-->

الفصل الخامس - مشاعر مهشمة (الجزء الثاني)

 





الفصل الخامس



من سوء حظه أن ذلك الخبر؛ الذي لم يكن واضعا حدوثه المحتوم في حسبانه، آتاه وهو رفقة والده، وكأن القدر يدفعه إلى الإعتراف بما حاول نفيه ومحقه بسائر الطرق الممكنة، جحوده، وعناده أعميا عينيه عن حقيقة أنهما طفليه، ومهما فعل بتفكيره المحنك، الماكر، والمليء بالشرور لإنكار صلته بهما، ستُكشف الحقيقة يوما لا محالا، ولكن في حالته قد انكشفت حقيقة أبوته لهما مبكرا للغاية، وأمام تساؤلات والده المحققة وذكائه الذي لا يُستهان به، لم يستطع المراوغة وإخباره بإجابة مكذوبة، غير الحقيقة التي اكتملت أركانها أمام والده بالأساس، ولم يكن ينقصه إلا اعترافا منطوقا من "عاصم" لكي يتأكد من شكوكه حيال نسب من تحمله الأخرى برحمها؛ والتي هي مقبلة على وضعه، ولكن صيغة الجمع الذي أشار بها في عبارته استرعت انتباهه، وحدجه بنظرات تتشبع بالغرابة وراح لسانه يكرر ما قاله بلهجة متعجبة:


-أبوهم!، هي..


لم يدعه يتابع استفساره حول المعنى الضمني من عبارته، حيث إنه تدارك أن والده قد فطن بالطبع أنها حاملا بأكثر من طفل، وأكمل هو تساؤله بطريقة خبرية بنبرة جامدة لا تشابه ما يعتريه من تشوش عظيم:


-حامل في توأم.


فور إخباره بذلك النبأ الذي قد توقعه والده، ونتيجة لذلك لم يخلف أي معالم تفاجؤ على وجهه، ظل يطالعه بنظرات مبهمة للحظات، كان خلالها "عاصم" يجتاحه فيضان من التوتر المصحوب بالشتات الذهني، ذلك العقل الشيطاني الذي كان يتهادى -في خلال جزء من الثانية- لأي قرار أو فعل يقبل عليه، بكل توتر وربكة مستبدين به لا يستطيع سماع صوت عقله أو تنفيذ ما يمليه عليه قلبه، وكلاهما يتناحران بضراوة بحتة بداخله، مخلفين حرب من الأفكار حامية الوطيس، استفاق من صخبها على صوت والده الذي صدح بنبرته الفاترة متسائلا:


-وناوي على ايه؟


كأنما بتساؤله يزيد من وطأة الموقف، الذي حاول بجهد جهيد ألا يظهر تأثيره المضني عليه، ولكنه بالأخير فشل في إخماد ثورة تفكيره، أو موارة ما أصبح ظاهرا عليه عن عيني والده المتفرستين، ونطق بتشوش تصرخ به نبرته:


-معرفش.


تراءى له من بين نظراته التي يحيد بها عن وجه والده، الحنق الذي أصبح جليا عليه، ونهوضه عن كرسيه الذي تبعه قوله مستهجنا موقف ابنه المائع حيال مصير طفليه:


-يعني إيه متعرفش!، إيه مش ناوي تعترف بيهم؟


كان لتساؤله أثرا كبيرا في هياج أعصابه التي كان يحاول ألا تُثار، وبقدر المستطاع عمل على تثبيط انفعالاته من سيل التساؤلات النابعة من والده، والتي ما كانت تنقصه رفقة نبأ ولادة الأخرى المفاجئة، وكأن المصائب تأتي جماعة فوق عاتقه، حرك "عاصم" رأسه للجانب تزامنا مع نفسٍ مطولٍ مليء بالكدر، سحبه إلى رئتيه، ثم عاد بنظره إليه وهو يدمدم بصوت ارتفع منه دون تحكم:


-مكنتش عايزهم، أنا لا عايز اتجوز، ولا كنت عايز أخلف.


واجهه والده الذي أضحى قبالته بنظراته المستشاطة، مما مترائيا له من استهتار واستخفاف من الآخر بجدية الموقف، وعلق باستنكار لحجته الواهية:


-وخليتها تكمل في الحمل ليه؟، كنت خليها تنزلهم طالما مش عايز تتهبب.


لم يشكل فارقا معه تقريع والده له، ولا حتى هيئته المحتدمة ، فما هو متمكن من عقله الحين هو أمر الطفلين، اللذين سيأتيان بعد دقائق معدودات إلى الحياة، والذي إلى الآن لم يحسم أمره بشأنهما، ولكن ما هو متأكد منه أن والده لن يتركه إلا أن يرضخ له، أغمض عينيه محاولا إخراس تلك الأصوات التي لا تنفك تزعزع ثباته، وأجاب والده حينما طال صمته معللا بصوت خرج على شاكلة هادئة بعض الشيء:


-مرضيتش، نزلت اتنين قبلهم والدكتور قال إنها لو نزلت الحمل ده مش هتخلف تاني.


رغم تفاجؤه مما أخبره به، والذي يعني أن حملها لم يكن من علاقة حميمية عابرة حدثت بينهما، وإنما هي علاقة دائرة في الخفاء منذ فترة ليست بقليلة، إلا أنه لم يعبأ بذلك، ولم يكترث بسوء سجية ابنه، ودناءته التي دفعته لممارسة المحرمات مع تلك الفتاة، التي يتوجب عليه حمايتها، كونه الفرد المتبقي لها من عائلتها، ولم يعبأ كذلك بسنوات عمرها الصغيرة، والفارق العمري بينها وبين ابنه، والذي لا يدل إلا على استغلال صِرف نابعا منه إليها، ومع ذلك كله لم يشغله إلا شيئا وحيدا، وانطلق لسانه به بطريقة مشددة على نطقه للكلمات المشبعة بالصلابة:


-وكملت في الحمل، وخلاص هتولد.. عيالك.


أصوات صاخبة في رأسه، تضاعف من حالته المشتتة الغير راسية عند قرار، وبدون تحكم في غضبه الذي اهتاج من كثرة ضغط الآخر عليه، برقت عينيه وبرزت عروقه وهتف في صياح وهو يلوح بيديه بانفعال جم:


-عايزني اعمل ايه؟


اغتاظ من ارتفاع نبرة صوته عليه، وعند ذلك الحد ظهرت معالم الغضب الحقيقية على وجهه، وفي جزء من الثانية كان قابضا على ذراعيه، وببأس لم يخبُ من داخله، رغم كبر عمره الذي تخطى الخمسة والستون عاما، وبصوت اخشوشن على الأخير هدر فيه بقوة:


-تعترف بيهم، مش ابن كمال الصباحي اللي يرمي عياله.


مع نطقه الأخير نفض ذراعيه بحدة، تاركا إياه في حالته الجامدة، فقد تلاحق وجيب قلبه وأشتد، حتى أنه شعر بضجيجه في أذنه، من ذكره لتلك الكلمة التي أشار بها إلى بنوة الطفلين له، وبدأ شعور بعيد بداخله ينبض من أجلهما، ولم يكد يحتس به حتى استفاق من حالة التيه التي تملكته توا؛ على صوت والده الهادر والمستنكر لعدم تركه مطرحه بعد:


-واقف لسه مستني ايه؟، متتفضل.


بدون اعتراض، او حتى مزيد من المماطلة، تحركت قدميه خطوة للخلف، وهو يشعر بوجوب تنفيذ ما أمره به والده، ليس فقط لأنه أمره بفعله، ولكن تمسك والده بالإعتراف بهاذين الطفلين -وحتى وإن كان مجهول السبب بالنسبة إليه- أيقظ بداخله مشاعر إنسانية كانت قد خبت ومحقت منذ دهر مضى، هز رأسه بإذعان وبدون أن يتفوه بحرف استدار وسار بخطوات ثابتة مغادرا الغرفة، بينما تنهد الأخر وشعور بالراحة توغل لوجدانه من استجابة ابنه، الذي ظن للحظة أنها ميؤوس منها. تلك الثورة والاحتجاج الذي بدر منه، ليس لأجل تلك الفتاة التي ستبلغ سمعتها أقصى درجات الحضيض إن لم يعترف ابنه بأبوته لذينك الطفلين، ولا حتى لمستقبل الطفلين بوجه خاص، وإنما لما يحميلانه من نسب تابع له، وإن لم يعترف الآخر بهما قبلما ينتشر الخبر وينفذ عبر الآذان الجساسة والأعين المترقبة، ويثبت حينها ما أخبره به "هشام الكيلاني" بشأن تربيته الخاطئة له، والتي جعلته رافضا تحمل مسئولية طفليه، على عكس "مجد" الذي ثار، وانهار، وانفعل لأجل ابنه، لأصبح حينها ذلك الخبر متنقلا بين ألسنة الجميع، ورد بسمعتهم مرة أخرى إلى أسفل سافلين.



❈-❈-❈


برزت عينيها في محجريهما، معبرة عن تفاجؤ عظيم، مما أخبرتها به "داليا" عبر الهاتف، أنهت المكالمة ببعض كلمات متلهوجة، وهي تجمع أغراضها من فوق الطاولة، بذلك المطعم الذي جلبها "جاسم" إليه ليتناولا معا طعام الغداء، وكان ذلك كله تحت نظراته المستريبة من التحول الرهيب الذي ظهر على محياها، والذي فطن من خلاله أنه يوجد خطب ما سيء عند صديقتها، وقد هاتفتها للإستنجاد بها، وهذا ما جال في خاطره بالتحديد؛ نتيجة لرد الأخرى عليها، والذي شمل ذهابها إليها في أقرب وقت، ما كادت أن تنهي المكالمة حتى تساءل "جاسم" متوجسا بحاحبين معقودين، وقد دارت في رأسه بعض الهواجس حول البغيض الآخر:


-في ايه؟، صاحبتك مالها؟


طالعته في نظرة تتشبع بالتوتر، وأخبرته في شحوب يشوبه القلق:


-داليا بتولد؟


ضم شفتيه لجزء من الثانية، وكأنه يفكر في تبعات ذهابها كما تردد على سمعه، واحتمالية ملاقاة "عاصم" هناك كونه والد الطفلين، والذي لا يضمن عواقب رؤيته بعد ما حدث من شجار ملحمي بينه وبين "مجد"، وما لا تعرف عنه شيء الماثلة أمامه متحفزة للنهوض، وبعد صمت لم يتخطَ الثانيتين، نطق بغير رضاء واضح عليه:


-هتروحيلها يعني؟


بدون تفكير توصلت إلى عدم استحسانه الذهاب إلى "داليا"؛ خشية عليها بالتأكيد، لعلمه أنه لربما يتواجد "عاصم" هناك، ولكنها مهما كلفها الأمر لن تخذل صديقتها، وتتركها بمفردها في موقف كذاك، خاصة وأنها استشعرت كم خوفها، وبنبرة تحمل التصميم، وعدم العدول عن قرارها، هتفت مخبرة إياه لكي تغلق أي مجال للرفض:


-أنا مش هينفع أسيب داليا لواحدها، وخصوصا إنها مش واثقة إن عاصم الزفت ده هيروحلها ولا لأ.


رؤيته للإصرار في نبرتها، صَعَّب عليه أي محاولة رفض، أو نقاش حتى حول عدم ذهابها، تنهد بقلة حيلة وراح يخبرها وهو يلتقط هاتفه وسلسلة مفاتيحه من فوق الطاولة:


-تمام، يلا عشان أوصلك.


نظرت إليه مدهوشة من موافقته السريعة، فهي توقعت أن يتجادل معها بشأن ذهابها، خاصة أنها تلك المرة ستتواجد في نفس محيط ذلك البغيض، وتساءلت وهي تنهض عن مقعدها:


-هتيجي معايا؟


رمقها بنظرة ضائقة؛ وهو يضع الأموال بداخل كتيب الفاتورة، وقال بأسلوب حازم لا يقبل النقاش:


-أمال هسيبك لواحدك في مكان احتمال يكون في الحيوان ده.


أمارات وجهه المعبرة عن كراهية بالغة ترسخت وجدانه لذلك الدنيء، جعلتها تشعر أن اليوم لن يمر مؤكدا على خيرٍ، وهذا ما لا توده، بالأخص بعدما طغى الهدوء على حياتهم نوعا ما الآونة الأخيرة، انقشعت المسافة ما بين حاجبيها، وهي تطلب منه بترجٍ شديد:


-جاسم أرجوك أنا مش عايزه مشاكل تان..


قاطع متابعة كلماتها المتوسلة، صوته الهادئ وهو يخبرها:


-مش هعمل حاجة يا رفيف، هوصلك وهفضل معاكي لحد ما تخلصي مع صاحبتك وأروحك بعدها.


لم تجد بدا من الرفض، خاصة وأنها تستشعر الصدق في كلماته، ورغم بعض القلق الذي يخالجها، إلا أنها رضخت للأمر الواقع، فهو لن يتراجع عن موقفه، أو يعدل عما قاله مهما بلغت توسلاتها، تحفزت في وقفتها وهزت رأسها بموافقة وهي تقول بنوع من الإستسلام:


-أوكي، ويلا بقى عشان متأخرش عليها أكتر من كده.


تقدمته "رفيف" سيرا بخطواتها المتعجلة، وأتبعها هو بخطواته المجارية خاصتها في سرعتها، وهو يشعر بالضيق يختلج صدره، ليس فقط من احتمالية رؤيته للآخر، ولكن حضوره شاهدا على مجيء طفليه إلى الحياة -وكأنهما على قرابة قوية وصلة وطيدة- ليس بالحدث الجلل على الإطلاق، فهما وإن كانا لا يريد الإعتراف بهما؛ تابعين له في الأول والأخير، وهو لا يريد لأي موقفا عابرا أن يجمعه به في درب واحد، لما بلغه من أقصى درجات الكره والبغض له.



❈-❈-❈



جدالٌ قاسمٌ للظهر؛ ظل قائما بين كلٍ من قلبه وعقله؛ في أمر تقبله لطفليه، اللذين قد جاءتا روحاهما بالفعل إلى الحياة، كما علم عند مجيئه إلى المشفى؛ من الطبيب الذي قام بإجراء عملية الولادة ل"داليا"، شحذت كامل قواه في إيقاف ما يحدث من زوبعة من الأفكار والمشاعر المتضاربة داخله، حتى إنه قرر إرجاء ما يشعر به الحين، حتى يقوم بما أمره به والده، وهو الإعتراف بأبوته لهما، فهو وإن لم يكن يريد الإنجاب نهائيا، وتشكيل أسرة يكون هو ربها، إلا أنه لن يتحمل المزيد من نظرات التقليل التي تنبعث من عيني والده دون هوادة تجاهه، ولن يستطع تحمل تقريعه اللا نهائي كلما اجتمع به حول ذلك الأمر.


غافلا بشكل كاملٍ عما شعر هو به؛ عندما أشار والده في حديثه إلى صلة الدم الجامعة بينه وبينهما. بخطوات لا يظهر عليها غير العنجهية المعهودة عليه، وبمنتهى الثبات؛ كان يسير نحو غرفتها التي انتقلت إليها، والتي يوجد بها الطفلين بعدما تم فحصهما بشكل غير كامل بعد، مقتصرا الفحص على التأكد من عدم وجود أي خطب بهما، اعتبر تلك اللحظات التي يسيرها في الممر الذي ينتهي بغرفتها طويلةً، رغم أنها لم تتجاوز الدقيقة، ولكن ما به من تخبط في مشاعره تجاه رؤيته المحتومة لقطعتين نابعين من وجدانه؛ يزعزع كل ما به من قوة تماسك زائفة بالأساس.


سحب نفسا ثم زفره على عجالة وهو يدلف إلى الغرفة، الذي وجد بابها مفتوحا؛ منتبها إلى وجود ممرضة بالداخل، ألقت عليه نظرة خاطفة وهي مستمرة فيما تفعله؛ من حقن إبرة طبية في المحلول الموصول بيد "داليا"، لاحظ أنها لم تفق بعد من تأثير المخدر، وبنظرات مهتمة تفقد الغرفة باحثا بعينين متلهفتين عن موضع مهد الرضيعين، رغم محاولته المضنية في إخفاء تلهفه حتى عن نفسه، ولكن باءت محاولته بالفشل خاصة مع رجيف قلبه المتصاعد في صدره؛ حين وقعت عينيه على السرير الصغير في الزاوية، وبدون تفكير سار نحوه، وبداخله شوق طفيف ممزوج بالتوتر لرؤيتهما.


ابتلع ريقه بعدما أضحى قبالتهما، كانا غافيين مخلفين هالة ناعمة تشبه الملائكة، ارتفع وجيب قلبه على الأخير، فمهما حاول لن ينكر انبهاره بحمالهما، وبغير تفحص لاحظ أن أحدهما ذا شعرا أشقرا؛ والآخر لون شعره يشابه خاصته، الملامح كانت غير واضحة بالنسبة إليه، ولم يتضح له أي منها شبيه له أو للأخرى، لم يشكل ذلك فارقا عنده إلى حد بالغ، ولكن ما تمكن من كامل تفكيره هو جنساهما، فهو لم يتساءل عن الأمر من قبل، ولم يستفسر حتى من الطبيب عند قدومه.


رفع ثوب كل منهما بشكل متوالي، متفحصا جزئيهما التناسلي، ليتفاجأ من كون الاثنين ذكرين، وبعدما خبَ توتره من انجذابه إليهما، عاد مجددا بحدٍ متفاقمٍ، ولكنه لم يبعد ناظريه عنهما، شاعرا بنشوة غريبة راحت تداعب قلبه حيالهما، مبددة كل ما به من هواجس تستبد بفكره، وبدون حتى أن ينتبه انفرجت شفتيه بابتسامة صغيرة وكأنها تحمل ترحيبا منه لهما. فاق من حالة الشرود بهما؛ إلى صوت آنة غادرت حلق المستلقية على الفراش خلفه، معلنة عن بوادر إستفاقتها من المخدر، ناظر طفليه بنظرة أخيرة قبلما يتحرك مغادرا الغرفة، ليبدأ فيما اتخذ القرار في القيام به، ولكنه توقف عن الحراك عندما استمع إلى صوتها الهامس بإعياء تنادي عليه:


-عاصم.


حانت منه التفاته نحوها، ليجدها ما تزال فاقدة الوعي، لم يزُل تأثير المخدر بشكل كامل من دمائها، رآيا ذلك الشحوب والضعف الظاهرين على ملامحها الباهتة، تنهد مطولا ولم يدع لتلك الأفكار التي تراوده نحوها، ونحو ما تحملته في سبيل مجيء طفليهما إلى الحياة، أن تتمكن منه الحين، وعاود سيره مرة أخرى صوب باب الغرفة، قاطع خروجه ولوج "رفيف"، تفاجأت به وظهر على محياها الوجوم المخالط بقلقها الواضح، بينما هو لم يتفاجأ من حضورها المتوقع، ولكنه عمل ببراعة على إخفاء معالم ما نبض بداخله لطفليه، وارتسم على وجهه دون تحكم، وتعمد إظهار عدم الاكتراث برؤيته لها وتابع سيره للخارج.



❈-❈-❈



لم تأخذ الكثير من الوقت أثناء إفاقتها، ولكن أول ما تساءلت حوله -حتى قبل أن تطالب برؤية الرضيعين- هو مجيء "عاصم"، كانت ثقتها في حضوره شبه معدومة، حيث إنها ما إن علمت من صديقتها برؤيتها له مغادرا الغرفة عند مجيئها؛ أصابها بالذهول والغرابة في آن واحد، وأضحت التساؤلات الحيرى تجوس في ذهنها حول عدم بقائه، منتظرا فقط بعض الوقت حتى تستفيق من تأثير المخدر، احتوت ملامحها على حيرة تعلن تملكها من تفكيرها، عندما تعذر عليها الوصول إلى إجابات لما يجول في ذهنها، ضمت ما بين حاجبيها وهي تتساءل بعد زفرة ضائقة بصوت يحمل الوهن والإعياء:


-انتي متأكدة إنه هو اللي شوفتيه؟


بدأت علامات الضجر تظهر على قسمات "رفيف"، من إعادة تكرار الأخرى للسؤال ذاته، والذي لم تنفك عن التفوه به منذ أخبرتها بمجيئه، وبخلجات سائمة أجابتها "رفيف" مؤكدة:


-ايوه متأكدة، وأنا دخلالك كان هو خارج من عندك، أنا مش هتوه عنه يعني يا داليا.


تفاقمت عقدة حاجبيها، وتضاعفت حيرتها، وراح لسان حالها يردد:


-طب ليه ماستناش لما أفوق!


آثرت الأخرى الصمت، من عدم توصلها لإجابة محتملة الصحة حول ذهابه، بينما ظلت التساؤلات تجول وتصول في ذهن "داليا"، حتى أنها خشيت أن يكون قد ذهب بلا رجعة، وربما يشن عليها الحرب بعدما رأى الرضيعين أمام مرمى بصره لحما ودما، وليس مجرد كلمات تقال، ولا تمسك منها بروحين لم يكن لهما من وجود على أرض الواقع بعد، ابتلعت غصة خانقة في حلقها، ومالت برأسها تجاه صديقتها وسألتها في مرارة وأسى:


-هو كده مش جاي تاني؟


رغما عنها اشتدت تعابيرها، فمجرد المجيء على ذكره؛ يدفع شحنات الغضب في عروقها، ويجعلها على شفا الهياج، ولكنها لم ترِد أن تظهر ذلك الجانب العدائي بداخلها حياله، بالأخص أمام صديقتها، لعلمها بمدى حبها الواصلٍ حد الهوس له، وعلى الرغم من أن واحدة غيرها، لكانت اتخذت موقفا هجوميا ناحية صديقتها، عندما استمرت في علاقتها البذيئة معه، حتى بعدما علمت بما اقترفه في حقها، من محاولة اغتيال كادت تودي بحياتها، وما تزال تعاني مما نجم عنها، إلا إنها لم تفعل، فصديقتها نفسها بكل رحابة صدر؛ سامحةً له بإيذائها واستغلال حبها واحتياجها الدائم له، تنفست مطولا قبل أن ترد على تساؤلها، ولكن حال دون ذلك ولوج "عاصم" الغرفة، التفاتا كلتاهما نحو الباب منتبهتين لدخوله، بنظرات متفاجئة من "داليا، وأخرى جامدة من "رفيف"، اتبعتا خطواته نحو السرير، انتشل "رفيف" من نظرها الذي كان سيتحول للإزدراء من رؤيه مجيء "جاسم"، توقف عند عتبة الباب، وأشار لها بوجهه للمغادرة.


بالأساس ازداد عبوس وجه "رفيف" فور رؤيته، ونظرت له شزرا وهي تنهض عن مقعدها، ووجهت حديثها لصديقتها المحملقة في الآخر؛ مدهوشة من حضورة المباغت، وأخبرتها بتحفز وجمود تطعمت به نبرتها:


-أنا همشي أنا بقى، حمدلله على سلامتك انتي والبيبيز


هزت رأسها لها في إيماءة بسيطة، ثم عاودت النظر إلى الآخر، الذي ظل صامتا، واقفا أمام الفراش، متابعا بطرف عينيه سير "رفيف" إلى الخارج، ثم بعدها وجه كامل نظره نحو "داليا"، وبخطوات غير متعجلة سار نحو جانب الفراش، ثم وبدون أي مقدمات مد يده لها بعدة وريقات مصحوبة بقلم، وأخبرها بهدوء يحمل الجمود بطريقة آمرة:


-امضي.


كانت هي مأخوذة من مجيئة، ولم تكد تضبط من حالتها التي تلبكت، حتى طغى عليها كل أمارات الإستغراب من تلك الورقات، انتقلت بنظرها للحظة بين وجهه وبينها في يده، ثم مدت يدها ملتقطة إياها، لم تمر سوى لحظة رمقت خلالها مقدمة أول ورقة لتفقه بدون تفكير ماهية تلك الأوراق، وعلى الفور رفعت حدقتيها المتفاجئتين إليه، وفتحت فمها في نية للتحدث، ولكن منع محاولتها؛ نطقه بصوت جامد فاترة للغاية:


-ده مش عشانك، ده عشان ولادي يبقالهم أب، وميبقوش قدام المجتمع ولاد حرام.


كانت الأوراق ما هي إلا عقدا للزواج ونسخا له، والذي ضاعف من غرابتها أنها كانت مكتملة البيانات، لم يكن ينقصها سوى إمضتها، شعرت بارتجافة دبت في كامل جسدها، وللغرابة لم تتأثر بقساوة عبارته، والتي توحي إلى عدم إقباله إلى الزواج بها لأجلها هي، بعد كل ما قدمته لأجله، وتحملته من أجله، ولكنه من أجل طفليه، الذي كان معترضا عليهما، ورافصا الإعتراف بهما، وكونه قد تقبلهما حقا، وقام بما لم تكن تتوقع أن يقوم به، وهو الزواج بها، لأجل أن ينشآ بوجود والدٍ ينتسبان إليه، جعل دفقة من السعادة تنتشر في سائر خلاياها الحسية.


أمسكت بالقلم بيد ترتعش، تأثرا من الموقف المحيط، والذي بدد مخاوفها، وأبدلها براحة عمت روحها، فقد تخلصت من كل تلك الأفكار، التي كانت تدور في رأسها، حول القادم من حياتها، وحياة رضيعيها، بالأخص بدون أبٍ لهما، أو من يحمل معها مسئوليتهما، التي لم تكن لتستطيع تحملها بمفردها، أو لما كان سيتعرضان له من نظرة تحمل الحقارة لشخصهما، كونهما آتيين من علاقة محرمة، ناهيك عن التنمر التي كان سيلقيانه من الكثير، بالأخص من الأطفال بذات عمرهم، وما كانت ستلقاه هي من هجوم وازدراء من الجميع.


انتهت من الإمضاء، ثم وضعت إبهامها على البصَّامة؛ الذي أخرجها من جيبه توا، وضغطت به في المواضع الذي أشار عليها في الورق، أخذ آخر ورقة من يدها بعدما أتمت ما طُلب منها، حتى يكون قد أُتِم بنود العقد كاملةً، لامحا سحابة العبرات التي غامت خلفها حدقتيها، وبدون اكتراث كالعادة -أو إذا صح القول هذا ما يقنع ذاته به- بدأ في التحرك من أمامها، أوقفه عن المتابعة، صوتها عندما صدح منادية عليه:


-عاصم.


استدار لها من جديد، وحدجها بنظرته الثابتة على وجهها الذي يظهر عليه الإضطراب المبرر بالنسبة إليه، ولكن ما لم يكن مبرر لديه توترها وهي تحيد بعينيها عنه، وقبلما ينفذ صبره من عدم تحدثها، طلبت منه بشيء من التوسل:


-ممكن تسمي واحد فيهم رائف؟


تفشت أمارات الغرابة في وجهه، ورمش بأهدابه وهو يتفرس في ملامحها، كأنه يفتش عن سبب رغبتها في تسمية أحد الرضيعين بذلك الاسم بالتحديد، والذي تساءل عنه بصوت متعجب بعض الشيء:


-اشمعنى الاسم ده!


رفعت يدها ووضعت بعض خصلاتها خلف أذنها، وهي تجيبه بنوع من التغطية على السبب الرئيسي:


-حابة الاسم.


لم يقتنع بردها، إلا أنه لم يكن بالأمر الجلل ليعلق عليه، وهز رأسه هزة بسيطة معبرة عن موافقته على طلبها، والتفت مغادرا، بينما هي قد ارتسم فوق قسماتها تعبيرات الراحة، ولأول مرة تشعر بسكينة تغلغلت كيانها، بعد كل ما عايشته الفترة السابقة. كان السبب في ذكرها ذلك الاسم، هو رأفة الله ورحمته بها التي تغمدتها، بعدما قد فقدت الأمل في إصلاح الوضع الحالي، والذي كان سيؤول بها إلى العيش مطرقة الرأس بين الجميع، مع الشعور بالتدني والرخص الذي كان سيستبد بها ويهلك روحها.



❈-❈-❈



انتظر للحيظات معدودات بجوار السيارة، بالقرب من الجهة الذي ستترجل منها "داليا"، بمساعدة إحدى الممرضتين اللتين أتيتا معها للإعتناء بها وبالرضيعين، استحث نفسه على التظاهر بالتريث والهدوء، على الرغم من أن كل ما به ينتفض ويرتجف، وكأن هناك رعدات تنبجس في جسده، كلما يتخيل أنه أضحى أبا لولدين، مسئولين منه، ومطالب أن يمدهم بالعطف والحنان، المفتقر هو له، ولم يحظى به إلا من والدته، ولكن مخزونه من تلك المشاعر قد نفذ وانمحق، وربما لم يتواجد بداخله، كما هو الحال مع والده، فما هو متراءٍ للجميع أنه نسخته المصورة، وقد اقتنع هو الآخر بالأمر، وصار يسير على نفس الخطى القميئة خاصته.


زفرة تظهر صبره النافذ، أخرجها وهو يبدأ في السير، وخلفه تسير "داليا" بخطوات متباطئة، متكأة على يد الممرضة، وبجوارهما الممرضة الأخرى الحاملة الرضيعين في الحقيبة المخصصة للرضع، لم يخفَ عنها حالته الواجمة، والمرتبكة قليلا، فهي تستطيع ملاحظة ما يطرأ على محياه، وما يختلجه، وما يحاول موارته عن الأنظار بكل سهولة، حاولت ألا تشغل تفكيرها بما يظهر عليه من تعبيرات طبيعية، كونه أقبل على فعلة كان رافضا أن تتم نهائيا، رآية أن الوضع بينهما إلى الآن هادئا، ولم يحدث شيء يدعو للريبة.


دلف "عاصم" من الباب الداخلي للفيلا، وهن يسيرن من خلفه، ولكن أُرغموا على التوقف عن التحرك، عندما تقدم نحوهم "كمال"، مرتكزا ببصره على ابنه، بعدما أخذ نظرة خاطفة نحو المتواجدات خلفه، وبصوت يتسم بالصلابة استشف من ابنه:


-عملت اللي قولتلك عليه؟


داخليا شعر "عاصم" بالضجر والضيق، فبالرغم مما يتضح لدى والده من تنفيذه لأمره، إلا أنه دائما ما يود أن يستمع لتأكيد منطوق منه، وبهيئة عمل على أن تظهر جامدة رد عليه بثبات:


-أيوه.


اتبع رده التفاتة رأسه نحو الممرضة الحاملة الطفلين، وأشار لها بيده أن تتقدم نحوهما، أتت على الفور إليه، بينما هو أخبر والده بنبرة هادئة وهو يشير إلى طفليه:


-رائف ونائل.


انتقل بنظره بين ووجهيهما مليًا، كأنما يتفحصهما، وهو يقول بما يشبه التعليق:


-ولدين.


أومأ له بوجهه بالإيجاب، وعندما لم يجد منه أي إضافة وابعد نظره عن الطفلين، هم بالتحرك، ولكن أوقفه مجددا قول والده بتلك النبرة الحاملة للأمر وليس الطلب نهائيا:


-عايزك.


التف برأسه إليه، وأخبره على نفس الشاكلة الجامدة على الرغم مما يختلجه من ضيق:


-هطلعهم الأوضة وهنزلك بعدها.


رمقه والده بنظرة تحمل معنى بعينه، وهو يقول بما يشبه الرفض بطريقة مطعمة بالخبث:


-داليا عارفة أوضتك مش محتاجة حد يطلعها، مش كده يا داليا؟


حانت منه التفاتة برأسه نحو "داليا" مع تساؤله، رامقا إياها بنظرته الثابتة، وكأنما فهمت هي قصده اللئيم، وما تحمله عبارته من معنى مبطن حول ترددها إليها في أوقات سابقة، وهزت رأسها في إيجاب، وانسحبت بعدها في صمت بدون أن تنبس بحرف، ورفقتها الممرضتين متوجهات نحو الدرج. كان ذلك تزامنا مع تحرك "كمال" نحو المكتب، واتبعه "عاصم" في كدرٍ، شاعرا بثقل جاثم على صدره، لا يعلم أمن ذلك النقاش الذي هو على شفا البدء فيه، أم من أحداث اليوم كله.


جلس على الكرسي الملحق بالمكتب، وهو يفك أزرار سترته، لكي يجلس في وضعية مريحة، دون أن يشعر بتقييد، انتبه أثناء ذلك لصوت والده، الجالس على كرسي المكتب، وعيناه مرتكزتان عليه، قائلا في جمود مبهم:


-مش معنى إني قولتلك تعترف بعيالك، إني بفرض عليك جوازك من بنت خالتك.


ضم ما بين حاجبيه من عبارته الغير مفهومة، او بمعنى أدق غير مفهوم القصد منها، لاحظ والده بسهولة عدم فقهه للمعنى الضمني مما قاله، وواصل الكلام مخبرا إياه بإيضاح متزايد:


-القصد من كلامي، اني مش بفرض عليك تكمل معاها، انت اكتر واحد عارف هي على إيه، وتقدر تحكم إذا كانت تنفع تبقى زوجة ليك ولا لأ، واللي عايزك تعرفه برضه إني محبتش أمك.


لم يجذب انتباهه غير قوله الأخير، الذي أكد له ظنه المسبق، حول عدم وجود مشاعر داخله لوالدته، لما كان مترائيا له من جمود في معاملته لها، وآخر ما كان ظاهرا له، عدم رؤية أي معلم من معالم الحزن في عينيه وقت علم بنبأ وفاتها، اشتدت تعبيراته، وطغى عليها تعبيرات الحزن، وعقله يستحضر صورتها البائسة، طوال حياتها معه، متذكرا جملتها التي كانت كثيرا ما تخبرها بها، أنه هو ما يهون عليها أحزانها، وما يجيش به صدرها من هموم وأوجاع غير معدودة، بينما لم ينتبه والده لأي مما اختلجه، أو ظهر على ملامحه، تؤثرا مما قال، وأكمل على نفس الوتيرة:


-لكن كملت معاها عشان بتحبني، وكانت صاينة شرفي، حتى بعد ماتحكم عليا بالسجن وفضلت فيه سبع سنين، صبرت ومفكرتش تطلب الطلاق مرة، رغم إنها لو كانت رفعت قضية طلاق كانت المحكمة بمنتهى السهولة هتوافق عليها، ومع ذلك معملتهاش.


اعتداده بنفسه وهو يسترسل تلك الكلمات، جعل "عاصم" يشعر بالغيظ، من عدم رؤيته لأصالة والدته من منظور الوفاء وإنما أوحت كلماته على أنه انجاز قام به، أو انتصار حققه، وبهدوء استحثه من داخله بهيئته الواجمة سأله:


-عايز توصل لإيه من ورا الكلام ده؟


رفع وجهه في علياء، وهو يجيبه في مزيد من الإغترار:


-انا كملت مع امك لسببين عشان حبها ليا، والأهم منه إنها عمرها مخانتني ولا فكرت حتى بنظرة، هل أنت بقي لو حصل معاك نفس اللي حصل معايا، داليا هتستحمل وهتصبر لحد ما تخرج من السجن ومش هتخونك أو هتفكر في غيرك؟


مع تكملة حديثه، أخذت كلماته منحدرا ماكرا، ولكن إلى حد ما وضحت الرؤية لدى "عاصم" من المقدمة، التي رآها أبغض مما يريد أن يرمي إليه بحديثه حول "داليا"، وما أوغر صدره وضعه في مقارنة معه، حول ما إن زُج به في السجن مثله، وراح لسانه في نزق يردد:


-أنا مش هيحصل معايا اللي حصل معاك.


تغاضى عن طريقته الفظة، والواضح السبب فيها، وهو بغضه للسجن، والتطرق إلى الحدث حوله، لذا لم يعقب عليها، واستمر في بخ السموم في أذنه، وهو يعطي له احتمالا آخر جائزا الحدوث:


-افرض سافرت، متأكد إنها هتصون شرفك وبيتك في غيابك؟


تشكل فوق وجهه الحنق، وكأنما في كلماته نوعا من التقليل من نوع آخر، وهو عدم تأكده من تقدير زوجته له، وصون شرفه في غيابه، ورد عليه في استنكار بدون أن يسمح لأعصابه أن تخونه:


-ومتصونوش ليه؟، داليا بتحبني وعمرها مافكرت في واحد غيري.


مط شفتيه وهو يعلق عليه في استخفاف لسببه الضعيف بالنسبة إليه:


-حبها مش كفاية، و ممكن ميكونش صادق، لإنها طايشة ومشاعرها زي ماراحتلك ممكن تروح لغيرك.


بثقة بالغة رد عليها "عاصم" نافيا الأمر:


-مش هيحصل.


ضاق ذرعا من ثقة ابنه المبالغ بها في الأخرى، والتي يرى أنه ما ينبغي عليه أن تكون نظرته لها هكذا، كونها خانت نفسها، وسلمتها له بدون أي رباط رسمي بينهما، حدجه بنظرة حادة، وهو يقول بنبرة مشبعة بالصلابة:


-العلاقة اللي كانت بينكم بتفرض عليك إنك تحط كل الإحتمالات قدام عينك، وواحدة غيرها لو كانت محترمة فعلا مكانتش وافقت عليها.


لم يلقَ رضائه التحدث عنها بتلك الطريقة، وبالأخص أنه معترف أمام نفسه بأنه هو من سحبها للدخول في تلك العلاقة، حتى وإن كان يدعي النقيض أمامها، ظهر الضيق على وجهه، وقال مدافعا عنها في غير هدوء:


-كانت صغيرة ومش فاهمة حاجة، وانا اللي بدأت في العلاقة دي مش هي.


اعتلى وجه والده الإنزعاج من نبرته التي ارتفعت، وضيق نظرته لبواطن الأمور، وتشدق في سخط متهكم:


-وهي دلوقتي كبرت وعقلت!، ماهي كانت لسه مكملة فيها، وانا بصراحة شايف إن واحدة بأخلاقها متصلحش إنها تبقى زوجة ليك ولا حتى أم لولادك.


التطرق إلى الحديث عنها؛ وتحديدا بكلماته التي توحي بكونها ساقطة، أشعرته بالضيق، وأشعلت فتيلة حمئته الذكورية، كما أن كلماته تلك منافية مع ما أمره به ذلك الصباح، وهدر في احتجاج:


-عايزني اعمل ايه؟، مش انت اللي قولتلي اعترف بيهم!، مكانش هينفع اكتبهم باسمي من غير ماتجوزها، عملت اللي طلبته مني، اعمل ايه تاني؟


نظرته التي يناظره بها تخالطها التجهم، الذي انتشر في سائر قسماته، وتحولت لهجته للشدة وهو يخبره:


-عايزك تحذر منها، لانها زي ما سلمتك نفسها من غير ماتخاف من العواقب، بسهولة تسلم نفسها لغيرك.


بدفاع مستميت عنها، وبثقة في حبها المتراءي له، وفي نفسه كونه رجل تخشاه أنثاه وتكن له الوفاء الكامل، علق باندفاع:


-متقدرش.


حدجه بنظرة شاملة، وهدر على نفس النهج الصارم وهو يخاطبه في لهجة آمرة:


-بلاش الثقة الزايدة دي، عشان متوقعش في الآخر على جذور رقبتك.


تلميحه المبطن من كلامه، يظهر رغبته في إنهاء تلك الزيجة، سحب نفسا مطولا مثبطا به ما نهجان أنفاسه، وسأله بصوت مختنق من انفعالات جسده المكبوتة:


-عايزني اطلقها؟


لم يكن ذلك سببه المنشود، فهو في الحقيقة يريدها أن تظل على ذمته، من ناحية تعتني بالرضيعين، ومن ناحية أخرى تلبي له متطلباته الذكورية، لئلا يتجه إلى طريق العاهرات، ذلك الطريق الذي يعلم أنه يسلكه خفيةً، ولكنه وإن كان متواريا عن الأنظار، يجعل حوله عيون مترصدة، لكل شاردة وواردة، والسماح لهم حينها في الخوض في سمعتهم، وهذا ما لا يريده بالتحديد، زفر نفسا بتؤدة، وبصوت اتسم بالحزم هتف به مشددا:


-مقولتلكش طلقها، بس حط في دماغك إنها ممكن تغدر بيك في أي وقت، فبلاش تآمنلها بشكل أعمى، خلي عينك عليها وراقب تحركاتها لو هتفضل على ذمتك.


زم شفتيه وهو يستمع لسيل أوامره، وهو يشعر باختناق، من عدم قدرته على الإعتراض، لعدم رؤيته لها بهذا الشكل الدوني، فهو يستطيع أن يصنف أنواع من يتعامل معهم، ويتعرف على نواياهم من مجرد محادثة واحدة بينهما، ومع ذلك أمتثل له لكي تنتهي ذلك الحديث المستنزف لأعصابه، قائلا في خنوع وصوت خرج على شاكلة هادئة وهو متحفز:


-حاضر، هعمل اللي قولت عليه، عايز مني حاجة تانية؟


عاد بظهره للخلف، ونظر له في إباء وأنفة ممزوجة بعجرفته الغليظة، وهو يسمح له بالإنصراف مرددا؛


-لأ مش عايز، تقدر تخرج.


سار بخطوات متعجلة، كأنما يسابق الزمن لخروجه من الغرفة، وبداخله يشعر باضطرام نيران الغضب، فبقائه قبالة والده، ويتردد على سمعه سيل أوامره وكلماته التي تخوض في أخلاق زوجته، مؤكدا لن ينتج عنه خير، وهو ليس بالشخص الذي يتحكم بأعصابه عند ثورتها، فكان التحرك من أمامه، في ذلك الوقت هو الحل الأسلم له، كما أن اللعب بعقله عن طريق دفع تلك السموم في رأسه، سريع المفعول معه، ودائما ما ينجح والده في ذلك الأمر، وهو لا يريد أن يسمح لتفكيره الشيطاني أن يصور له سيناريوهات حولها، لن يستطع تحمل التفكير فيها من ناحية، ولن تتحمل هي عواقبها من ناحية أخرى.



يُتبع