثم نظر لعلي برجاء وقال:
- علشان خاطر أخوك، الواد بيحبها بقاله تلات سنين، ولو محدش ساعده هيقعد يصيح للصبح.
نظر له علي بامتعاض وأومأ على مضض، ليبتسم سليم باتساع ونهض ليعانقه.
يتبع