الفصل التاسع - مشاعر مهشمة2
الفصل التاسع
الفجائع عندما تحضر تجدها آتيةً جماعةً، وكأنها تنتظر فقط الوقت الذي تظهر فيه، وتخرج واحدة تلو الأخرى، لتشعر وكأنما تسير على طريق مليء بالعثرات، التي لا تنفك تسقطك أرضا، إلا أنها تلك المرة كبوة مؤلمة، ليست كما البقية، فعندما يراودك شعور باحتمالية فقدك من هو بمثابة درعك الحامي، ينتزع منك الأمان الذي كان يحيط بك، لتصبح شريدا تائها في خضم حياتك الكبيرة، حتى وإن كان أمانك صوريا، وليس بالمعنى الضمني، إلا أنه سيظل حصنك المنيع، مهما تجرد من الدفء بداخله.
الدقائق تمر عليه كمرور السنوات الضوئية، وهو ينتظر في مكتب الطبيب بالمشفى، الذي نقل والده إليه، حتى يتم فحصه، ويعلم من خلاله ما أصابه، في غضون دقائق، قضاها في غرفته، بعد صعوده من عنده، وتركه بمفرده، فحالته التي كان عليها لا تبشر بخير نهائيا، وكأنما كان على شفا لفظ أنفاسه الأخيرة، تنفس "عاصم" الهواء مطولا، مثبطا به توتر أعصابه البالغ، زفره على عجالة وهو يلتفت برأسه نحو باب الغرفة الذي فُتح، والجا الطبيب من خلفه، استقام في جلسته، متأهبا لما سيلقيه الطبيب عليه، من كلمات يشعر بعدم الإرتياح لها مسبقا، من هيئة الطبيب الغير منبئة بالبِشر على الإطلاق، جلس الطبيب وهو يزفر بإرهاق، ووجهه يعبر على وجوم غريب، ثم نظر له بأمارات لا تنم على خير وهو يرحب به بدون حفاوة:
-أهلا عاصم بيه.
لم يكن "عاصم" ببال رائق ليبادله الترحيب، فقد كان منشغلا بما طرأ على والده، والذي تساءل على الفور عنه، ببعض القلق الذي لم يستطع مواريته:
-خير يا دكتور، بابا ماله؟
زم الطبيب شفتيه لثانتين، قبلما يجيبه بصوت طاغي عليه الأسف:
-أنا متأسف جدا في اللي هقوله، بس حالة كمال بيه اتدهورت إلى حد كبير، سرطان الكبد عنده وصل لمرحلته الأخيرة، واتسبب بإضرار لأجهزة أخرى ومن ضمنهم الرئتين والكليتين، واللي للأسف واحدة منهم تعرضت لفشل كلوي.
ظهرت معالم الصدمة على وجه "عاصم"، مع انتهاء الآخر مما قاله، وبدا له الأمر لا يعقل، وعلق عليه في شيء من عدم التصديق:
-ازاي كل ده حصل!، بابا بياخد علاجه بانتظام، ومتابع معاك، وانت مبلغني قبل كده ان حالته فيها تحسن.
أومأ له بوجهه في تفهم، وراح يخبره بتأكيد على كلماته بصوت يشوبه الاستغراب:
-ده فعلا اللي كان حاصل، بس كمال بيه بقاله فترة منقطع عن المتابعة، بالإضافة إلى إن الفحوصات بتدل على عدم انتظامه الفترة الأخيرة على العلاج.
تعقدت ملامح "عاصم" بصورة واضحة، وعقله لا يسعفه على التفكير بشكل صائب، وأخبره وهو يحرك بؤبؤيه بحركات تنم على الحيرة:
-مش معقول ان سبب تدهور حالته بالشكل الكبير ده انقطاعه عن المتابعة او العلاج الفترة الأخيرة.
على فور انتهائه مما قال، بدا على تعبيرات الطبيب وجود ما يود التحدث عنه، والذي صرح به وهو يستطرد:
-هو فعلا مش ده السبب الأساسي، في حاجة ظاهرة في الفحوصات ومش فاهم ازاي حصلت.
استرعى انتباهه معرفة الأمر، وبصوت مهتم تساءل على الفور:
-حاجة إيه؟
حمحم الطبيب جاليا صوته، ثم بدأ في السرد بإيضاح بطريقة علمية بحته:
-عينة الدم وضحت تناول كمال بيه لأدوية كانت ممنوعة عليه منعا باتا، وكنت مشدد على كده، لإنها ممنوعة على مرضى الكبد والكلى، وبتتعارض مع مفعول الأدوية التانية اللي كان مستمر عليها، بل وبتتسبب بأضرار وخيمة، وفي حالة كمال بيه نجم عنها انتشار السرطان لحد ما وصل للمرحلة الرابعة، وبقى صعب التحكم فيه.
بدأ الإنفعال في الظهور على وجهه، بعد قوله الأخير من كلملته، حيث إنه استشف منه، عدم قدرته على إنقاذ والده من حالته المرضية، التي اضحت ميئوسا منها، كما يحاول الآخر ان يوضح له، وبعصبية اكتسبها صوته دمدم في غير رضاء وسخط جلي:
-يعني إيه صعب التحكم فيه؟، مفيش حاجة اسمها صعب.
حاول الطبيب أن يوضح له الحالة التي أصبح عليها والده، بمنطقية متزايده، عله يتفهم الأمر:
-يا عاصم بيه أفهمني، الحالة بتاعة والدك حساسة للغاية والكبد شبه اتدمر، الورم كتلته زادت و...
قاطع متابعة حديثه، قائلا في عجالة، باقتراح يراه وسيلة إنقاذ متاحة، لانتشال والده من حالته التي ستؤول به إلى الموت:
-ممكن نزرع كبد تاني، وانا عندي اللي يتبرع.
قابل اقتراحه الذي لمس به أملا عنده، لاسترجاع والده كما كان قبلا، بعلامات الأسف التي ارتسمت فوق وجهه وهو يخبره:
-للأسف مش هينفع، والد حضرتك تخطى الاتنين وستين سنة، ده غير إن في اسباب تانية حيوية تمنع ذلك، وهو عنده علم بالاسباب، لإن كان اتكلم معايا في الموضوع ده قبل كده.
تشكلت على فوره خيبة الأمل على وجهه، واختلطت بعصبية اندلعت بغتة، وهو يهدر به، بما يحاول ان يرمي إليه الآخر، بحديثه الهادم لأي أمل يضعه في نجاة والده:
-انت عايز تقول إيه، هيموت يعني؟
تضاعفت تعبيرات الأسف على وجه الطبيب، والممزوجة بالعجز عن قدرته على إتاحة فرصة مضمونة لنجاة والده، وراح يرد عليه في حذر معبرا عن قلة حيلته:
-الأعمار بيد الله، كل اللي اقدر أقولهولك، ان احنا هنعمل اللي علينا والباقي على ربنا.
❈-❈-❈
عند مضي السنوات، وصولا إلى عمر، تشعر فيه باقتراب أجلك، تجزم أن ما انقضى من سنوات عمرك كان لحظة، مرت في غمضة عين، البعض يتمنى حسن الختام، والبعض يرى أنه لم يصل من أمانيه إلى حد التمام، وأن ما جنيه ليس بكافي، لتكن تلك نهايتهم المحتومة، فعندما يستشعرون انتهاء سنوات حياتهم، جل ما يجول في ذهنهم آنذاك، أن ما عايشوه لم يكن بمرضيٍ، ولم تكن حياتهم حصيدة لكل ما ودوه يوما، ويبدأون في السخط على حياتهم، وينكرون كل النعم الذي أغدق المولى عليهم بها.
كان ذلك الشعور الذي يجول في نفس "كمال"، وهو راقد على السرير، يشبه الأموات في رقودهم، في مكان بعيد في أعماقه يخشى الموت، ولكنه جامد، يحارب خوفه من وحشة القبر، فما به من شرور أنسته وجوب توبته، على ما بدر منه لسنوات طوال، فتح عينيه بضعف شديد، من استبداد المرض بكل خلية بجسده.
ظن لوهلة أن مع أنفاسه الذي يسحبها، ستخرج آخرها في زفرة خائنة، تلك الآلام التي لا تُحتمل، بدلا من أن يضعفها بالدواء، اكتفى بالمسكنات، وكأنه يرحب بالموت، الذي يحاول الوصول إليه من شتى الاتجهات، فقد رأى أنه مهما جال وصال، وحارب بضراوة تلك الأمراض، التي تصل بصاحبها إلى الفناء، لن يجد من نهايتها مفر، وهو الموت، الذي يشعر بقدومه منذ أسابيع، لذا بكل يأسٍ متملك منه ترك نفسه لمصير سيلاقيه مهما حدث.
في تلك الأثناء، دخل "عاصم" الغرفة، وهو يجزم أن ما ظاهر على والده، ما هي إلا سكرات الموت، ابتلع ريقه الذي كان كالعلقم المر، وخطى بقدميه سيرا نحو سريره، وقال بصوت يحمل الخوف والحزن في آن واحد:
-سلامتك يا بابا.
ناظره في نظرة منزوع منها الحياة، خبت لمعتها، وظهر فيها إنطفاء يشابه إنطفاء الأموات، وبأنفاس متقطعة أرظف بصوت خفيض ظاهر عليه تحامله على نفسه لإخراجه:
-قالك هموت مش كده؟
ألجم تساؤله لسان "عاصم"، وشعر لوهلة بعجزه عن الرد، فرده سيكون خير دليلا على إثبات صحة إحساسه، طرق نظراته لأسفل، وهي يتحمل الغصة المضنية بحلقه، ويكافح العبرات التي تكومت بحدقتيه، وسمع صوته من جديد بتلك النبرة المتحشرجة حشرجة توضح الألم الكامن بداخله، وهو يواصل التكلم ببؤس شديد:
-أنا كنت عارف إن حالتي بتسوء.. عشان كده بطلت آخد العلاج.
رفع له "عاصم" بصره، الذي اعتراه اللوم وهو يعاتبه بصوت يحمل الشجن على ما حل به:
-بس مش معنى كده إنك تاخد علاج الدكتور مانعك عنه، وتعرض حياتك للخطر.
بتلك النظرة الغائمة على وجهه، ناظره بها وهو يتساءل في خفوت مطعم بالغرابة:
-علاج إيه؟.. أنا مكنتش باخد علاج.
انعقد ما بين حاجبي "عاصم" بغير استيعاب لما قاله، وظن أنه تأثرا بمرضه، غفل عن أخذه لتلك الأدوية، ولسانه راح ينطق بما ابلغه به الطبيب، عله يتذكر ما قام به:
-الدكتور قال إنك الفترة الأخيرة أخدت أدوية كانت بتتعارض مع المرض بتاعك وهي السبب في تقدم السرطان للمرحلة الأخيرة.
على غير المتوقع، ازدادت تعبيرات والده احتداما، وهو يكرر ما قاله على مسامع الآخر بصوت منفعل:
-أنا ماخدتش حاجة.. يا عاصم بقولك.
سهمت عيني "عاصم"، وعبرت ملامحه عن الشرود فيما قاله والده، وبصوت يحمل الشك قال له وعينيه تقدحان شررا:
-مفيش غير معنى واحد للكلام ده.
تابع "كمال" الحديث بجهد شديد، عندما فقه ذلك المعنى الذي جال بفكره هو الآخر:
-حد كان بيحطهولي.
عندئذ سأله "عاصم" بتعبيرات ناقمة وتحفز واضح:
-في حد شاكك فيه من الخدم اللي عندنا؟
ظل "كمال" صامتا لبرهة، وكأنما يستجمع أفكار رأسه، ثم أخبره بمجهود زائد:
-مفيش غير سعاد وثنية.. اللي كانوا مسئولين عن أكلي.
بدون تفكير او حتى ذرة شك اعترت صوته عقب بشيء من التأكد في نزاهتها، واستبعادها عن أي شكوك:
-سعاد استحالة تعمل كده.
أدرك "كمال" أن دفاعه الفوري ذلك، نابعا من عشرته بها، والذي تجمعهما منذ كانت والده على قيد الحياة، حيث إنها كانت الخادمة الخاصة بها، وهي من قامت بجلبها، ويعلم أن لها معزة خاصة في قلبه، إلا أن مل ذلك لا يعنيه ولا يكترث له، تشكلت معالم الضيق على وجهه وهو يأمره بشيء من العصبية المشبعة بالتعب:
-اعرفلي يا عاصم مين فيهم اللي عملت كده، ومين اللي محرضها.
رد عليه "عاصم" في خنوع تام عندما اهتاجت اعصابه وهو لا يضمن نتائج ذلك عليه:
-طب اهدي يا بابا، العصبية مش كويسة عشانك.
لم يستجب لتحذيره الراجي، وواصل تحدثه رغم صعوبة نطقه، وخروج الكلمات مهتزة من بين انفاسه المتهدجة:
-مش هاهدى.. إلا اما اعرف مين اللي بيضربني من ضهري.. ولصالح مين.
أومأ له بوجهه الذي تخضب بحمرة الغضب، وعينيه يملآها الوعيد؛ لمن سولت له نفسه، واقترف ذلك الجرم بوالده:
-هعرفلك يا بابا، هعرفلك.
❈-❈-❈
ربما كانت المواجهة غير مشروطة بالنسبة إليه، ولكن لكيلا تلعب الشكوك برأسه، بشأن خادمة والدته، أراد أن يجتمع بالاثنتين، ويواجههما بتلك الفعلة النكراء، التي لن يعفو عن مقترفها، رغم علمه وتأكده من هويته، إلا إنه سينتظر اكتمال الأدلة عنده، دلف من باب الفيلا، بخطوات يملأها الغضب، الذي اشتعلت جذوته بداخله، وتنتظر الوقت الذي ستنكشف فيه الحقيقة، لتندلع في الأرجاء، وقف في البهو، وعينيه تمسح المكان بنظرة خاطفة، باحثا عن إحداهما، وعندما لم يجد طيفهنا في المكان، هتف بصوت آجش قوي:
-سعاد، انتي ياللي اسمك سعااد.
حضرت الخادمة مهرولة نحوه، ويظهر على محياه القلق من ندائه عليها، وقالت له باحترام متريث:
-ايوه يابني، أؤمر.
تفحص هيئتها للحظات، وكأنما يبحث عن احتمالية فعلها ذلك الأمر، وذلك قبلما يتساءل بنبرة حادة تثير الريبة:
-فين ثنية؟
تعجبت من تساؤله عنها هي بالذات فور مجيئه من المشفى، ولكنها على كلٍ جاوبته بهدوء:
-في المطبخ.
كاد يتحدث إليها، ويخبرها بأن تأتي له بها هنا، ولكن حال دون ذلك، رؤيته لنزول "داليا" الدرج، وهي حاملة أحد الرضيعين بين ذراعيها، كانت خطواتها متباطئة، لعدم تعافيها بشكل تام من تبعات الولادة، لم يرد أن يتحدث أمامها، لئلا يوترها، ويبعث الخوف في نفسها من عصبيته، التي لن يستطع التحكم بها بالتأكيد، عاود النظر إلى "سعاد" التي ما تزال منتظرة تحدثه، وأمرها بصوت جامد لا يبشر بالخير:
-هاتيها وتعالولي على المكتب.
حركت الخادمة رأسها بخنوع يمازجه عدم الإرتياح، تبعه قولها بإنصياح وهي تهم بالتحرك:
-حاضر يابني.
على فور ذلك سار نحو غرفة المكتب مباشرة، حاول تجاهل الأخرى، ولكنها سارعت في مشيتها متوجهة نحوه، وقبلما يدلف إلى الداخل صدح صوتها من خلفه، وهي تتقدم في سيرها إلى موضع توقفه:
-في إيه يا عاصم بتزعق ليه!، وانا رنيت عليك كتير عشان اتطمن على uncle كمال، مكنتش بترد عليا ليه؟، وإيه اللي حصله؟
أوصد عينيه بحنق من ثرثرتها، وتساؤلاتها الذي لا يجد لها نهاية، ونظر إليها في نفاذ صبر وهو يقول لها بطيف عصبية:
-داليا مش وقتك، وياريت تطلعي فوق عشان انا مش طايق نفسي.
ثبتت في موضعها دون حراك، ووجهها يعلوه الحزن من معاملته المتجافية معها، لمح "عاصم" ما ظهر على محياها، بنظر خاطفة قبلما يلج الغرفة، توقف أمام المكتب، واستند بيده على سطحه، وهو شبه منحني بجذعه، حاول أن يتحكم في ثورة أعصابه، لئلا ينقض عليها فور دخولها، ويفصل رأسها عن جسدها، استحضر هدوئه بصعوبة، حتى يتمكن من معرفة من الذي حرضها على القيام بذلك، لم يمر سوى دقيقتين، واستمع لصوت دقتين على باب الغرفة، تبعهما دلوف الاثنتين، كون الباب كان مفتوحا، وقفتا امامه، ولم تنبسا ببنت شفة، لم يرفع وجهه إليهما، وظل ناظرا إلى الاسفل، وهو يسألهما بتؤدة، تتناقض مع الاهتياج القائم بداخله:
-مين اللي مسئول عن الأكل بتاع بابا؟
على فور انتهائه جاوبته "سعاد" بنبرة عادية لم يظهر عليها تلجلج:
-احنا الاتنين.
بأمارات وجه عمل على ان تظهر طبيعية مواريا خلفها حقدا بالغا تساءل بشيء من الهدوء المقلق:
-على كده بقى مين فيكوا اللي كانت بتحط لبابا الأدوية في الأكل؟
قطبت "سعاد" جبينها مشدوهة من تساؤله، وعقبت بغرابة واضحة لا يظهر بها أي اصطناع:
-أدوية إيه؟
بدون تمعن تراءى له صدقها على النقيض تماما مع ما طرأ على وجه الاخرى، من ربكة ظاهرة، تقدم منهما وهو يدمدم بغضب مكتوم:
-أنا مش عايز استعباط، ومن غير كلام كتير، مين اللي كانت بتحطله الدوا في الأكل؟
كان يود أن يلعب بأعصاب "ثنية"، حيث إنه أضحى شبه متأكدا من كونها هي الفاعلة، ولكي تعترف بسهولة بالأخير بهوية الدافع لها، انتقل ببصره نحو "سعاد"؛ التي هتفت بمصداقية، محاولة الدفاع عن نفسها، ضد اتهامه الذي لا تعلم عنه شيء:
-يابني أنا شغالة عندكم من أيام نيرة هانم الله يرحمها، عمرك شوفت مني حاجة وحشة؟، انا ماشية معاكم بما يرضي الله، يبقى دوا ايه اللي هحطه من غير علم البيه، او يبقى فيه أمر سابق منه بكده.
لم يكن "عاصم" يساوره حيالها شكا منذ رؤيته لهيئة الأخرى المرتبكة، ولم يكن يريد ليستمع لمحاولة تبرئتها لنفسها عن الإتهام الذي نسبه إليهما، ليقتنع بأن ليس لها يد في الأمر، ولكن استمراره في الأمر، لكي يمسك على الأخرى أي زلة لسان، تكن هذه خيط وصوله للرأس الكبيرة، أو تكن إجبارا منها على الاعتراف، والذي سيكون بالإرغام والعنف إذا رفضت أو انكرت، حاد بعينيه عن "سعاد" ناظرا نحو "ثنية" التي خرجت عن طور صمتها، وهتفت بتكذيب لأقوال الاخرى:
-الست دي كدابة يا عاصم بيه.
ناظرها في صمت وعدم تأثر، مما ضاعف من ربكتها، واختطفت نظرة نحو "سعاد" التي فرغت عينها صدمةً، من تكذيبها لها، ولكنها عاودت النظر إليه وأخبرته بكلمات لا تحتاج لتمعن التركيز بها ليتأكد من عدم صدقها:
-ايوه كدابة، هي اللي كانت بتحط الدوا لكمال بيه، وانا كنت بشوفها، بس مرضيتش اتكلم عشان ست كبيرة وخوفت يتقطع عيشها بسببي.
حينئذ وقبلما يعلق "عاصم" على ما تفوهت به، صاحت "سعاد" بها بصوت ارتفع غضبا لكذبها الواضح واتهامها لها بما لم تفعل:
-شوفتيني أنا!، يا شيخة حرام عليكي امتى حصل ده..
بعينين بارقتين حدج "سعاد" وهو يهدر بها بصرامة:
-اسكتي مش عايز اسمع صوتك.
تقدم من الأخرى بخطوات متمهلة، وهو يرى الهدوء بدأ في الظهور على محياها، وكأنما ظنت أنه صدق ادعائها الكاذب، بينما الأخرى بدأت الدموع تترقرق في عينيها من انفعاله عليه، وقالت له بنحيب محاولة الدفاع عن نفسها:
-يا ابني والله ماحصل الكلام ده، ده كدب..
سدد لها نظرة مستشاطة غضبا، اسكتتها، ولكنها لم تمنع صوت شهقات بكائها من الخروج، حاول ألا يبدي الغل الذي تكون في صدره ناحيتها، وسأل الأخرى بهدوء يحمل الاستدراج الذي لم تنتبه هي له:
-إيه اللي شوفتيه؟، وايه اللي خلاكي تشكي فيها؟، مش يمكن الدوا ده بابا اللي قايلها تحطه!
رمشت بأهدابها ببعض التوتر الذي عاد لها من جديد، مع اقترابه منها الباعث على الرهبة، وجاوبته في بعض التلجلج الذي حاولت أن تتحكم بها أثناء سردها لحدث مُفترى:
-اللي حصل يا عاصم بيه أني شوفت سعاد بعدها كانت بتبعت لواحد رسالة بتعرفه فيها أنها عملت اللي أمرها بيه وحطت للبيه الدوا في العصير، و.. وانا شوفتها بعد كده في تليفونها، لما كنت بحطهلها على الشاحن، الرسالة وقعت في ايدي بالصدفة و..
ابتلعت باقي كلماتها، وخرجت بدلا عنها صرخة متألمة من حلقها، عندما تهاوت صفعة مدوية على وجنتها من يد "عاصم"، جعلت وجهها يميل للجانب من قوتها، وضعت يدها فوق وجهها، وعاودت النظر له بعينيه الخائفتين وهي تذرف الدموع، بينما هو كان يتابع تقدمه منها وقال لها بنبرة هازئة بأنفاس مغلولة وهو على وشك مهاجمتها:
-انت متعرفيش صح؟، سعاد مبتعرفش تكتب ولا تقرا.
كانت محاصرة بينه وبين الحائط، شعرت بقلبها سينخلع من شدة الخوف، خاصة عندما قبض على شعرها وهو يسألها بخشونة وعصبية مفرطة:
-مين اللي مسلطك يا بت؟
استشعر رعشة جسدها، وانتحابها الباكي وهو يشدد على قبضته لخصلاتها، وكأنه سيقتلع شعرها من جذورها، وعندما لم يجد منها ردا، هدر بها مكررا تساؤله بحدة متزايدة:
-انطقي مين اللي مسلطك.
تكلمت بنشيج بكائها مصرةً على كذبها وهي تحاول نزع شعرها عن يده:
-محدش مسلطني يا بيه، والله انا مظلومة.
كز فوق اسنانه من تصميمها على عدم الاعتراف، ونظر لها بعينين تشتعلان غضبا، أخرج سلاحه من ثيابه، وهو ما يزال ممسكا بشعرها، وهددها به في سخط شديد:
-أنا اقدر اقتلك واتويكي والدبان الازرق مش هيعرفلك طريق جرة، فاتكلمي احسنلك قبل ما صبري ينفد معاكي.
فرقت نظراتها بينه وبين المسدس في يده، وببكاء شديد قالت له:
-يا عاصم بيه والله...
وجد أن الحديث لن يجدي معها، ترك شعرها، وضع السلاح على الطاولة الجانبية بجواره، وهو ينظر إلى الناحية الأخرى، وبدون أي مقدمات عاد بنظره إليها، وانهال على وجهها بصفعات متتالية وهو يصيح بها في غضب جم بسباب عدة:
-اتكلمي يا **** يا *****، اتكلمي بقولك.
هتفت الخادمة بصوت مبحوح من صراخها بلهوجة باكية، وهي واضعة يدها أمام وجهها محاولة الزود عن نفسها:
-هتكلم.. هتكلم والله.. هتكلم.
ابتعد عنها وهو ينهج، ناظرا لها نظرات محتدمة بالغل، مستمعا إلى صوت كلماتها المتقطعة بفعل شهقاتها:
-اللي قالي اعمل كده.. واحد اسمه صلاح ابو ريا.. استغل اني محتاحة فلوس اعمل عملية أمي.. عرض عليا اعمل كده وهو هيعملها العملية، واما رفضت عرضه في الأول هددني ان لو معملتش كده هيقتل اخويا، اخويا كان عندهم يا بيه وكانت امي هتروح فيها لو جراله حاجة، وافقت عشانه وعشانها، غصب عني والله، ابوس إيدك ماتبلغ عني، ابوس إيدك.. آاه.
عندما وقع الاسم على سمعه، تعرف على الفور على أتباع ذلك الرجل، أو بمعنى أصح الذين سلطوه للتفاوض مع الخادمة، للتخلص من والده، زدادت نظراته قتامة، ولم يستطع كبح جموحه وصفعها صفعة قوية جعلتها تسقط أرضا، لم يكتفٍ عند ذلك الحد، وأخذ يركلها في مواضع عدة في جسده، وغضبه أعماه عن كونها امرأة لن تتحمل بطشه، أتت "داليا" مسرعة عندما وصل إليها صوت الصراخ، ركضت نحوه، متحاملة على نفسها شعور الألم الذي زاد مع سرعة سيرها، وقفت أمامه، حائلة بينه وبين الخادمة المتكورة أرضا، وهي لا تعلم السبب فيما يفعله طلبت منه برجاء شديد يخالكه الهلع من رؤيتها لذلك المشهد:
-كفاية يا عاصم، كفاية هتموت في إيدك.
برق لها بعينيه، ودفعها بذراعها لتتنحى جانبا وهو يزأر من بين أسنانه:
-اوعي، مالكيش دعوة بحاحة واطلعي فوق.
امتدت يده آخذا المسدس من فوق الطاولة، فغرت عينيها بخوف من تخيل ما سيقبل عليه، وتقدمت نحوه مرة أخرى وهي تقول بتصميم وأمسكت به من ذراعيه محاولة إرجاعه عما في رأسه:
-لأ أنا مش طالعة في حتة، ومش هسيبك تموتها بالمسدس اللي معاك ده وتضيع نفسك.
بعصبية متزايدة، وغل عارم، دفع جسدها بيديه وهو يهدر بها بانفعال شديد:
-قولتلك اطلعي فوق، إيه مبتفهميش؟
وقع على سمعه أثناء ذلك، صوت رصاصة انطلقت من فوهة مسدسة، دون ان يشعر بضغطه على الزناد نهائيا، تزامنا مع صرخة غادرت حلقها، تبعها ترنح جسدها وسقوطها أرضا، وذلك كل خلال جزء من الثانية، تسمر جسده في موضعه، وخفقة قوية عصفت بقلبه، من رؤيته لجسدها يرتطم بالأرض أمام مرمى بصره، وبخوف بالغ دب في قلبه، وهز كامل وجدانه، هتف مناديا باسمها:
-داليا.
يُتبع