-->

الفصل التاسع عشر - كما يحلو لكِ - النسخة العامية

 



الفصل التاسع عشر

النسخة العامية

-        آلو.

سلط انظاره بركن بالغرفة لا يعي ماهية ما ينظر إليه، يتمنى لو كان بإمكانه سماع ما يقوله الآن، هذا الرجل لا يدري لماذا لا يشعر بالراحة لمجرد فكرة قرابته منها ولا يُطيق أن يكون هناك علاقة تجمعهما، حتى ولو صلة قرابة أو منافع مشتركة في عملهما، وإلى اليوم وحتى هذه اللحظة لا يُصدق أنه أراد الزواج منها يومًا ما قد نسيه ونسته هي كما تدعي، فكل امرأة بداخلها لابد من أن يُصيبها بعض التفاخر ولو القليل بأن هناك من يريدها من الرجال، ولو لم يفقد عقله بعد، هو يتذكر أنه يمتلك ملامح جذابة قد تُعجب بها الكثيرات وحتى لو كانت زوجته نفسها!

حاول أن يسيطر على تفكيره وهو يتذكر الكثير مما تعاهدا عليه، لو كانت تُريده لكانت تزوجت منه قبله، هو يثق بها، ويرى عشقها له في عينيها، هي مجرد مكالمة عابرة مع ابن خالتها الذي هو زير للنساء وستنتهي عما قريب، عليه التحمل حتى تنتهي وسيكون بعدها كل الأمور على ما يرام.

نفث دخانه ببطء وهو مشتت بين ثقته العمياء بها وبين استحالة ثقته بهذا الرجل ليستمع لها تقول:

-        معلش متزعلش مني، كنت مشغولة جدًا الفترة اللي فاتت وغيرت الموبايل وحصل كام حاجة كده، وأصلًا مشوفتش أي حاجة من اللي أنت بعتها.

حسنًا، هذه الطريقة التي تُحدثه بها لا تُعجبه، لماذا تسترضيه؟ فليحترق بالجحيم لو أراد، وما الذي أرسله إليها؟ لم يشعر بمثل هذا الفضول في حياته أبدًا مثل ما يشعر به الآن!!

- متبقاش زنان بقى يا يونس، أنا مسافرة اليومين دول ولما ارجع هبقى اشوف الموضوع ده، وبعدين أنت لسه أصلًا بتفكر في الموضوع وحاطه في دماغك؟!

ابتلعت ببعض التوتر، فهي تعرف أن ردة فعل "عمر" لو علم حقيقة ما يُريده منها ويحدثها بشأنه لن تكون جيدة، لا تظن أن رجل مثله بأفكاره قد يستهين برجل يريد التعرف على أخته، حتى ولو كان لا يملك معها علاقة وطيدة، ربما أفضل حل أن يكون حديثها مُبهم وأن تختلق أمرًا ما يخص العمل ليكون هذا مبررها الوحيد!

-        يارا شايفة ايه طيب؟

لماذا لا يستطيع أن يجد كلمة واحدة منطقية بين كلماتها، أمر ماذا الذي يتحدثان عنه؟ وما شأن ابنة خالتها بالأمر، لماذا يشعر بأنه غبي للغاية؟ اللعنة، لقد قاربت سبابته على الاحتراق!!

انتبه لسيجارته التي احترقت وتساقط رمادها دون أن يلاحظ تآكل النيران لها فالتفت ليلقي بقاياها بالمنفضة بجانب الفراش الذي لا تزال جالسة عليه ليجدها تبتسم نحوه قاصدة إياه ولكنه لم يُعطها أي اختلاف بملامحه وحاول أن يُنصت أكثر لعله يتحصل على كلمة من حديث هذا الأحمق إليها ليجدها هي تقول باستغراب متسائلة:

-        دفع ايه اللي كان بدري؟

سلطت تركيزها على صوته بمنتهى الاهتمام وتوقفت عن مبادلته النظرات بينما هو لم يفهم ما تتحدث بشأنه ولكن على ما يبدو أنه أمر يخص عملهما ليجد استغرابها يتحول لملامح تلقائية وتابعت:

-        أنا اصلًا مبحبش اتأخر في الدفع على حد، ودي طريقتي مع الموردين، وأنا مقصدش من البداية أتأخر عليك في الدفع، فأكيد جالنا دفعات من العملا عندنا فعدلولك الشيك مش أكتر.

هذا هو التفسير المنطقي الوحيد الذي اهتدى عقلها إليه بعد أن أخبرها عن السداد المُعجل الذي قامت به إدارة المالية الخاصة بشركتها، ولم تكن تعلم أن هناك الكثير مما فعله زوجها ذو المزاج المتقلب ذاك اليوم الذي كانت تكافح به اثار الثمالة بالفندق وحدها ولو عرفت ما نتج عنه ستجن بالتأكيد!!

انتبهت نحو "عمر" من جديد فوجدت ملامحه تكتسي بالوجوم لتتنهد وهي لا تريد أن تكون طرفًا في مزاح ابن خالتها الأحمق الذي لا يتوقف عن الدخول في علاقات قصيرة مع مختلف الفتيات بمختلف اشكالهن ومستوياتهن الاجتماعية ولا يُكمل أي من علاقته لأكثر من شهر أو اثنين لتحاول التهرب من هذه المكالمة:

-        طيب، ارجع بس كده بالسلامة ونبقى نتكلم في كل ده.. سلملي على يارا كتير والولاد..

لمحها تبتسم وهي تستمع لهذا اللعين الذي لا يعرف ما الذي يقوله لها على الطرف الآخر ليتنفس في النهاية الصعداء وهي تُنهي المكالمة قائلة:

-        خلاص بقى كفاية زن، أنا هاقفل دلوقتي ولما اجي هبقى اعرفك.. باي!

هزت رأسها باستنكار أنه لا يزال بعد كل تلك الأيام يحاول الوصول إلى "عنود" ويحاول أن يصل لرقم هاتفها أو حتى يُرسل لها طلب صداقة عبر موقع التواصل الاجتماعي ولكنه باء بفشل ذريع وكأنه يحاول التوصل لأسرار عسكرية في خضم حرب ضارية!

تركت هاتفها ثم اتجهت نحوه لتجد نظراته المتفحمة بالسواد الباهت تتابعها وكأنها اجرمت بشيء ما فتعجبت منه، لتوه هو من ناولها هاتفها، لماذا يرمقها بهذه الطريقة الآن؟!

حاولت أن تتظاهر بالتلقائية وابتسمت له ثم سألته:

-        مش هننام شوية قبل ما ننزل نخرج ولا مش جايلك نوم؟

أوما لها بالرفض فلم تفهم اجابته، ولكن على ما يبدو أنه لا يريد النوم، وقبل أن تقوم بالمزيد من الاقتراحات توجه نحو الشرفة لتلعن تلك المكالمة التي آتت في وقتٍ ليس بمناسب تمامًا، لقد كادت لتوها أن تقترب من الدخول لهذه الغرفة التي تحتوي على أهم ما يُمكنها التفاوض عليه، هذا بالطبع لو أن "يُمنى" مُحقة فيما أخبرتها به، ولو كانت كاذبة أو قام هو بتغير مكان تلك الخزينة التي يخفي بها الكثير، سيكون عليها أن تسلك طريقًا لا تعرف ما الذي قد يظهر به، والكارثة الأكبر، كيف ستقوم بالولوج إليها؟

تبعته للخارج فوجدته يحدق نحو المياه في صمت وملامحه منزعجة وكأنها سبته بأبشع القول فتلمست يده برقة وتنهدت وهي تسأله:

-        مالك؟ ايه اللي ضايقك؟ إني رديت عليه؟ ولا إني ممكن أكلم راجل عمومًا؟

اكتفى بلمحها بطرف عينيه وعقد حاجباه وبقي على صمته ثم سلط نظره نحو يدها الملامسة لكف يده فوق سور الشُرفة ليحاول أن يحتوي هذا الحنق بداخله قبل أن يطغى عليه وعليها ليجدها تُزيد من غضبه وهي تخبره بإطنابٍ ونبرة معتدلة:

-        عمر، مظنش إن البنت اللي عمرها ما دخلت في أي علاقة مع أي راجل قبل جوازها هتستني تتجوز عشان يكون فيه ما بينها وبين أي واحد أي علاقة، وغصب عني متعودة اتعامل مع الكل بحدود سواء رجالة أو ستات، وده في الأول وفي الاخر ابن خالتي اللي اعرفه من يوم ما اتولدت وساعات بيصادف يكون فيه ما بيني وبينه شغل أو اشوفه في عزومه، هو قريبي في النهاية، بس أنا بحبك وعارفة إنك بتحبني زي ما بحبك وبتثق فيا، واللي أنت بتعمله ده يحسسني إن أصلًا مفيش ما بينا لا حب ولا ثقة!

أطبق أسنانه وهو يلتفت لها ليتفحصها مليًا وعقب بحُجة واهية:

-         أنا واثق فيكي بس مش واثق فيه، ولا في غيره!

تفقدته بثبات ثم أردفت دفاعها عن نفسها وعن الموقف نفسه بجدية فهي باتت تعلم الآن أن هذا هو رد معظم الرجال المرضى بالارتياب بشأن كل ما يتعلق بتعامل زوجاتهم مع أي رجل في حياتها اليومية ولكنها لم تترك هدوئها:

-         لو واثق فيا يبقى تثق في إن أي إنسان يعاملني بطريقة مش مظبوطة يستحيل اتعامل معاه أصلًا أو اكرر تعاملي معاه، وكمان لازم تكون واثق إن لو أي راجل تعدى حدوده معايا هتكون أنت أول انسان اعرفه واحكي له.

انطلقت الحروف من فمه دون ادراكه بغضبٍ شديد:

-         وأنا المفروض اصبر واستنى لما حد يتعدى حدوده معاكي وحضرتِك تيجي تبلغيني!

رفعت حاجبيها مندهشة وعقبت بسخرية وهي تتفقده بانزعاج وكما تفلتت الكلمات منه انطلقت الحروف منها هي الأخرى بتلقائية شديدة:

-         لا، مينفعش طبعًا، المفروض متستناش ولا تثق فيا ولا في حد، المفروض تحبسني وأبطل اشتغل واقطع كل علاقاتي اللي تعتبر اصلا شبه معدومة بالناس عشان ساعتها تكون متطمن ومبسوط!

شعرت باختناق أنفاسها فالتفتت كي تتجه للداخل قبل أن يتحول هذا الاختلاف فيما بينهما إلى شجار عظيم، على ما يبدو أن فكرة تعديل القليل من ظنونه وافكاره شيء مستحيل، ولكنها وجدته يجذب ذراعها بقوة ودفعها أمامه وشعرت بانعكاس قسوة قبضته عليها فوجدته يتحدث لها مغتاظًا وأنفاسه المحترقة بلهيب الغضب تتساقط عليها بصحبة حروفه التي سببت لها المزيد من خيبات الأمل معه:

-        أظن دلوقتي بعد مجرد مكالمة مع الزفت ده فهمتي قصدي وأنا بقولك عمرك ما هتقبلي راجل زيي، ولا عمرك هتفهمي ابسط الحاجات اللي أي ست ممكن تفهمها وتقدرها ولو مكانك هتسمع كلامي من غير جدال فيها، كده اتأكدتي إن لولا هدوئي معاكي ومعاملتي اللي اتغيرت ليكي عمرك ما هتفهمي مشاعري وحبي ليكي غير بالطريقة دي وأنا بحاول أكون إنسان تاني عشانك!

حدقته بعسليتين متسعتين من تقززها من ترهاته، هل هو من يُلقي باللوم عليها؟ أم يمُن عليها بكونه يحاول أن يتغير من أجلها؟ ما الذي يقوله؟ هل تضرر عقله إلى هذه الدرجة؟ أم أن أفكاره المغلوطة ستستمر في دفعه لقول هذه الترهات للأبد؟!

نست تمامًا ما تحاول فعله حتى تصل معه لتلك الغرفة، وتصرفت بسجية شديدة من شدة انزعاجها عندما غلبتها مشاعرها، وتحول الأمر لمجرد شجار زوجي واقعي بين رجل وزوجته لا يخلو من عدم التفاهم، وانطلقت الكلمات بصحبة غضبها المتدفق بدمائها من بين شفتيها دون أدنى محاولة للسيطرة منها على هذا الجدال:

-        لو أي ست مكاني هتفهمك وتقدرك، حلو اوي، ليه اتجوزتني من الأول؟ لما أنا مش بفهمك ومش بقدر مشاعرك ولا حتى بقدر إنك بتتغير عشاني؟ عايز تحولني لواحدة تانية معرفهاش عشان بس أنت بتتغير، عايزني ابقى ايه، نسخة من مامتك وأختك وألبس زيهم واتصرف زيهم واقعد محبوسة من غير شغل ومن غير تعامل مع الناس ولا عايز تخليني نسخة من يمنى واركعلك واقولك يا سيدي؟ آسفة جدًا بس أنا مش ولا واحدة فيهم، ولا عمري هكون يا عمر، وكلامي ليك قبل المكالمة لأني عايزة اسعدك زي ما بتسعدني بس في حدود احترامنا لبعض وتفاهمنا لكن مش بالطريقة دي أبدًا!

رمقها بغضبٍ اختلط بدهشته فلم يمكنها الصمت بعد أن شعرت أنها لا يُمكنها التحمل بخضم تقلباته التي دائمًا ما تجد بينهما سبيل وحتى خلال ابسط المواقف العابرة ولو كانا في غاية السعادة لتنفجر بنبرة حادة:

-        اعتقد كويس زي ما أنت بتفكر غلط بدماغك، فكرت في إني هكون مراتك في يوم، وعرفت عني كل حاجة بما إنك محامي شاطر وبتعرف توصل لكل اللي عايز تعرفه بأي طريقة سواء كانت صح ولا غلط، بعد ما دورت ورايا أظن إنك عرفت مين هو يونس، ومين هي روان، يونس ده يستحيل ابص ليه غير انه اخويا، ولو كان عندي عيلة كبيرة غير خالتي وولادها اعتقد إنك كنت عرفت عنهم كل حاجة قبل ما تفكر تتجوزني، يا ترى معرفتش ان شركتي فيها مش اقل من ألف راجل وألف ست وبتعامل مع الكل بمنتهى الاحترام؟ معرفتش إني انسانة محترمة واستحق ثقتك وأنا مبهتمش بأي حاجة في حياتي غير شغلي وانت بتبص ليا بعد المكالمة اللي كانت قدامك وتحت عينيك كأني كنت بخونك مثلًا أو بعمل حاجة من وراك؟ معرفتش إن بعد كل اللي مر عليا أنا وأنت يخليك تبطل تمشي ورا الأوهام اللي في دماغك دي.. ولا لسه جواك جزء مصمم يخليني حيوانة مربوطة بحبل من رقبتها ملهاش اختيار ولا قرار ولا تفكير ومستني مني اقولك طيب ونعم وحاضر وأنت صح وأنا غلط وفي آخر اليوم اتبسط بالحضن والبوسة والكلمتين الحلوين بتوعك!

التقطت أنفاسها بعد هذه المحاضرة التي لا تدري كيف غادرت شفتيها ليرمقها بصمتٍ شديد ولانت قبضته على ذراعها فحاولت أن تهدأ لتتابع بخفوت ونبرة تغلفت بالحزن، الندم يمزقها بداخلها لأشلاء، نادمة بقسوة أنها تحاول من جديد معه لمجرد لحظة واحدة، كم تكره عشقها الشديد له الذي يدفعها لأمل بتغيره في بعض الأشياء، ربما عليها أن تنهي هذا الشجار لعلها تستطيع استعادة بعض الهدوء فيما بينهما مثل ما كانا بالأيام الماضية، ولكن في نفس الوقت بطريقة تبدو بأنها منطقية وكلمات تتناسب مع تلك المرأة الساذجة التي تزوجته ونضجت قليلًا، واكتفت من تصرفاته غير المنطقية:

-        عمرك ما هتثق فيا طول ما أنت مقتنع إنك صح والكل غلط، ولا عمر افكارك هتتغير، أنت بجد محتاج تتعالج نفسيًا من كل اللي أنت فيه ده لو عايز نكمل الجواز ده على خير وعشان يكون فيه نوع من أنواع التفاهم بينك وبين الناس وبينك وبيني وتبطل تشك في كل حاجة وكل حد.. حبنا لبعض مش كفاية يا عمر ولا عمر الحب لواحده هيسعد اتنين!

انتزعت ذراعها من أسفل قبضته واتجهت لتتناول رداء طويل غير رسمي وضعته حول ملابسها التي بالطبع لن تليق بالنسبة لنظرة رجل مثله كي تظهر بها أمام أعين الجميع وتركت الغرفة وغادرت دون أن تتناول أي شيء يخصها وذهبت لتسير على غير هدى لتأخذها اقدامها أينما يحلو لها!

مجرد مسألة غيرة، من مكالمة استمع لها بأذنيه، وتابعها بعينيه وهي تتحدث خلالها، مجرد موقف يحدث لآلاف الزوجات، وها هو يُذكرها أنه لا يستطيع التفكير ولو لمرة واحدة بطريقة صحيحة، وكأن الثقة بينهما منعدمة!

لن يكون زوج جيد أبدًا سوى بتعديل هذه الأفكار المريضة برأسه، تقسم أنها لو كانت حاولت أن تناقشه فيما يقوله أو أعطت له ولو فرصة وحيدة كان ليأمرها كالسلطان المغرور اللعين بأن تنخفض على أربع لتقبل يديه وقدميه وهي تبكي ندمًا أنها اجابت ابن خالتها، كيف يُمكنها الاستمرار بهذا الجنون وعدم وعيه بأن أفكاره، وما تربى عليه، وعلاقاته سواء الجسدية مع النساء أو حتى مع تلك اللعينة التي اوقعها حظها في شر كونها نسخة طبق الأصل منها، كلها بأكملها خاطئة!

وقفت أمام المياه وتلك النسمات تخلل خصلات شعرها ثم عقدت ذراعيها وهي تهدأ وتلعن غبائها، لقد تصرفت بمنتهى السذاجة وتركت مشاعرها للمرة المائة بعد المليون أن تتصرف وتدخل فيما بينهما، غبية، غبية بشدة، وتكره غبائها هذا!! لو كانت قبلت يديه وهي تخبره بأنها لن تتحدث لأي رجل مجددًا ولو ظاهريًا لكانت اذكى وكان هذا سيمهد الطريق قليلًا لغرفته حتى تحصل على تلك الأوراق!

ولكن يبدو أن ما حدث يُذكرها بأن مهما كانت السعادة التي يعيش كلاهما بها الآن وذاك الهدوء وتلك النسمات من العشق وأزهار الربيع المتفتحة التي يتهافت عليها فراشات الغرام المتراقصة، لن تستمر إلى الأبد وسيعود عقله السقم بفكرة مريضة من أوهامه التي لا تنتهي ليُفسد عليهما حياتهما..

كيف لها اصلاح ما افسدته الآن؟!!.

--

كادت أصابعه أن تتضرر من شدة اعتصاره لقبضتيه بقسوة وهو يحاول مواجهة هذا الشعور الكاره لتصرفها، صوتها المرتفع، كونها تصمم على جعله يُذعن لكل ما يحلو لها وعصيان كل ما يُريده، من منهما الرجل بهذا الزواج؟!

يعشقها، هذا لم يعد تساؤل عابر بعقله يمر عليه بين الحين والآخر، ولكن أن يختار بين ضعفه وعِشقه لن يقبل بأن يكون رجل ضعيف، أم أن العشق يكمن بالضعف وهو لا يدري؟ هل كل من عشق امرأة صار ضعيف للأبد؟

لديه آلاف الحلول بعد تمردها ذاك، لديه آلاف الحيل قد تجعلها تركع أسفل قدميه وهي تتذوق أنواع شتى من العذاب الذي سيدمر عقلها وبدنها على حد سواء، ولكن ما الذي سيحدث بعد أن يفعل، سيخسرها لا محالة وسيعودان معًا لنقطة البداية، فهو الرجل سادي الطباع الذي لا يقبل سوى الطاعة وهي لا تحب هذه السيطرة القاسية منه وسيدخلان دائرة لا تنتهي، ولقد سأم هذا، فلقد حدث مراتٍ عديدة فيما بينهما ولم يعد لديه الطاقة لفعلها من جديد.

خلل خصلاته للأعلى وهو يحاول السيطرة على نفوره مما تحول له، فلا هي تريد التوقف عن عنادها ولا هو يعرف من الرجل الذي تحول له في الآونة الأخيرة، متى حدث كل ذلك؟ وما الذي حدث له؟ وهل مجرد العشق هو من دفعه لكل هذا التحول؟ ارتيابه بشأن الفترة الماضية يعود من جديد! يعلم أنه لن يتركه هانئ البال للكثير من الوقت!

لقد كانت لديه خطة محكمة كي يُفسد تلك القضية الواهية، لقد ادعى أمام الجميع أنهما بخير لهذا قام بدعوة عائلتها بهذا الفندق، أخبر والدتها أنهما سيحاولان الحصول على بعض الوقت اللطيف لعل هذا يجعلها تتوقف عن استكمال القضية، لقد ابتاع هدية لأخيها، عرف من هو المحامي الذي ذهبت له بشأن القضية وهو مجرد شاب يعمل بمكتب محامي لا يكره أكثر منه، كان يُخطط أن يقوم بإبعادها عن الجميع لحين انتهاء جلسات القضية ومجرد عدم حضورها وحده سيكون كفيل بخسارتها للقضية، وطبقًا لليوم، هذا لو كانت ذهبت وحضرت جلسة الاستماع لكانا الآن في مرحلة الصُلح بين الحكمين، ولابد من أن هذا الحقير الذي قامت بتوكيله يعلم أنه سيقوم بادعاء صورية مقدم صداقها، هو ليس بغبي على كل حال ليقوم بكتابة صداقها بأوراق الزواج علنًا!

ما الذي حدث وجعلها تتراجع؟ هل يُمكن أنه ثمل بشدة لدرجة أنه قضى معها ليلة مثل تلك الليالي التي يثرثر بها ولمس شفقتها عليه أو عشقها له؟ ولو كانت القضية مستمرة إلى اليوم، لقد أخبر "باسم" أن يبلغه بآخر تطورات الأمر ولكنه بالطبع لا يعرف شيئًا لأنه وببساطة فقد عقله على ما يبدو أو كان يعاقر الخمر بشراهة، ما الذي حدث له ولها حقًا؟ هل من الممكن أنها تكون السبب في غياب عقله وعدم تذكره وذهبت لتقوم بالاستمرار بالدعوى وهو لا يدري؟! ولو حدث ذلك، كيف فعلتها؟!!

نهض سريعًا ثم امسك بهاتفه وسرعان ما قام بالاتصال بمساعده، لابد من أنه يعرف ما حدث بشأن القضية، ولا يكترث لاختلاف التوقيت، إن لم يجبه سيقوم بفصله من العمل دون انذار!!

بمجرد إجابته على المكالمة سأله وهو بالكاد يحاول التحكم في نبرته كي لا يبدو متلهفًا ولكنه لم يُفكر ولو بكلمة ود واحدة فيما بينهما:

-        ايه اللي حصل في الخلع يا باسم؟

آتاه الجواب في خلال جزء من الثانية:

-        اترفضت لعدم الحضور.

زفر براحة شديدة وقارب على أن ينهي المكالمة فأردف "باسم" قبل أن يغلق دون كلمة وداع فهذه هي عادته:

-        حضرتك كان فيه ورق متأخر محتاج يتوقع منك، ممكن ابعته مع محمود؟

عقد حاجباه وتريث لبرهة ثم حاول التهرب من العمل الذي لا ينتهي ثم أخبره قائلًا:

-        أنا مسافر، هرجع كمان أسبوع، لما اجي هبقى امضي أي حاجة متأخرة.

أنهي المكالمة ثم تأكد من عدم تلاعبها في أي شيء، لو كان الانفصال هو غايتها لكانت هي من تخدعه طوال تلك الفترة الماضية، ولكن من ضمن ما صمم على فعله هو ابعادها عن حياتها ورتابتها ليُفسد القضية بأكملها، هل هو من ذهب بهما إلى منزله كي يمنعها عن التواجد بأي مكان؟ نعم هو يتذكر يوم أن أخبرته بعد ابتياعه لتلك السيارة، عقله اللعين يأبى تذكر هذه اللحظة تحديدًا، هل كان ثملًا؟ لابد أن هذه هي الإجابة الوحيدة على عدم تذكره، ولابد من أنه بكى كالطفل الصغير بعناق جمعه بها وتوسلها أن تبقى معه، وعاهدها أنه لن يخفي عنها شيء مجددًا، ولابد من أنها استجابت.

هذا يبدو منطقي إلى الآن، وبعدها ما الذي حدث؟ هل كان يتناول الشراب وهو يضاجعها؟ لا يستبعد الأمر، فتلك المتعة التي يشعر بها معها حتى وهي كارهة له لا تضاهيها متعة، ولو هي محقة بأنهما كانا بأفضل حال فالثمالة أكثر شيء منطقي!

-        مش كفاية اتهامات يا حضرة المِتر ولا ايه! مش ياما شكيت فيها وطلعت في الآخر ملهاش ذنب في حاجة؟ ارحمها وارحم نفسك بقا..

صوته هذا اللعين الذي لا يتوقف، سيقوم بفصل رأسه عن جسده حتى يتنعم بالقليل من الراحة بعيدًا عن هذا الصوت!

لمح هاتفها فتوجه نحوه ليجده محمي بهوية وجهها ويطلب منه ادخال رقم المرور ليلعن بداخله، ما الذي تخفيه بهاتفها ولا تريده أن يعلمه، هل تخفي أمرًا عن هذا الوقت الذي لا يتذكره؟ أم هو يرتاب بأمرها؟

تساؤلاته وتخميناته ليست منطقية، لأنه يتذكر عدة أشياء بهذه الفترة، ولكنها ليست واضحة، هل فسد عقله وأصبح مدمر؟ لو فعل كيف يتذكر تلك التفاصيل القليلة؟ تواجده بمكتب منزله، وقراءته للكثير من الكتب، تواجده بصحبة برق، تواجده معها، كل هذه الممارسات الجامحة، تشاجره معها بشأن استيقاظه وعدم النوم، يستحيل أن تكون هي السبب في غياب تلك التفاصيل!!

سأم من شدة التفكير وفرك جبهته ليقع بحالة من الشتات، لا يتمنى أكثر من أن تعود ليفتك برأسها المتصلبة، ولكنه يعي أن لو حدث هذا سيزداد تصلب رأسها!

لم يلحظ أنه بمجرد وجود أدنى ما يُثير الارتياب قد عاد بمنتهى السهولة لتلك الأفكار التي تحدثه بأن يفعل بها ما يؤلمها، ولم ير أن الزواج شأن عظيم يحدث به آلاف الاختلافات كل يوم، وأيًا كانت هذه الاختلافات فهي لا تُحل بالعنف، ولا بالعقاب، ولا بتغيره الذي لن يستمر لكثير من الوقت.. الرجال مثله لا يحق لهم الزواج دون الإفصاح عن عقولهم الصدئة ذات الأفكار المتعفنة، ولمن تشاء قبولها لتقبلها إذن، وفي حالتهما لم يترك لها حتى حق الاختيار في أن تقبل أو أن ترفض!

انتبه عندما دخلت وهي تصفع الباب بقوة، ملامحها باكية تدل على انهيار قريب لتوه سيطر عليها، وتلك النظرات منها تبدو كقذائف مدفعية وهي تطلقها صوبه وكأنها على وشك قتله ثم صرخت به وهي تشير سبابتها نحوه:

-        اسمع، احنا مش كل شوية هنتعامل بالأسلوب ده لأني تعبت، تعبت من أول الجواز معاك وأنا بحاول كل يوم وكل لحظة اننا نكون كويسن، حبينا بعض ووعدنا بعض اننا هنكون كويسن ونحاول نتفاهم، ايه لازمة غيرتك التافهة دي؟ وهو أنا مش كل ما يحصل حاجة تمسكني وتزقني وتزعق وتكلمني بالطريقة دي، اياك تعمل كده تاني معايا، أنا ما صدقت نبقى كويسين ومبقتش قادرة أحاول تاني في حاجة!

تفقدها باستغراب وهو يحاول فهم ما تفوهت به بين نحيبها الذي ارتفع بمجرد تحدثها منذ ثواني واقترب نحوها ليجدها تواصل صراخها نحوه:

-        أنت عايز ايه بعد كل ده، أنا خلاص مبقاش قدامي لا خلع ولا هطلب منك طلاق، أنا اموت نفسي عشان ارتاح من خناقتنا كل شوية، هو ده اللي هيبسطك مش كده!

ارتفع صوت بكائها فاتجه نحوها وهي تسلط عسليتيها الباكيتين نحوه لتجده يضمها إليه دون قول كلمة واحدة لتشعر بالراحة بداخلها بعد أن رأت اقتناعه جليًا على ملامحه، لقد أرضى ضعفها الظاهري غروره اللعين، لابد من أنها قد ربحت هذه الجولة بصراخ ودموعٍ لم يكن سببها ما حدث بسبب مكالمة أو غيرة عمياء، بل كان السبب أنها أجبرت نفسها أن تتذكر أولى مراتها معه وهو يريد اغتصابها، ليتها صممت على طلب الطلاق منه وقتها، حتى ولو رفض، على الأقل كان لديها الفُرصة بعدم وقوعها في عشقه، هي من دفعت نفسها لهذا العشق، وهي من ستتحمل نتيجة طيبتها الساذجة غير المنطقية، ربما في المستقبل هذا الزواج سيكون لها مرجعًا كاملًا كي تتوقف عن المبالغة في طيبتها التي لم تدفعها سوى للألم المحض!

-        روان، اهدي واسمعيني.

لم يعد يستحق حتى ولو قول كلمة واحدة لتزجره وهي تضمه لها بقوة واختلط صوتها بصوت بكائها الشديد:

-        أرجوك متتكلمش في حاجة، تعبت من الكلام في المشاكل، أنا بحبك وبقيت مش عايزة نتخانق تاني!

--

في صباح اليوم التالي..

ازعجته ذبذبات هاتفه الذي يعلن عن تواصل رنين مكالمة مزعجة فنهض يحاول محاربة النُعاس وابعد جسدها للطرف الآخر بهدوء حتى يستطيع التحرك وجذب هاتفه ليجد أن المتصل والده!

زفر بضيق وهو يحاول أن يتجنب قدره المحتوم بالتحدث معه، فهو بالطبع لن يتوقف عن تأنيبه ولومه عن عدم عمله بالآونة الأخيرة، ولكنه لا يدري كيف يخبره أنه لم يعد يطيق المحاماة والقانون بكل ما فيهما، لقد سأم هذا الأمر.

فكر بأن يتركه حتى يصاب بالملل من عدم رده ولكنه يعلم أن والده لا يستسلم أبدًا وسيظل يحاول معه حتى تقوم الساعة، وربما؛ لو كان سعيد الحظ، سيتركه وشأنه لو استمع لنبرته الناعسة.

-         أيوة يا بابا.

قالها بعد أن أجاب المكالمة وهو ينهض تاركًا الفراش ثم جذب سجائره وقداحته وتوجه للشرفة خارجًا حتى لا يدفعها للاستيقاظ، فهما لم يناما سوى ما يقارب من أربع ساعات وآتاه صوته فارغ المشاعر من الطرف الآخر:

-        اخبار السفرية ايه، مبسوطين؟

من هذه النبرة الساخرة علم أنه لن يتركه دون محاضرة لن يملك أمامها سوى السمع والطاعة، فهمهم كإجابة مقتضبة بالموافقة على سؤاله ليردف الآخر:

-        اسمع يا عمر، أنا لما عرفت إنك هتتجوز اتبسطت، وعارف إنك راجل عاقل واخترت بنت ناس كويسين، إنما من بعد الجواز اللي كلها كام شهر ويبقى سنة أنت حالك في النازل ومش عاجبني، تقدر تقولي ايه اللي أنجزته من ساعة ما اتجوزت؟

كادت قبضته أن تهشم هاتفه من كثرة تكرار والده لهذا التساؤل ولتذكيره بأنه لم ينجز هذا ولا ذاك، لماذا عليه الإنجاز؟ هل كل ما انجزه قبل زواجه ولمدة ثلاث سنوات عندما كان عاكفًا على العمل لا يكفي؟ وبكل تلك السنوات قبلها، لقد تألم عقله وهو يحاول أن يُركز في تلك القضايا ويسأله عنها ويستشيره بإجراءاتها حتى يحصل على أفضل حكم ممكن لصالح موكله، ألم يكفه كل هذا؟

متى سيراه مدعاة للفخر؟ متى سيتفهم أنه لم يعد يتحمل المزيد من عبء المحاماة والمجال الذي بات يكرهه بشدة أكثر من الماضي؟ لقد عانى عذاب أليم كي يتمكن من عدم خسارة ولو قضية واحدة، ألا يُكفيه هذا؟!

آتاه صوته من جديد بالمزيد من اللوم:

-        عمر يا حبيبي، أنا نفسي اشوفك أحسن واحد في الدنيا، سواء كراجل ولا كمحامي ولا كأب، تقدر تقولي ولاد اعمامك اشطر منك في ايه عشان تبقالهم حياة كويسة وأنت لأ؟

واحدة من سجائره لن تكون كافية حتى يعبر هذه المكالمة بسلام، ربما الثانية ستكون إلهاء حتى لا يصرخ بوالده، هو يعلم أنه يريد له الأفضل دائمًا وأبدًا، ولكنه ليس بالمزاج المناسب لكل هذا!

-        ما أنا حياتي تمام وماشية اهي، الشركة عندي يا بابا بقت من أكبر الشركات وعندي محامين شاطرين وكويسين وناس كتير تتمنى تعينهم عندهم!

لو كان يظن أن رده هذا سيتملك مقدرا أنملة من اقناع والده فهو مخطئ، وهذا ما عبر عنه المزيد من كلمات والده المنزعجة:

-        يا ابني هفهمك كام مرة إن كل المحامين دول هيبقوا مع الوقت ولا حاجة من غير اسمك، وأنا مربتكش يا عمر إنك تعتمد على اسمي، بكرة أكبر وأموت وساعتها مش هيبقى فيه غيرك بعدي، ساعتها لو مكونتش انت شاطر ومكمل محدش هيعملك حساب، واديك شايف إن الكل بيفكر ألف مرة قبل ما يقف قصاد يزيد الجندي، أنت لازم تحافظ على اسمك وسمعتك وتفضل تفكر الناس بيك يا إما مع الوقت هتتنسي، ومن ساعة القضية اللي مسكتها لمراتك دي وأنت زي ما تكون بطلت تشتغل محامي، والجواز الصح مبيأخرش صاحبه.

لوهلة شرد بتلك الشهور التي مرت منذ زواجه، الوقت يمر بسرعة شديدة، لقد قارب زواجهما على بلوغ عام كامل، ربما قضية رأي عام ستكون الحل الوحيد له حتى يتذكر الجميع من هو، والده محق بهذا، ولكن بداخله يشعر بأنه ليس لديه الطاقة لفعلها.

-        عمر أنت معايا؟

تساؤل والده نبهه من غفلته بالتفكير فنفث آخر ما استنشق من سيجارته الثانية التي لا يدري كيف انتهت وتنحنح مجيبًا:

-        أيوة معاك، بفكر في كلامك وأنت معاك حق، متقلقش، بعد ما ارجع من السفر كله هيبقى تمام

هل هذه هي نهاية المكالمة؟ يتمنى لو كانت هذه هي النهاية، ولكنه استمع لتنهيدة طويلة من والده، حسنًا، تعليماته وتوجيهاته لتوها في بدايتها، هناك المزيد في جعبته، السجائر لن تكون كافية، هو يحتاج للقهوة كذلك!

اتجه لداخل الجناح، وتوقف أمام ماكينة صنع القهوة، ثم قام بوضع واحدة من الكبسولات شديدة التركيز وانتظر نضوجها بالفنجان اسفلها وترك كامل الحرية لوالده ليشدو بمتابعته لتوجيهاته ونصحه، فلو تعلم شيء خلال تلك السنوات بصحبته، فهو عشق والده لتوجيه الآخرين، ولولا عدم استماعه له لما كان "عمر الجندي" رجل من الأساس!

-        أنا نفسي افرح بولادك واشيلهم، انت خلاص بقى عندك أربعة وتلاتين سنة، كل اللي في سنك معاهم طفل واتنين وتلاتة، ليه متأخر في إنك تفرحني يا ابني؟ هو أنا مستاهلش تفرحني وأنا شايل ولاد ابني؟ ولا فيه مشكلة صحية؟ طمني عليك!

ابتزاز عاطفي رفيع المستوى بدرجة امتياز، ولكنه؛ وبعد كل ما واجهه مع والده، لم ير حقيقة مشاعره، لا يرى أنه يبتزه، بل؛ رأى أنه يكترث لأجله، وآتى رده بعفوية هائلة:

-        مش متأخر، ومفيش مشاكل، بالعكس، روان كانت حامل والحمل مكملش، بس أكيد قريب هتسمع خبر يفرحك

امسك بكوب قهوته التي ملئت الفنجان وتوجه للشرفة مرة أخرى وسيجارة ثالثة صاحبه ادخنتها عندم استمع لتساؤل والده:

-        ليه، هي عندها مشاكل بخصوص الحمل ولا ايه؟

بالطبع، المرأة هي الوحيدة التي تخطأ وكل الغلطات هي من تفعلها، هذا ما يراه ويُصدق به، لطالما تم الحمل فهي مسئوليتها والبقية تقع عليها، ليس هناك شيء خاطئ من قِبَّل ابنه إذن فهي التي اضاعت هذا الحمل!

كيف يبرر له هذا؟ هل عليه قول أن انجذابه اللعين لها بدد هذا الحمل ودفعها للإجهاض؟ أم عليه اعترافه بأنه لا يستطيع السيطرة على نفسه أمام فتنتها المُهلكة وولعه بها؟

أجلى حلقه واختلق سببًا بسرعة وجده منطقيًا:

-        لا مفيش مشاكل، اتزحلقت بس على السلم في بداية الحمل ووقعت والحمل مكنش ثابت وقتها وانت عارف أول حمل لأي بنت ممكن يتعرض لده

همهم والده بتفهم ثم حدثه بجدية شديدة:

-        أنا عارف موضوع الإجهاض ده بيبقى كبير وليه أسبابه، روح واتطمن كويس، وخد بالك أنت مش صغير يا عمر ولا مراتك صغيرة، أنا صبرت على مها عشان كانت بنت عمي وكنا لسه صغيرين وقدامنا الوقت نحاول ومكنش يصح اسيبها، بس لو فيه مشاكل ممكن تتجوز تاني وتخلف من غيرها، متضيعش سنين حياتك من غير ما تفرح بولادك

لوهلة شرد بالمياه أمامه، زواج آخر؟ وامرأة أخرى؟ لن يتحمل، ولن يستطيع أن يقترب من سواها، والده لا يعرف حقًا ما الذي يتحدث عنه!

-         أنا اعرف دكتور كبير وشاطر ويتمنى بس يرد جمايلي عليه، هبعتلك رقمه وروح واتطمن وشوف المشكلة في ايه!

همهم بتفهم متصنعًا الاقتناع وامتن للغاية بأنه لا يرى ملامحه، وتمنى أن تنتهي هذه المكالمة على خير ثم عقب باقتضاب:

-        خلاص تمام.

لم يكن هذا ليُكفي والده، هناك بعض الكلمات التي لو لم يقم بالإفصاح عنها سيظن أنه لم ينصحه بالشكل الكافي، والحقيقة أن تلك الكلمات لو كانت توقفت بحلقه مسببة الموت له لكان أفضل لكل الأطراف، سواء ابنه، أو زوجته!

- أنا عارف إنك بتحبها، وعشان شبه البنت اللي كنت بتحبها زمان، بس متخليش حبك ليها يعميك عن حياتك ومستقبلك، الجواز الصح هو اللي بيكمل حياة صاحبه، مش بيرجعه لورا، ومراتك باين إن تفكيرها زي بنات اليومين دول اللي عايزين يمشوا كل حاجة حتى رجالتهم، بلاش تديها الفرصة يا إما هتأخرك كتير، اديك شايف امثلة كتير قدام عينيك، أنا وكل ولاد عمك واعمامك، كلنا ممشين حياتنا مع مراتتنا وولادنا انما متخليش مراتك هي اللي تمشيك والا ساعتها هتقلل من نفسك

من أين يرى هذا؟ لماذا يظن أنها المتحكمة في كل شيء؟ لابد أنه مخطئ بالتأكيد، ولابد أن يعرف حقيقة الأمر ولو بمجرد بعض استنكار قليل تجاه الأمر:

- لا يا بابا مش روان هي اللي ممشياني ولا حاجة ومش شبه بنات اليومين دول، ايه اللي مخليك تقول كده؟

زفرة منه بملل كانت بمثابة عدم اقتناعه بما يقوله ابنه فلحقه سريعًا بالتبرير الذي أعده مسبقًا:

-        مراتك مش شبهنا ولا شبه اختك وأمك، اه احنا ناس معروفين بس في النهاية فلاحين ونفهم في الأصول، ومراتك اللي روحت اتجوزتها مش زينا أبدًا، وقت لما عرفت اخترت مين واتطمنت إن أهلها كويسين قولت ماشي، انما باينها من بتوع الشغل وعاملة نفسها سيدة اعمال والخلفة والجواز مش في دماغها يا إما كان ايه اللي خلاها تستنى كل السنين دي من غير جواز، وياريتها حتى شاطرة في شغلها زي الرجالة، واديك اهو شايف الوقت بيعدي بينكم وشكلها مش عايزة تخلف ومعرفش مستنية ايه، ولو هتقولي انها شايلة الشغل لوحدها ما ممكن تمشيه من بيتها وتشغل عندها اللي يمشيلها الشغل يعني، اذا كان اخوك الفاشل بيعملها، هي يعني خلاص الدنيا هتوقف عليها لو مشتغلتش بنفسها، لازم مراتك تبقى طوعك، تساعدك، مش تأخرك يا عمر، خد بالك كويس من النقطة دي لأن الوقت بيجري مفيش اسرع منه.

لم يكن يقتنع بهذه الكلمات تحديدًا عندما استمع لها بصوت والده المنبه دائمًا ولكن ازداد قلقه عندما آتاه صوته المتابع بتحذير:

-        أنا رأيي في الناس مبيخيبش يا عمر، ومراتك دي، لو اديتها الفرصة مرة واحدة بس تمشي حياتكم دورك كراجل هيتلغي، وبكرة تشوف ممكن بنت زيها تعمل ايه، فأنت من الأول متسمحلهاش تمشيك، يا إما لو حصل مش هتعرف توقفها، البنات اللي اتربو زيها بطريقتها دي وهي ملهاش راجل يحكمها وبتعمل اللي في دماغها عمرهم ما بيتغيرو ولازم بنت زيها تفهم انها متجوزة راجل ليه آلف حساب مش هيوافقها على تقصيرها معاه وتركيزها على كل حاجة غيره!

--

ظهرًا نفس اليوم..

سعلت بخفة بعد تسلل رائحة سجائره لأنفها لتستيقظ رغمًا عنها بصعوبة وهي تعاني من اثار الصداع الشديد عليها فكل هذا البكاء لم يتركها بخير، لكنها لولاه لم تكن لتستطيع أن تنتهي من هذا المأزق الذي لو كانت جربت أن تتناقش معه وتحدثه دون ثورتها الزائفة، لما انتهت إلى الآن، وبالطبع كان سيُشتتها آلاف المرات وكانت النهاية ستكون صداع لرأسها بسبب ثرثرته وفقد طاقتها في متابعة الحديث معه.

فتحت عينيها تحاول تفقد الغرفة حولها وبحثت عن مصدر تلك الرائحة الخانقة لتلمحه جالسًا على أريكة صغيرة مقابلة لفراشهما بهذا الجناح الفندقي وغارق في صمت هائل.

لمحت على تقاسيم وجهه الهدوء والشرود المبالغ بكلاهما، لا تعرف بعد ما الذي فعلته كلمات والده بعقله، فهو منذ أن أنهى محادثته معه وكلماته لا تزال تعصف برأسه مرغمة إياه أن يتذكر كل ما مر عليه معها، وما يمر في هذه الأحيان، ولا يدري هل عليه أن يُصدقه فهو حقًا لا يُخطئ في حكمه على أي شخصية رجل كان أو امرأة، وبعد تجربته مع "يمنى" يعرف أن والده محق وبشدة!

تخلت عن نعاسها قدر المستطاع ثم نهضت جالسة وأخبرته بنبرة تحمل بعض من آثار النوم:

-        صباح الخير

أومأ لها دون ملامح مقروءة ثم أخبرها باقتضاب:

-        صباح النور

سلطت تركيزها أكثر على ملامحه لعلها تتبين ما سبب هدوئه الشديد لتجد الوجوم يسيطر عليه، فتنهدت وهي تغادر الفراش كي تذهب إليه واهتدى عقلها إلي أنه لا يزال يحمل ضغينة ما حدث بسبب تلك المكالمة مع ابن خالتها، بالطبع لا تعرف شيء عن مكالمة والده، لذلك قررت أنها لابد من أن تتحدث معه، وليُعينها الله على ثرثرته وعدم تناوله دواءه، فهي على ما يبدو قد فاتها افطاره ولم تلحق به.

اتخذت من التلامس ذريعة ثم عانقته واغمضت عينيها ومررت جبهتها مرارًا فوق صدره لتتحدث بنبرة متعبة:

-  مش قادرة اصحى وعايزة أنام.

لم يمانع اقترابها ولكنه لم يبادلها ليتصاعد قلقها من القادم وخاصة بعد رده المقتضب:

-        نامي

رفعت عسليتيها نحوه ثم سألته باكتراث وحرص:

-        مالك فيه ايه؟ أنت كويس؟

أومأ لها لتشعر بهدوئه المبالغ فيه، ومما تعرفه عنه أن هذا الهدوء إما نوبة اكتئاب، وإما هو يضمر لها أمرًا لا تعرف عنه بعد، فمهما كان عشقها له سيظل رجل خبيث يملك العديد من الحيل!

يستحيل أن يكون بدأ بنوبة اكتئاب في هذه الفترة القصيرة، فكما اخبرتها "مريم" أنه سيمر نوعًا ما بمزاج طبيعي لفترة بصحبة العلاج، ولا يمكن أن تخطيه لعلاج اليوم سيؤثر عليه بهذه السرعة الشديدة، لابد من أن هناك أمرًا ما، هل حقًا هو لا يزال منزعج بسبب ما حدث فجر اليوم؟!

وجدته يخفض بصره نحوها بتفحص شديد، ولكنها ثبتت أمامه قدر المستطاع، وتلك اللمسة منه وهي تحتوي يدها بتلك الطريقة كانت غريبة عليها نوعًا ما، فهذه ليست طريقته، عندما كان يريد أن يكتشف صدقها من عدمه كان يكتفي بتفحصها بهذه الطريقة، ولكن أصابعه التي تعبث بكف يدها واتصاله بساعدها جعلتها تشعر بالاستغراب الشديد وبعض القلق!

-        روان انتي ليه عايزانا نأجل الخلفة؟

هل هذا كل ما يزعجه؟ حسنًا، لقد تدربت بالفعل على إجابات عديدة من أجل هذا السؤال، وما نجاها وجعل نبضات قلبها طبيعية هو تفكيرها بالأمر مرارًا، فحتى لمسته على باطن معصمها وهو يجس نبضها حرفيًا لن تكون كافية من أجل معرفة الحقيقة على سؤاله.

-        تفتكر ليه؟

سؤالها المقتضب لم يجبه، ولكن عدم ارتفاع وتيرة نبضات قلبها وعدم تغير سرعتها اراحته نوعًا ما، واكتفى بهزة رأس قصيرة كدلالة على عدم العلم فتفقدته مليًا ثم اطنبت مجيبة إياه:

-        بعد اللي حصلي من الإجهاض، واختلافاتنا الكتيرة اللي خلتني انسى كل حاجة في حياتي واركز عليك انت بس واخليك أولوية قبل أي حاجة، ده خلاني اقصر من ناحية الشغل، من ناحية المسئولية اللي بحاول اتحملها لوحدي لغاية ما بسام يكبر شوية ويبدأ يشيل الحمل ده معايا، طبعًا مش هفضل مأجلة الأطفال لغاية ما هو يكبر واقدر اعتمد عليه، بس في نفس الوقت مينفعش ابعد عن الشغل مثلًا ست شهور ورا بعض واقصر فيه وابقى حامل واشيل مسئولية طفل وشغل تقيل مع بعض في نفس الوقت وكمان أنت وعلاقتنا واختلافاتنا، كده اكيد هفشل في حاجة من التلاتة، وأنا مقدرش اضحي لا بيك، ولا بابني أو بنتي، ولا بشغلي اللي مامي وبسام كمان معتمدين إني بمشيه، من وجهة نظرك، ينفع اقصر مع حد في التلاتة؟

فكر لوهلة، حاول أن يعيد تكرار كلماتها في رأسه مرارًا، وملامحها لا تزال في انتظار سماع إجابة منه، نبضاتها لا تتغير، جسدها ليس به طيف تشنج، نظراتها توحي بالثقة وعدم التوتر، مثل تلك الفتاة التي كان يناقشها وهو يعرض عليها الزواج بمنزله، ربما هي تخبره الحقيقة وتتحدث بسجيتها الشديدة، ولكن لا يدري، هو مشتت بين أن يُصدق كلماتها وبين أن يُكذب قولها، لا يعرف لماذا بات كل حديث معها صعب، وكأنها تصبح غير مقروءة له، أو هي تتحلى بالمزيد من الثقة، أو بالفعل هي لا تكذب، لا يستطيع التحديد ولكن كل ما يلمسه منها لا يدل إلا على صدقها وصراحتها!

لو كان هو غارق في الحيرة فهي الأخرى غارقة بدوامة من خيبة الأمل، كم كانت تتمنى أنها بموقف مثل هذا ستجد دعم شديد من زوجها، حتى ولو بكلمات قليلة أنه سيساعدها، قد يشاركها المسئولية، ولكن كل يوم معه تدرك أن شروده وعدم تنظيمه لحياته وتلك الطريقة التي يستجيب بها لنوباته وافكاره، ستصيبها بالفشل والتراجع، حتى صورة المحامي الناجح التي ظنت أنها واحدة من أهم الركائز التي لفتت نظرها به وجعلتها تُفكر أن الزواج منه أمر ايجابي، واعتمدت على كونه رجل ناجح ومسئول وكونه رجل جيد بعمله، كل يوم يُفزعها انهيار هذه الصورة أمامها، على ما يبدو أن كل ما رأته منه كان مزيفًا، وتلك النظرة العملية منها التي بنت عليها قرارها وحساباتها كانت خاطئة، الأمر ليس أنه كذب بشأن ملامحها المشابهة لحبيبته السابقة، ولا أنه يسلك طرقًا غير مشروعة لمساعدة المجرمين على الفرار، ولا حتى كونه سادي، بل كل ما في الأمر أنه لم يعد هناك شيء واحد ظنت أنها ستحصل عليه معه ووجدته.

فشل كرجل داعم، ليس هناك تشجيع بشأن العمل، فشل كذلك كرجل صريح، اكتشفت كم كان كاذبًا بكل شيء، ولكنه حقق لها أمنية وحيدة كانت تدفنها بطيات قلبها، لقد اوقعها في عشقه، وها هي ترى العشق بعينيه، بالرغم من أنها لا تعلم ما الذي يدور في رأسه، وهي على يقين أنها تخطط للفرار، ولكن الحقيقة الوحيدة التي تعرفها هي أنها تعشق هذا الكاذب المختل بكل ما هو عليه.. ليت العشق وحده كان كفيلًا بتعويض الكثير، ولكنه في الحياة الواقعية لن يكون العشق كافيًا أبدًا..

أومأ في النهاية، موافقة مقتضبة شديدة تابعها قبلة على جبهتها، ما عساه أن يفعل، أن يصدقها أم يُصدق والده، في هذه اللحظة لا يريد التفكير ويريد الاستسلام لهذا الخواء بداخله، لبرهة، أو لبعض الأيام المتتالية، لا يدري تحديدًا ما الذي يريده في خضم هذا الشتات، فهو يعشقها ويُصدقها، ويعرف أن والده يكترث من أجله ويصدق نظرته وحكمه فيما يتعلق بالأشخاص.. ليته يمتلك زرًا ليكبسه فيتوقف الوقت وتقرر الحياة التخلي عن الاستمرار حتى يتملك شتات نفسه ويعود بعدها ليُفكر بوضوح.

استقرت بعناقهما الذي دام لعدة لحظات متتالية، يقلقها هدوئه الشديد، تريد أن تعرف ما الذي ورائه، ولكن الوقت معه لطالما كان كفيلًا بكشف كل الحقائق لها، ظنها الوحيد هو ارتيابه بشأن المكالمة التي استقبلتها فجر اليوم، وسترى ما إن كان ظنها صحيحًا أم خاطئ على مدار اليوم بالرغم من فضولها الشديد ولكنها ستتبع الهدوء معه.

- تحب ننزل نتفسح أو نـ

-        ايه رأيك نرجع مصر؟

قاطعها ثم نفث بعض ادخنته لتفرق عناقهما ونظرت له بتلك الطاقة التي تشع من عسليتيها وهزت كتفيها بعفوية وابتسمت له ثم اجابت:

-         زي ما تحب، معنديش مانع.

--

بعد مرور يوم..

أغلقت عينيها وهي جالسة بتلك الحديقة الملحقة بهذا المنزل الذي من المفترض أن يكون منزل زواجهما وهي تتمتع ببعض النسمات قبل أن تشتد حرارة الصيف على مدار اليوم، وفتحت عينيها لتشرد به، جزء بداخلها تألم ودفع ابتسامة حزينة لترتسم على ملامحها حتى تحول لون عينيها لشفافية شديدة بضوء الصباح، كم كانت تتمنى لو أن هذا المنزل استمر بسعادة وعشق مثل ما استمر منزل والدتها ووالدها بيوم من الأيام، ولكنك لا تعرف حقيقة إنسان سوى بقضاء وقت طويل معه خلال علاقة وطيدة.

هي مغرمةٌ به وتعشق طريقة عشقه بهدوئه الشديد حينما يكون بمزاج معتدل، تعرف أنه يعشقها، هي على يقين تام بذاك الانجذاب الجسدي اللعين بينهما الذي لا ينتهي، هذه هي الأمور المشتركة فيما بينهما، وما عدا ذلك فليس هناك ما يجمعهما.

لا تنفك تقارن بداخل رأسها، هي تعشق البرمجة وعملها، وهو يكره عمله ولا يجد ما يريد فعله ويرغب به، تحب المرح والاستقلالية بآرائها حتى ولو كانت مُخطئة بينما هو يريد أن يتحكم في كل ما تفعله، حظها الجيد لو حصلت عليه بمزاج طبيعي باتت تفتش عنه بطيات عقله وتجبر نفسها على رؤيته منه بفعل العقاقير، وحظها التعيس لو حصلت عليه خلال نوبة أو خلال كذبة جديدة، لماذا تعشق رجل مر بكل هذا وهي بالكاد تخطو أولى خطواتها نحو كيفية التصرف مع كل تلك التعقيدات النفسية الشديدة التي افسدت عقله، ونفسه، وقلبه؟!

اغمضت عينيها لتنساب دموعها في صمتٍ شديد، تقسم أنها كانت تريد النجاح معه، ولكن كل ما هو عليه صعب للغاية، لن تستطيع مواكبته، وهو لا يبادر بأي فعل يُطمئنها أنه سيكون أفضل يومًا ما، حتى لو ساعدته واستمرت في محاولة علاجه، سيأتي اليوم ليكتشف ما تفعله، ولن يوافق، وقد يقابلها بأسوأ ردة فعل قد تتخيلها، الأمر سيكون مفزع، ولقد باتت خائفة طوال الوقت، ولا تتخيل حتى ما الذي سيفعله عندما تواجهه برغبتها في الانفصال، هل سيكون هذا دافع ولو بسيط لإجباره على التغيير؟

الأفكار تتواتر على عقلها ولا ترأف به، وهذا السكون لا يساعدها، بل يجبرها على تحمل اوجاع لا تنتهي، وهي لا تريد هذا الضعف الذي اكتفت منه!

-        روري..

انتبهت على صوت والدتها التي التفتت لها لتجدها أتت بمفردها جالسة على كرسيها المتحرك فحاولت أن تبتسم لها وتجفف دموعها فاختلفت ملامح والدتها سريعًا وسألتها بحرص:

-         خير يا حبيبتي بتعيطي ليه؟

أومأت بالإنكار واجابتها بابتسامة:

-        مفيش، كان نفسي بابي يبقى هنا، اسأله على حاجات كتيرة اوي، وحشني اوي!

غمامة من الدموع حجبت مقلتي والدتها وسرعان ما تحولت نبرتها وهي تتحدث بألم:

-        صادق!! يا ريته كان ما بينا، كان نفسي اوي يفرح بيكي ويكون جانبي وفي وسطنا وانتي بتكبري ومبسوطة مع الانسان اللي يحبك وتحبيه ويشوف بسام وهو بيدخل الجامعة.. وحشني، ووحشتني حنيته وصوته وهزاره وضحكته، وحشني اوي يا روان..

سرعان ما تواترت دموعها بشدة، لتلعن غبائها الشديد عندما حدثتها عن والدها، فلطالما دخلت بنوبة من الذكريات والحزن الجارف كلما تذكرت والدها فاتجهت لتُمسك بيدها وابتسمت إليها بمرح ثم حدثتها وهي تحاول تشتيتها عما تتذكره:

-        بس انتي معانا، واديكي شايفة بسام اهو بيكبر والوقت بيعدي وهنفرح بيه في الجامعة وبعدها الشغل، وأنا اهو حياتي بقت تمام ورجعت أنا وعمر من السفر بتاعنا مبسوطين وكل حاجة بقت تمام.. بلاش بقى العيون الحلوة دي تزعل وتعيط، المفروض تفرح وتبقى بتضحك وهي شايفة ولادها حواليها مبسوطين، مش كده ولا ايه؟

رفعت كف يدها نحوها وقامت بتقبيله لتربت والدتها بحنان على رأسها لتحاول ابتلاع ذلك الألم وتحمله بداخلها واكتفت برسم ابتسامة على شفتيها وانتظرت لترى أي استجابة من والدتها:

-        أنا كنت خايفة اوي عليكي انتي وجوزك لما عرفت موضوع الطلاق، بس الحمد لله بقيتو كويسين، وكنت قلقانة لا بسام يزعل، احنا كلنا شايفينه بيحبك وانتي زعلتيني اوي لما خبيتي عليا، عايزاكي يا حبيبتي تفكري صح عشان حياتك تبقى كويسة..

أومأت لها بالتفهم ومن جديد قبلت يدها وأخبرتها بابتسامة متسعة وعسليان لمعتا بالطاقة:

-        اوعدك كله هيبقى تمام، متقلقيش خالص، أنا حياتي بقت كويسة، وبسام ماشي اهو كويس جدًا في دراسته، ومن بكرة هرجع الشغل وكله هيرجع احسن من الأول

ابتسمت والدتها وضيقت عينيها نحوها لتزفر براحة وهي ترى أنها استطاعت تشتيتها بالفعل عن حزنها ثم استمعت لسؤالها:

-        قوليلي بقى كنتو بتعملو ايه طول الشهرين دول؟ أنا كل اللي عرفته إن عمر اتفق معايا انكم تفصلو كام يوم كده وتحاولو تغيرو جو وتحلو المشاكل ما بينكم، بس اللي يشوفكم يقول راجعين من شهر عسل مش مجرد إجازة!

حافظت على ابتسامتها قدر استطاعتها، وفي اثناء تلاقي اهدابها ثم تباعدها تخبط عقلها بما تتذكره من تلك الحوادث وهو يفعل تصرفات غير مبررة، يوشك على قتل نفسه على سبيل تصديقه أنه يمتلك قوى خارقة، انتهاك جسدي متتابع، نوبة من الجنون المحض، تعذيب لبدنها وعقلها على حد سواء، الكثير والكثير مر أمام عينيها ولكن يستحيل أن تتفوه بكلمة واحدة قد تُقلق والدتها:

-        كنا مبسوطين فعلًا، غيرنا جو، وقعدنا اتكلمنا في خلافاتنا، بقينا أحسن بكتير.

ارتسمت الراحة على وجهها ثم تحدثت بتنهيدة:

-        ربنا يسعدكو يا حبيبتي ويفرحكم دايمًا

تمنت لو تستطيع أن تصدق كلماتها التي تشع بالأمل ولكن مما قد قررته بطيات عقلها وفكرت به يحتم عليها أن تُصدق باستحالة وجود زواج ناجح سعيد مع رجل مريض مثله، التظاهر بالسعادة والابتسامة هما الحل مع والدتها إلى أن تحصل على انفصالها منه.

-        آه صحيح، علا اتصلت من فترة، كانت مش عارفة توصلك.

انتبهت على كلمات والدتها وتغيرت ملامحها ليعتريها القلق وسألتها بلهفة:

-        كان فيه حاجة ولا ايه؟

أومأت والدتها بالإنكار واجابتها بملامح طبيعية:

-        لأ مظنش، كانت بس بتقول انها مش عارفة توصلك

لم تقتنع بإجابة والدتها وقالت مستفسرة:

-        مامي علا عمرها ما اتصلت بالبيت من ساعة ما اشتغلت معانا من سنين، اكيد كان فيه حاجة مهمة خلتها تتصل بينا

انزعجت ملامح والدتها قليلًا واخبرتها باستياء:

-        بطلي تقلقي كده على كل حاجة، ما انتي سنين اهو شايلة الشغل، كان ايه اللي اتغير يعني، ركزي في جوزك وبيتك وطمنيني عليكي وفرحيني بأحفادي الأول وبعدين علا والشغل مش هيروحوا في حتة، وفي الآخر بسام هيكبر وهيشيل كل ده معاكي، حاولي تفرحي بقى شوية وتسيبك من مواضيع الشغل دي كلها.

انبهار وتهكم على حد سواء ارتسما على ملامحها وحدثتها متسائلة بسخرية:

-        يعني يا مامي من وجهة نظرك الأحفاد وجوزي أهم من كل الشغل اللي بابي تعب فيه سنين؟ انتي شايفة كده؟

قضمت والدتها شفتيها وهدأت من نبرتها ثم اجابتها باكتراث:

-        روري، انا من زمان وشايفاكي بتحبي الشغل، وصادق كان بيساعدك في إنك تكوني شاطرة، بس في الآخر ده ميكونش على حساب حياتك، أكيد طبعًا لولاكي مكناش هنقدر نحافظ على اللي عمله بعد سنين وأنتِ اللي قدرتي تكملي بعده لأن أنا ماليش في الشغل ولا عمري اشتغلت وبسام كان صغير بس خلاص جه الوقت اللي تخلي جوازك وبيتك قبل أي حاجة، متنسيش كمان إنك ست، وجوزك وبيتك لازم يكونوا الأولوية في حياتك

غليان دمائها بداخل عروقها قد قارب على دفعها للانفجار الوشيك أكثر مما قد تتحمله والدتها ولكنها حاولت أن تلتزم حدود عدم اغضاب والدتها وغمغمت بعدم اقتناع:

-        على أساس إن بسام خلص جامعته وأخد خبرة كبيرة خلاص فنقدر نعتمد عليه وأركز أنا في حياتي، وبعدين يعني ايه أنا ست، ده معناه إني ممنوع اشتغل أو أكمل في حاجة بحبها يا مامي زي البرمجة، اعتبري إني بقى اخترت إن الأولوية تكون الحاجة اللي فضلت سنين اتعلمها وكمان بحبها مش بيتي وجوزي!

اقترب "عمر" نحوهما ولكن لم تتوقف والدتها عن تناول أطراف الحديث معها وعقبت قائلة بقليل من الحِدة بعد أن انزعجت من حديث ابنتها لها:

-        طيب عمومًا بما إن الشغل هو أولويتك وانتِ شايفة إن كلامي غلط ابقي اعملي اللي انتِ عايزاه، بس بكرة هتعرفي إن كلامي هو الصح وكل ده لمصلحتك!

تسرب لأذنيه بعض من كلمات والدتها لها بالإضافة إلي ملامح كلتاهما المنزعجة فتيقن أنه لابد من أن هناك شيئًا ما أدى لتلك الهالة من الاحتدام ولكنه جلس بهدوء وهو يتفحص الاعين التي رمقته باقتضاب ثم وجدها تجبر ابتسامة زيفتها وكأنها تريد أن تقنعه بعدم وجود ما يستحق القلق بشأنه ولكنه اكتشف هذا بمجرد نظرة واحدة إليها كما اكتشفت هي الأخرى أنه استطاع الحصول على عدم مصداقيتها لتلعن بداخلها على تلك المباراة السخيفة التي سيتنافسان بها بعد قليل بمجرد ذهاب والدتها، فهو لا يترك أي أمر ليمر مرور الكرام دون آلاف الأسئلة!

--

-     قولتلك مكنش فيه حاجة، أنت ليه مصمم إني كنت بقولها كلام مش عايزاك تسمعه؟

اطال بهزة رأسه التي كانت بمثابة عدم اقتناعه ولو بحرفٍ واحد من كل تلك التبريرات الواهية التي ظلت تثرثر بها وارح ظهره بكرسيه وهو يتفقدها تلك النظرة المتفحصة التي تُزعجها بشدة واستمر محافظًا على صمته وامتلئ باليقين بأن كل ما تحاول اقناعه به ليس له أساس من الصحة، على ما يبدو التزوج من امرأة مصممة أن رؤيتها لكل الأمور صائبة أسوأ ما قد يواجهه الرجل، ولكن هذا لن يستمر لكثير من الوقت ولن يتوقف هو الآخر عن تصويب الأمور لتتماشى ولو قليلًا مع ما يراه صائبًا، لقد افسدها بالكثير من الدلال على كل حال!

حدقته بانزعاج هائل وهي تشعر بازدياد عصبيتها الشديدة وكثرة تحملها لترهات عدة بالإضافة لحديثها مع والدتها وكل شعورها بالخوف تجاه ما ستعانيه بداية من يوم غد لتقول بنبرة واثقة:

-        عمر، أنا لسه ورايا حاجات كتيرة اوي، وكلها كام ساعة وهنرجع نبقى مشغولين، أرجوك يا تتكلم في حاجة تانية يا إما خلينا قاعدين ساكتين وخلاص، اعتقد اننا بقينا بنتخانق اكتر ما بنتنفس


أومأ باستخفاف على كلماتها ويكأنه يتفق على كلماتها لتتطاير كل تلك الخطط بداخل رأسها والتزامها تجاه ما تريد الوصول إليه معه لتشعر بأنها ستنفجر عما قريب فنهضت لتتركه وتغادر فأوقفها بنبرة مستهزءة ليقول:

-        عندك حق، خلينا نتكلم فعلًا في حاجة تانية!

 

أوقفتها كلماته فالتفتت وصوبت نظرها نحوه وهي تعقد ذراعيها ووقفت بشموخ منتظرة حديثه لتجده يُشير بعينيه على جسدها بنظرات متوالية سريعة فلم تفهم ما يشير إليه لتجده يتفوه بنبرة اتهام صريحة لا يشوبها شائبة:

-         مش شايفة إن اللي انتي لبساه ده مينفعش تمشي بيه قدام الناس

 

قلبت عينيها وهي تزفر من شدة عصبيتها ثم هتفت بكلمات متقطعة:

-        أنت تقصد، أنا بجد مش فاهمة..

 

اعادت زفرتها من جديد ثم تحدثت بكلمات مفهومة نوعًا ما هذه المرة:

-        انت بتكلمني على لبسي وأنا قاعدة في بيت مفيهوش غير مامي وهدى وأنت

 

رفع حاجبيه بامتعاض كما صاحب كلماته غير المتفقة معها ولكن حافظ على بروده الهائل:

-        وأخوكي لما يجي، وأي حد لو جه فجأة، المفتوح والقصير اوي ده مش عاجبني ومرضاش مراتي تقعد بيه قدام أي حد

 

قلبت عينيها بنفاذ صبر تام ولم تعد تتحمل تلك الأحدات المتهافتة عليها من قبل الجميع وتسربت الكلمات من بين شفتيها دون أن تُفكر ولو لجزء من الثانية بالحروف التي تناثرت من بين شفتيها:

-        أنت اتجننت زيادة عن ما أنت؟ أصل الكلام ده مش طبيعي أبدًا يكون طالع من إنسان واعي وفاهم هو بيقول ايه، يستحيل انسان عاقل من إمبارح لغاية النهاردة بيحاول يمسك في أي سبب عشان نتخانق وخلاص، مرة يونس، مرة الحمل، سبب إنك عايز تعرف كنت بكلم مامي في ايه، ودلوقتي هدومي ولبسي اللي أنا قاعدة بيه في البيت وأصلًا مفيش حد معانا، ارحمني بقى من جنانك ده وكفاية لغاية كده عشان أنا خلاص تعبت ومبقتش قادرة استحمل!

 

رمقته باستهجان وحاولت احتواء عصبيتها الشديدة كي لا تسوء الأمور هذا إن لم تكن ساءت بالفعل من منظوره السقيم، وقبل أن تشعر بشدة الندم على ما تفوهت به وجدت نفسها تُكرر كلماته بعقلها لتغمغم باستياء:

-        أخويا لما يجي!! أنت اكيد مجنون!

 

لا تصدق أن مرضه العقلي أوصله لتلك الفكرة، أن ينظر لها أخيها نظرة اشتهاء، هل لهذا الحد قد بات عقله خربًا؟

 

وكيف أنه لا يلاحظ كل تلك الرسائل التي ترسلها له بكلمات نطقت بها رغمًا عنها؟ ألا يُصدق ولو للحظة واحدة أنه مريض؟ كيف لا يقتنع ولو باحتمالية ضئيلة أنه مصاب بشيء ما؟ وكيف يُصدق أنه طوال الفترة الماضية التي نسى بها كل ما حدث له، نسى أيامه بكل تلك الأحداث، هل لهذا الحد تضرر عقله؟

 

فرغت من تحديقها غير الواعي بوجهه وهي لا تدري هل تشفق عليه أم تقتله أم ربما عليها أن تنهي حياتها بدلًا من مواجهة كل هذا معه ومع عائلتها ومع حياتها السخيفة التي على ما يبدو لن تصلح أبدًا!

 

التفتت كي تغادره حتى لا يحتدم نقاشهما أكثر من هذا وتجد نفسها تتفوه بأنها تتحمله فقط حتى تستطيع الفرار منه ومن مرضه ومن هذا الزواج فضلًا عن عشقها إياه الذي لن يصلح أبدًا سوى بتصديقه وإيمانه الحقيقي بأنه مريض للغاية ويحتاج الكثير من الوقت والمثابرة حتى يُصبح رجل تستطيع أن تعيش معه. ولكن على ما يبدو هي تحلم بالمستحيل.

 

بمجرد اتخاذها خطوة واحدة وجدت صوته يوقفها مُعلنًا بمنتهى البرود:

-        صدقيني لو حصل أي حاجة بسبب إن كلامي صح وكلامك دايمًا غلط رد فعلي مش هيكون كويس!

 

التفتت لتعطيه نظرة مستهجنة شديدة الاستهزاء على لهجته المُهددة بصراحة واضحة، ثم وجدت أن عقلها بات شليلًا لوهلة، لا يتحمل شدة امراضه المُرتابة تجاه كل ما تفعله، كما أنه لم يعد قادرًا على استيعاب مدى ما وصل له من ظنون لن يظنها عقلًا سليمًا أبدًا، الصدمة لا تزال مُسيطرة على تفكيرها فهي حقًا لن تجد بأسوأ كوابيسها أنه يرتاب بتصرفات أخيها من ناحية أخلاقية بحتة، على ما يبدو ارتيابه بأخيه يتحول لانعكاس على علاقتها بـ "بسام"، اسقاط بشع من عقله السقيم، ولكنها لن تقبل به ولن تسمح له بأن يُصدقه هو نفسه ولا غيره!

--

دلفت إلى المنزل وهي تشعر أنها تحترق بداخلها بصحبة الجو الذي بات طقسه حار للغاية، جسدها بأكمله قارب على الاشتعال من كثرة تفكيرها وما تواجهه مع الجميع، بداية من والدتها ونهاية بزوجها، تقسم أنها لم تعد تحتمل.

للحظة ابتسمت بسخرية على تلك الأيام التي ظنت أنها كانت اقصى وأشد ما يُمكن أن تواجهه في الحياة، ولكن الجامعة والدراسة والعمل ونسيان نفسها لساعات وأيام متواصلة وهي تحاول أن تُصلح شيفرة فسدت بأحد الأنظمة أهون ملايين المرات من هذا الجنون الذي باتت تعيش به مؤخرًا.

 

اتجهت إلى المطبخ مباشرة كي تسكب بعض العصير ثم استمعت لجرس الباب فلم تكترث، ستتفقده "هدى" بالطبع أو أحد العاملين بالمنزل.

أغلقت باب المبرد ثم رفعت شعرها وهي تحاول التخلص من هذه الحرارة الشديدة التي انبعثت بجسدها ثم ارتشفت البعض وأغلقت عينيها وهي تحاول أن تتنفس بانتظام لعلها تهدئ من نفسها قليلًا وكررت الأمر وهي تستند على طاولة المطبخ الرخامية وقررت أن تبدأ بالعمل الآن ولكن ربما عليها الذهاب للاغتسال ببعض المياه الباردة أولًا.

 

جذبت الكوب واتجهت في طريقها كي تصعد لتنفيذ ما قررته وارتشفت البعض مجددًا لتسعل بشدة فلقد أصابها الهلع عندما وجدت "يونس" امامها يبتسم لها ببلاهة ولم يكتمل ابتلاعها للسائل البارد بشكل صحيح فتوصل البعض منه لمجرى تنفسها.

 

-        ايه ده يا روري انتي كويسة؟ فيه ايه يا بنتي؟ شوفتي عفريت ولا ايه؟

 

اشتد سعالها فأمسك بالكوب منها ووضعه جانبًا ولم تتوقف فاقترب منها ووضع يده على كتفها بينما اخذت تحاول طرد السائل المتبقي داخل مجرى تنفسها فربت بتلقائية شديدة على ظهرها محاولًا أن يساعدها ليمزح قائلًا:

-        ايه اكلم الإسعاف ولا ايه؟ ما انتي مش هتسبيني متعلق وتموتي!

 

ربت مجددًا عليها بينما بدأ وجهها يتضح عليه اثار الهدوء وهي تتنفس بشكل أفضل وتوقف سعالها ليبتسم لها ابتسامة لم تظهر اسنانه وانتظر إلى أن هدأت لتزفر في النهاية وهي تضع يدها على صدرها وأجلت حلقها وهي تتمنى لو أن حياتها انتهت في لحظة واحدة من تناول مشروب خالي من السموم وتنتهي من هذه اللعـ.نة التي تعيش بها!

 

-        حاسة إنك احسن دلوقتي؟

 

سألها فهزت رأسها بالإيجاب فاتضحت اسنانه بابتسامته فهو يعلم أن هذه الابتسامة مستفزة حد الجحيم ثم حدثها متسائلًا بنبرة عفوية:

-        انتي عارفة إني قاعد متجنن كل ده ومستنيكي ترجعي من سفرك بقالي قد ايه واتشقلبت لهدى ازاي هي وطنط علشان يعرفوني أول ما توصلي؟

 

زفرت بملل وهي تجيبه قائلة:

-        يونس بجد مش وقته

 

تقدمت خطوتان وهي تبتعد عنه فأفسح لها المجال واخفض يده عن ظهرها والتفت ليتبعها ولكنه توقف بناء على توقفها هي الأخرى وشعر بغبائه الشديد حينما وجد تلك النظرات الغريبة التي لم يفهمها وهي تتبادلها مع زوجها الذي لم يجد بحياته رجل أسخف منه عندما تناول جميعهم العشاء منذ حوالي شهرين ولكنه لن يذهب اليوم دون الحصول على ما آتى من أجله، حسنًا.. سيتحمله من أجل أخته الصغيرة التي لن يتوقف حتى يصل لما يُريده معها!

يُتبع..

الملخص الكوميدي