الفصل السابع - مشاعر مهشمة (الجزء الثاني)
الفصل السابع
الذكريات المريرة، والتي هي السبب في كثير من الأعباء التي وضعت فوق عاتقك، ونجم عنها عدد مهول من المصائب التي ما تزال تبعاتها تعكر صفو حياتك، يكون من المرهق والمهلك لكل خلية من خلايا العقل إعادة التفكير بها، يكفي شعور الإختناق الذي يهاجم صدرك دون هوادة، فوحده يكون كفيلا بجعلك ترغب في تدمير كل ما يقابل يديك، تفريغا للشحنات العصبية المكبوتة بداخلك، إلا أن تماسكك المزعوم يحول دون ذلك، وعندما يتملك منك شعور القهرة والإنكسار يحارب بضراوة هطول العبرات العالقة في طرفيك، محافظا على هيئة صلبة ثابتة، تتناقض مع انفعالاتك العصبية المخفية عن العيان، والتي لا تظهر غير قسرا، ولا يحدث ذلك حتى إلا بعد العديد من المواقف الصادمة التي تجابهها، والتي تتطلب منك استنزاف المزيد من طاقتك المستهلَكة للتحكم في جذوة إنفعالاتك، لاستمرارية الظهور في ذلك الإطار المهندم والهيئة المتسمة بالرزانة والثبات.
رفرف "عاصم" بأهدابه؛ في صورة توضح استفاقته من حالة الشرود التي تملكت منه للتو، وتفكيره الذي انشغل في كلمات تفوه بها والده منذ سنوات وما يزال يتردد صداها في رأسه، وذلك عندما اقتحم انتباهه وسمعه صوت "كرم" وهو يهتف باسمه مطولا النطق به:
-عاصم، عااصم.
تنبهت مداركه أخيرا لندائه وسلط نظراته -التي ما يزال يعلوها السَّهْم- نحو موضع جلوسه على إحدى الكرسيين الملحقين بمكتبه، طالعه بنظرة مستفهمة حول ما يوده "كرم"، والذي بادر على فوره بالتساؤل بنبرة مهتمة تحمل غرابة واضحة:
-إيه روحت فين!، بكلمك من ساعتها مبتردش.
تنحنح بخفة جاليا بصوته وهو يعتدل قليلا في جلسته التي كانت شبة متراخية، وأجابه بصوت فاتر ووجه جامد التعبيرات مواريا بمهارة فائقة ما يختلج نفسه:
-مفيش سرحت شوية.
تراءى للآخر الإرهاق الواضح على "عاصم"، وبدون تفكير راح لسانه يتكلم بودادة وهو يغلق الحاسوب المحمول خاصته:
-طب خلاص دلوقتي، لإن شكلك مش مظبط خالص، نبقى نراجع بنود العقد مع بعض وقت تاني.
كانت رأس "عاصم" تعج بالكثير من الأصوات المتداخلة، لذا رأى أن ما قاله عرض مغري سريعا ما وافق عليه بإيماءة متريثة من رأسه، عقبها نهوض "كرم" عن كرسيه، وقبلما يطء بقدمه خطوة مغادرة عاود النظر إليه وابتسامة صغيرة مزينة ثغره تبعها قوله بلطافة:
-صحيح، عرفت إنك خلفت، ألف مبروك.
لم يكن ببال رائق للإستفسار عن كيفية علمه بذلك الشأن؛ وهو لم يخبر أحدا بعد، وعلى الرغم من استرعاء ذلك لانتباهه، ولكنه أرجأ تساؤله عن الأمر لوقت لاحق، واكتفى بمبادلته المباركة بابتسامة ظاهر اصطناعها وهو يرد عليه:
-الله يبارك فيك.
كان قد انتهى "كرم" من جمع متعلقاته والأوراق التي كانت متناثرة فوق سطح المكتب، شيعه بنظرة أخيرة وهو محافظ على ابتسامة تكاد تكون ظاهرة، وبقليل من العملية أخبره وهو متحفز لترك الغرفة:
-تمام، هروح أنا على مكتبي، وابقى بلغني بالوقت اللي هنكمل فيه مراجعة للعقود عشان أبقى عامل حسابي.
حرك وجهه في إيماءة موافقة وظل وجهه على ثباته حتى غادر الآخر، وعلى فور غلقه لباب المكتب ورائه؛ حتى ظهر ما كان متواريا عن الأنظار، اختناق صدره تشكلت أماراته على وجهه، وهو يزفر أنفاسه الساخنة مع امتداد إحدى يديه لفك رابطة عنقه، في خلال جزء من الثانية حل بوجهه الضيق المخالط بغضب يتآكل أكلا بأعصابه، وبلحظة انتقل كل الحقد بداخله، والذي هو نتيجة الحدث الجلل الذي جعل منه أبا لولدين، دفع الظنون برأسه من والده تجاه من باتت زوجته، وآخرا من تلك الذكرى المقيتة التي جالت بذهنه دون إرادته، وذكرته بعهده الذي قطعه لوالده بشأن الإنتقام له من عائلة "الكيلاني" وعلى وجه الخصوص من "مجد الكيلاني".
وعلى إتيان ذلك الاسم بفكره اهتاجت أوصاله، وأحس بلهيب نيران الحقد -الذي غرزه والده لأعوام بداخله- تشتعل تجاه من اعتبره يوما ما صديقا له، فهو إلى الآن لم يمرر بداخله ما فعله به وكأن شيئا لم يكن، على الرغم من أنه بمنتهى البراعة أخفى عن والده ما تعرض له على يد "مجد"، بذلك الذكاء الذي ورثه عنه، محى آثاره، وأختلق أحداثا وهمية اقنعه بأنها تمت آنذاك، إلا أنه بأعماقه لم يستطع إخفاء آثار شناعة الموقف، ووطأته على روحه، وشعور بالرغبة في النيل منه -جزاءً لم لقاه على يديه- ينهش به.
ولكنه مقيدٌ بذلك التسجيل الصوتي الذي بحوزته، فقد أضحى كالطوق حول عنقه، إن أقبل على فعلة يقتص بها منه، سيضيقه حول رقبته حتى تمام الإختناق، ذلك الإختناق الذي سيحيط به بين جدران السجن، الذي لن يتوانى "مجد" حينها عن الزج به بداخل وحشته، اشتدت قبضته، وغُرزت أظافره في لحم راحة يده، وذلك النقم يتدفق بداخله بغزارة كتدفق الدماء المهتاجة بعروقه، ولا يدري الحين أي رغبة هي الملحة بداخله، رغبته في الإنتقام لوالده، أم في الإنتقام لنفسه؟، ولكن ماذا هو بفاعل تجاه تلك الموجة الجارفة من الكراهية التي تجتاحه؟
حتى أنها لم تهدأ ولو بجزء قليل بعد بعثه ل"مجد" منذ عدة أيام برسالة تحمل التهديد الصريح والوعيد له، ذلك الوعيد الذي لم يكف عنه منذ سنوات عدة، والذي لن يكف عنه حتى يرى بأم عينيه العذاب متشكلا فوق قسمات وجه "مجد"، وكل ما به يصرخ من وطأة ما سيخلفه في قلبه من جراح مستحيلة الإندمال، كما الحال الذي عليه هو منذ سنوات مضت، تسجيلٌ صوتيٌ سجله بصوت في ظاهره الجمود ولكنه مناوئ تماما لذلك في باطنه، حاول به أن ينفس عما يختلج صدره، إلا أنه لم يأتِ بنتائجه المرجوة وما يزال الوضع بداخله على ما هو عليه.
❈-❈-❈
أثناء جلوسهما فوق الفراش في غرفتهما، وتعبيرات وجهاهما أضحت مغايرة تماما، لما كانت عليه قبل تشغيل ذلك التسجيل الصوتي، الذي اكتشف "مجد" وجوده صدفةً في سجل الرسائل الخاصة به على حسابه الشخصي في إحدى وسائل التواصل الإجتماعي، والذي كان قد فتحه توا ليصدح أكثر صوت ينبذاه مرددا:
-وصلّي خبر خروج ابنك من الحضانه، مع إني كنت أقدر أأذيه وهو فيها بس مرضيتش، اللي حصل لمراتك ورمية ابنك في الحضانة الفترة اللي فاتت، وفرحتك بيه اللي كسرتها بقلقك عليه راضوني أوي الصراحة، بس متفتكرش إنك خلصت مني بالسهولة دي، والمرة الجاية هتبقى بيني وبينك ومش هدخل حد بينا، لإن حقي المرادي عندك أنت لواحدك، وإذا كان التسجيل اللي معاك ليا عشان مقربش من حد من عيلتك، فانا ماعادش يلزمني أقرب من حد فيهم، بس اعرف إنك هتفضل في دماغي يا مجد.
التوى فم "مجد" بابتسامة هازئة، فهو لم يتراجع عن تفكيره المليء بالشرور حتى بعدما أصبح يمتلك ما يدينه، ولم يكتفِ من إيذائه بعد كل ما افتله من مكائد في عمله، إيذاء شقيقته، وحتى بعدما طال إيذائه زوجته وطفله، بسهولة استشعر "مجد" كم الغل المترسخ كيانه من صوته، ويعلم أنه لولا ذلك التسجيل لكان تفكيره الإنتقامي جعله يجهز عليه ليتأكد من إتمام قتله جراءً لما فعله به، حانت منه التفاتة نحو زوجته عندما قبضت على ساعده، ليرى الخوف احتل نظراتها وبنزق راح لسانها يتساءل:
-هو ممكن يقرب من ابني تاني؟
يفهم سببها الوجيه والمبرر في خوفها عليه، ولكن ما تفوه به الآخر في تلك الرسالة لا يوضح أي ضرر محتمل ان يُمس رضيعهما، رمقها بنظرات تحمل الغرابة من تساؤلها وتشدق بنبرة ضائقة بعض الشيء من سماعه لتلك البغاضة:
-هو انتي مسمعتيش اللي قاله يا طيف!
من نظرته الضائقة وعبارته التي تحمل النفي لم تسلل لفكرها، تداركت تسرعها في تساؤلها، حيث إنه لم يدل ما قاله على أنه ينتوي إيذاء "يزيد" مرة أخرى، ولكن انحصار كامل فكرها على رضيعها، وخوفها البالغ عليه متملك من تركيزها، هزت رأسها في إيجاب وردت عليه في صوت يحمل بعض الإبتئاس:
-سمعته، بس خوفي على يزيد مخليني مش مركزة في حاجة خالص.
أراد ألا يؤثر -تراهات الآخر الذي لا ينفك يرسلها له- عليهما، بالأخص أنهما كانا في خلوة خاصة بهما، حملق بها بعينين اصطناع الصدمة بهما، وعلق على ما قالته بصوت خرج على شاكلة متهكمة:
-هو خوفك كله بقى على يزيد بس؟ خلاص معادش في خوف على مجد!
رمقته بنظرة شقية وابتسامة تشكلت على شفتيها وهي تعقب بغرابة مما تفوه به:
-انت هتغير منه ولا إيه؟
رفع إحدى حاجبيه بغير رضاء وأشار بيده على الصغير المستلقي على الفراش بجوار والدته وقال في استنكار يحمل القليل من المرح:
-أنا أغير من البتاع اللي مش باينله لا شكل ولا ملامح ده.
ضحكت "طيف" بمل شدقيها من وصفه للرضيع، حتى أن ضحكتها جلجل صداها في المكان من حولهما، ثم أردفت بغير استحسان بصوت ما يزال يحمل آثار الضحك:
-مش باينله شكل إيه بس حرام عليك، ده كله انت.
طاف ببصره الذي يحمل الغموض على وجه "طيف"، والتي سريعا ما أصبح ذلك الغموض مُنجليا لها عندما استطرد بمكر:
-واضح كده إن تعبي جه بفايدة.
تبع عبارته اللئيمة غمزة من إحدى عينيه، كركرت الأخرى ضاحكة مما توصلت إليه من مضمون كلماته الغير بريئٍ بالتأكيد، عادت برأسها للخلف لتتيح له النظر لكامل عنقها ونحرها البض الذي تنحت عنه خصلاتها المنسدلة، وبالطبع لم يكن ليضيع فرصته في التودد إليها وسرقة بعض اللحظات الحميمة التي لا يصل منها إلى حد الإكتفاء، دنا منها موزعا قبلاته الدافئة سريعة وقوية التأثير علي كليهما، استمر في استخدام هيمنته المتفردة ومؤثراته القوية في خلق مزيدا من الإنسجام والشعور بالرغبة العارمة التي كانت تتخلل بعروق كل منهما، والتي أضحت تتطلب إجماد للشرارت المشتعلة بجسديهما، مما جعلها تتجاوب معه بنفس الشغف الذي لا يجدب بينهما، توقف عما يفعله قسرا، عندما بدأ الرضيع يأن بجوارهما، منبها إياهما عن وجوده معهما، حان من كليهما التفاتة نحوه ليريا عينيه مفتوحتين معلنا عن استيقاظه، ارتسمت ابتسامة متسلية على ثغر "مجد" الذي عاود النظر لزوجته، حاوطت الأخرى عنقه بيد وبالأخرى تمرر أناملها فوق ذقنه وبأنفاس متهدجة قالت له بغنج وتدلل:
-مش فاهمة هتبطل امتى تقلب أي موضوع جد بنتكلم فيه للهزار بتاعك ده!
رمقها من علياه، وابتسامته أخذت منحدر لئيم مجددا، وهو يرد بوقاحة سافرة:
-وهو في جد أكتر من كده؟
دنا من شفتيه وكان على شفا تقبيلها مرة أخرى، ولكن حال دون تلاحم شفاههما صوت رنين الهاتف الخاص ب"مجد"، نهض عنها ومد يده ملتقطا الهاتف من فوق الكومود، وقبلما يجيب صدح صوت "طيف" المتسائل بفضول مهتم:
-مين اللي بيتصل؟
نفث "مجد" نفسا على عجالة وهو متحفز للنهوض وأجابها بنبرة عادية:
-ده جاسم، هقوم ارد عليه، واهو ترضعي الباشا اللي بدأ في العياط أهو وهيصدعنا
دنت من صغيرها لتحمله بين ذراعيها عندما بدأ في البكاء، وخاطبة زوجها في مشاكسة:
-براحته، مش عاجبك نام في أوضة تانية.
منحها قبلما يستدير نظرة مزعوجة من عينيه وهو يقول بعبوس طفيف يحمل الوعيد:
-أخلص بس المكالمة وأشوف حوار الأوضة التانية اللي هنامي فيها دي حاضر
❈-❈-❈
مرت الأيام عليه كما لو كانت متباطئة المرور، على ما يبدو أن محاولة الإعتياد على أمر غير مرغوبٍ حدوثه شاقا للغاية، ورغم ذلك تحامل على نفسه ألا يظهر الجانب الكاره لإرغامه على ما لا يريد -وهو زواجه بها وباعترافه بذينك الطفلين- لرؤيته لكم إرهاقها والمشقة التي تتكبدها مع طفلين مسئولةً مسئولية كاملة عنهما، كونهما رضيعين يحتاجان لرعاية تامة من والدتهما، من رضاعة طبيعية، تبديل الثياب المتسخة، هدهدة للخلود إلى النوم، ومحاولة تهدئة حدة بكائهما وبالأخص عندما ينخرطان فيه معا.
خلال جلوسه على الأريكة القريبة من الفراش، واضعا أمامه فوق المنضدة -المقابلة للأريكة- حاسوبه، يعمل به ريثما تنتهي "داليا" من إرضاع أحد الصغيرين، شعر برأسه تكاد تنفجر من بكاء الطفلين الذي لا ينتهي، مع محاولات الأخرى للتحكم به، ولكن محاولاتها منذ ما يقارب النصف ساعة تبوء بالفشل، كز فوق أسنانه عندما ضاق ذرعا، وبغتة صاح بخشونة بها وهو يخبط بيديه على الرخامة المنضدة:
-سكتيهم بقى أنا صدعت.
انتفض جسدها بشكل ملحوظ من صراخه المفاجئ، شعرت بارتجافة سرت في جسدها، واهتز صوتها حتى ظن أنها قاربت على البكاء وهي تقول له:
-حاضر بحاول أهو والله، مش نافع ارضع الاتنين مع بعض.
مرت عدة دقائق أخريات، حاول خلالها التحكم بأعصابه التي اهتاجت من ذلك الصخب والضوضاء الي خلفه بكائهما، هب عن جلسته وبخطوات متسارعة يظهر به احتدام صدره المتسارع بأنفاسه المتهدجة، رفعت عينيها المذعورتين له من تقدمه المتعحل نحوها، رأته ينحني نحو أحد الطفلين، المسمى ب"نائل" والذي كان جوارها كون الآخر يرضع من نهدها، تسارعت دقات قلبها وسألته بصوت مرتعد:
-هتعمل إيه؟
لم يعِر لرهبتها اهتماما، بل اكتفى بحدجها بنظرة ضائقة من عينيه، اللتين سريعا ما توجهتا نحو صغيره الذي حاوطه بذراعيه، مقربا جسده الضئيل من صدره، شعر بتصاعد خفقات قلبه في صدره، حتى انه سمع ضجيجه يتردد في أذنه، لم يكن يعلم أن فعلة عفوية منه، محاولا بها التحكم في نوبة بكاءه، سيكن تأثيرها بالغا إلى تلك الدرجة الموترة لأعصابه، ولكن تلك الهالة الناعمة تجعله مترددا في تركه، خاصة مع صمته الغريب عندما احتضنه، وكأنما عرفه، أو رائحته مؤلفة له كرائحة والدته، وصمته هذا دليلا على اطمئنانه، وشعور الآمان الذي تسلل له، وما كان بكائه إلا لافتقاده له بعيدا عن صدر أمه.
بينما هي استكانت، وخبا فزعها، عندما وجدته يطالع صغيرهما بتلك النظرة، التي التمست فيها نوع خاص من الحنو، الذي لم تستشعره منه طوال السنوات المنصرمة عليهما، ارتسمت ابتسامة متأثرة بهيئتهما، كما ترقرقت الدموع بعينيها، وفي تلك الأثناء شعرت بتوقف شفتي الرضيع عن امتصاص نهدها، خفضت بصرها نحوه لتدرك غفيانه، بحركة بطيئة ابعدته عن صدره، ووضعته بجانبها في وضع مريح له، رفرفت بأهدابها بخفة لئلا تتساقط العبرات التي ما زالت عالقة بطرفيها، وأخبرت "عاصم" في هدوء:
-هاتُه، رائف خلاص شبع ونام.
استفاق من تاثيره الذي طغى على كامل حواسه، وتحكم بكيانه، عقله، وقلبه، حتى أنه عجز عن إبعاده عن صدره، نظر لها وهو يبتلع ثم مد يديه عاطيا لها، ابعد نظره عنه بعدما بدأ في الرضاعة، منتقلا ببصره نحو الآخر الغافي، والذي يشعر بتشابهه له، فهو لديه نفس لون الشعر والشفتين الصغيرتين المماثلتين لخاصتيه، قرب يده ومسد به رأسه، وبداخله يجزم أن تحكمهما به لا يقاوم، حتى أنه لا يشعر سوى برغبته في فعل ما يمليه عليه قلبه معهما، جال بفكره أثناء تمعنه النظر في وجهه النائم أمر اسمه، والذي شغل عقله مؤخرا، ولكن لم يسعفه الوقت أو الظرف حينها، للتساؤل عن سبب اختيار الأخرى لذلك الاسم بالتحديد، بدون ان يبعد نظره عنه، صدح صوته متسائلا بنبرة خرجت هادئة نوعا ما:
-انتي طلبتي ليه تسميه رائف؟
رفعت عينيها له، ولم تدع لتفاجؤها من سؤاله يسيطر عليها، وسريعا ما استحثت نفسها للرد عليه، وأجابته بنفس الإجابة الذي رآها من قبل غير مقنعة:
-مانا قولتلك حابة الاسم.
قلب شفتيه بعدم اقتناع، كما ظهر طيف تكذيب في نبرته وهو يعلق على ما قالته:
-بس أنتي عمرك ماقولتي إنك عايزه تسمي ابنك بالاسم ده.
لم تتوتر أو تتخبط بداخلها كالعادة عند تحدثهما، لرؤيتها لتحقيقه؛ على إنه نقاش ودي بينهما، متغافلة عن تفرسه في ملامحها وهو منتظر إجابتها التي جاءت على شاكلة هادئة وبصوت ثابت لم يفتح له مجالا للشك:
-عشان ماتكلمتش معاك في الموضوع ده قبل كده.
استقام من انحناءة جذعه نحو الصغير، وحدجها بتلك النظرة الغير راضية عما قالته وعلق باستنكار نزق:
-يعني ماقولتيش قبل كده اتك بتحبي اسم نائل، وعايزه لما تخلفي تسمي الاسم ده!
عند تذكيره لها بتلك الأمنية العابرة، حتى فغرت عينيها وصدقت على ما قاله بصوت يحمل بعض التفاجؤ:
-ايوه فعلا، عشان كده سميت نائل!
زم شفتيه وظل لعدة ثوان دون ان يجيبها، فقد شعر بسخافة الأمر وتفكيره في ذلك عند تسميته للطفل الآخر، أبعد نظريه عنها، واستقام واقفا متظاهرا بذهابه نحو حاسوبه لفعل شيء به، وأجابها خلال سيره بنبرة اصطنع عدم الإكتراث بها:
-حسيته لايق مع رائف.
أراد أن يغطي على الأمر، لئلا ترى أنه يتمعن فيما تقوله، ولكن طرأ بفكره أمرا هاما، سيكون وسيلة جيدة لصرف تفكيرها عن أمر الاسم، توجه نحو الكومود، وقام بفتح الدرج العلوي وأخرج منه شريطَ دواءً، جلس على طرف الفراش ثم قام بإلقائه أمامها، زوت ما بين حاجبيها وبغير تركيزٍ سألته:
-إيه ده؟
بدون أي تغيير طرأ على وجهه أو صوته الجافي علق باستنكار:
-مش عارفة إيه ده!
شخصت بصره بالشريط، لتتعرف عليه، فقد كان شريطا مانعا للحمل، سابق لها استخدامه، ابتلعت بربكة مما ظار بخلدها حول رغبته في اقتراب حميمي لن يحدث نهائيا في فترة النفاس، ثم أخبرته محاولة التوضيح بلعثمة اصابت صوتها:
-لا عارفة، بس.. لسه يعني..
توصل ببديهية إلى ما تحاول إبلاغه به، ليسارع بالتحدث مقاطعا كلماتها المتقطعة بصوت اخشوشن بغتة:
-عارف، ده عشان بس متقوليش إنه غصب عنك بعد كده، أنا مش عايز عيال تاني، حتى دول مكنتش عايزهم، ولولا بابا صمم اني اعترف بيهم انا مكانش فرق معايا حد، ولا كنت عملت حساب لحاجة، ولا كنت عملت حاجة انا مش عايزها، عشان بس متفتكريش انك عرفتي تلوي دراعي.
عبس وجهها، وشعرت بلسانها أُلجم للحظة، ولكن سريعا ما ظهر اللوم على وجهها وصرح به صوتها وهي تقول له:
-انت ليه بتضيع قيمة الحاجة الحلوة بعد ما تعملها؟
اشتدت تعابيره وصاح بها في احتجاج وضيق شديد:
-عشان انا مش عاملها بإرادتي، ومبحبش حد يحطني قدام الأمر الواقع، وانتي عارفة كده كويس.
تراءى لها ثورة على وشك الإندلاع، لذا اظهرت تراجعها رافعة راية الإستسلام، وحاولت امتصاص غضبه بصوت هادئ يحمل الترجي:
-طيب ممكن تهدى، عشان بس الولاد مايصحوش ويصدعوك بعياطهم.
رأته بطرف عينيها يزفر بضيق وهي تضع الصغير الذي لتوه انتهى من رضاعته وغفى هو الآخر بجانب شقيقه، ثم خاطفها في تشدد:
-وخلي في علمك إن جوازنا ده مش هيغير أي حاجة، سهراتي برا ملكيش أنك تدخلي فيها، ولا تسألي رايح فين ولا جاي منين، واظن جربتي قبل كده وعارفة الرد، وعارفة إيه اللي بيحصل وقتها.
نظرت له بصمت ولكنها لم تستسغ الأخير من كلماته، والذي يشير بها إلى احتمالية استمراره في علاقاته النسائية، والتي تشعرها بالإهانه كونه لا يكتفي بها، حتى وهي زوجته، وهذا سيكون جرح لكبريائها، وكرامتها كأنثى ترغب بإكتفاء زوجها بها، وألا يرى بعينيه نساءً غيرها، ولكنها أرادت أن ترجي ذلك عن تفكيرها الحين، لئلا تتجاذب معه أطراف الحديث في تلك النقطة، والذي سيتحول إلى شجار حتمي هو متأهب له بالأساس، ثبتت نظرها على رضيعيها الغافيين، وابتسامة اخذت في الإتساع ارتسمت فوق ثغرها، من وجودهما المنعش لروحها، والباعث فرحة جمة يتشبع بها وجدانها، ووجدت نفسها دون تفكير تخبر الجالس على الناحية الأخرى من الفراش بجوارها:
-تعرف ان انا فرحانة بيهم أوي.
استشعر سعادتها الواضحة عليها منذ اليوم الأول لإنجابها لهما، وكأنهما قادرين على إزالة التعب من بدنها، بنظرة واحدة لهما يرى ابتسامة مشابهة للحالية تنفرج بها شفتيها، وجه نظره إليها عندما أكملت بنبرة تحولت للخفوت تأثرا بعاطفتها التي تشبع بها صوتها:
-مش بس عشان خلفت زي ماكنت عايزه، أنا فرحانة بيهم أكتر عشان منك، أنت أكتر حد في الدنيا دي بحبه، ويمكن أكتر من روحي، ولسه مش قادرة استوعب إني موجودة في سريرك دلوقتي وانا مراتك ومعايا ولدين منك.
لم تدع له مجالا للتحدث، فهي كثيرا ما ألقت مثل تلك الكلمات على سمعه، وكثيرا ما أخبرته بكم تحبه، وكم تود الإنجاب منه، لذا لم تتوقع رد فعلٍ مرضيا لقلبها، واقتربت دافنة جسدها فحضنه، وهي تشعر لأول مرة بأنه مكانها ويحل لها وجوده به، وليس مكانا تسرق منه لحظات محرمة، لا ينبغي لها أن تشعر بها معه، أغمضت عينيها وبمشاعر صادقة فياضة همست له:
-أنا بحبك أوي يا عاصم، بحبك ونفسي تقدر الحب ده، وتعرف إن محدش في الدنيا دي كلها بيحبك ولا هيحبك قدي.
كان مشوش الأفكار، ومشتت بين تصديق وتكذيب، فقد نجح والده بالتلاعب بعقله، فعندما كان يستمع إلى تلك الكلمات في السابق؛ كان لا يفكر في صحتها من عدمها، لثقته الكاملة بها، وبما يحسه معها من وجد صادق، ولكن تلك الثقة للأسف تزعزعت بداخله، ولكن للغريب أنه يخشى عدم صدق مشاعرها، فهو اعتاد على تغدقها عليه بالعطف والحنان الذي تفتقر حياته له، حتى وإن كان يقنعها بعدم رغبته بها وأن ما يجمعهما علاقة حميمة هي التي تريدها، إلا أنه لن ينكر بينه وبين نفسه احتياجه الدائم للإرتماء بحضنها، رمش بعينيه وهو يزفر بضيق وراح لسانه يتساءل عما يشغل فكره، بصوت رغما عنه خرج كما لو كان يستجدي طمأنتها:
-والحب ده هيفضل ليا لواحدي؟، مش هيجي في يوم ويبقى لحد تاني؟
رفعت وجهها عن صدره د، وجعلته قبالة وجهه، رمقته بنظرة هائمة بعينيه البندقتين وهي تجيبه بمصداقية شديدة وصوت ناعم دافئ:
-استحالة ده يحصل، انا قلبي ملكك أنت لواحدك، ومستحيل حد تاني يشاركك فيه.
ارتخت تعبيراته، وظهر على وجهه تؤثر من قربها المغري، مع كلماتها التي نجت في نفاءها لقلبه، بالرغم من أنه استمع لها مرات ومرات لا تُعد، ولكن احتياجه لها تلك المرة جعلها فريدة، متفرده، وذات تأثير على حواسه، وفي لحظة كان آخذا شفتيها بقبلة تعجب هو أكثر منها من هدوئها، المنافي لأي تودد سابق لها، ولكنها لم تستمر لكثير من الثواني، وكان مفرقا القبلة بنفس التريث الذي بدأها به، بينما هي تعجبت من ابتعاده او ربما رغبت بالمزيد منها، وسألته بلوعة، هامسة له بصوتها الباعث على الإغواء:
-بعدت ليه؟
شعر بدبيب الإثارة بدأ في الإندلاع بعروقه، خرج صوته مهتزا، خفيضا، فقد كان يكافح الإستسلام لرغبته التي ستؤجج لو لم يبتعد عن مغرياتها المحفزة لما هو كامن:
-عايز أنام، الوقت اتأخر ولازم اصحى من بدري.
افترش السرير بظهر، ولكنه عندما التقط عينيها المسلطة عليه، شعر بعدم الإرتياح، وكأنما تستطيع بتلك النظرة تجريده من جموده، ومعرفة ما يدور بداخله، لذا استدار موجها لها ظهره، بينما هي ابتسمت ابتسامة رائقة تحمل ارتياح غاب عنها لزمن ولتوه عاد إليها، مسحت فوق رأسه برفق وهي تقول بوداعة ولطف قبلما تقترب لتقبيل رأسه:
-ماشي يا حبيبي، تصبح على خير.
طَيّب اقترابه البسيط ذلك -والمتجرد من العديد من المشاعر التي تريد أن تتعايشها بين أحضانه- كثيرا من جراحها، وانهى أغلب المعارك القائمة في رأسها، حتى أنها أصبحت تتفاءل فيما هو قادم من حياتها، التي ستحياها مؤكدا في رحابه وبالقرب من ملاكيها الصغيرين، منتظرة جنة تحيا بنعيمها، تنقضي معها ظلام حياتها الحالك، التي تتوقع أن تضيء رويدا، وألا تعود إلى ما كانت عليه من دمار، إذا كان استمر لأعلنت راية استسلامها، ورحبت بإفناءها لحياتها بصدر رحب.
يُتبع