-->

الفصل الحادي عشر - مشاعر مهشمة 2

 


الفصل الحادي عشر

 

الكثير من أحداث الطفولة، أحيانا يراودنا شعور وكأنها تطايرت، وانمحقت تماما من الذاكرة، كأنما لم يكن لها وجود من الأصل، إلا أن هناك رغم ذلك بعض ومضات من الماضي، تأتي على البال بين الحين والآخر، منعشة الذاكرة لمواقف عدة حدثت آنذاك، وتدريجيا مع اعتصار رأسك، ترى أطيافا كثيرة تجول في ذهنك، بعضها مستحب تذكره، وآخر تود لو تفقد الذاكرة عند تخيل ملامحه، غاص فكر "عاصم" مكرها في ذلك الحدث، الذي ترك آثارا بالغة الوطأة على نفسه، وإلى الآن بصماته ما تزال عالقة في ذهنه، ومما لا شك فيه؛ أنه كان واحدا من الأسباب التي شوهت براءته، وعكرت صفاء روحه، كما دنست نقاءه، ناجما عنها تكوين شخصية غير مستقيمة، تنحرف انحرافا ملحوظا عن طريق الصواب، واجدة راحتها في ميلها إلى الموبقات، والأفعال المشينة.

 

ما يزال الهيئة الواهنة لذلك الرجل الجالس أرضا، والمكبل اليدين والقدمين، ووجه مليء بالخدوش والكدمات الحمراء، تأتي أمام بصره، والذي كان يعمل موظفا في أحد أفرع الشركات، التي كانت تابعة آنذاك لوالده وصديقيه، ارتجافة جسده كانت مرئية له، وواضح عليه تعرضه لتعنيف شديد وإعتداء بالضرب، من رجال والده بالتأكيد، كلماته ما زال يتردد صداها في أذنبه، عندما ازداد انتحابه وهو يستجدي والده بإذلال:

 

-أرجوك يا كمال بيه ارحمني، انا مراتي حامل، ابني لسه مشافش الدنيا، عشانه هو والنبي.

 

انفرج ثغر "كمال" إلى الجانب بسخرية، فقد كان غفرانه لفعلته أمرا مستحيلا، لما كان سيلحقه به من أذى وضررا كبيرا في عمله بوجه عام، وحياته الشخصية بوجه خاص، إذا كان قد نجح في إيصال الملفات التي بحوذته، إلى أي من شريكيه، والتي تثبت تلاعبه في نسب المواد الفعالة للأدوية، التي يتم تصنيعها في مصانع شركتهم، حدجه بنظرات يتطاير منها الشرر، ودنا أكثر منه، باعثا بداخله المزيد من الوجل، وهو يدمدم في سخط:

 

-وانت ليه مفكرتش في ابني! وانت واخد الورق ده ورايح توصله ليحيا أو هشام، مانا كنت هتسجن وقتها وابني حياته هتضيع، مفكرتش فيه وقتها لييه!

 

ارتعدت فرائصه من هيئته الباعثة على الرهبة، وصوته الهادر الذي لبك سائر جسده، وألجم لسانه عن التفوه بعبارة مفهومة، وهو يحاول التبرير مرددا:

 

-أنا.. أنا مكنتش اعرف انه...

 

لم يسنح له بفرصة للدفاع عن نفسه، واختلاق أي عذر يجعله يرأف به، وصاح به مقاطعا كلماته المتلعثمة بعصبية شديدة:

 

-بلاش كدب، ومتحاولش تبرر، ده مش هيخليني اتراجع عن اللي هعمله فيك.

 

آنذاك حانت منه التفاته تجاه ابنه، الذي اعتاد على أصطحابه معه عند خروجه الأونة الأخيرة، محاولا جعله يعتاد على مثل تلك المواقف المشحونة، حتى يشتد عظمه منذ صغره، لكي يكون ذراعا أيمنا له بعدما يكبر، رآه ممسكا بالسلاح الذي قد تركه على أحد الكراسي، يتفقده بانبهار شديد، انشق ثغره بابتسامة لئيمة، فقد طرأت برأسه فكرة جهنمية، عاد ببصره نحو الآخر الذي لم يكف عن الإرتجاف خوفا من بطشه، وراح يخبره بصوت آجش متشفي:

 

-أنا هخلي عاصم هو اللي ياخد حقي منك، وزي ماتيجي بقى معاه وانت وحظك، واهو احسنلك مني، على الأقل في احتمالية انك تعيش، أصله عيل صغير بقى ومش بيعرف يمسك سلاح كويس.

 

حينئذ دب الرعب في قلبه، فغر عينيه وهو يناظره بذعر، وضع إحدى يديه فوق صدره، وتوسله بخوف جم:

 

-أرجوك يا كمال بيه.. هعملك اللي انت عايزه..

 

تجاهل كلماته المتوسلة، وخطى خطواتا ثابتة تجاه طفله الصغير، الذي كان على شفا إتمامه العام السادس من عمره، أمسك بذقنه بطريقة مجردة من الحنو، كأنما يلهو معه ويلاعبه، لم ترتفع عيني الصغير المتفحصتين عن المسدس، و"كمال" يسأله في استشفاف يعلم إجابته مسبقا:

 

-عاجبك يا عاصم؟

 

حينئذ ارتفع بنظراته الطفولية المذهولة إليه، وهو يقول له بإعجاب شديد:

 

-شكله حلو اوي، أحلى من اللي عندي، واتقل منهم كمان.

 

عبث بشعره الذي كان طويلا نسبيا، وهو يقول له بنوع من أنواع الإغراء الخبيث:

 

-أنا ممكن أديهولك، بس ليا طلب عندك الأول.

 

رمقه الطفل بعينين متسعتين، وبدا متحفزا للإستجابة لأي مما سيقوله وهو يسأله على عجالة:

 

-طلب إيه؟

 

أشار بيده نحو الهامد أرضا أمامهما، والذي شعر "عاصم" بعدم الإرتياح لمظهره المذري منذ وقعت عينيه عليه، ولكنه آثر الصمت، وقرر أن يكتشف المكان من حوله، حتى وقعت عينيه على ذلك المسدس، الذي حاول عن طريق تفقده له، ألا يركز في حديث والده مع ذلك الرجل المجهول، حيث كانت ثيابه متسخة وممزقة بعض الشيء، ووجهه يمتزج فيه تعرقه مع القليل من خيوط الدماء، والذي دفع مزيدا من القلق إلى قلبه عندما أتم والده عبارته، وصرح عن طلبه بصوت بدا عاديا:

 

-الراجل ده مضايقني، وعايزك تاخدلي حقي منه بالمسدس ده.

 

توترت اوصاله، ورمش بأهدابه وهو ينتقل ببصره بين الرجل والمسدس في يده، والذي يجهل كونه حقيقيا، ولكنه توقع من ثقله ان خرزه سيكون أقوى من العادي، خشى أن يسبب للأخر الأذى، الذي ربما يصل إلى جرح ينز الدماء، وعلق بصوت قلق:

 

-بس هو كده هيتعور.

 

طالعه بنظرة رآها "عاصم" غريبة، وهو يوضح له بنقم جلي:

 

-ما أنا عايزه يتعور، لإنه عورني، وانا عايز اخد حقي منه، بس انا قلت انت اللي تعمل كده، مش انت عايز تبقى كبير زيي وتخرج معايا علطول؟

 

أومأ له برأسه، وخرج صوته متحمسا وهو يجيبه بتأكيد:

 

-ايوه يا بابا.

 

اكتسبت عينيه حدة، وهو يشجعه بصوت أجوف، دفع الريبة لقلب الصغير:

 

-خلاص يلا اضربه بالمسدس، زي مابتعمل في النادي.

 

رمش بأهدابه في توتر متزايد، ابتلع ريقه، ثم سأل والده باستفسار متردد:

 

-طب هو هيتعور أوي؟

 

لم يجيبه والده، وانشغل "عاصم" عن رغبته في معرفة الجواب، فقد شخصا هما الاثنين معا بصرهما نحو الآخر، الذي تصبب عرقا، وازداد رجيف قلبه، وهو يستمع إلى ما يدور، ودفع رب عمله صغيره إلى قتله، وهتف راجيا مرة أخرى، عله ينحو ببدنه وروحه من شر مستطير:

 

-أرجوك يا كمال بيه، وحياة ابنك متعمل كده، مراتي ملهاش غيري، هيجرالها حاجة والنبي..

 

وكأنه يحادث الفراغ، فلم تكن لتوسلاته أن تأخذ بالآخر شفقة نحوه، عاد بنظره إلى ابنه، وتابع تحفيزه آمرا إياه بغير انفعال:

 

-يلا يا عاصم.

 

اظهر وجهه تعبيرات الخوف، ولكنه لم يكن يستطيع الإعتراض، فأسلوب والده كان يتسم بالشدة، وغير التساهل، لذا كان يخشى مخالفة تعليماته، أو عدم تنفيذ أوامره، رفع السلاح بيد بها رجفة خفيفة، وأشهره نحو الرجل، الذي كان يهز له رأسه بالسلب، محاولا نهية عما سيفعله، ابتلع "عاصم" مرة اخرى، فقد شعر بجفاف حلقه، انتفض جسده، وبقلب ارتعب ودق في عنف بغتة، ضغط على الزناد، بعدما صرخ فيه والده بنفاذ صبر:

 

-بقولك يلا يا عاصم، اسمع الكلام.

 

حينئذ استمع إلى صوت خروج الطلقة النارية، والتي من شدتها سقط السلاح من يده، وفي نفس اللحظة اخترق صوت صراخ الرجل أذنيه، رفع يده في ارتعاد وضغط بهما علي أذنيه في هلع، وظل على وضعه لعدة لحظات، حتى شعر بالهدوء يعم المكان، توقع أن يبدر من والده أي رد فعل، ولكن حدث عكس ما توقع لم يتفوه بكلمة، أو يزجره، أثناء ذلك لمح استكانة جسد الرجل، كما خبا تماما صوته، رفع وجهه نحو والده، محاولا فهم ما حدث، إلا أنه وجده ثابتا، لا يصدر منه أي صوت، عيناه فقط مسددة نحو نحو الرجل بنظرات مليئة بالشراسة، شعر بالريبة لعدم صدور أي حركة أو صوت من الآخر بشكل مفاجئ، قرر أن يذهب لتفقد حاله، وبلا تفكير ركض نحوه، وجلس على عقبيه بجانب جسده، الذي كان ممدا ارضا على أحد جانبيه، لمس وجهه في حذر متردد، رافعا إياه قليلا نحوه، ليبصر عينيه الفاغرتين، وشفتيه المفتوحتين، مما خلفا هيئة قابضة للأنفس، ارتعد من منظره، وابعد يديه فورا عن وجهه، ولكن جذب انتباهه حينها مكان ينزف الدماء في صدره، والذي كان راجعا لاختراق الرصاصة في ذلك الموضع من جسده، برقت عينيه من كثرة الدماء الملطخة قميصه، والتي سالت أرضا، متسببة في تكون بقعة من الدماء بجانب جسد الرجل، ازداد وجيب قلبه، واشتد على آخره، وكاد ينهض في خوف تملك من وجدانه، ولكن تعركلت قدمه في إحدى السلاسل الحديدة التي كانت موضوعة من خلفه، ليسقط فوق جذع ذلك المثجى ارضا، وتسبب تعثره في لمسه للدماء بيديه، صرخة تفلتت من حلقه حينما شعر بملمس الدماء، وعاد كالملسوع بصاعق كهربائي بظهره للخلف، ومسح بيده وجهه في حركة تلقائية، ليشعر بملامسة الدماء لوجهه، ليزيد من هلعه، وازداد صراخه، الذي استمر دون توقف، حتى شعر حينها والده أنه قد خرج عن السيطرة، ركض نحوه، وأمسك به من كتفيه، محاولا تهدئته، ولكن "عاصم" كان قد فقد زمام تحكمه في نفسه، والخوف تملك من سائر خلاياه العصبية، ليظل يركل بقدميه في الهواء بعدما حمله والده، مغادرا ذلك المكان، ولم يكف عن الصراخ المدوي، إلا عندما شعر بغيمة سوداء ظهرت أمام بصره، سحبته بداخل غياهبها، ودوار أصاب رأسه، شوش كامل مداركه، وسحبه إلى عالم آخر في لحظتها، ناهيا تواصله مع الواقع المخيف، بشكل وقتي.

 

بعدما انتهى من سرد أحداث تلك الذكرى الأليمة، والمفجعة على مسامع "مجد"، دون معرفته في السبب الذي دفعه إلى البوح له بذلك الأمر، ولكنه شعر بحاجة إلى التحدث بما يجيش به نفسه، منذ سنوات عدة، ويقطع روحه لأشلاء، كلما يستعيد ذهنه أحداثه، رمقه بنظرة تحمل كل معالم الرهبة، وكأنما قد عايش ما حدث توا، وقال بوجه متقلص وصوت مرتعش:

 

-أنا كنت فاكره لعبة، بس طلع بجد وقتلته.

 

ظل "مجد" يطالعه في صمت، لا يخلو من صدمة حلت على وجهه، مما يستمع له، ومن هيئة الآخر المغايرة كليا لما يعهده عليه، وانتبه إلى متابعته على نفس الشاكلة، وهو يرفع يديه أمام مرمى بصره:

 

-ايدي دي كانت غرقانة بدم واحد أنا اللي قاتله، فضلت أصرخ من الرعب ومن بشاعة المنظر، وهو ولا كان همه، انهارت قدامه، وقتها حسيت أنه شالني وخرجني من المكان، بس أنا فضلت أصرخ لحد ما أغمى عليا، ومفوقتش غير وانا على سريري في حضن أمي وهي بتعيط، انا مكنتش فاهم حاجة، عقلي مكانش مستوعب إني بإيدي دي قتلت حد، بس المنظر مفارقنيش، فضلت احلم بيه سنين كتيرة، لحد ما كبرت وفهمت، وعرفت انا عملت إيه وقتها، انا لس لحد دلوقتي بحلم باللي حصل، المشهد مش عايز يطلع من دماغي، ولا عايز يروح من قدام عيني.

 

بدأ يتكون في فكره أسبابا منطقية لتحوله الجذري، والذي كان أساسه طفولته المأساوية، وأعمدته تشمل زرع والده فيه طباعه البغيضة، خفض نظراته لأسفل، وبدأ الأسف يظهر على وجهه حياله، بينما حرك "عاصم" وجهه حركة تلقائية تنم على الإستنكار وهو يردد في حرقة:

 

-مستغرب ليه بقى من أفعالي، وهي ناتجة عن كل اللي شوفته، واللي انت عمرك ماكنت هتتحمله، ولا أي حد يتحمله.

 

رغم تأثره بكل ما سمعه، إلا أنه رفض أن يبرر له افعاله القميئة، وميلة إلى الإجرام في أخذه لحقوقه المزعومة، كما تسبب في احتمالية مقتل شقيقته الصغرى، وابنه الذي ما كان أبصر النور بعد، واعترض على الأخير من كلماته بجمود وبغير شفقة:

 

-حتى لو كل ده حصل، ميدلكش الحق انك تئذي حد، ولا إنك تئذينا، وتحاول تقتل رفيف وابني، وتضيع فرحتي انا ومراتي وتدمرلنا حياتنا، انت مريض يا عاصم، مريض.

 

هز له رأسه بتأكيد على ما قاله، وأردف بنبرة يشوبها ألم شديد:

 

-آه أنا مريض، ده اللي انت بتحاول تثبته، وأنا معترف بيه، أنا مريض يا مجد، وطلعت مؤذي زيه، بسببه، أنا مكنتش عايز ابقى كده، أنا مكنتش عايز أخسر الصاحب الوحيد اللي كان ليا، هو اللي كرهني فيك، هو سبب كل حاجة أنا فيها.

 

بدون أن ينتبه، وجد لسانه يتفوه بما لم يرد أن يقوله، وما لا يود أن يعترف به، لقد تجرد من رداء الجمود، وضعفه ظهر، وتمكن منه، ليشعر بالألم يعتصر قلبه، والدموع تكومت في عينيه، وأكمل بصوت بدا منتحب:

 

-بس حتى بعد كل ده هيفضل أبويا، رغم كل القسوة اللي عاملني بيها، وحنانه اللي عمري ما حسيته، وكل العقد اللي جوايا بسببه، هيفضل أبويا، اللي حاسس اني اتكسرت بموته، ومش هعرف أرجع عاصم القوي اللي مبتهزوش حاجة، لإني اتهديت، للأسف موته هدني.

 

شعر "مجد" بالأسى على حالته، ولم يستطع التعليق بأي كلمة هذه المرة، بالأخص عندما تهاوت دموعه، وصوت نهنهات بكائه أضحت ظاهرة، ضم شفتيه، وكاد يرفع كفه ليربت على كتفه، ولكنه امتنع عن فعلها، فهو بعد كل ما علمه، لا يستطيع مسامحته على كل ما اقترفه بحقهم، كور يده، وتراجع بقدميه للخلف، ثم استدار مغادرا بخطوات متسارعة، تلاقى آنذاك ب"داليا"، التي كانت آتية، مهرولة بلهفة نحو الآخر، عندما استمعت لصوت البكاء الصادر منه يصدح في الأرجاء، انزلت يديه اللتين كانت مواريتين وجهه، وعلى الفور دنت منه واحتضنته، وكأنما كان ينتظر مجيئها، شدد على احتضانها، وضم جسده لها، كطفل صغير يرتمي في أحضان والدته، مطالبا بالشعور باحتوائها، زاد في نحيبه، وعلت شهقاته، ولأول مرة يدع لنفسه حرية الإنهيار أمامها، بل وفي أحضانها.

 

 

 

--

الإنسجام الروحي، أحد العوامل الهامة، في جعل عبق الحب يفوح بين الزوجين، يدفع للقلب أحاسيسا، تذيب الوجدان، وتعيد تشكيله من جديد، في صورة أكثر حيوية، باعثة إلى الفكر الافتنان، بمدى التقارب الحسي، الذي يجعل العشق كالصخر المذوي، والتجاذب الجسدي كالبركان المدوي، حتى تتدفق حممه الملتهبة في العروق، وبعد تلاحم، وتلاطف، يصل إلى حد الهدوء، لا تخبو بعده شرارات الحب، ولا تنطفئ في الأعين لمعة الوجد، الذي أحكم القلب إغلاق مغاليقه عليه، بقفل ضائع مفتاحه طواعية، ولا يوجد سبيل أو رغبة في إيجاده البتة.

 

يتنعم بالنوم في أحضانها، بعدما عاشا ليلة حالما، هاما، وسبحا في بحورها بكامل عنفوانهما، ولم تخلُ تلك الليلة منذ ارتوى اشتياق الزوجين، من مشاطرة كل منهما أحداث يومه، وكان ل"مجد" نصيب الأسد في التحدث اليوم، فما عنده من أنباء؛ كانت غريبة، وتثير الدهشة في نفس الآن، حكى لها تفاصيل لقائه مع "عاصم"، بداية بتعزيته، حتى انهياره الغير متوقع، كانت تستمع له بتركيز جم، وترمقه بعينين مشدوهتين، حتى انتهى مما لديه، وعلقا هي بنبرة تحمل بعض الأسى:

 

-لو كل اللي قاله ده بجد حصل، يبقى هو فعلا كان ضحية، مر بحاجات كتير صعبة من طفولته، ده غير انك بتقول إن بابا كان أسلوب قاسي معاه.

 

تنهد "مجد" زافرا دفعة من الهواء الساخن، ثم أخبره بلهجة ظهرت محايدة، غير متحيزة:

 

-أنا مش ببررله أفعاله، لإن ملهاش مبرر عندي، بس لأول مرة فعلا عاصم يصعب عليا.

 

ران الصمت بينهما للحظات، حتى شغل فكر "طيف" الموقف الهجومي الذي اتخذه والده الفتاة، التي كان يجمع "عاصم" بها علاقة، دون حتى أن يرى منه أي بوادر لأفعال غير مستشاغه منه، وراح لسانها ينكق بما حال في ذهنها، بغرابة تحمل عدم الاستحسان:

 

-طب ليه والد البنت اللي كان بيحبها أخده بذنب باباه، ليه مدالوش فرصة يثبت إنه كويس، كان زمان ده ساعده نفسيا إنه يبقى أحسن، لكن هو لما لقى الطرق كلها مقفولة قدامه اتغير للأسوأ.

 

كان "مجد" على عكسها يحكم على الأمور بوجهة نظر عقلانية، ولا يدع للعاطفة فرصة للتحكم في تفكيره مثلها، نهض عنها، أراح ظهره على الفراش، وبنبرة هادئة حكيمة أجابها:

 

-أي أب مكانه هيبقى ده رد فعله، وخصوصا إن عاصم تربية واحد بإجرام كمال الصباحي، فطبيعي هيبقى شايف إنه زي أبوه، أو على الأقل واخد من طباعه، فانتي مستنية منه إيه؟ أب وخاف على بنته، وخصوصا إنهم كانوا صغيرين، وعاصم كان معروف عنه أنه مشاغب، وبيعمل مشكل وخناقات كتير، وخصوصا لما الموضوع كان بيتعلق بالبنت دي وحد من زمايله كان يجيب سيرتها قدامه، عاصم الحقيقة كان مهووس بيها جدا.

 

مع توالي الكلمات الذي تفوه به، اعتلى وجهها التفاجؤ من علمه بشأن المشاعر التي كان يكنها الآخر لتلك الفتاة، وسألته بتعجب واضح:

 

-يعني انت كنت عارف بالموضوع ده!

 

التفت برأسه نحوها، وبتعابير وجه هادئة أجابها بتأكيد:

 

-أيوه كنت عارف، انتي ناسية ان احنا كنا صحاب؟

 

مطت شفتيها ببعض الغرابة، وهي توضح له سبب تعجبها:

 

-بس انتوا من وقت ما باباه خطف أسيف وبعدها دخل السجن وصحبيتكوا انتهت.

 

استدار لينام على جانبه، ليكون وجهه مقابلا لها، حتى يتسنى له الحديث معها بأريحية، ثم بدأ في سرد ما كان يعلمه حول ذلك الأمر مرددا:

 

-عاصم كان بيحب البنت دي من وهو صغير، يعني كنا صحاب لسه وقتها، كان بيروح وراها في كل حتة، كان متعلق بيها بشكل رهيب، وهي كمان كانت بتعامله بأسلوب استثائي دونا عن كل زمايله، هو كان بيحكيلي، وأنا كمان كنت بشوف بعيني لما كنا بنروح النادي، وفي أي حفلة كانت بتتعمل وبنبقى موجودين كلنا فيها، كانوا بيبقوا علطول ظاهرين مع بعض، أنا معرفش امتى اعترفلها بحبه وارتباطهم، عشان باباها يعرف ويبعدها عنه، بس اللي انا عارفة إن عاصم كان بيحبها فعلا.

 

إتيانه على ذكر تلك الأمور، عزز بذهنه ذكرى كانت تجمعهما منذ ما يقارب الثمانية عشر عاما، حين كان "مجد" لديه من العمر ثلاثة عشر عاما، و"عاصم" كان يكبره بعامين، ليكون في عامه الأول من المرحلة الثانوية، بينما كان يقضيان يوم عطلتهما الأسبوعية في النادي، أجبره "عاصم" على التوقف عن السير، وهو ينظر إلى شيء مجهول في الأفق البعيد أمامه، ثم بدأ في السير على عجالة، ليعتلي التعجب وجه "مجد" من تركه المفاجئ له، وسأله بصوت مرتفع على الفور قبل أن يبتعد عنه لمسافة ولا يتسنى له حينها سماعه:

 

-رايح فين يا عاصم؟

 

استدار له وأجابه بطريقة متلهوجة باعثة على الشكوك وهو يشرع في السير:

 

-رايح اسلم على واحد صاحبي، خليك هنا انت، راجعلك تاني متمشيش.

 

ساور "مجد" الشكوك حياله، خاصة وأنها ليست المرة الأولى لتركه له هكذا، حتى ان نفس الكلام يلقيه على سمعه، وكأنما يفعل شيء لا يريد له رؤيته، قرر أن يسير خلفه، ولكن بطريقة متوارية، حيث يتمكن من معرفة ما يدور دون أن ينتبه "عاصم" له، وبالطبع سار ورائه حتى توقف الآخر، واضطر "مجد" حينها للإختباء خلف إحدى الشجيرات المتواحدة في المكان، لتنفرج شفتيه بتسلية، وهو يرى الآخر واقفا رفقة فتاة ليست بالغرببة عليه، فهو رآها مرات عديدة من قبل معه، ولكن ما جعله يرفع حاجبيه بتفاجؤ، هو اقتراب الفتاة من صديقه عندما أنتهى من حديثهما الموجز، وباغتته بقبلة فوق وجنته، ثم شورت له بيدها مغادرة وعلى وجهه إبتسامة خجلى، كانت مثيلتها على وجه الآخر وهو يبادلها التوديع بيده، ولكنها كانت تحمل سعادة من نوع آخر، لم يرَ "مجد" أماراتها على وجهه من قبل، عاود "عاصم" السير رجوعا إليه، ولكنه تفاجأ بوقوفه على مقربة منه، وليس في ذلك المكان الذي تركه فيه، اختفت الابتسامة من وجهه وتبدلت بقلق واضح وهو يسأله:

 

-انت بتعمل إيه هنا!

 

حط ايده على خده

 

نظر له بنظرات يتراقص بها اللؤم، وهو يتلمس بيده موضع القبلة في وجنته، وأجابه بنكر جلي في نبرته:

 

-كنت بشوف صاحبك اللي بيسلم عليك.

 

تزايد القلق في قلب "عاصم"، عندما علم برؤيته لتقبيلها له، وهذا يعني علمه بعلاقتهما التي لم تبدأ بشكل جدي بعد، وإذا تناثر الحديث حولهما، لربما يصل إلى والدها، ويمنعها حينها من الاختلاط به، كونهما ما يزالان طالبان في بداية المرحلة الثانوية، غامت عينيه بحدة واضحة وهو يدنو منه ويخبره بلهجة مهددة:

 

-عارف لو جبت سيرة لحد..

 

لم يفكر "مجد" في إفشاء سره، لذا قاطع تهديدة الواهي، وهو يقول له بصدق يحمل بعض المرح:

 

-مش جايب، بس متبقاش تحور عليا عشان ببقى فاهمك.

 

امتعض وجه "عاصم" مظهرا غيظه من الموقف برمته، وأردف باقتصاب يحثه على السير:

 

-طب يلا يا ظريف.

 

صدحت ضحكة خافتة من "طيف" بعدما أنهى "مجد" قس تلك الذكرى التي رأتها لطيفة بينهما، وعلقت بأسف غطى ملامح وجهها ونبرة صوتها:

 

-طب مانتوا كنتوا بتحبوا بعض اهو، امال ايه اللي حصل؟

 

ظهر قليل من الحزن عليه وهو يرد عليها في جزع:

 

-أبوه.. ابوه الله حصل يا طيف، الله يسامحه بقى.

 

فتحت "طيف" فمها، ولكن حال دون تكلمها، صوت رنين الهاتف الخاص بزوجها، استدار بجذعه ومد يده ملتقطا إياه من فوق الكومود، وبينما هي تنظر إليه بصمت، أخبره قبلما يرد على المتصل:

 

-ده عدي.

 

استغربت من اتصاله الغير متوقع، حيث إن الساعة قد تخطت الثانية عشر بعد منتصف الليل، ولكنها أخبرته على الفور وهي تتكئ على إحد مرفقيها على الفراش، رافعة جذعه إليه:

 

-طب رد شوفه عايز إيه.

 

ضغط على موضع الإيجاب، وضع الهاتف فوق أذنه، لتتبدل ملامح "مجد" على الفور إلى الدهشة، مما استمع إليه من الطرف الآخر، وعلق بصوت يحمل بعض اللهفة:

 

-إيه ده بجد!

 

تعجبت "طيف" من عبارته المتفاجئة، ومن التعبيرات المندهشة التي حلت عليه، وكتدت تسأله عما أخبره بها شقيقها، إلا أنها امتنعت عن التحدث عندما أردف "مجد" بتهجل وهو ينهض عن الفراش:

 

-طب احنا جايين حالا، وانا هعرف بابا واخليه يحصلنا، المهم امسك نفسك انت شوية مينفعش كده.

 

ازداد تعجبها، وبدأ القلق يتسلل لقلبها، وسألته على الفور:

 

-في ايه يا مجد؟

 

وضع يده أمام وجهه، مانعها عن التحدث، ريثما ينتهي، وقال بعد لحيظات شقيقها قبلما ينهي المكالمة:

 

-خلاص ماشي، انا مسافة السكة وهكون عندكوا.

 

أنزل الهاتف عن أذنه، وقبل أن تنهال علبه بأسئلتها، أخبرها بابتسامة صغيرة:

 

-أسيف بتولد.

 

قطبت جبينها بتفاجؤ، وراحت تردف بنزق وهي تعتدل في جلستها:

 

-بتولد؟ هي دي مواعيد! في حد يولد الساعة واحدة بعد نص الليل؟

 

فغر "مجد" عينيه من غرابة ما وقع على سمعه، وعلق بصدمة باعثة على الضحك:

 

-ايه ده بجد؟

 

تجاهلت صدمته مما تفوهت به، وردت على تساؤله وكأنه استفسارا يتطلب توضيح:

 

-أيوه يعني محبكتش كانت تستنى للصبح.

 

كانت نبرتها تحمل استخفافا، كأنما الأخرى ستستطيع التحكم بموعد نزول الجنين، رمقها بنظرة تحمل الغرابة واستنكر ما قالته بتهكم واضح:

 

-انتي بتقولي ايه؟ ازاي يعني؟ وبعدين انا حاسس إنها بقت في العاشر، دي طولت أوي، هي مش حملت بعدك علطول؟

 

انشقت ابتسامة متسعة شفتيها، تحولت إلى ضحكة صدح صوتها المجلجل، وهي تنظر له بنظرة ذات معنى، على فورها فهم أنها كانت تمازحه ليس إلا، حدجه بغيظ وهو يستدير متوجها إلى غرفة الثياب، ويستمع إلى صوتها معقبة على تساؤله الأخير وهي قادمة خلفه:

 

-ايوه، بس متنساش اني ولدت في السابع.

 

رد عليها وهو ينزع عنه تيشرته البيتي، وقد عبس وجهه واكتسب صوته وجوما واضحا:

 

-أيوه فعلا، كنت ناسي.

 

أدركت السبب فيما طرأ عليه من تغيير ملحوظ، وهو سبب والادتها المبكرة، أرادت ان تغطي على الأمر، وتنتشله من التفكير فيه، لذا سريعا ما استطردت متسائلة وهي تدنو منه:

 

-صحيح انت كنت بتقول لعدي امسك نفسك ليه هو ماله؟

 

أجابها بنبرة عادية ونظره متوجه نحو أزرار قميصه الذي يغلقها:

 

-متوتر خالص ومش عارف يجمع الكلام، وبعدين بطلي اسئلة بقى وروحي البسي لو كنتي عايزه تيجي معايا، انا مش هفضل مستنيكي ساعة لحد ماتخلصي زي كل مرة.

 

ابتسمت وهي تتوجه نحو خزانة ثيابها، وقالت له بجدية مصطنعة:

 

-على فكرة أنا مش بتأخر في اللبس زيك.

 

حانت منه التفاتة نحوها، حدجها بنظرة ذات مغزى، وهو يرفع أحد حاجبيه، وقال لها بنبرة مغتاظة آثارت ضحكها:

 

-ايوه عارف طبعا.

 

 

--

استجماع شتات النفس، بعدما يبعثرها الحزن، أمر مرهق بكل المقاييس، حتى أن الإستيقاظ يكون شاقا في صباح يوم، سبقه ليلة غابرة، جذبك سلطان النوم فيها لانتهائها، ولكن تُركت تبعاتها قاتلة لرغباتك في استمرارية العيش مع خلجات نفسك المهشمة، كان "عاصم" ما يزال مستلقيا على الفراش، مغمضَ العينين، رغم استيقاظه منذ ما يقارب الساعتين، ولكنه شاق عليه تركه للفراش، وقيامه بروتينه اليومي، وكأن شيئا لم يكن، استمع خلال تظاهره بالنوم إلى صوت حركة في الغرفة، واحس بضوء نفذ إلى عينيه عبر جفنيه الموصدين، تبعه بعد لحظات مسحة رقيقة على جانب ذراعه بإحدى يديها، أجبرته على فتح عينيه، كأنما يتعطش إلا لمسه حانية، يعالج بها كسور روحه، رأى ابتسامتها الصافية، وعينيها اللتين ينبعثان منهما دفء من نوعا آخر، دنت منه بوجهها، لاثمة وجنته، ثم همست بالقرب من أذنه:

 

-صباح الخير.

 

تنهد مطولا، ثم ابتلع ريقة مرطبا حلقه الجاف، وقال بصوت متحشرج به بحة:

 

-صباح النور.

 

حافظت على ابتسامتها وهي تمسد صدره بيدها برفق، وقالت له بصوت هادئ:

 

-يلا عشان نفطر.

 

زم شفتيه لعدة لحظات، قبلما ينهض عن الفراش وهو يقول له بفتور:

 

-مش جايلي نفس.

 

عبست ملامحها، ونهضت خلفه، أمسكت به من رسغه، وتوقفت قبالته، وخاطبته في لهجة متريثة محاولة جعله يعدل عن رأيه:

 

-أنا مأكلتش من امبارح، واستنيتك لما تصحى عشان أفطر معاك، عشان خاطري كُل معايا لقمة صغيرة.

 

زفر دفعة من الهواء مطولا، وقال لها بإيجاز وهو يشرع في التوجه نحو الحمام:

 

-مش قادر أحط حاجة في بطني، افطري انتي.

 

قبضت على ساعديه، حائلة دون تحركه، ونظرت في عينيه نظرة متوسلة وهي ترجيه بإلحاح مضاعف:

 

-عشان خاطري يا عاصم.

 

أغمض عينيه لعدة لحظات وهو يشعر بالسأم من تضييقها عليه الخناق، إلا إنه لم يرد صدها، خاصة وأنه شعر بسهرها البارحة بجانبه بعدما خلد إلى النوم، عندما استيقظ لأكثر من مرة على انتفاضة جسده، تأثرا بكم الكوابيس التي جاءته في منامه، فتح عينيه ورمقها بنظرة باهتة، وأومأ لها بالموافقة، ثم جذب ذراعيه من قبضتيها، وتوجه بخطوات متباطئة إلى الحمام، بينما هي ابتسمت باتساع لنجاح محاولتها، التي كانت تظن أنها ستفشل حينما أقبلت على إيقاظه، وتوجهت نحو الأريكة، المقابلة للطاولة التي وضعت عليها صينية الفطور.

 

بعدة دقائق معدوة، خرج من المرحاض، وتوجه نحوها بخطواتها المتثاقلة، المعبرة عن إنهاكه، جلس بجوارها على الأريكة، وبدون أن يلقي عليها أي كلمة، بدأ في تناول الطعام، حتى ينتهي منه ويعود إلى الفراش، كان يبتلع الطعام بصعوبة، من وجود تلك الغصة الخانقة، والممزقة لحلقه، شعر أثناء نظره للطعام، بعدما ابتلع ما بفمه، إلى أضابع يدها التي لمست وجنته، مسحت عليها مجففة عبرة خائنة من عينيه، رمش بأهدابه بربكة، ورفع يده ليمسح مجددا فوق وجنته، وقال لها بصوت مرتجف بحمل الضيق في ظاهره:

 

-على فكرة أنا عيني وجعاني وبتدمع لواحدها.

 

تراءى لها كذبه الواضح، والذي فضح أمره، العبرات التي تكومت في حدقتيه، والتي انسابت رغما عنه، على فوره اقتربت منه واحتضنته، لينخرط في نوبة بكاء جديدة، مقطعة لنياط قلبها، حاوط جسدها بذراعيه، ووجهه اتكأ به على كتفها، وهو يقول لها بنحيب:

 

-ماتوا وسابوني، ماعادش ليا حد.

 

شعرت بقلبها يحترق كمدا عليه، ربتت على ظهره، وملست بيدها فوق رأسها وهي تخبره في صوت حنون:

 

-متقولش كده، انت مش لواحدك يا عاصم، أنا وولادنا معاك وبكرا يكبروا ويملوا علينا حياتنا.

 

كانت كلماتها كالبلسم الذي يطيب جروح قلبه، ويحتوي سائر أحزانه، فرق عناقهما، ونظر بعينيها بضعف وانكسار، وهو يذرف الدموع التي كانت كالسيل الجارف، وراح يخبرها ويطلب منها في توسل غريب:

 

-أنا ماعادش ليا غيرك، متبعديش عني.

 

سعد قلبها لرغبته في عدم مفارقتها له، وبقاءه جواره، كما غمرها السرور لاعترافه بمكانتها الغالية في حياتها، بل وأنها الشخص الباقي له من أحبائه، حاوطت وجهه بكفيها، بعد ان جففت ما يتهاوى من عبراته، وأخبرته في لهجة مطمئنة:

 

-أنا كمان ماليش غيرك، وعمري ماهبعد عنك.

 

نظراته احتوت على امتنان لوجودها الداعم له، قبلما يقترب ليرتمي في أحضانها مرة أخرى، مشددا إحكامه على محاوطتها، وضمة جسده لها، وبينما هو مستمرة في لمساتها الحنونة فوق ظهره، دفن هو وجهه في تجويف عنقها، وقال لها بصوت متشبع بالإحتياج:

 

-متسيبنيش يا مي.

 

توقفت يدها فوق ظهره عن الحراك، وفغرت عينيها في صدمة من وقوع الاسم على سمعها، انزلت يدها عنه، في تلك اللحظة الذي انتبه هو إلى ما تفوه به نزقا، ابتعد عنها بتريث، وقد توقف عن البكاء عندما تدارك زلة لسانه، نظر إلى عينيها التي لم يكن يعلم اتحمل حزنا أم عتابا، ولكنه لم يجد أمامه سوى الهروب من أمام نظراتها، فطاقته مستهلكة بما تكفي، ولن يكون عنده أي ردا مقنعا لتساؤلاتها التي ستتدفق كالشلال في وجهه، لذا نهض دون ان ينبس بحرف، وتحرك صوب باب الغرفة، وتركها هي تغرق في دوامة أفكارها المميتة.

 

يُتبع..