الفصل السادس - مشاعر مهشمة الجزء الثاني
الفصل السادس
إنعدام الإنسانية؛ لا يتطلب إلا السير خلف شيطان النفس، والإنصياع وراء سموم الفكر، وإخماد صوت الضمير، ولكن أن تُنشط تلك العوامل عن طريق شخص آخر، تصبح أفعال الأول خالية من الشعور بالذنب، الذي ينبض بداخل النفس، عند الإقبال على فعل غير آدمي، أو منزوع منه الرحمة، لما لقاه من تحفيزٍ ثبط الشعور بالندم. لم تحمل أيا من كلمات "كمال" رحمة أو شفقة في ظاهرها، ولا حتى بين طياتها أو باطنها، كانت مشبعة بالدونية والقماءة، ويتوغل كل معنى منها قساوة خالصة، هو بالأصل لا يكترث لأمر "داليا"، ولا حتى لأمر ابنه، فكل ما يضعه في دائرة اهتماماته، هي إطار صورتهم الإجتماعية، والذي لا يريد له أن يتدنس، غير عابئا بأي كان ما تحويه الصور نفسها.
دلف "عاصم" الغرفة بشكل مفاجئ، وهيئته باعثة على الرهبة، سدد لزوجته المتسطحة الفراش، وبجوارها الرضيعين نظرة حاملة كل معالم الغضب، دفعت الريبة بقلبها، وعلى الرغم من أنها كانت نظرة خاطفة أثناء توجهه إلى غرفة الثياب، إلا أنها استطاعت أن تجعل التوتر يأخذ طريقه إلى نفسها، انتبهت من شرودها اللحظي إلى صوت إحدى الممرضتين المجاورة لها، متسائلة باهتمام وهي متحفزة:
-عايزة مننا حاجة نعملهالك قبل ما نروح ننام؟
قبل صعود الآخر ببضع دقائق، كانت قد تحدثت "داليا" مع إحدى الخادمات، لكي يجهزن غرفة لمكوث الممرصتين بها، ريثما ينتهي مهمتهما معها هي ورضيعيها، بوجه شاحب وعينين غائرتين وجهت نظرها إليها، شهقت نفسا مطولا تبعه إجابتها بصوتها الخافت:
-لأ شكرا.
رفت ابتسامة صغيرة منمقة على ثغر الممرضة وهي تتحرك ورفقتها الأخرى، سائرتين نحو الخارج، شيعتهما "داليا" بنظرها الذي سريعا ما حاد عنهما، عندما لمحت قدوم الآخر نحوها، بعدما بدل ثيابه بأخرى بيتية، ازدردت ريقها والتوتر يزداد بداخلها، مع كل خطوة يتخذها نحوها، أخفضت نظرها عنه نحو أحد الرضيعين الذي تململ في نومته، وبدأ يئن معلنا عن شروعه في البكاء، وكأنما كان وسيلة إنقاذ لها، تواري عن طريق إنشغالها به ربكتها، وتحافظ على ثباتها المزعوم.
توقف هو عند جانب الفراش، التقط من فوق الكومود المجاور له، قنينة الماء الباردة، لم يضع بعضا منها في الكوب، بل رفعها على فمها يتجرع منها مباشرة، لا يدري هل لظمائه، أم رغبةً منه في إطفاء تلك النيران المشتعلة في صدره، انتهى من الشراب منها، وأعادها موضعها وأنفاسه الساخنة تغادر أنفه، تجعله يشعر بالحرارة الكائنة بداخله تنبعث من وجهه، أحداث اليوم جميعها، لم يكن ينقصها ما أخبره به والده منذ دقائق منصرمة، لتجعله يجزم أنه اليوم الأسوأ على الإطلاق، حانت منه التفاتة نحوها وهي ترضع الطفل الأشقر، والذي أسماه ب"نائل"، نظراته ثبتت عليه، وقلبه يخفق مع حركة فمه الظاهرة بالكاد، والمتوالية مع تتابع رضعه من نهدها.
حاول ألا ينساق خلف شعوره المتأثر بهيئته، شيء بداخله يرفض أن يظهر الجانب الحساس به، وكأنما يود محقه ومحو آثاره، وإبداله بجموده المعتاد، وارتداء قناع الصرامة وعدم الآكتراث، لم يركز بصره نحو الآخر الغافي بجانب والدته، وارتفع بنظره إليها مرة أخرى، بغير تمعن لاحظ إعيائها، بل وقدرتها المسلوبة في الجلوس بطريقة مستقيمة، مستندة بظهرها على عارضة الفراش خلفها، تنفس مطولا وهو يشعر بضجيج الأفكار في رأسه، منع ذهنه أن يفكر فيما يجوس به عما تحدث فيه والده حيالها، لئلا يزداد الأمر سوءً بداخل رأسه؛ المرهقة من كل ما حدث خلال يومه العصيب، انتبه أثناء ذلك إلى إنتهاءها من إرضاع طفلهما، وأخبرته بنبرتها المهزوزة وهي تغلق الأزرار العلوية لبلوزتها:
-هنيمهم جنبي، عشان هيصحوا تاتي يرضعوا، لو مش هتعرف تنام وهما هنا، هاخدهم واروح اوضه تانية و..
لمح ربكتها وتخوفها من غضبه عليها من بقائهما بالغرفة، ولكن رأسه لن تتحمل أصوات أخرى، خاصة وأن الطفل الآخر بدأ في البكاء، لم يدعها تنتهي من كلماتها وقاطعها بجمود وصبر نافذ:
-خلاص.
كفت عن المتابعة، وحدقت بوجهه بقليل من الجزع، وقد انتابها القلق من كلمته التي قذفها في وجهها، واستدار مغادرا الغرفة على فورها، فهي لم ترتح لهيئته منذ ولوجه بالأساس، وخامرها ظنا حيال مطالبة والده التحدث إليه، أنه لربما لم يتقبل وجودها، ولذلك السبب طالب بالإنفراد به، خاصة وأنه لم يكن على علمٍ بشأن علاقتهما، وبحملها منه، تخوفت من أن يطلب منه إنهاء زيجتهما، وهي التي قد استكانت، هدأت، وتبددت مخاوفها من زواجه بها، وبالإعتراف بالطفلين، لن تصبح خاسرة كليا إذا أقبل على أمر الطلاق، فحينها لن يصاحبها هي أو الطفلين أي خزي أو حرج، ولكنها ستفقد وجوده رفقتها، مما سيجعلها تعيسة ومجروحة القلب.
❈-❈-❈
تنهدت بعمق بعد أن انتهت من رضاعة الاثنين؛ وخلدا كل منهما إلى النوم، شعرت بإن القليل من الهدوء قد حل بها، بعد مضي ما يقارب الساعة من محاولة التحكم ببكائهما، بجانب ما تشعر به من تعب كامن في الكثير من المواضع في جسدها، كانت قسمات وجهها تنم عن الضيق والإنزعاج، الذي شعرت به فور مغادرته الغرفة، وتركها بمفردها، فهي كانت تود أن تشاطره شعور السعادة من مجيء طفليهما، وتحقق أمنيتها بأن تصبح أمًا، بعدما ظنت أنها أمنية مستحيلة، لرفضه القاطع في ذلك، وإجبارها على إجهاض ما تحمله منه في رحمها.
أدركت من غيابه بالخارج الذي طال، أنه لن يعود إلى الغرفة، شعرت بالإحباط الذي تسلل لوجدانها، حتى طغى البؤس على أمارات وجهها، تدرك إنه أُجبر على زواجه بها، لأجل الإعتراف بابنيه كما أخبرها، ولكنها كانت بحاجة إلى وجوده معها، خاصة بعدما مرت بآلام الولادة، التي كانت تتطلب بعدها خلوة دافئة معه، تتناسى بها ما جابهته من ضغوطات وأوجاع، وتزيح هموم الشهور المنقضية.
عينيها التعيستين ووجهها الباهت، بعيدين كل البعد عن السعادة والسرور اللذين كانا ينبغي أن يظهرا عليها، أراحت رأسها للخلف، وراحت تعيد في ذهنها ماضيها معه، كان يختلف كثيرا عن الحاضر، كانت لهفته نحوها ظاهرة، ورغبته بها طاغية عليه، على عكس الحين، هي من تفرض نفسها عليه، وتركض خلفه باستمرار، ولكنه من جعلها تعتاد على وجوده في محيطها، والإنغماس معه داخل ممارساته الحميمية التي لا تنتهي، فلقد كان يجذبها إليه بسهولة، ويستميل قلبها وكل ما بها للرضوخ لما يريد.
بعدما فرغت من استذكار دروسها، شعرت بالصداع بدأ بالتفشي في رأسها، قررت أن تنزل إلى أسفل لتعد القهوة لها، لكي تخفف من حدة الوجع قليلا، وتحرك أيضا جسدها، الذي تخدر وخمل من جلستها التي استمرت عليها لساعتين متواصلتين، تثاءبت في إرهاق وهي تقف أمام الطاولة الخاصة بإعداد القهوة في المطبخ، مدت يدها لتمسك بعلبة البن، ولكن حال دون متابعتها محاوطة ذراعين لجسدها من الخلف، جعلها تشهق بفزع سريعا ما خبا، عندما استمعت لصوته الخفيض في أذنها:
-ششش.
استعادت اتزانها عندما تداركت وجوده، واطمأنت عندما تسلل صوته لأذنها، ودفء جسده المحاوط والملاصق لها ينتقل لجسدها، ولكنها توترت من أنفاسه التي ترتطم بوجنتها نزولا إلى رقبتها وهو يتساءل بجانب أذنها بصوته الرخيم:
-بتعملي إيه؟
تنفست الصعداء وهي تلتف له، مواجهة نظراته المتفرسة لها بابتسامة رقيقة ناعمة مرتسمة فوق شفتيها رغم شعورها بالتوتر الذي ما يزال يداهمها، ثم أجابته بصوت خفيض، لكيلا يستمع لهما أيا من المتواجدين بالخارج، على وجه الخصوص خالتها أو زوجها:
-بعمل قهوة، صدعت شوية من المذاكرة.
تراقصت طيف ابتسامة على ثغره، ومال ناحيتها أكثر وهو يقول في عبثية بنبرته الهامسة:
-تعالي معايا وأنا هخلي الصداع يروح في ثواني.
كانت يداه تتحسسان مفاتنها أثناء تفوهه بتلك الكلمات، مما جعلها تفطن معناها الضمني سريعا، وهذا بالتحديد ما جعل سحنتها تنقلب، وعقدت حاجبيها وهي تتذرع متحججة لئلا ينتهي بها المطاف منصاعة لحدوث ما يريده هو:
-عاصم.. أنا خايفة، بلاش عشان خاطري اللي بنعمله ده، طنط نيرة لو عرفت هتزعل مني و...
تدارك بسهولة تحججها، متراءيا له رغبتها المعدومة فيما يدور بينهما، إلا أن ذلك لم يرجيه عن فعل ما تحفز بداخله لأجله، وقاطع تحدثها بجمود وتصميم:
-محدش هيعرفها.
تلبكت من رده المعبر عن عدم تراجعه، ورمشت بأهدابها وهي تستطرد مطنبة في تعذرها:
-أنا خايفة تسمعنا أو تشوفني وأنا عندك.
رفع أحد حاجبيه وهو يحرك وجهه، قائلا في عدم اقتناع لعذرها الواهي:
-وهي إيه هيجيبها عند أوضتي!
كان من الصعب عليها الإفلات من بين قبضتيه، ولكنها علقت بصيغة تساؤلية مواصلة المحاولة في إثنائه عن الأمر:
-أفرض جت؟
أبعد يديه عن جسدها في صورة مفاجئة، واشتدت تعبيراته من مراوغتها، ومماطلتها الغير مستحبة، والمعبرة عن عدم رغبتها التي لا تصرح بها صراحة، وأخبرها في غير رضاءٍ وحنقٍ جليٍ للغاية:
-أنا مبحبش لعب العيال، لو رجعتي في كلامك ومش عايزه نبقى مع بعض قولي.
ظهر التلبك على محياها، رطبت شفتيها وهي تشعر برجفة سرت بكامل جسدها من تجهمه المباغت، وقالت له بتلجلج:
-لأ انا عايزه، بس...
لم تستطع اختلاق عذر مقنع، بل لم تستطع تلك المرة النبس ببنت شفتة، فقد أُلجم لسانها عن التفوه بحرف زائد، بينما نظر إليها هو بغموض، وهو يخبرها بفتور:
-خلاص يا داليا براحتك.
تحركت قدميه مبتعدا عنها، دب الخوف في قلبها مما ظهر على محياه، من وجوم يوحي بانزعاجه من تحججها، وتركه لها بتلك الطريقة الفاترة، وسارعت في الإمساك بساعده، رمقته بعينين متسعتين قليلٍ وهي تتساءل:
-رايح فين؟
زفر نفسا يحمل الضيق، وبجمود ودون حتى أن ينظر إليها رد موجوزا:
-طالع أنام.
ضمت ما بين حاجبيها بضيق من رده الموجز، وهتفت في استنكار مشبع بالريبة:
-هتنام بدري أوي كده!
حدجها بنظرة حادة قبلما يسحب ساعده من قبضتها، ورد عليها بإسلوب صارم جافٍ:
-ميخصكيش.
كادت تتحدث مرة أخرى، بأي شيء تصلح عن طريقه ما أفسدته بخوفها البالغ من علاقتهما المتجاوزة كل الحدود، والتي لم تكن تريد لها من البداية أن تتطرق لذلك الحد، ولكنه لم يدع لها المجال، حيث إنه استدار على الفور سائرا إلى الخارج، بقت هي لبعض الوقت واقفة موضعها، بكتفين متهدلين، ووجه عابس، تخشى من ردة فعله تجاه رفضها الواضح لما أراده، وأن يتسبب ذلك في ابتعاده عنها، سحبت نفسا مطولا وزفرته على مهلٍ لعدة مرات، محاولة بث الشجاعة بداخلها، وتثبيط توترها، وتوجهت خلفه، فهي لن تدعه يخلد إلى النوم بدون أن تراضيه عما بدر منها، لئلا يتأزم الموقف ويظل على أسلوبه الفاتر هذا معها كثيرا.
صعدت إليه الحجرة، وبعد تردد هائل دقت على الباب مرتين، لم تمر سوى ثوانٍ تُعد وانفتح الباب، لم ترى تعبيرات وجهه، لاستدارته الفورية بعد فتحه للباب، وكأنه كان على علم مسبق بمجيئها إليه، طغى على وجهها البؤس وهي تدلف، بينما ذهب هو للجلوس على طرف الفراش، ووجدته متحاشيا النظر إليها عمدا، ضمت شفتيها تأهبا للبدء في التكلم، وبصوت بدا حزينا سألته:
-يعني انت زعلان مني؟
لاذ بالسكوت، واكتفى بزفرة حملت سأما من ثرثرتها التي جعلته يضيق ذرعا، أما هي طالعته بنظراتها الضائقة -من عدم رده على تساؤلها- وهي تقول بحذر:
-يا عاصم أنا..
حال دون متابعتها تشنج جسده المباغت وهو يلوح بذراعيه في الهواء، وبصوت محتدم محتقن مطعم بالضجر أخبرها:
-داليا أنا مش عايز كلام كتير، انا جاي من الشغل مصدع، وكنت عايز اسهر معاكي اضيع تعب اليوم شوية، وانتي اتحججتي عشان مش عايزه، فمتجيش توجعي دماغي أكتر بكلام فارغ لاني مش فايق لشغل العيال ده.
تفاجأت من عصبيته المبالغ فيها، ورمقته في جزع وهي تقول بحزن ساد في صوتها:
-انت شايف حبي ليك شغل عيال؟
سلط عليها نظراته التي تفاقمت حدتها، وهو يجيبها بشيء من الغموض:
-كنت فاكره بجد، واتعاملت على اساس كده، بس الظاهر كنت غلطان.
اعترى صوتها الغرابة الممزوجة بعدم الفهم لما تفوه به وهي تردد:
-كنت غلطان!، كنت غلطان ازاي يعني؟
نهض عن الفراش وتخطاها بخطوتين متوقفا قبالتها، معطيا لها ظهره، وضع يديه في جيبي بنطاله، وأجابها على نفس الشاكلة الجامدة ولكنها تحمل تلك المرة التهديد بين طياتها:
-كنت غلطان اني قربت منك، وعلى العموم هصلح غلطي ده عشان متفضليش خايفة إن ماما تعرف، وتتحججي بأعذار ملهاش لازمة.
لم يكد ينتهي حتى ردت عليها سريعا محتجة على قوله الأخير:
-بس أنا مش بتحجج.
حرك وجهه للجانبين وهو يتنهد بصبر نافذ، ثم مال برأسه نحو كتفه وأخبرها بحنق وهو مايزال موجها لها ظهره:
-داليا أنا دماغي وجعاني بجد ومش طايق صوت، فكفاية كلام بقى، ويستحسن تروحي أوضتك تكملي مذاكرة.
ازداد عبوس وجهها من طريقته الفظة، طرقت برأسها لأسفل في حزن جم وهي تتساءل:
-طب معنى كلامك ده إنك هتبعد عني؟
وصل إلى أوج غيظه من تساؤلها، وكأنما هي التي لم ترفض تودده لها بالأسفل، واستدار ليواجهها هاتفا باستهجان منزعج:
-مش انتي اللي عايزه كده.
تلبد وجهها بكل معالم اللوعة الناجمة من شدة الجوى؛ وهي تنفي بلهوجة ظنه حول ذلك الشأن:
-لأ مش عايزه كده، أنا عايزه أفضل معاك.
رمقها بنظرات تشع ضيق صِرف؛ وهو يقول بنبرة كسَر فيها من حدته ولكنها مليئة بالحزم:
-أنا مش عيل صغير معاكي، لو مش قد كلمتك احنا فيها.
دنت منه وامسكت بإحدى يديه، وغمغت بصوت يحمل التوسل وهي تنظر بداخل عينيه بنظراتها الهائمة والمتخوفة بنفس الآن:
-قدها يا عاصم والله، أنا بحبك ومش عايزه ابعد عنك، عشان خاطري خليك معايا.
لانت ملامحه بعض الشيء، وبنظرات ثُبِتت على شفتيها، تساءل بتأكد مما اتضح له من خنوع كامل له:
-يعني مش هسمع كلامك الاهبل ده تاني؟
كشف صوتها المتلهف عن إذعانها البالغ له وهي تردف في طاعة:
-مش هتسمعه تاني وعد، بس قصاد كده توعدني ان انت كمان متقولش إنك هتسيبني تاني.
تراقص العبث في عينيه وهو يرمقها بتلك النظرة الشاملة، قبل أن يرد في طمأنة لها ولكنها مليئة بالمكر من ناحيته:
-من الناحية دي متقلقيش.
اختتم الأخير من كلماته بانحناءة جسده نحوها، وأخذ شفتيها في قبلة عميقة إلى أبعد حد، محاوطا بذراعيه جسدها بقوة، وكأنه بطريقته تلك يثبت لنفسه قبلها تملكه لها، وتحكمه بكينونتها الأنثوية، وبالطبع هذا ما كان يحدث من دون شك، وتصرح به كل ما كان يصدر منها من تآوهات مستسلمة، لما كان يبثه بمهارة ومكر في سائر خلاياها الحسية، والتي كانت تتوق مرة بعد أخرى للعزف على أوتارها، متغافلة بشكل تام عن استغلاله المحض لها، وفداحة ما تقترفه هي بغير وعيٍ لتبعاته الشنيعة.
فتحت عينيها عندما استمعت لطرق على باب الغرفة، وعلى ما يبدو أنها قد غفيت وهي تستعرض في ذهنها بعضا من أحداث الماضي، رفعت جسدها قليلا لأعلى، باذلة جهدا عارما في تلك الحركة البسيطة، راجعا ذلك إلى كثرة تألمها، تنهدت بثقل قبل أن تهتف بنبرة مرتفعة بعض الشيء:
-ادخل
على فور نطقها وسماحها لمن بالخارج بالولوج، حتى أُدير مقبض الباب، وتبعه دلوف إحدى العاملات، حاملةً بين يديها صينية موضوع عليها طعام، وكان آتيا من خلفها فتاتين أخرتين تحملان سريرا صغيرا، وبدون تفكير فطنت أنه لرضيعيها، سريعا ما حلت الدهشة الممزوحة بالغبطة على وجهها، وارتسمت ابتسامة فوق ثغرها، وهي تسأل العاملة المتوجهة نحوها بالطعام:
-مين اللي جاب السرير ده؟
أجابتها العاملة بصوت هادئ وهي تضع الطعام فوق الطاولة المتوسطة الغرفة:
-عاصم بيه؟
قطبت جبينها بمزيد من الدهشة، ولكنها سعدت لتفكيره في جلبه له، فهذا يوضح اهتمامه بشئون طفليه، تابعت بنظراتها العاملة وهي تأتي بطاولة الفراش، والتي عادة ما يستخدمها "عاصم" أثناء عمله على الحاسوب وهو جالسا على السرير، ووضعتها أمامها، سألتها "داليا" أثناء ذلك باستغراب طفيف:
-هي الساعة كام دلوقتي، وفين عاصم؟
وجهت العاملة نظرها لها، وعلى محياها ابتسامة منمقة وهي تجيبها باحترام:
-الساعة سبعة وربع، وعاصم بيه خرج من حوالي عشر دقايق، وبلغني قبلها اطلعلك الفطار الأوضة.
التفت بعدها متوجهة نحو الطاولة الموضوع فوقها الصينية، بينما زاغت "داليا" بنظرها وهي متعجبة من نومها لكل تلك الساعات دون أن تشعر، حتى أن الطفلين لم يستيقظا من نومها هما الآخرين، خفضت نظرها نحوهما لتتفقدهما، وخلال ذلك كانت العاملة انتهت من وضعها للصينية فوق الطاولة المقابلة لها، واستمعت إلى تساؤلها المتريث:
-تؤمريني بحاحة تانيه يا داليا هانم؟
رفعت نظرها إليها وهي تومئ لها بالنفي، وما كادت تلتف مغادرة الغرف، حتى هتفت "داليا" منادية باسمها:
-سعاد.
توقفت عن السير واستدارت لها متسائلة باهتمام:
-ايوه يا هانم؟
رفعت يدها تعيد خصلات شعرها للخلف وهي تستفسر منها:
-متعرفيش عاصم نام فين امبارح؟
سريعا ما جاوبتها "سعاد" بأسلوب مطعم بالتصقيل:
-عاصم بيه نام في الأوضة اللي كانت بتاعة حضرتك قبل ما تمشي من هنا.
لم يشكل فارقا عندها الغرفة الذي بقى بها، كما شغلها تأكدها من عدم خروجه ليلا، كما يفعل في العادة، قاضيا سهرته حينئذ في الحانات، التي تجمعه بالساقطات وفتايات الليل، اللاتي يتهافتن عليه، كما لو كُنّ ينقصهن رجالا، ولكنها لم تفكر في تلك النقطة لكثير من الوقت، فقد اشتد شعورها بالألم، والذي يلزمه دواءً مسكنا في الحال لزواله، وبإعياء ظاهرٍ أخبرتها:
-طيب، ممكن تخلي واحدة من الممرضتين تجيلي عشان حاسة إني تعبانة شوية.
هزت رأسها في إيماءة خفيفة، قائلة في انصياع وتأدب قبلما تغادر الغرفة، تاركة الأخرى على وجهها كل أمارات التوجع:
-حاضر، عن إذنك حضرتك.
❈-❈-❈
البقاء بعيدا عن محيط البيت في الوقت الحالي، بالنسبة إليه ما هي إلا وسيلة هروب من كل ما يخامر نفسه، وما يتصارع داخل فكره، وروحه هي التي لا تنفك تتأذى بين كل ذلك. التهى عن ما يناقشه فيه "كرم"، بتفكيره الذي شرد، رغما عنه أعاد في ذهنه ما قاله والده البارحة، لم يكن بالشخص الذي يفوت كلمة تقع على مسامعه دون تحليل، ولكن مجرد التفكير فقط في أي مما قاله؛ يجعل زوبعة بل إعصار من الأفكار البغيضة تداهمه دون هواد.
لا يدري لمَ يصعب عليه سلوك كل طريق يتخذ خطوة فيه، ويجعله يضمحل ويتقهقر عن قرارته، وتتزعزع ثقته بنفسه بشكل مضاعف، حتى وقتما قرر أن ينتقم له من عائلة "الكيلاني"، وحينها كان الأولى أن يطالب بالإنتقام من "هشام"، كونه هو من تسبب في الزج به السجن، إلا أنه طالب حينذاك بأخذ حقه ممن كان صديقا له، من "مجد" ابنه، حتى إنه لم يتركه ينتقم منه على طريقته، بل أراد أن تكون على طريقته هو، وكأنه بشتى الطرق يحاول أن يجعله مثيلا له عن جدارة.
تنفس الهواء بعمق وهو ينظر إلى والده، الذي ينفث دخان سيجارته بتريث، بعدما طلب منه ما كان متأكدا من مطالبته به فور خروجه من أعتاب السجن، وهو الإنتقام له عن تلك السنوات التي قضاه بين جدران السجن المقيتة، وبوجه لا يعلوه غير العزيمة والكراهية علق "عاصم" على ما قاله بجمود:
-لو عايزني أخسره في شغله وأضيعله كل اللي فضل سنين يبني فيه، أنا عندي طرقي ومش هتاخد مني مجهود وأخليهم ير...
نفض رماد سيجارته الكوبي من المنفضة، وحدجه بنظراته التي يندلع منها العدائية وهو يحول دون متابعته قائلا بغير استحسان:
-مش هستفاد حاجة بخسارتهم، أنا عايز حقي يرجعلي بنفس الطريقة اللي دخلت بيها السجن.
تلك الطريقة الذي يشير إليها في حديثه، هو التلاعب في نسب الأدوية المصنعة في شركاته، وحينها ستصبح سموما قاتلة، تودي بحياة من يتناولها، وسيكون عقابه آنذاك السجن جزاءً لإزهاقه الأرواح، كما كانت تهمته هو، ولكن الفارق الوحيد هنا، إنه كان يتاجر بتلك السموم بمحض إرادته، وليس بتهمة ملفقة كما يريد أن يوقع بها الآخر، تعقدت ملامح "عاصم" من طلبه الغير متوقع، والمستحيل الحدوث من وجهة نظره، وراح ينطق بنزق دون أن ينتبه لزلة لسانه مرددا:
-صعب يا بابا، مجد عنده ضمير في شغله و..
برزت عيني "كمال" في محجريهما بطريقة توحي على غضبٍ على شفا الإندلاع، وقاطع تكملة عبارته ناطقا باسمه بطريقه محذرة:
-عاصم.
تدارك ما قاله بغير تفكير وبصورة هوجاء، وما كانت تحمل كلماته من إهانة صريحة لوالده، طرق بنظره لأسفل بأسف وهو يقول موضحا قصده مما تفوه به:
-مقصدش، انا بس كان قصدي أقولك أنه بيباشر بنفسه مراحل تصنيع الأدوية، وليه مساعدين في المصانع بيبلغوه كل كبيرة وصغيرة، غير قسم الرقابة اللي مانعين أي نوع من أنواع الغش أو حتى سامحين بوجود الأخطاء المحتملة، فصعب إن يبقى في مشكلة من أي نوع من الناحية دي.
ناظره "كمال" بعنجهية مميتة مخالطة بالحنق مما مترائيا له من عدم مقدرة ابنه على إنجاز ما طالبه به، وبإزدراء واضح قال له:
-كل اللي قولته ده ميفرقش معايا، ده اللي انا عايزه يا عاصم، ولو عايز تجيبلي حقي فعلا، فانا عايزه بالطريقة دي، مش هيحرق قلب هشام غير مجد، وزي ماترميت بسببه في السجن سبع سنين، عايزه يتسجن ضعفهم.
شعر "عاصم" بإنه يضيق عليه الخناق، ولكنه يعلم أيضا أنه من الصغب تنفيذ ذلك، بل مستبعد بشكل صِرف، لذا حاول ردعه عن تلك الفكرة قائلا:
-بس يا بابا..
زفر أنفاسا ضائقة من مماطلته، ومنعه من إضافة المزيد، هادرا فيه بصرامة وحزم مليئين بالحقد المترسخ كامل وجدانه:
-مش عايز كتر كلام وحجج ملهاش لازمة، لو عايز فعلا تثبت وقوفك جنبي، زي ما مجد عمل المستحيل عشان ابوه ورجع اسمه في السوق من تاني بعدما ما شركاتهم وقعت ةأعلنوا افلاسهم، يبقى اللي قولت عليه يتنفذ، ده لو فعلا عايز تثبتلي إنك احسن منه وواقف في ضهري زي ماهو واقف في ضهر أبوه.
لم يجد مجالا أمامه للرفض أو إخباره بتعذره عن فعل الأمر، خاصة مع نظرة التقليل التي تطوف بعينه تجاهه، أراد أن يثبت نفسه ولا يحقر من شخصه مقارنة بالآخر، هز رأسه بإيماءة خفيفة بموافقة وإذعان رادفا برضوخ:
-حاضر يا بابا، هعمل اللي طلبته مني.
يُتبع