-->

الفصل الواحد والعشرون - كما يحلو لكِ - النسخة العامية

 


الفصل الواحد والعشرون


النسخة العامية

 

وقع كل واحد منهم بورطة حتمية، فهناك من لا يقبل سوى تصديق أن زوجته امرأة خائنة وهي ثاني امرأة تقوم بخيانة عشقه لها، وهناك من تتخيل أبشع المصائر لنهاية حياتها على يدي والدها، وهناك زوجة ترى تلك النظرة القاتلة بعيني زوجها قد فتكت بها بالفعل آلاف المرات وعقله بالطبع لا يستطيع سوى اسقاط تام شامل بأن المرأة التي تقف أمامه تماثل تمامًا عشيقته السابقة شكلًا وأفعالًا وكأنها باتت صورة طبق الأصل منها في كل شيء..

 

ولكن هناك من بدأ في استغراب الموقف وهو ينتظر بلوعة روعة البدايات مع تلك الفاتنة الصغيرة بأسلوبها الصارم، ولن يترك الفرصة لتضيع منه..

 

تقدم ليقف أمام "عمر" مباشرة وفصل بينه وبين كلًا من أخته وزوجته وقدم يده له ليصافحه ولم ينس كلمات "روان" عنه وربما من أجل الورد عليه أن يتحمل ألم الأشواك، هو مضطر لهذا عاجلًا أم آجلًا عليه أن يُحسن علاقته به بأي طريقة، فابتسم له ثم انتظر مصافحته وحدثه بنبرة ودودة ليقول:

-       أنت جيت في وقتك، لسه بسأل روان عمر مجاش ليه، وكان نفسي اقعد معاك امبارح بس واضح إنك كنت مشغول ومشيت على طول.. عامل ايه؟

 

احرقه بنظراتٍ قاتلة، بعد أن قتله آلاف المرات بعقله أولًا، فارتبكت على اثر ما يحدث "روان" التي لا تتوقع إلي أين يمكن أن يصل جنونه بينما "عنود" لا تتخيل سوى أنه سيخبر والدها أنهما كانا جالسان معًا!

 

-       تمام..

 

قالها بعد أن طال الوقت وبدا الموقف محرج له وصافحه مضطرًا إلي أن يعرف ما الذي يفعل ثلاثتهم معًا، ربما تستعين "روان" بأخته الصغيرة ليبدو لقائهما منطقي وطبيعي وتحاول أن تُزيل الشبهة عن عهرها مع هذا المخنـ ث، ولكنه سيجد الدليل القاطع ووقتها لن يرحمها ولن يغفل عن التمثيل بجثته وخاصة يده التي كانت تلمسها بالأمس!

 

-       يرضيك يا عم مراتك دي، وصيها عليا شوية، أنا بتعامل كأني بواب العيلة، بتحايل عليها تعملي مصلحة في الشغل بتتنك عليا وكل شوية تأجل مع اني عمري ما اتأخرت عليها..

 

لم يقتنع بحرف، وهذه المرة "روان" هي من قتلته بعقلها آلاف المرات، زوجها مصاب بزمرة من الأمراض النفسية التي لا نهاية لها وأي ما يشير عن وجود علاقة فيما بينهما سيتفهم الأمر بشأن خاطئ!

 

-       وأنت عايز منها ايه؟

 

تساؤله آتى بقسوة شديدة تفتقر لكل معاني الذوق أو حتى الاحترام، هذه ليست بطريقة للتعامل بها مع أحد افراد عائلة زوجته مهما كان، لابد من أن العائلة بأكملها لديها خلل في عقلها، ولا يمزح بهذا الشأن هذه المرة!

 

اجابه بالرغم من عدم تقبله لهذا الأسلوب وحاول الحفاظ على أسلوبه الودود:

-       ابدًا، عايز أشارك حد هي تعرفه كويس في بيزنس جديد عليا شوية وهي الوحيدة اللي تقدر تقنعهولي ومش بتساعد غير بالقطارة

 

لم يُصدق الأمر ولو لجزء من الثانية، كونه ينفي بنظراته تلك أي سبب يجمعهما سوى العمل وهو يُدافع باستماته بعد أن فعلت هي الأخرى المثل عندما كان يراقب لقائهما معًا لم يبتع تبريرهما المتكرر الواهي، وبوجود أخته معهما، هل يظنان أن هذا سبب كافي لعدم ارتيابه؟ أو وجود أخته معهما سيبرأ كلاهما في عينيه؟ لابد أنهما ساذجان للغاية..

 

حمحم "يونس" من تعجبه من انتظاره وهم واقفون في منتصف مدخل هذا المقهى حتى بات انتظارهم يعوق الناس فحدثه مقترحًا:

-       تحب تيجي تقعد معانا شوية لو عندك وقت ولا تحب تتفضل في البيت عندنا؟

 

بالرغم من تلك اللظى التي لا تخمد بداخله وحرقته حيًا ملايين المرات بعد معرفة تواجده هُنا مع أخته وزوجته إلا أن ملامحه كانت تتسم بالبرود الشديد فهو لطالما كان بارعًا في التحكم بملامحه ليأتي صوته متكلمًا بنبرة غير ودودة اطلاقًا ليقول متسائلًا ببعض التحدي الدفين الذي لا يعلم "يونس" ما سببه:

-       وليه ميبقاش عندي في البيت؟!

 

هناك شيء يعرف عن الرجال، أو على الأقل المرضى منهم بالتحكم؛ أو ربما الأمر ليس له علاقة بالرجال، الأمر يتعلق ببعض القواعد الحيوانية للفصائل المفترسة الضارية، لابد أن يكون النزال على أرضهم وبداخل مقاطعتهم، لا يقبلوا التحدي بأرض الخصم أبدًا، على الأقل يعرف صاحب الأرض مقاطعته جيدًا ويحفظها عن ظهر قلب وله كامل الحقوق في طرد القطعان الأخرى للخارج، ولصاحب الأرض أن يقوم بقتل من يجده بأرضه دون مطالبة القطيع الآخر بحقهم في القتيل، قانون البراري على ما يبدو، ولحسن نية "يونس" لم يمانع هذا القانون، على الأقل، حتى الآن!

 

--

بعد مرور ساعتان..

 

اجتمع جميعهم بالمنزل، أو ربما اقترب الجميع من عرين الليث ليمكثوا بالخارج، لا يدري أحد ما الذي يكمن بداخله بعد لشدة ظلمته، ومن سيُفكر بأن يطأ بقدميه لداخل العرين ستكون محاولة انتحار حتمية، وكذلك من يظن أن العرين فارغ هو غبي بالتأكيد، أمَا من يعرف أن الليث ينتظر متربصًا للانقضاض الوشيك ويترقب أي حركة منه ليفر سريعًا ناجيًا بنفسه، فهو الوحيد الذكي بهذه الجلسة، ولقد كانت "روان" هي الوحيدة التي تعلم جيدًا أن هدوئه ونظراته سيتبعها افتراس وشيك.. تتمنى فقط أن يتم الأمر بعيدًا عن أعين الجميع..

 

بدأت أخته في الهدوء قليلًا بعد أن أطمئنت أنه لم يرها ولا يرتاب بشأن جلوسها مع رجل بمفردها، لقد مر شعورها بالخوف من والدها بسلام، ولكنها مسكينة، لقد أوشكت على مواجهة هذا الليث المتربص عما قريب..

 

أمَا عن هذا الطاووس الزاهي بنفسه، فمهما فعل، ومهما استعرض الكثير من ألوانه الزاهية، فهو في النهاية يريد الإيقاع بالجنس الناعم ويتمنى لو حصل منها ولو على نظرة واحدة، ولكن ترده خائبًا كل مرة وكأنها ضريرة لا تلاحظ كل تلك الألوان!

 

انضمت لهم "يارا" وآتى كذلك "بسام" بعد أن فرغ من حضور واحدة من المراجعات الهامة وسمحت له والدته بالجلوس معهم للترفيه عن نفسه لبعض الوقت، باتت الجلسة عائلية للغاية وفي معجمه لا يكره أكثر من الاقتراب من الأشخاص ولكنه لابد له من وجود دليل بأي طريقة حتى يتيقن من أن ظنونه صائبة!

 

نهض بهزة رأس رسمية للغاية ليتنفس "يونس" الصعداء، الآن يستطيع مغازلة تلك الفتاة بالمزيد من الحرية حتى ولو بعدة نظرات، ولكن لم يكن على يقين أنه سيستجيب.. حسنًا، "روان" اليوم افسدت كل شيء، ربما أخته ستكون داعمة بعض الشيء، ربما عليه ارسال رسالة لها على هاتفها، كما عليه ارسال رسالة أخرى إلي هاتف "روان" فهو يريد منها أن تتركهم بأي طريقة!

 

-       ما تقومي كده تطمني على جوزك، وتدلعيه شوية، وتشوفيه مقموص ولا لأ، بدل ما أنتِ قاعدة تتشاهدي في جمالي!

 

لم تتفقد الرسالة بالطبع فأخذ يُشير لها نحو هاتفها لتزفر بضيق وتفقدت الرسالة ثم ضيقت عينيها نحوه بحقدٍ فلحقها بنظرة ذات مغزى فتنهدت وهي تمسح رسالته فهي لا تحتاج لمزيد من الارتياب من زوجها العزيز لتنهض وتغادرهم للبحث عنه بينما لم تكن ترى ذلك الفحم المتأجج بداخل عينيه وهو يتابعهما مليًا من على مسافة بعد أن اعتذرت بلباقة:

-       سوري يا جماعة هروح الـ TOILET واجيلكم

 

كان الآن الدور على أخته العزيزة، هي من ستخلصه من خالته العزيزة، فأرسل لها رسالة هي الأخرى بمجرد ذهاب "روان" وتوسلها قدر المستطاع:

-       ورحمة أمي وأمك ما لحقت أكلمها ربع كلمة من الصبح، خدي طنط وروحي اعملي معاها أي حاجة، كل اللي بطالب بيه ربع ساعة يا ناس معاها لوحدنا، ومش هاعمل كوارث متخافيش بس ادوني الفرصة يا جدعان ابوس ايديكم!

 

على النقيض تمامًا تفقدت "يارا" هاتفها سريعًا بمجرد وصول الرسالة لتنظر له بزجرٍ واضح ليرمقها بتوسل شديد لترسل له هي الأخرى:

-       عشر دقايق بالظبط وهرجع، وبلاش عك مع بنات الناس، ومتنساش اننا في بيت اخوها وبنت خالتك والتعامل يكون باحترام

-       خلاص يا ماما يارا بقا، ارحميني واسمعي الكلام واديني فرصتي!

 

اجابها في لمح البصر لتنهض هي ثم طلبت بلباقة من خالتها:

-       معلش لو اخد من وقتك خمس دقايق كده محتاجاكي في موضوع؟

-       طبعًا يا حبيبتي.. قوليلي فيه ايه؟

 

اجابتها خالتها سائلة فغمزت لها ثم توجهت تدفع كُرسيها وكلتاهما صمتتا بعد تلك العلامة التي وجهتها لخالتها وهنا تبقى "بسام" فقط الذي على ما يبدو تعلم الإلحاح من "يونس" وسيكون أفضل منه كثيرًا عما قريب:

-       مش وعدتني انك هتعوض أول ما تيجي، يالا بقا قوم والعب معايا، ولا خايف!

 

هذا ليس بوقته نهائيًا، سيُرسله إلى إجازة خلف الشمس نفسها لو تطلب الأمر ولم يُعجبه تلك اللهجة التي يُحدثها به أمام من يحاول الحصول على اعجابها:

-       هخاف منك أنت يا ابني، وبعدين أنا وأنت متعادلين، فمتحورش كتير

 

ضيق عينيه نحوه بانزعاج ورد بغير اتفاق لتلك الكلمات التي سمعها منه:

-       أنا اللي بحور ولا أنت؟ أنت خسران اتنين صفر آخر مرة، ولا بس مش عايز شكلك يبقى وحش والكل يعرف إنك بتخسر من واحد اصغر منك؟

 

حسنًا، هو لديه دقائق معدودة ليحصل عليها معها وهذا السخيف يحدثه بشأن مباراة، عليه التخلص منه بأي طريقة!!

 

-       لا ما اللي يعرف يعرف يعني وأنا هيفرق معايا، اللعب دايمًا فيه كسبان وخسران، بس احنا فعلًا اتعادلنا، روح أنت بس هات البلاي ستيشن ووصلهالنا على الاسكرين الكبيرة اللي في الـ Living وظبط الماتش وعرفني وأنا هوريك هغلبك ازاي!

 

-       اشطا!

 

 

توجه سريعًا ليفعل ما أخبره به ليزفر أخيرًا براحة بعد أن تخلص من الجميع فبات ينظر لها بقليل من الجرأة ليجدها منشغلة بهاتفها فنادها قاصدًا نطق اسمها لتنتبه له من تلك اللعنة بيدها:

-       عنود

 

رفعت عينيها نحوه باهتمام هذه المرة ليشعر بالسعادة لحصوله على انتباهها قليلًا ولكنه يتوقع أن هذا الاهتمام سرعان ما سينصرف عنه وانزعج للغاية من عدم ردها ولو بكلمة "نعم" فقرر أن يتولى هو هذه المحادثة:

-       تيجي تلعبي معانا بلاي ستيشن ولا مبتعرفيش؟

 

استنكرت سؤاله ورأى هذا جليًا على ملامحها وأومأت له بالرفض ثم اجابته باقتضاب:

-       لا مبعرفش

 

أومأ لها بالموافقة وحاول اختراع أي سبب ليطيل الحديث معها:

-       عمر وعدي مكانوش بيعلموكي ولا ايه؟

 

رفعت رأسها من هاتفها مرة أخرى مما جعله يود أن يهشم هذا الهاتف اللعين واكتفت أن تومأ له بالنفي بهدوء ليشعر بالعصبية من تلك التي بالكاد تتحدث فحاول أن يحدثها عن شيء تهتم به حقًا:

-       شكل المشكلة مش في عدي وعمر، أنا سمعت إنك في كلية طب، بتذاكري كتير مش كده؟

 

وكأنه اختار الأمر الصائب للتحدث به بمنتهى الذكاء، لأول مرة يرى اهتمام حقيقي من أجل شيء بملامحها، تلك الزفرة المُرهقة منها كانت أبلغ من الكثير من الكلمات التي قد تُقال ثم أخيرًا قالت:

-       معندكش فكرة، المذاكرة بتاعتنا مبتخلصش..

 

حسنًا، هي واحدة من تلك الفتيات المتفوقات، جيد، هذا يجعله يتنقل لجملته التالية:

-       بصراحة موضوع طب ده يخوف اوي، ناوية بقى تتخصصي في ايه؟

 

توسعت عينيها باهتمام وهي تُفكر، كان فقط ينقصها أن تنظر له هو دون النظر بعيدًا عن عينيه ولكنه رضى بالقليل على أمل أن يكون هناك المزيد بعد:

-       مش عارفة لسه، بس أظن جراحة.. ومش عارفة بعد كده هتبقى جراحة ايه بالظبط!

 

قلب شفتاه بإعجاب هائل وسرعان ما تابع حتى لا يفقد ذلك الشغف الذي تتحدث به:

-       جراحة، مش صعب شوية؟

 

هنا شعر بكامل اهتمامها يُسلط إليه حتى أنها اعتدلت في جسدها لتقابل وجهه تمامًا واقترب حاجباها واجابته سائلة:

-       صعب ازاي؟ ما كل تخصص في طب بيبقى ليه صعوبته!

 

قلب شفتاه وتحدث بحسن نية وهو لا يقصد شيئًا حقًا:

-       يعني اللي اقصده إن فيه بنات بيشوفو التخصص صعب، أغلب البنات اعتقد بتتخصص تخصصات تانية!

 

وكأنه أجرم جرمًا يستحق عليه عقوبة الإعدام بعد رؤيته لملامحها التي انزعجت بشدة وتلك الكلمات اللاذعة التي لحقته بها:

-       هو مش من حق البنات يكون ليهم طموح يعني، محدش ادانا في أول محاضرة ولا سيكشن لينا إن ممنوع بنت تتخصص في حاجة معينة، ولا هو فيه مثلًا تخصصات مكتوب عليها للرجال فقط.. ده غير طبعًا إنها نظرة في منتهى السطحية إن البنات تتخصص في حاجة معينة أو كام تخصص وبس!

 

رمقته بغضب حقيقي ليتعجب بشدة وسرعان ما حاول احتواء الموقف:

-       ايه ده بس اهدي، انتِ اتعصبتي كده ليه، أنا مقصدش حاجة، وعمومًا كل بنت ليها الحق تتخصص في اللي هي عايزاه ما دام ده اختيارها.. لو بتحبي الجراحة خلاص بكرة تبقي أكبر جراحة في مصر!

 

ابتسم لها في النهاية واحدة من تلك الابتسامات الساحرة التي تجذب الفتيات لتتعجب لصنيعه ولكنها اشاحت بنظرها عنه ومن جديد سلطت عينيها بهاتفها دون أن تعقب ولو بكلمة واحدة وحقًا أراد أن يهشم هذا الهاتف ليراه متساقطًا على الأرضية متحولًا لملايين القطع الصغيرة.. ولكن بالرغم من انزعاجه سيحاول الوصول لما يُريده..

 

-       تعرفي، ماما قبل ما تتوفى بفترة كبيرة كان فيه دكتور شاطرة اوي عملتلها عملية وماما صحتها اتحسنت جدًا بسببها، وكانت دكتور كويسة جدًا وافتكر إني كنت صغير وكانت كمان بتفضل تهزر معايا والعيلة كلها كانت بتحبها.. فأنا معنديش النظرة السطحية دي زي ما بتقولي، بالعكس، أنا بقدر أي حد بيحب حاجة وبيتعب علشانها، وروان اهي مثال ناجح ودايمًا بقول انها شاطرة وعملت حاجات رجالة كتير مبتعرفش تنجح فيها.. لو هنتكلم على شغلها الـ technical نفسه هي اشطر من رجالة كتير.. الشطارة عمرها ما بيبقا ليها علاقة بجنس الإنسان أبدًا

 

رمقته بطرف عينيها وهدأت قليلًا فهي لا تتحمل رجل يقلل من شأن المرأة، الحياة مع رجل كـ "يزيد الجندي" جعلتها تكره أي رجل يحمل نفس نظرته للمرأة، ولم يغفل هو ذلك الانزعاج الذي سرعان ما تلاشى وكأنه أول شجار فيما بينهما، فشعر بانتصار حتى ولو كان صغير، فعلى ما يبدو أن فتاة مثلها تكترث للكلمات والاتفاق معها في رأيها بعد توضيح وجهة نظره، جدالية نوعًا ما ولكن هناك بها شراسة، جعلتها تبدو شهية بصحبة ملامحها التي فُتن بها، وهذه بداية جيدة للغاية له.. عليها فقط أن تترك تلك اللعنة الممسكة بها فهو لم يعد يتحمل تجاهلها له!

 

-       بمناسبة الجراحة صحيح، اعرف جراح شاطر جدًا من اصحابي، لو حبيتي في أي وقت يساعدك في حاجة، أو مثلًا قدام شوية لو تحبي تدربي معاه، ممكن اديلك رقمه..

 

 لقد فكرت مرارًا في هذه اللحظة الحاسمة التي سيتوفر لها خلالها أن تملك عمل جيد وتستقل بنفسها بعيدًا عن والدها، وتترك هذه البلد وتغادرها دون رجعة، ولقد قررت مُسبقًا أن تستغل أي فُرصة حتى ولو كانت اعتمادية بشدة وبدلًا من صعود السُلم درجة درجة لا تمانع ارتياد المصعد.. ستحفظ هذا الرقم، ولكن بأي حق يُساعدها؟ هو ليس بأخيها ولا والدها ولا تعرف عنه شيء، أم أن هذه العائلة بكل من فيها متساهلون للغاية؟ فمن تتزوج بأخيها لا تستبعد أن يكون ابن خالتها يُساعد الناس.. هذا ما اهتدى عقلها إليه واتفقت عليه بينها وبين نفسها، ولكن يا تُرى من هو هذا الطبيب الذي يتحدث عنه؟

 

-       اسم الدكتور ده ايه؟

 

ابتسم ابتسامة هادئة ثم اجابها بنبرة ثقة هائلة:

-       تامر عبد الحميد قنصوة!

 

استطاع ببراعة أن يحصل على اهتمامها، وبعد ذلك اللمعان بمقلتيها وملامحها التي اختلفت بشدة وابتلاعها بهذا الارتباك والصدمة التي وقعت على ملامحها بعد سماعها لهذا الاسم الشهير أدرك جيدًا أنها من الفتيات الشغوفات بدراستهن وعملهن، ولا يكترث لو كان مضطر أن يصنع من نفسه أضحوكة لصديقه القديم فقط من أجلها..

 

-       هو صاحبك اوي بجد، أنت تعرفه فعلًا؟

 

اكتفى بهزة رأس بالإيجاب والآن عليها هي أن تبذل بعض المجهود معه بعد محاولاته الكثيرة حتى يصل إلى هذه اللحظة تحديدًا ليراها ترطب شفتيها المرسومة بملامح طفولية ولكن لم يغب عنها الشراسة والفتنة ليجد كلماتها تتشاجر بقسوة قبل صوغ جُملة واحدة:

-       بس يعني، لسه بدري على حاجة زي دي.. يمكن وقتها ميكونش صاحبك!

 

رفع حاجبيه باندهاش، في دقيقة واحدة جعلته يخسر واحد من أصدقاء عمره ليتعجب للغاية ثم رد معقبًا باستغراب:

-       ايه التشاؤم ده، أنا وتامر أصحاب من أيام ما كنا في المدرسة وكنا جيران كمان، اكيد مش هخسره كده بين يوم وليلة يعني..

 

قضمت شفتيها وهي تعيد التفكير، ابن خالة زوجة أخيها، واحدًا من اقاربها في النهاية، حسنًا، ستستفيد بذلك الأمر بالإضافة إلى رضوى ابنة عمها، جيد، لتفعلها اذن:

-       أوك، هات رقمه..

 

سرعان ما امسك بهاتفه وبحث في قائمة الأسماء المُسجلة وقال دون اكتراث:

-       هاتي رقمك لأن هديكي ارقام كتيرة، مدير المستشفى بتاعته ورقمه ورقم الـ assistant كمان.

 

يبدو أنهما أصدقاء للغاية لتجده يُكمل بمزاح ولكنه يُضيق عليها الخناق ليس إلا حتى يمنعها من رفض إعطاء رقمها له:

-       ومعايا رقم البيت ورقم باباه ومراته واخوه ومامته كمان لو تحبي..

 

ابتسمت بمصداقية له ليلاحظ ذلك الخجل الفطري بها فشرد بها ولم تلحظ هي فلقد كانت متحمسة منذ ذكر ذلك الاسم الذي تعرفه جيدًا فهو ووالده لديهما تاريخ وسُمعة لا يُستهان بأي منهما أبدًا واجابته قائلة:

-       لا مش للدرجة دي يعني، أنا لو كلمته في يوم هيبقا عشان اتدرب معاه مش اكتر واكيد كمان كام سنة لما أخلص بس كل اللي ورايا ده..

 

بدأت في اخباره برقمها ليشعر بفرحة شديدة بعد هذا الانتصار الذي حققه في أقل من عشرة دقائق، لو كان امتلك معها وقتًا منذ البداية لكانا الآن هائمان ببعضهما البعض:

-       بعتلك اهو خلاص.

 

لاحظ اختلاف ملامحها ولا يدري ما تلك الصدمة التي اعترتها وهي تحدق بشاشة هاتفها، وهي كانت تشاهد صورته التي يبدو بها كواحد من نجوم السينما العالمية بواحد من المنتجعات التي يستحيل أن تكون بداخل مصر، لا يرتدي سوى سروال البحر القصير ولوهلة لمحته بنظرة جانبية وهي لا تصدق أن صاحب هذه الملامح وهذا الجسد يجلس أمامها مباشرة، فما كان منها سوى النهوض والفرار بعد أن شكرته:

-       بجد متشكرة جدًا.. بعد اذنك!

 

تابعها وهي تتجه للداخل بخطوات متعجلة وكأنها تأخرت على شيء ما ليُغمغم:

-       لا دي باينها بتاعت مصلحتها والعيلة كلها مجنونة، ايه الخازوق ده!

--

في نفس الوقت..

 

ذهبت تتفقده لتلاحظ أنه لتوه دخل غرفة مكتبه فتبعته وهو لا يزال محافظًا على عدم توجيه ولو كلمة واحدة لها، فمنذ الوهلة الأولى التجاهل يقتلها حية ويلتهم بها كل ما هي عليه بافتراسٍ ضاري حتى يتركها خائرة القوى منهكة ودائمًا يتأكد وقتها من حقيقة ما تحمله له، حيلة يتحايل بها من احدى الحيل التي لن تفشل معها طوال حياتهما..

 

لم يكترث بالالتفات إليها، يكاد يسمع غليان دمائها من شدة الغضب الذي تحمله، ولكن هذا لن يهز به شعره واحدة، يتوقع في خلال ثواني معدودة سماع صوتها، وقد حدث بالفعل:

-       عمر، أنت ناوي تكمل في مسلسل الصمت ده كتير؟

 

لم يهتم، التجاهل يقتل الأنثى بداخلها، من حقه أن يفعله، كما قتلته هي بعهرها مع ابن خالتها، سواء أكان هناك علاقة أم لا فيما بينهما، مجرد لمح رجل لها يجعله يريد أن يأسرها للأبد، وهي ليست بالغبية، فهل تتوقع أنه سيترك تلمس هذا المخنـ ث لها يمر مرور الكرام، هذا إن لم تكن خائنة في الحقيقة!

 

-       بقولك ايه، اسلوبك ده قدام الناس مينفعش، ولا اسلوبك ده ينفع معايا، وبطل تفكر غلط زي ما بتفكر غلط كل مرة وفي الآخر.. ولا أنت خلاص دماغك بقت متبرمجة إن كل واحدة شبه يُمنى تبقا خاينة ومينفعش غير انها تبقا خاينة في نظرك!

 

هنا ارغمته على الالتفات نحوها، لو نجح هو في حيله الخبيثة فهناك أمرًا لا يحتمل الكذب بشأنه، لا منه هو نفسه، ولا منها، ولا من أي أحد يعرف من هو كوالده مثلًا، لقد باتت تملك تأثيرًا لا يُستهان به عليه!

 

اكتفى بإعطائها نظرات قوية لا تنتهي، نظرات قاتلة، رمقة تليها رمقة لتفزع من القادم، لوهلة ظنت أنه نفس المحامي ذو الشخصية الباردة الصامتة الذي قابلته يومًا ما بداخل غرفة مكتبه، ولكن اليوم هي باتت تعرف ما الذي يقبع خلف هذه الملامح!

 

-       هتفضل بتوهم نفسك لغاية امتى بالجنون بتاعك ده؟ أنت فعلًا عامل كل الفيلم ده عشان شوفته حاطط ايده عليا؟! ولا عشان جالي فجأة في بيتي؟ أنا مش ببررلك أبدًا التصرفات بس هي تصرفات متستحقش رد فعلك ده!

 

حافظ على ثباته أمامها بنفس تلك النظرات المهيبة وتلقى منها نفس تلك النظرات القوية التي توحي بأنها أقوى امرأة خُلقت على وجه الأرض، فلا هو تغير حقًا ولا هي فعلت عن أول مرة التقى كلاهما بها..

 

-       ممكن تزعل، تفهمني، تقولي مش هاقبل، وبما إنها أول مرة تحصل قولي رد فعلي المرة الجاية مش هيعجبك، لكن أسلوبك ده أسلوب ملوش غير نهاية واحدة، اننا نبعد عن بعض!

 

ثبتت أمامه بينما اقترب منها آخذًا خطوة نحوها، عينيها ازدادت قوة وبريق الثقة بها لا يحتمل، سيجعل أي رجل أمامها ينهار، يستحيل أن تكون كل هذه الصراحة بعسليتيها وهي خائنة، لابد من أنه هو المخطئ وأنها على صواب ولا يوجد بينها وبين ابن خالتها سوى مجرد علاقة لم ير مثلها في حياته واختلاف عادتهما وتربية كل منهما.. لقد قارب بالفعل على تصديقها بكل ما تُنادي به منذ أمس..

 

-       بجد، أنت فعلًا مصدق اوهامك.. تمام ماشي، أنا خاينة، بس مش غبية عشان يكون في بيتك، وجنب أهلي وتحت عينيهم، مش ابن خالتي اللي رفضته أصلًا.. ما هو كان قدامي من سنين، هستنى اتجوزك واحبك واستحمل كل اختلافاتنا واحاول معاك وشبه حبيبتك وأنا سادي وهو أنا كده وتقبليني زي ما أنا وفي الآخر هخونك! ده أنت مجنون رسمي بجد، طب فهمني بجد بتفكر ازاي وأنا هصدقك؟!

 

وقفت بمزيد من الشموخ المختلط بالثقة والأنوثة المهلكة والجدية التي تجعلها شهية للغاية، وكأنها يفوح منها عطر فريد النوع لا تحمله أنثى سواها، ثم يعود ليتذكر الكثير مما يجعلها طفلة بريئة بعينيه، وعطرها الأخاذ يتسلل لأنفاسه ليصيبه بهذه الدوامة القاتلة ليجد نفسه مشتتًا بينما هي في كامل تركيزها، تعقد ذراعيها، وفي انتظار كلمة واحدة منه، ولكن لا، سيستمر في تجاهل كل ما تملكه من فتنة!

 

تزداد هي نضجًا، وعقلها لا يؤثر عليه الترهات، أمّا هو فغاب بأوهامه، وبتلك الهالة التي تملكها، هي الآن الأنثى القوية وليست تلك الفتاة التي تعشقه، يقف أمام زوجته، شريكته، ند له تمامًا، صوته بداخل رأسه يثرثر بالكثير الآن، ولكنه لا يريد سوى التحمل والحفاظ على صلابته الظاهرية حتى لا تتلصص عليه وتسرق كل أفكاره وإحكامه لقراره بأنها خائنة..

 

اقترب أكثر غير عابئًا بسحرها، امتدت يده لتنتزع هاتفها، ولكنها بالطبع محت كل ما يشير إليها بالتهم، ولقد فهم أنها فعلت هذا عندما لم يجد بينهما أي رسائل تدل على وجود علاقة بينهما!

 

لا الصمت تغير، ولا ارتيابه تأكد، ولم تعد تكترث هي الأخرى، ولكنها لن تثبت له أوهامه ولن تلقي بفتاة مسكينة كـ "عنود" بين ذراعي التهلكة الخالصة، فهي ليست بمثل هذا الضعف، ولن تفعل أمر دنيء كهذا فقط لتُنفي التهمة عن نفسها!

 

وفي خضم معركة النظرات المشحوذة بالقتال الوشيك ألقى بهاتفها جانبًا، ولم تتخيل نفسها سوى ملقاة أرضًا كما فعلها من قبل ولكن هذه المرة باجتماع أُسرتها حولها، ولكن كان جزاءها من جنس عملها، لقد أنقذها طرق "عنود" على باب غرفة المكتب وتبعه دخولها بعد ثواني معدودة ليستمر الاثنان في الالتحام النظري دون الاكتراث للذي آتى لولا اقترابها منهما وهي تتعجب ما الذي يفعلاه:

-       ايه ده فيه ايه، انتو كويسين؟

 

رمقته مرة أخيرة باستحقار شديد بينما أطلقت زفرة وحاولت أن تفصل الأمور فأخته ليس لها ذنب بكل هذا والتفتت نحوها ثم أخبرتها بنبرة هادئة قدر استطاعتها:

-       مفيش حاجة، كله تمام.. كنا بنتكلم بس في موضوع وكل واحد ليه وجهة نظر غير التاني..

 

-       اطلعي برا وسيبنا لوحدنا!

 

أخيرًا استمعت لنبرته، فارغة من المشاعر، باردة كالموت، وجامدة كالصخر، وعيناه لا تزال تفتك بها في قتالهما الذي لم ينتهِ بعد..

كلتاهما ظنتا أن "عنود" هي المقصودة، ولا تنكر أنها شعرت بالإهانة أمام زوجة أخيها، فهمست بإحراجٍ شديد:

-       أنا آسفة، مكونتش اقصد إنـ..

 

-       مش أنتِ!!

 

 

قاطعها باقتضاب لتندهش "روان" من فعلته ولم ولن تكون هذه الإهانة التي صفعها بها هينة لتتركها تمر دون أخذ موقف لتبتسم له متوعدة إياه ثم التفتت وغادرت واتجهت فورًا للخارج دون المزيد من قول كلمات لن تُفيد رجل مجنون مثله!

 

أمّا عن تلك الصغيرة، شعرت "عنود" بأن قلبها سيغادر ضلوعها عما قريب، لم تفسر سوى رؤيته لها بصحبة رجل واخبار والدهما وعادت لها كل المخاوف التي كانت تشعر بها منذ ساعتان..

 

ابتلعت وهي تحاول أن تفهم ما الذي يحدث فقاربت أن تسأله بارتباك التقطته عيناه في جزء من الثانية وسبقها هو قبل أن تقول شيئًا:

-       ايه اللي خلاكي تقابلي روان النهاردة بالذات؟

 

هي لم تتحدث لأخيها كثيرًا، بالكاد هناك ما يُسمى بعلاقة بينهما، ولكنها تشعر بالرعب منه، ملامحه ونظراته تلك جعلتها ترتد للخلف واجابت بتردد:

-       مفيش، عادي يعني احنا بنتقابل وكنا متفقين، وهي قالتلي انها مكانتش بتفتح موبايلها وهي مسافرة وأول ما شافت كلمتني عشان متزعلنيش!

 

هي الأخرى كاذبة وتخفي أمرًا ما، وهو ليس بالمزاج المناسب لهذا التوتر منها، سيُنهي كل هذه الظنون الآن ولن يبحث بالمزيد من الأدلة سوى بكلمة واحدة:

-       ويونس؟

 

اتسعت عينيها في خوف، فهي تظن أنه رآهما معًا وسيخبر والدها لترتبك أكثر ورأته يحدق بها متفحصًا إياها بطريقة جعلت حلقها يجف وأنفاسها تُسجن بداخل رئتيها وارتعشت شفتاها وهي تنطق بصعوبة:

-       مماله؟ صدفة.. قابلناه صدفة!

 

رفع احدى حاجباه وهو يُكرر:

-       صدفة!!

 

أومأت له بالإيجاب وأخذت تهز رأسها بينما شعرت بالخوف وودت أن تبتعد عن ملامحه التي لأول مرة تراها بمثل هذه الطريقة فقالت بحروف تلاطمت ببعضها البعض:

-       اه صدفة، والله لقيناه فجأة جه، وأنا، أنا، أنا أول مرة اشوفه، اقصد بعد يوم عيد ميلادي لما كنا في الأوتيل وكان معاه أخته، ومامة روان، وأنت وعدي كنتو معايا و..

 

توقفت عن الكلمات بينما لا يزال يتفحصها مليًا وارتباكها هذا لا يوضح سوى أنها كاذبة:

-       انتي هتستعبطي؟

 

أومأت له بالإنكار وابتعدت عنه عندما وجدته يقترب منها وهي لا تستطيع تخيل أن هذا هو أخيها لقد بات مُرعبًا حتى أكثر من والدهما وهو غاضب وسرعان ما حاولت نفي التهمة عنها:

-       والله هو ده اللي حصل، أنا وروان كنا خارجين وهو جه صدفة وحتى أنا قمت، أنا قمت و.. و..

 

-       انتي كدابة!

 

 

عندما توقفت عن الكلمات لحقها هو بكلمة واحدة وهو يحاول تبين صدقها ليرى عينيها تتوسع بدهشة ثم هتفت بحرقة:

-       والله العظيم ما كدابة، روان اتصلت بيا وخرجنا فعلًا وبعدين جه فجأة، أنا هاكدب عليك ليه بـ

 

وقبل أن تتابع أوقفها بصفعة قوية ارتسمت بفعلها بصمات أصابعه فوق وجهها لتُصاب بالصدمة الشديدة التي سرعان ما تبعها دموع لم تتوقف ليأتيها صوته آمرًا:

-       تنسي روان، وتنسي إنك تعرفيها واياكي تشوفيها ولا تخرجي معاها تاني، وكدبك ده مش هيعدي بالساهل.. امشي اطلعي برا على البيت على طول، محمود هيوصلك، واياكي اسمع أو اعرف إنك كلمتيها تاني!

 

يُتبع..