-->

الفصل الثامن - مشاعر مهشمة 2

 




الفصل الثامن



ومن قال أن الأماني لا تُحقق؟، أو أنها وسيلة لإهدار الوقت المنقضي في الدعاء بها؟، فمن يقع بصره الحين على ذينك الزوجين، المحاوطين لبعضهما، يؤديان رقصة هادئة، افتتاحية لبدء حفل زواجهما، مؤكدا سيصدق في تحقيقها، وسيجزم أن الصبر نهايته جبران ورضا، يكفي فقط أن تكون الأماني نابعة من القلب، قلبٌ ينبض بالخير، ولا يتمنى ما يؤذي الغير، وهنا قلبا عاشقان، لم يحمل أي منهما غير أمنية اكتمال روحه، والإجتماع بونيسه، والذي حظيا كل منهما به؛ بعد مجابهة العديد من الصعاب، والتغلب على كل مصاب حل بهما، في البداية سارا طريقا غير صالح، فلم ينحم عنه غير كل طالح، ولكنهما سريعا ما عرجا عنه، وعادا إلى صوابهما، وندما عما بدر منهما، وكان جزاءهما في الأخير؛ أن رضاهما المولى بحدوث ما تمنياه وأكثر.


كانت هيئتهما أكثر من ساحرة، ف"جاسم" بدا ببذلته السوداء كما لو كان أميرا في إحدى القصص الأسطورية، بعد خوضه للكثير من المعارك، نال أخيرا أميرته الجميلة، التي تفوق سائر الفتايات حسنا وفتنةً، و"رفيف" الشبيه بالفراشة المحلقة في خفتها، بفستانها المماثل لها في رقته، تخبره بنظرتها الساهمة به، أنه الوحيد دونا عن رجال العالمين، الذي نجح في الإستيلاء على كنزها الثمين، قلبها، وتملكه طواعية عنها، والذي لم يستطع غيره فتح أقفاله، والتربع على عرشه عن جدارة واستحقاق.


في مكان لا يبتعد عنهما كثيرا، واقفا هو بهامته المنتصبة، وجسده السامق، يرمق كلاهما بنظرة مليئة بالسعادة، والبهجة العارمة متشكلة فوق قسمات وجهه، انفرجت شفتيه بابتسامة متسعة أظهرت نواجذه، عندما قام "جاسم" بإحكام ذراعيه المحاطين لخصر شقيقته، ثم حملها واستدار بها، تحت صفير البعض من حولهما، وتصفيقات الآخرون التي تنم على تشجيعهم لحركته العاطفية، وفي تلك الأثناء تحول تركيز "مجد" -المنصب على العروسين- إلى الصوت المؤلوف الذي هتف بجاوره:


-مبروك.


تحرك بؤبؤاه نحو مصدر الصوت دون أن يلتفت، ليتأكد مما تعرف عليه سمعه من هوية صاحب الصوت، والذي ما إن تأكد منها، حتى تغايرت ملامحه، وعبرت عن احتدامها، استدار إليه، ونظراته ترميه بسهام من الكراهية والإزدراء، وهو يدمدم بغير ترحيبٍ ونقم:


-مظنش اني عزمتك.


قابل "عاصم" فظاظته ببرود جليا فوق وجهه، وصرح به صوته القائل:


-عيب متقولش كده، انا مش محتاج عزومة.


أدرك "مجد" من طريقته المستفزة أنه يحاول حرق أعصابه، لم يرِد أن يحقق له مبتغاه، ويفتعل شجارا معه تنتهي به حفل زفاف شقيقته وصديقه، وعلق على كلماته المبتذلة بجفاء شديد وهو يتظر له من عليائه:


-عملت الواجب، تقدر تتفضل.


مط شفتيه وهو يحول نظره تجاه ساحة الرقص القابع فوقها العروسان، وأخبره في مزيد من البرود؛ المستنفز لذرات تحكم الآخر بأعصابه:


-بس انا مش جاي عشان واجب، انا جاي اتفرج على المسرحية اللي انتوا عاملينها.


من أسلوبه الملتوي استشف "مجد" قصده، وتأكد منه عندما واصل "عاصم" التحدث بوقاحة سافرة:


-أصل الحكاية مكانتش تستاهل يتعمل عشانها فرح وليلة وصحافة وناس من كل حتة تيجي تهني، واللي هي الدُخلة عندكم قبل مش بعد.


في جزء من الثانية تحولت ملامح "مجد" إلى الشراسة، وباتت عينيه تقدحان شررا، ما منعه عن تطويق عنقه وخنقه بيديه، قدوم أحد المدعوين لمصافحته، ظلت عينيه تناظره في غضب حتى انتهى من ضيفه، وفرق أنظاره على الحاضرين، متأكدا من عدم وجود أي صحافي في الجوار، لئلا تُلتقط صورة لهما في ذلك الموقف المشحون، عادر بنظره له، اشتدت عضلات وجهه وهو يكز على اسنانه، وراح يعنفه في سخط بصوت عمل على ألا يرتفع عن محيطهما:


-احترم نفسك واعرف انت بتقول ايه، ولا انت فاكر الناس كلها وسخة زيك.


رفع حاجبيه، وهي يعترض على ما قاله بشكل يوحي بالسخرية، خاصة عندما تشدق هازئا:


-لا ازاي حاشا لله، ده حتى جاسم عمره ما لمس إيد رفيف، وفاضل كابت جواه يا عيني وعلى يدي.


كاد يرد على ما قاله، ولكنه لمح قدوم زوجته نحوهما، وهي حاملة صغيرها بين ذراعيها، فقد راودها الخوف، عندما رأتهما معا، وأحست من هيئة زوجها أنه متحفز لشجار ملحمي معه، شخص "عاصم" بصره على ما ينظر نحوه الآخر، لتلتوي شفتيه بابتسامة متسلية، عندما وجدها مقتربة منهما، وانتقل ببصره بنظرة خاطفة نحو الآخر، ولكنه سريعا ما عاود النظر إليها، عندما توقفت بجوار زوجها، حال دون تحدثه لها، عندما دنا منها، ومد يده ليمسك بيد الرضيع، وهو يقول بسماجة فجة:


-يزيد مش كده؟


منع لمسه ليد الرضيع؛ يد "مجد" التي قبضت على يده، مبعدة إياها عنه وهو يمنعه بحدة:


-ايدك.


جذب "عاصم" يده بثبات منه، وهو يحدجه بنظرة متهكمة تبعها تكلمه ببرود فج:


-ايه يا مجد اعقل متبقاش كده، وبعدين ده انا عندي اتنين يا راجل، مش هبص لحتة العيل اللي حيلتك.


شمله "مجد" بنظرة مزدرية وهو يعقب بقسمات وجه محتقرة:


-الاتنين اللي من الحرام؟


اشتدت عضلات وجهه، واحتد بصورة واضحة، واعتلى عينيه غضب شديد وهو ينظر بداخل عيني الآخر، كما اعترى وجهه العدائية الكامنة بداخله، بينما "مجد" لم يفتح مجالا لقوله مزيد من اللغو الفارغ، وخبط بديه فوق صدره وهو يقول بإيجاز يحمل دعوة صريحة له بالرحيل:


-نورت.


سدد له نظرة كارهة قبلما يحاوط ظهر زوجته بذراعه، وابتعد عن محيط الآخر، الذي بقى مطرحه، مشتعلة نظراته، كأنما ستتطاير النيران منهما، كابتا انفعالات جسده بقصارى طاقته، فهو لم يكن يعلم أن خطيئته، وإنجابه دون عقد زواج، يحلل له معاشرته لامرأة وضع في رحمها بذرته، ستلازمه كوصمة عار، ولن تفارقه حتى مماته.



❈-❈-❈


في البداية؛ ترك لها الحيز للدخول إلى غرفة نومهما بمفردها، وظل هو بالخارج في غرفة المعيشة لبعض الوقت، لكيلا يوترها، خاصة وأنه شعر بارتجافة يدها، عندما أمسك بها عند دلوفهما الشقة، ولكن عندما طال انتظاره لنداء منها، تدعوه إلى الإنضمام لها بالغرفة، قرر أن يذهب ليتفقد الأجواء عندها، دق فوق الباب مرتين، تبعهما دلوفه وهو يتنقل بنظره في أرجاء الغرفة، حتى استقرت عينيه عليها أمام المرآة، انشق ثغره بابتسامة رائقة وهو يتقدم نحوها، بدون تمعن النظر بها، تراءى له فركها ليديها ببعضهما، ليستشف ربكتها الواضحة، وقف خلفها، ونظر لها في خلفية المرآة، طمأنها ببسمة متسعة وهو يدنو منها مقبلا جانب عنقها، وسألها باهتمام ببحة صوته الرخيم وهو يمسد ذراعيها طلوعا ونزولا بنعمومة:


-عايزه مساعدة؟


حاولت التظاهر بتمسكها المتزعزع وعدم الإنصياع وراء تأثرها بملمس شفتيها الساخنةعلى بشرتها، ويديه لذراعيها، وتمنعت على مهل يتناقض مع تسارع خفقات قلبها:


-الفستان سهل، هقلعه لواحدي.


حاول أن يساعدها على تجاوز إحساسها بالخجل، ويشعرها بالتلاقائية وهو يضيف متسائلا بابتسامة جذابة:


-طب والطرحة؟


ازداد وجيب قلبها وهي تشعر بأنفاسه تجول على عنقها، ولكنها لم تستطع منع ابتسامتها تأثرا ببسمته الساحرة، وراحت تجيبه برقة، وهي تنزع عنها طرحتها بسهولة ويسر:


-أهي اتشالت خلاص.


وضعتها على التسريحة، وما كادت تتحرك من أمامه -على الرغم من عدم تحديدها وجهة بعينها- حتى حال دون تحركها، قابضا على ساعدها، وجذبها نحوه في حركة سريعة، لتصبح محاصرة بين ذراعية التي أحكاما ضمها لأحضانه، مما جعلها تشهق بخفة وهي تردد بهمس معترض:


-جاسم اا..


منع تفوهها بالمزيد، إصبعه الذي وضعه فوق شفتيها، حاوط وجنتها بيده، واضعا إبهامه فوق شفتيها وهمس لها وهو ينظر لشفتيها باشتهاء:


-أنا قولتلك إنك قمر أوي!


تضاعفت ربكتها من اقترابه المهلك لثباتها، ورمقته في نظرة مهزوزة توحي بلبكتها الظاهرة عليها للغاية، بينما هو حرك إبهامه فوق شفتيها مفرقا إياهما عن بعضهما وهسهس لها بعاطفة عارمة وهو يدنو برأسها من شفتيها المرتعشتين:


-بحبك.


بعث في وجدانها كله ما يشبه الرعدات اللذيذة، التي نجم عنها اهتياج المشاعر في جسديهما، من تلاقي شفتيه بثغرها الصغير الناعم، الذي بدا غارقا في بحور شغفه بها، وموجته الجارفة من الرغبة الخالصة، بالتنعم بشهد شفتيها، فصل القبلة بعد عدة ثوانٍ، تبادلا النظرات للحظات، وهما ينهجان من فرط الحماس الذي سرى بعروقهما، لم تتمكن "رفيف" من مجاراة الآخر في نظراته الجائعة، وأخفضت نظراتها التي ينعكس عليها سخونة وجهها، بينما الآخر زاد من ضمته لها، وكأنما شحذت كامل قوى تحكمه في نفسه، أو حتى قدرته في الإبتعاد عنها، خفض رأسه نحو عنقها، ومنحها وابلا من القبل الصغيرة الدافئة، لتشعر هي بأنفاسها تتهدج، وجسدها قارب على الذوبان بداخل حضنه، شعرت بارتخاء أقدامها، حاولت التملص بجسدها عنه، والمناص بما تبقى من قوى استنفذت مع تيار حبه العارم، وبعد محاولات للتكلم؛ لكي تنجو من عاصفة ستنهار لها حصونها المنيعة، سألته في صوت خرج مبحوحا، خفيضا، ومتلعثما:


-مش.. مش هتغير؟


صعب عليه الرد عليها في تلك اللحظة، فكانت فعلته خير إجابة، حيث قام بإنزال سحاب فستانها، لتغمض هي عينيها، وتركت نفسها للإحتراق طواعية في لهيب جمرات الحب، التي اتقدت بداخلهما، مما حفز وهيأ جسديهما لخوض تجربة فارقة، تمنيا وحلما لليالٍ كثر التمتع بكل لحظاتها، واللذين حظيا بها أخيرا، وظفرا بمبتغاهما، وأضحا في غضون دقائق معدودات، جسدين لروح واحدة.



❈-❈-❈


صراعه مع نفسه ليس بالهين نهائيا، أصوات كثر تجول وتصول في رأسه، الخير والشر دائما يتنازعان معا، نعم السيادة تكون للشر الذي غرز في مبادئه، ولكن الخير لا يمكن نفي موقفه؛ من ردعه عن فعل كثير من الموبقات، التي تأتي في ذهنه، والتي لكان ينجم عنها مصائب لا يمكن توقع تبعاتها، رأى أن موقفه مما أخبره به والده -بشأن مراقبة زوجته- إلى الآن غير محددٍ، فهو لا يستطيع تخيل احتمالية خيانتها له، ولا يضمن ما سيبدر منه إذا صدق في أنها لربما تكن مشاعر مماثلة للتي هي له الآن، لآخر غيره فيما بعد، حقيقة أنها ما تزال مراهقة في مشاعرها لا يقتنع بها، من تتحمل كل ذلك العناء، من أجل مجيء روحين إلى الحياة، لكي تكون أما، يستحيل أن تتخلى عن مشاعرها لوالدهما، الذي تمنته أبا لأطفالها من صغرها.


ولكن ماذا لو أصبحت تنباؤات والده حقيقة؟، وواقع ملموس، شهد هو على حدوثه، هل سيتمكن من التحكم في رد فعله!، هل سيستطيع حينها ردع نفسه عن إزهاق روحها بيده!، أغمض عينيه بقوة، وهو واقف في شرفة غرفته، وضع السيجارة في فمه، يسحب دخانها بشراهة، كأنه يثبط عن طريقها أفكاره، التي تتوغل إلى تلك النقاط الغير مستساغ التفكير بها، وفي تلك الأثناء، شعر بيدها وضعت فوق يده المثبتة على حافة السور، التفت بوجهه إليها، وابتسامتها الدافئة تلك تتلاعب بقلبه، ليس فقط لجمالها الذي يؤثر به رغما عن إنكاره الدائم، ولكن لذلك الدفء الذي تبعثه لداخله، وكأنها بلسما، تطيب كل الجروح، الناتجة عن الجفاء والقسوة، الذي تعرض له في حياته، وكعادته عندما يشعر بتحكم هالتها الناعمة به، يغطي على ما يطرأ على محياه بتحدثه في أي شيء، وجه نظره أمامه وسحب نفسا مطولا من سيجارته قبلما يلقي بها من الشرفة، لفظ دخانها سريعا، ثم قال لها بهدوء يحمل اللا مبالاة:


-صاحبتك فرحها كان النهارده.


ضمت شفتيها لعدة ثوان وهي متعجبة من علمه بالأمر، ولكنها بالأخير ردت عليه وهي تنظر له بتفقد:


-عارفة.


انتقل ببصره إليها وهو زاوي ما بين حاجبيه، وسألها متوجسا:


-انتي لسه بتكلميها؟


شعرت بالتردد قليلا من الرد على تساؤله، بالأخص أنها على علم بكرهه لعائلتها، ولكن امام نظرته المترقبة لم تجد خيارا آخرا، ابتلعت ثم جاوبته بحذر شديد:


-رفيف معملتليش حاجة.. تخليني مكلمهاش عشانها.


انقلبت سحنته من ردها، وهدر فيها باستهجان وكره بالغ صرخ به صوته:


-بس أخوها عمل.


بدون تركيز لما جال بفكرها كتعقيب على قوله، انطلق لسانها به بنزق:


-كان رد فعل للي انت عملته.


فغر عينيه من تبريرها لموقف الآخر مما فعله به، والتي كان ينبغي -بالنسبة إليه- ان تكون متحيزة له هو كونه زوجها، ثم التفت إليها بكامل جسده وزعق بها مستهجنا:


-انتي بتحليله؟


أدركت زلة لسانها، التي سريعا ما ندمت على تفوهها بها، وراحت تخبره في أسف جلى به صوتها:


-انا مبحللش لحد حاجة، ولا فارق معايا أخوها اصلا.


لم تتبدل ملامحه أو تلين، وظلت محتقنة من تعليقها الغير مستساغ، بينما هي أرادت أن تصلح ما أفسدته، دنت منه واحتوت وجنته بيدها، وهي تقول له في رجاء:


‐عاصم.. أنا مش عايزه نتخانق عشان خاطري، أرجوك متبوظش الجو الهادي اللي بينا، أنا مبسوطة بيه أوي ومبسوطة بوجودك معايا.


عندما وجدته يناظرها بصمت، ووجه لان عن ذي قبل، ظنت أنه استجاب لرجائها، اقتربت بجسدها منه، ووقفت على أطراف قدميها لكي تكافئه طولا، وحاوطت عنقه بذراعيها، أحس هو بتنهيدتها فوق صدره، وأنفاسها تمر على عنقه، وكأنها تعبر له عن راحتها بداخل أحضانه، وللحقيقة ليس هي فقط الذي يجد الراحة في عناقهما، فهو يشعر باحتوائها لأحزانه المستبدة به، كلما تحتوي جسده في إحتضانها له، ولكنه رغما عن ذلك لا يستطيع التحكم فيما يثور بداخله، كل مرة حدث بينهما قرب حميمي، ففي خلال لحظات اشتشعر بداية تأجج الرغبة بععروقه، ظهر الضيق على ملامحه، لعلمه بعدم استطاعته الإقتراب منها بأي فعل حميمي خلال تلك الفترة، وعندما شعر بازدياد الأمر سوءً، واندلاع السخونة في جسده، امتعض وجهه وهو يبعد ذراعيها عن عنقه قائلا في حنق وفظاظة بالغة:


-ماتبعدي بقى، انتي مش لسه متهببة.


تفاجأت من عصبيته التي اندلعت بغتة، فقد كان مستكينا منذ لحظات بين ذراعيها، ولكنها استنتجت أن قربها استثار الكامن بداخله، رمشت بأهدابها وهي تبرر له:


-انا بحضنك بس، مكانش قصدي حاجة.


حدجها بنظرة ضائقة من حدقتيها، ثم دمدم في لهجة منفعلة:


-بطلي تتعاملي كأننا متجوزين، ومفيش حاجة حاصلة بينا، لإن أنا مش عارف اصفيلك.


زادت غرابتها من تحوله الغريب، ولكن ما أحزنها أنه إلى الآن لم يتقبل موقفها المصر على إنجابها لطفليهما، وهي ترمقه بتلك النظرة الذي طغى عليها الحزن رددت بصوت بائس:


-كل ده عشان صممت أخلف منك!


اغتاظ من استخفافها بحقيقة الأمر، وراح يعلق تجهم ناقم:


-بتقوليها بمنتهى الفخر وكأننا كنا متجوزين وقت ما حملتي فيهم.


على فور انتهائه من كلماته، حتى ردت عليه هي في انفعال طفيف:


-انت اللي رفضت اننا نتجوز مش انا.


طغى التهكم على قسماته وهو يصيح فيها بطريقة فجة:


-ماتكملي كلامك للآخر.. وقولي انك خدتي حملك حجة عشان اتجوزك غصب عني.


كلماته أشعرتها بحقارة شأنها، كونها تعلم أنه أجبر على الزواج بها، وهي لا تنفك تتود إليها وتستجدي حبه، زمت شفتيها، وطرقت برأسها بإنكسار، ولكن ما لبثت أن رفعت ناظريها له، وأخبرته في ثبات متزعزع قليلا بفعل كبحها لعبراتها:


-وانا مش بجبرك انك تكمل معايا، انت خلاص اعترفت بولادك اللي اتجوزتني بسببهم، لو مش عايز تكمل تقدر تطلقني وانا معنديش مشكلة عشان حتى...


ابتلعت باقي كلماتها، عندما اقترب قابضا على ذراعها، وهو يهدر بها بعصبية شديدة:


-عشان حتى إيه؟، مرافقة راجل تاني؟


برقت عينيها مصدومة مما تفوه به توا، واستنكرت اتهامه قائلة وهي لا تصدق أنه يتهمها بمثل ذلك الإتهام الشنيع:


-انت بتقول إيه؟


لقد استطاع والده العبث في رأسه، وجعل الشك حائلا بين اكتمال زيجتهما على نحو هادئ، لم يكتفِ بما قاله، حتى بعدما رأى سحابة من العبرات غامت بها حدقتيها، بل أراد أن يردد على سمعها ما أقنعه به والده حولها، دون سبب وجيه عنده، استوحشت نظراته وهو يواصل إهانته لها وجرح كرامتها وكبريائها:


-إيه مصدومة كده ليه؟، مانتي كنتي مرفقاني، واللي انتي مفكرة اللي كان بينا ده إيه؟


انهمرت دموعها على وجنتيها، وهي تنظر له نظرات لائمة، وما يزال عدم التصديق لما قاله مسيطرا على فكرها، فهي كلما تتناسى ما يبدر منه معها، يذكرها هو على طريقته القاسية، كلما حاولت مداوة الجروح الذي خلفها في قلبها، يفاقمها ويضاعف أعدادها، ويتركها مهشمة تلملم هي بقايا روحها بنفسها، بينما هو ظل يبادلها النظرات، صامتا لا يضيف شيئا إلى ما قاله، بل الندم بدأ يشعره باختناق في صدره، كعادته معها كلما قادته عصبيته إلى قول ما يوجع قلبها، يجد الندم يلتف حول صدره يعتصره، ولكنه يعمل على عدم إظهار ذلك، محافظا على هيئته الجامدة الغير مكترثة، ما قطع التواصل البصري بينهما الذي ظل مستمرا لعدة لحظات، صوت طرق على باب الغرفة، التفتت هي بوجهها بعيدا عنه وهي تكفكف عبراتها، رجع "عاصم" بظهره خطوة إلى الخلف ثم استدار، بوجه مشتد طاغيا عليه أمارات الغضب توجه إلى الباب، فتحه بقوة، ليجد إحدى العاملات لديهم هي الطارقة، حدجها بحدة وهو يسألها هادرا فيها:


-عايزه إيه؟


توترت العاملة من عصبيته، وخشيت للحظة من التحدث، ولكنها لم يكن أمامها حلا آخر، وراحت تخبره بصوت يظهر عليه الخوف؛ بما جعل وجهه يكفهر على فوره، ويطغى عليه كل تعبيرات الصدمة:


-كمال بيه مغمى عليه في أوضة المكتب.. ومش عارفين نفوقه.



يتبع