-->

الفصل التاسع - مرآة مزدوجة

 




الفصل التاسع




أخذت ليلى رشفة من العصير الذي ابتاعه سليم لها بينما شعرت أنها بدأت تستعيد اتزانها مجددًا.


نظر لها سليم بصمت قطعها حالما انتهت:


- بقيتِ أحسن؟


أومأت بصمت وهي تنظر للأرض، ثم رفعت رأسها ونظرت له وقالت:


- كان ممكن تجيب لي تاكسي وخلاص، مكنش لازم تمشي معايا.


ابتسم وعدل نظارته وقال بلطف:


- فكرك يعني كنت هسيبك تمشي في حالة زي دي؟


أثرت نبرته اللطيفة فيها بطريقة جعلتها تحدق في الفراغ بشرود، لماذا عليه أن يبدو لطيفًا وبريئًا لتلك الدرجة؟، روحه تتسم بالبساطة التي تحيرها وتشعرها أنه يخدعها، فليس هناك شخص كهذا في الواقع.


لفت انتباهها نبرته الهادئة عندما قال:


- بس أنا توقعتك تبقي أقوى من كدا وتتعاملي مع الموضوع ده بهدوء أكبر.


زفرت ليلى بقوة وقالت:


- أنت متعرفش عنه حاجه، لما بيحط واحدة في دماغه، بتحصل، يعني الموضوع مبيبقاش كويس والبنت بتتفضح.


تلعثمت عدة مرات عندما كانت تتحدث، مما جعله يدرك أن الأمر سيء بحق، فلم يمنع نفسه أن يهمس باحتقار:


- محدش يعمل كدا غير لما يكون زبالة وقذر.


نظرت له ليلى باستنكار وقالت:


- بتشتمه ليه ؟ ما أنت بتعمل حاجه زي كدا.


رفع حاجبه بتعجب وقال:


- أنا؟


هزت رأسها وأجابت:


- أيوه، ما أنت بترتبط بردو.


نظر لها سليم مطولًا دون أن يتحدث، عدل نظارته للمرة التي لا يعرف عددها وابتسم وقال بخفوت:


- امشي يا ليلى، خليني أوصلك.


سارت ليلى بصمت، هل هي أخطأت؟ هل هو يشعر بالحزن مما قالته؟ لا تعلم، ربما، شعرت بالمزيد من الحيرة فهي لم تقوى على التفكير بشيء ما حاليًا؛ لهذا نظرت له من وقت لآخر لتتبين ردة فعله، ولكنها لم تستطع، فهو كان يحدق للأمام بشرود دون أن تتضح ردة فعله، هل عليها التحدث معه؟ ربما.


تنهدت بخفوت وقالت:


- سليم أنا أسفة مقصدتش أتكلم كدا.


هز رأسه مجيبًا:


- مفيش مشكلة.


شعرت أنه لا يريد أن يحرجها فقط، فعادت تقول:


- أنا بس ببدي رأيي في الموضوع، يمكن تدرك إنه غلط ومينفعش.


عبث سليم بشعره اللامع تحت الشمس الشتوية الباهتة وقال:


- أنا محترم رأيك يا ليلى، بس أنا أصلًا مدرك إنه غلط ومينفعش.


نظرت له ببلاهة وسألت بخفوت:


- طالما عارف بتعمل كدا ليه؟


ابتسم ونظر لها دون أن يجيب ثم أعاد نظره للطريق، ليزيد من حيرتها، تلك الفتاة لا تستطيع أن تبقي فمها المليء بالأسئلة مغلقًا أبدًا، لا يفهم من أين تأتي بكل تلك الأسئلة؟ من أين تأتي بكل تلك الطاقة لأن تبحث وتفكر وتسأل؟، هو إن فكر لنصف ساعة فقط بقى بقية اليوم مرهقًا في الفراش.


- هو مين علي اللي قال لك تسلم عليه ده؟


ياإلهي، ما بال تلك الفتاة؟ هو لم يجب على سؤالها الأول حتى تسأله سؤالًا آخر، أخفض رأسه بينما ضحك، فنظرت له بتعجب وقالت:


- بتضحك على ايه؟


رفع رأسه وقد أحمر وجهه من محاولة كتمه لضحكه، استنشق الهواء بعمق ليتمكن من التحدث وأجاب:


- مفيش، وعلي ده يبقا أخويا، هو وياسر نفس الدفعة.


صاحت بتعجب:


- وه! يعني أخوك عنده واحد وتلاتين سنة؟


هز رأسه بالإيجاب، فتابعت:


- كبير أوي.


- كنتِ ناوية تتجوزيه ولا ايه؟


نظرت له بغيظ من مزحته السيئة وأجابت:


- لا بس كدا فرق السن بينكوا كبير أوي.


ابتسم سليم بأسى متذكرًا بعض ذكريات طفولته وهمس:


- أيوه، عشر سنين.


أومأت ثم توقفت عن السير ليتوقف بدوره وهو ينظر لها بتعجب، فحمحمت وقالت:


- خلاص كفاية كدا ممكن تمشي، بيتنا الشارع اللي جاي.


قطب جبينه بتعجب وقال:


- ليه؟


فركت يديها بتوتر ولم تعلم كيف تصوغها بطريقة لطيفة، فأجاب بدلًا عنها:


- علشان مامتك؟


نفت سريعًا وقالت:


- لا ماما عارفه إنك زميلي، أنا حكت لها عنك، هي المشكلة في الجيران مش فيها.


نظر لها باستنكار وأومأ مستسلمًا وقال بابتسامة لطيفة:


- تمام، أشوفك بكرة.


ابتسمت له بينما راقبته وهو يبتعد لتتوجه نحو بنايتها.


❈-❈-❈



يجلس بمفرده في غرفته الصغيرة ويبكي، يبكي وحدته، يبكي تعرضه للسخرية المستمرة، يبكي عجزه عن التحدث مع أحد، ليس من المتوقع أن كل تلك المشاعر وكل ذلك الألم ينبع من طفل في الخامسة من العمر، كان الشيء الوحيد الذي يتمناه في تلك اللحظة هي أن يجد من يجلس معه يواسيه ويستمع له، على الأقل أن يملأ ذلك الفراغ بداخله، وذلك الشعور بأنه يتحول تدريجيًا لشيء أسود لا يفهمه، « ماذا هذا البؤس يا عمر؟ » سأله عقله عندما استعاد تلك الذكرى المريرة مجددًا، الذكرى الوحيدة الواضحة من تلك الفترة بحياته، تنهد بتعب وفرك عينيه عندما شعر أن الرؤية بدأت تتشوش، فنظر له صديقه محمد وقال بقلق:


- مالك يا عمر؟


هز رأسه بمعنى لا شيء وأجاب:


- خلينا نخلص الحسابات دي، عايز أخلص علشان نبتدي في الشغل الحقيقي.


نظر له محمد نظرة ثاقبة وقال بإنجليزية ركيكة تعمد أن يتلفظها بطريقة خاطئة:


- عمر tell me the truth، أنت آخر مرة نمت أمتى؟


ضحك عمر من طريقته الغريبة في تلفظ الانجليزية وأجاب:


- من يومين.


ضربه محمد وقال موبخًا:


- عايز تموت نفسك؟ لو عايز تموت نفسك قولي وأنا هحب أخد الشرف ده بنفسي.


وضع يده على كتفه حيث ضربه محمد، رفع كتفيه وأخفضهما وقال:


- لما أروح هبقا أنام، دلوقت خلينا نخلص.


نظر محمد للأوراق التي أمامه بملل، ثم قال بعد دقيقة بتذمر:


- يعني كل المصاريف دي ومش عارف تجيب محاسب يظبط لك الدنيا؟


- محمد لو سمحت أنا مش قادر أناهد أنا آخر طاقة عندي هضيعها في إني أخلص وأروح.


قال عمر بتعب واضح وقد ازدادت الهالات السوداء حول عينيه، فنظر له محمد بشفقة وأومأ بصمت، بينما هو حاول التركيز في عمله، ولكن ذكريات طفولته لم ترأف به، هذا ليس وقت الماضي، هذا وقت التخطيط للمستقبل، زجر نفسه عدة مرات عله يتوقف عن التذكر، ولكن عقله يتمرد عليه للمرة الأولى منذ فترة طويلة، دار عقله بين دهاليز ذكرياته، ليستحضر ذكرى لم يكره مثلها يومًا.


- بقولك ايه يا عمر، أنت هتبقا حارس مرمى.


قالها أحد أولاد فصله المعروفين والذي يعتبر نفسه الرئيس على الجميع، نظر له عمر ببلاهة وقال:


- بس أنا مبحبش الكورة، وأنتوا بتشوطوا الكورة جامد عليا.


نظر له الفتى بسخرية وقال:


- ولا مثلًا علشان أنت بنوتة؟


ليتبع سؤاله الساخر صياح بقية الطلاب بـ:


- بنوتة..بنوتة..


نظر لهم عمر بصمت بينما بدأت الدموع تترقرق في عينيه وهو لا يفهم لماذا يتصرفون معه بتلك الطريقة، فنهض وركض نحو المرحاض بينما آخر ما التقطتته أذنه كانت جملة قالها ذلك الفتى اللعين:


- بصوا، رايح يعيط في الحمام، مش راجل!


- عمر..عمر..عمر!


أيقظه من شروده محمد الذي يبدو عليه أنه كان يتحدث معه حول أمر ما وهو لم يستمع له، رمش بعينيه عدة مرات وقال بخفوت:


- سامعك


نظر له محمد باستنكار وقال بسخرية:


- أه ما هو واضح فعلًا.


تنهد عمر بتعب وقال:


- مش وقتك خالص يا محمد.


عاد ينظر للأوراق مرة أخرى، بينما نظر له محمد بقلة حيلة وحاول مساعدته بأكثر الطرق الممكنة.


❈-❈-❈


وقفت هاجر تلملم الأواني وتقوم بترتيبها بينما والدتها كانت تعد الطعام، كانت علاقتها بوالدتها جيدة حاليًا، فبعد شجارهما الأخير - والذي لم تفكر والدتها حتى في التحدث عنه أو معاتبتها - وعلاقتهما جيدة، هي لم تخبرها عن زين، كانت تخاف أن تمنعها من التحدث له أو لليلى حتى بحجة إنها السبب في تعرفها على زين؛ لهذا آثرت الصمت. 


لطالما أشعرها قربها من أي فتى في صغرها يثير توترها، والآن تقرب زين منها يجعلها تفعل أعنف أوضاع الحماية، والمشكلة أنه يمتص عنفها ويتحمل عباراتها العنيفة والتي لم يتحملها أحدًا يومًا، هذا يوترها ويحرجها في كثير من الأحيان كونها فظة معه وهو يتعامل معها بلباقة أدب، وتلقائيًا لا تتةقف عن التفكير به مثلما تفعل مع أي شيء يوترها، تحسب وتدرس كل كلمة قالته وكل ردة فعل صدرت منه، ولكنها ما زالت لا تستطيع فهمه وهذا يزيد من حيرتها، هو لا يريد أن يستدرجها، أولًا لأنها ليست مناسبة في نظر جميع الشباب لأي نوع من الارتباطات سواء أكانت رسمية أو غير رسمية، وثانيًا لأنها رأته يقف مع إحدى الفتيات والتي كانت على قدر من الجمال والرقة غير المصطنعة عدة مرات، فإن فكر بخوض علاقة من هذا النوع، بالمقارنة بينها وبين تلك الفتاة محسومة قبل حدوثها، سيركض نحو تلك الفتاة مؤكد، مثلما يفعل الجميع. 


تنهدت بعمق بينما تبللت ملابسها وهي تغسل الأواني، لماذا الآن تفكر بالحب وما إلى ذلك؟  هي تعلم أنها ليست جذابة، عنيفة، وحادة الطباع، كل تلك أشياء قد تجعل أي شاب ينفر منها من المحاولة الأولى حتى، لماذا هي بائسة لهذا؟ لا تعلم، ولكنها للحظة تمنت لو تجد ذلك الرجل الذي يتفهمها ويتفهم أنها ليست عنيفة بالواقع بل هي أكثر هشاشة من قلعة رمال في طقس عاصف، تتمنى لو تخرج من البيئة التي لا يفهمها بها أحد تلك ويتهمها بأشياء هي تتعمد إظهارها رغم كونها تؤلمها وتجد شخص يمكنها أن تكون معه حقيقية وعلى طبيعتها، ولكنه يظل أمل زائف توهن به على نفسها عندما تشكي لها عدم فهم الجميع لها بطريقة صحيحة، تنهدت مجددًا ولكن تلك المرة بخفوت، لتنظر لها والدتها مرتابة مجددًا وقالت:


- في ايه مالك؟ 


أجابت هاجر كاذبة:


- مفيش، بظبط جدول مذاكرتي في دماغي، عليا مواد كتيرة عايزة تتذاكر. 


أومأت والدتها وعادت لما كانت تفعله، لتعود هاجر لأفكارها من جديد. 


❈-❈-❈



« تفهمت أمي خوفي وحاولت تهوين الأمر عليّ هي وليليان ولولا أنني بكيت بالفعل أمامها عندما تذكرت ذلك المقزز لما تهاونت معي في سماحي بأن يرافقني سليم حتى المنزل، ولكني بالفعل كنت مرهقة وخائفة لهذا لم أستطع أن أمنعه عما يريده، ولكن بالنهاية قد مر الأمر بسلام على الجميع حتى وإن خِفت لبعض من الوقت، أنا أعيد صياغة ثا حدث مجددًا رغم كوني كتبته بالتفصيل قبلًا، ولكن هذا ليكون مقدمة فقط لما سأبدأ في قوله، ولنبدأ:


لا أصدق أن شهرًا قد مر منذ بدء الفصل الدراسي الثاني، حقًا الوقت يسير بسرعة رهيبة، لا يسير بل يركض! أكاد أشعر أنني تشاجرت مع سليم بالأمس وقد مر على هذا الشجار شهر، وبإضافة سليم وزين إلى مجموعتنا قد جعلنا مثل الروايات التي أبطالها يكونوا أصدقاء، « لا أعلم لماذا أقول مجموعتنا وكأننا إحدى العصابات الإجرامية ولكن لا بأس بهذا. » كانت هاجر ممتعضة من تلك الحلقة الرباعي التي تشكلت، رغم أنه لم هناك تجاوزات وكانت أحاديثنا جميعها حول الدراسة، ولكن يبدو أن هاجر قد تشاركت بعض الأحاديث معه وربما هذا سبب امتعاضها، أو ربما هي تتوتر مثلما أفعل أنا مع سليم في كثير من الأحيان، وقد لاحظت أيضًا نظرات معجبة من زين لها، لا أعرف ولكن يبدو وكأنه يحاول أن يخبرها أن معجب بها؟ ربما، ولكنها لا تفهم، حمقاء وقع في حبها جبان يرفض الاعتراف بحبها بشكل مباشر، يالها من علاقة!


شخصيًا لا أفضل أن يعلن زين عن حبه الآن - هذا إذا كان يحبها بالأصل - ، فالطريق أمامنا ما زال طويلًا وما زال هناك أربع سنوات قبل أن نتخرج، ولكن ما إن علمت أنه يعمل  بسبب إلحاح والديه الشديد بأن يتزوج ما إن ينهي تعليمه وهو لا يريد أن يؤسس أسرة بمال والده؛ لهذا يعمل ليكسب ماله الخاص الذي على أساسه سيبني أسرة ومنزل، رغم أن هذا جعلني أعلم أن من وقع في حب صديقتي رجل يرغب في إنشاء أسرة ويعمل جاهدًا على هذا، إلا أنني ما زالت لا أرجح الحب الجامعي هذا - هذا إن كان بالفعل يحبها - أرى أنه عديم النفع ويمكن أن يتبخر ويختفي بسرعة، فإن قال لي يومًا سليم أنه يحبني فلن أوافق على حدوث علاقة بيننا حتى ننهي دراستنا حتى وإن كانت علاقة رسمية أمام الجميع وبموافقة آبائنا. 


مهلًا! لماذا أنا أفكر بسليم في تلك الحالة؟ بأنه واقع في حبي؟ هل هذه رغبة مدفونة بعقلي الباطن وقد عبرت عنها بدون وعي؟ كلا هي ليست كذلك وأنا لا يمكنني التفكير به على هذا النحو، لقد وضعته كمثال لأنه الشاب الوحيد الذي على وصال معي ليس أكثر! ولكن أن أفكر أنه يحبني ويريد الزواج مني؟ كلا لا أعتقد هذا، فأنا لا أكن له أي نوع من المشاعر، أو أكن؟ كلا لا أفعل، فأنا لا أعرفه إلا منذ شهر مضى، أي نوع من المشاعر قد تنمو بين شخصين في تلك المدة القصيرة غير مشاعر الألفة والإخاء؟ لا شيء لن يحدث شيء أكثر من شعوري بأنه صديقي، صديقي؟ كلا! هل تجاوز حدوده لتلك الدرجة وأنا لا أشعر؟ ولكني لا أستطيع إنكار أنه أصبح يمثل جزءًا من يومي، الجزء الرقيق منه، فهو لا ينفك يعاملني بحدود واحترام ولكن نبرته دائمًا تمتزج برقة لا أستطيع تجاهلها، ولكني أرجح أنها تعود كونه شخصًا هادئًا كما أنه يرسم وهذه أشياء قد تجعل أي شخص يبدو رقيقًا، ولكن هناك شيء مميز يثير حيرتي، فهو عندما يتحدث برقة تبدو تلك نبرة يختص بها في حديثه مع الفتيات كرجل نبيل من العصر الفيكتوري يتحدث مع النساء برقة ويغازلهن بينما يتحدث بجدية وجمود مع الرجال، وهذا يفعله فعلًا وقد لاحظته، فهو عندما يتحدث مع زين يصبح متحررًا من جميع القيود الوهمية التي يضعها عندما يتحدث معي أو مع هاجر، وهذا ضايقني في بعض الأوقات رغم أني أنا من وضعت تلك القيود، ولكن هذا لا يُشبع فضولي، أريد أن أعرف المزيد عنه بلا سبب واضح، أريده أن يتحدث معي بحرية مثل زين، ويخبرني المزيد عنه نفسه وعن عائلة الأطباء التي هو فرد منها وعن موهبته في الرسم التي يخفيها والتي كلما سألته عنها يتحول وجهه للجمود ويرفض أن يرد على سؤال من أسئلتي، فيتصاعد شعوري بالضيق؛ لأني بدوري أشعر برغبة غريبة في أن أكون أكثر انفتاحًا معه، أريد أن أخبره عن نعناع وأن أناقشه في الروايات التي أقرأها مثلما نفعل بعد كل محاضرة، فالنقاش معه ممتع بحق، بينما هو من أصبح يحافظ على الحدود بيننا أكثر مني وهذا جعلني أستاء من نفسي لأنني قد بدأت أتساهل معه. »


تركت ليلى قلمها ونظرت لما كتبته بأعين ضيقة ثم همست:


- لتحل لعنة الله عليك! 


صدح صوت ليليان من الداخل فقد كانت تقف ليلى كالمعتاد بالشرفة تكتب في دفترها:


- يا ليلى هنتأخر اخلصي! 


كانت ليلى قد تجهزت من البداية ولكنها أرادت أن تكتب قليلًا لهذا وضعت حقيبتها على الطاولة وجلست تكتب، ولكن عندما استعجلتها ليليان وضعت دفتر مذكراتها بدلًا من الدفتر الذي تأخذه معها سريعًا ودخلت لتلحق بشقيقتها. 


❈-❈-❈


وصلت ليلى الجامعة وقابلت سليم بالمقهى كما المعتاد، وما إن رآها سليم بمفردها حتى سأل:


- أومال فين هاجر؟ 


أجابت ليلى وهي تلتقط أنفاسها:


- اتصلت بيا وقالت لي إنها هتتاخر شوية، أومال فين زين؟ 


أجاب سليم:


- قال إنه هيتأخر هو كمان. 


مما جعل ليلى تبتسم وقالت ممازحة:


- لايقين على بعض فعلًا. 


ابتسم سليم، فتأملت ليلى ابتسامته مما جعل ابتسامتها تتسع، ولكنها عادت تزجر نفسها ولم تنتبه لما قاله سليم، فحمحمت بحرج بينما لاحظ سليم شرودها فأعاد ما قال على مسامعها:


- مش كدا كدا أنتِ مبتحبيش المحاضرة اللي علينا دلوقت وبنذاكرها لوحدنا؟ 


أومأت ليلى بصمت وهي تحاول عدم التفكير فيما فعلته، بينما ابتسم سليم وقال:


- بحيث كدا بقا نشوف لنا حاجه نذاكرها عقبال الجوز التانيين يجوا. 


أومأت ليلى وقالت وقد عادت الابتسامة لوجهها مجددًا:


- شايفاك حريص على المذاكرة الفترة دي جامد يعني. 


ابتسم سليم وهو يخرج دفتره وكتبه وقد شعر أنه يريد أن يخبر ليلى بشأنه وربما تعطيه رأيًا يساعده بصفتها خارج إطار العائلة وستحكم بكل حيادية، فقال:


- أصل أنا أصلًا مكنتش عايز أدخل طب وبابا هو اللي فرض عليا أدخلها فـ مكنتش بهتم بالمذاكرة عندًا في بابا، بس كدا. 


شعرت ليلى بشعور غريب يساورها كونه يتحدث عن نفسه بشكل أعمق، وهي من كانت تريده بالأصل أن يفعل هذا، فقالت لتحثه على المتابعة:


- طب وايه اللي خلاك تهتم بعد كدا؟ 


صمت سليم ونظر لها بحيرة، أيقول لها أنها هي السبب؟ وأنها كانت دافعًا له للتقدم والتفكير في الأمر بشكل جدي؟ لا سيجد شيئًا آخر يقوله، حمحم سليم لينظف حلقه وأجاب:


- فكرت في الموضوع بواقعية، وفكرت في كلام علي أخويا ولقيت إن ده أحسن حاجه أعملها، حتى لو بكره طب ومش عايزها. 


أومأت ليلى بتفهم وقالت بهمس:


- الموضوع بيبقا رخم، إن حد يختار مستقبلك بدلًا عنك ويفرضه عليك. 


أومأ سليم بآسى وقال:


- موضوع رخم فعلًا. 


قالت ليلى بفضول لتحاول إخراجه من حالة الجمود التي عاد إليها:


- ولو كان ليك الاختيار، كنت هتدخل فنون جميلة؟ 


ابتسم سليم وهو لطالما شعر بفضولها تجاه هذا الأمر، فهي كانت تتلصص دائمًا كلما كان يرسم أشياء بسيطة بنظره وتسأله عنها ولكنه لم يجب عليها ليجعل فضولها يزداد نحوه، ولا يعرف لماذا يريدها أن تظل تشعر بالفضول تجاهه، ولكنه قرر أن يشبع فضولها فقال:


- أقولك على سر؟


أومأت ليلى وقد تحمست، فالتفت سليم يمينًا ويسارًا وكأنه على وشك قول إحدى الأسرار الدولية وقال هامسًا:


- أنا أصلًا مبحبش الرسم. 


نظرت له ليلى بصدمة دون أن تستوعب ما قاله قبل أن تضحك بضخب وهي لا يمكنها تصديق ما يقوله، فتابعها سليم وضحك باستغراب، تمكنت ليلى أخيرًا من التوقف عن الضحك وقالت بنبرة ضاحكة وهي تزيل دمعة فرت من عينيها من كثرة الضحك وقد احمر وجهها بأكمله:


- ده أنت نكتة. 


كان سليم يتابع ضحكاتها بابتسامة ولم يتفوه بشيء حتى توقفت عن الضحك وقالت مستفسرة:


- أومال ليه عامل فيها أسير الأحزان وبابا دخلني كلية مش عايزها والذي منه وأنت مبتحبش الرسم أصلًا. 


رفع سليم كتفيه وأخفضهما وقال ببساطة:


- أنا كنت بحب الرسم زمان لما كنت صغير، بس لما كبرت مبقتش بنجذب ليه، بس لما لقيت بابا مصر إني أدخل طب كملت في الرسم ونميت موهبتي عندًا فيه. 


ضحكت ليلى بخفوت تلك المرة وأسندت وجهها على يدها ونظرت له بعينين لامعتين لم تلاحظ أنهما تلمعان له وقالت:


- أنت بيور أوي على فكرة، حتى في طريقتك في عصيان باباك والتمرد عليه. 


نظر لها سليم باستغراب وقال مبتسمًا:


- طب دي حاجه حلوة ولا حاجه وحشة؟ 


اتسعت ابتسامة ليلى وأجابت:


- لا حاجه حلوة أوي، عارف لما شعرك بيتنكش بتفكرني بنعناع. 


قطب جبينه بتعجب وقال:


« مين نعناع؟ »


أجابت ليلى بإيجاز:


- القط بتاعي. 


ثم شردت في قطها وقالت:


- عارف؟ صحيح إن نعناع صغير دلوقت، بس أنا مستنياه لما يكبر علشان اجيب له قطة يتجوزها وهسميها نعناعة ويخلفوا لي نعانيع صغيرين يجروا طول النهار في الشقة ويلعبوا مع بابا نعناع وماما نعناعة. 


- ايه العلاقة اللي ريحتها حلوة دي؟ 


قال سليم ممازحًا فاتسعت ابتسامة ليلى ولم تجب، بل ظلت تحدق في اللا شيء بشرود وتبتسم وقد شعرت بسعادة غريبة كونهما يخوضان حديثًا كهذا، جذب سليم انتباهها مجددًا عندما قال:


- شكلك مش عايزة تذاكري قبل المحاضرات المهمة. 


قالت ليلى بكسل:


- بصراحة أه، عايزة أخد بريك شوية. 


نزع سليم نظارته الطبية ووضعها فوق رأسه بين خصلات شعره البنية، ثم وضع ذراعيه على الطاولة وأسند ذقنه عليهما وقال بخفوت:


- وأنا كمان. 


وضعت ليلى ذراعيها على الطاولة ثم أسندت ذقنها عليهما مثلما فعل سليم، فأصبح وجهها مواجهًا لوجهه، زوجين من العيون البنية تحدقان ببعضهما البعض، ولكن باختلاف أن لون عيون سليم أفتح بدرجة من لون عيون ليلى، مضت بعض الدقائق وهما يحدقان ببعضهما البعض بصمت، من ينظر إليهما يظن أنهما عاشقان، عاشقان! تلك الفكرة جعلت ليلى تجفل وتبتعد عنه، فنظر لها سليم ولملامح وجهها المحرج المحمر وقد بدا عليها أنها تشعر بالخجل من شيء ما.


عدلت ليلى وشاحها بحرج وهي تنظر بتحفظ يمينًا ويسارًا لترى هل لاحظ أحدهم ما حدث أم لا، بحثت بعينيها عن هاجر التي لم تأتِ، ولا حتى زين! عملت أنها لا يجب أن تجلس مع سليم بمفردهما أكثر من ذلك، فهي قد بدأت تتساهل معه وقد شعرت بالضيق من نفسها حتى تشكلت غصة بحلقها حاولت تجاهلها ولكنها لم تستطيع فجلست بعدم راحة وهي تنتظر أن يأتي أي شخص، بينما كان يراقبها سليم بتعجب ولم يتحرك من مكانه ولكنه تعجب من انتفاضتها المفاجئة واحمرار وجهها وكأنها راودتها أكثر الأفكار خجلًا في العالم حتى جلوسها بعدم راحة ولم توجه له أي شيء، فقال سليم مستفسرًا:


- مالك يا ليلى؟ 


- مفيش 


أجابت ليلى باقتضاب، فتنهد سليم واعتدل في جلسته وهو لا يعلم حقًا ما الذي ضايقها فجأة ولكنه كان على وشك الاستفسار ان الأمر قبل أن تمر بجانب طاولتهما فتاة وابتسمت لسليم فابتسم لها بدوره وأكملت الفتاة سيرها، لاحظت ليلى ما حدث فرفعت حاجبها باستهجان وقالت:


- ايه اللي حصل ده؟ 


توتر سليم وقد أدرك ما فعله فقال بتلعثم:


- دي.. دي.. ولا حاجه. 


كانت تلك فتاة معجبة به وقد عرضت عليه أن يدخل معها في علاقة، فتلك الفتاة كانت معروفة في الكلية بأكملها بأنها سيئة أو كما يُقال عنها النسخة المصغرة من بائعة الهوى، فهي قد ترتبط بشاب في كل شهر فقط لتحصل على الهدايا والكلام المعسول والمساعدات في الدراسة، وبعد أن أصبحت معروفة على مستوى الكلية أصبحت تطلب من الشاب الذي يعجبها أن يدخل معها في علاقة دون استحياء وقد احتقرها سليم بشدة لهذا، ولكنه ظن أنه يمكنه تأديبها قليلًا عبر خوض علاقة معها وجرح كرامته وتركها مثلما تفعل، عادة تلك صفات قد يتصف بها شاب لا فتاة ولكنها تحدت جميع التوقعات وتجبرت وأصبحت في نظر الجميع شيء حقير يجب نبذه، وقد أراد سليم أن يوضح لها هذا بنفسه لهذا أدعى استجابته لمحاولاتها في التقرب منه والتي يفهم أنها بسبب كونها تريده أن يساعدها بالدراسة وبالامتحانات حتى تنجح هذا العام، ولكنه لم يرد أن يخبر ليلى بكل هذا حتى لا تقول عليه سخيف، أو حتى لا يظهر بمظهر الأحمق الذي تطلب منه فتاة الارتباط لا العكس. 


تابعت ليلى استجوابها وقد شعرت بالضيق يزداد بداخلها:


- مين دي يعني؟ 


ابتلع سليم لعابه وأجاب بخفوت محاولًا المراوغة ليكسب وقت يمكنه فيه التفكير في كذبة مقنعة:


- علا 


صاحت به ليلى بانفعال:


- أيوه يعني زفته دي تبقا ايه؟ موقعها ايه في حياتك؟ 


ابتلع سليم لعابه مجددًا، لماذا يشعر بالتوتر ويجف حلقه منذ أن بدأت ليلى استجوابه، لا يستطيع التفكير في كذبة جيدة قد تصدقها تلك المتشككة، فعلم أن هذا النقاش لن ينتهي على خير؛ لهذا حك عنقه بتوتر ولم يعلم ماذا سيقول، ولكن ليلى أجابت بدلًا عنه:


- اللي خدت مكان نهال، صح؟ 


ضحك سليم بتوتر كإجابة صريحة على سؤالها عندما ظن أنها قد تكون ردة فعلها هينة كونها تعلم أن له سابقه مع نهال كما تقول، ولكنه وجد عينا ليلى تشتعل بالغضب وصاحت:


- ولا أنت هتفضل تور كدا ومفيش منك فايدة؟ مش من خمس ثواني كنت اتغيرت وانسان جديد والهبل ده كله؟ 


أجاب سليم ممازحًا عله يخفف الجو المشحون:


- لا ما هو أنا قولت إني هتغير من ناحية الدراسة بس. 


صاحت ليلى مستنكرة ليبدو له أنه أخفق في محاولته:


- نعم؟! 


نظر سليم للأشخاص الموجودين بالمقهى والذين التفتوا لطاولتهما، فزجرها سليم محتفظًا بنبرته الممازحة:


- صوتك يا فضيحة. 


ضربته ليلى بحقيبتها وقالت بانفعال:


- يكش تتفضح فضيحة توديك ورا الشمس يا بعيد. 


ثم نهضت وسارت خارج المقهى، فلحق سليم بها وهو يحاول التحدث معها ولكنها لم تسمح له بهذا. 



يتبع