-->

الفصل الثاني عشر - مشاعر مهشمة2


 الفصل الثاني عشر



الأنباء السعيدة تضفي على وجوه صاحبيها هالة من النور، وكأنهم قد إزدادوا نضارة وإشراقا مع قدومها، كان السرور ظاهرا على محياهم بصورة واضحة، فاليوم قد رزقهم المولى بثاني حفيد للعائلة، والمولود الأول للأبنة التي ظلت ضائعة، وغير معلوم حالها لأعوام، وما كان يجول بمخيلتهم مع إيجادهم لها، تحول حياتهم تحولا جذريا، يعود الفضل إليه بعد المولى عز وجل في رسم الابتسامة على وجوه الجميع، تبادلوا المباراكات  والدعوات، والعبارات الإستهلالية فيما بينهم، عندما أبلغهم الطبيب بسلامة الأم والرضيع، ودلفوا مسارعين للغرفة التي انتقلت إليها "أسيف" مع رضيعها، بعدما تم تنظيفه، وإلباسه ثيابه، وكان الأسبق من بينهم "عدي"، الذي أدمعت عينيه عند رؤيته لملاكه الصغير، وانتظر بالقرب من زوجته -التي ما تزال تحت وطأة المخدر- ريثما تستفيق ليريها ثمرة حبهما، وجزء من روحهما، متجسدا في هيئة ملائكية تسر الناظرين.


انسل "مجد" من بينهم، تاركا الغرفة، عندما آتاه مكالمة عمل هامة، لكي يستطيع التحدث في هدوء، بعيدا عن الضوضاء المحيطة به في الداخل، وعند انتهاءه وبينما يضغط على موضع إنهاء المكالمة، لمح قدوم "جاسم" نحوه، بوجه عابس آثار غرابته، أكثر من مجيئه المفاجئ، حيث إن الجميع كانوا مستبعدين قدومه هو وشقيقته، لسفرهما لقضاء شهر عسلهما، بالطبع لم يكن السفر خارج البلاد، لتشددات الطبيب على ذلك، لئلا يصحب سفرهما بعض أعراض التعب المحتملة على "رفيف"، لما به من إرهاق بدني وعصبي ما يزال ممنوعا عليها التعرض إليه، ولكن توقع أن يعترض "جاسم" على إلغاء رحلتهما بتلك السرعة، عند علمهما بحدث ولادة "أسيف"، افترت شفتي "مجد" بابتسامة متسلية، وسأله بتفاجؤ لم يخبُ معالمه عن وجهه بعد:


-إيه ده العريس هنا؟ إيه اللي رجعكم؟


ناظره بنظرة مليئة بالإنزعاج، وأجابه باقتضاب شديد:


-اختك.


اتسعت ابتسامة "مجد"، وباتت حاملة لنوع من أنواع التشفي، وراح يعلق بهدوء مستفز:


-معلش بقى عايزه تطمن على اختها، عليك انت الاستحمال.


نفخ في ضجر، ودمدم في ضيق جم:


-ما كانت تطمن عليها في التليفون، حبكت يعني نرجع عشان ولدت.


لم يستحن "مجد" تقليله من شأن الحدث الجلل، من إنجاب شقيقته لملودها الأول، حدجه بنظرة مغتاظة وأردف بغير رضاء لافتا نظره لأسلوبه الفظ في الحديث عن شقيقته:


-لاحظ إن اللي بتتكلم عنها دي اختي.


قابل كلماته باستخفاف وهو يلوح بيده، معلقا بلا مبالاة تحمل الاحتقان:


-يعني هي اول واحدة تولد؟


حملت نظرات "مجد" نفس نظرات الاستخفاف وهو يرد على ما قاله بنفس أسلوبه المتهكم:


-يعني انت اول واحد تتجوز؟


امتنعا عن إضافة المزيد من الردود المغتاظة من كليهما، وحانت منهما التفاتة إلى الجانب عندما استمع إلى صوت "رفيف" وهي تقول لزوجها بغرابة:


-انت واقف هنا ليه؟ ماتدخل تشوف أسيف والبيبي.


زفر نفسا حانقا وهو يردف في ضيق جلي:


-داخل أهو.


تعجبت "رفيف" من هيئته العابسة، وجهامة رده، وسألت "مجد" بعدما سار الآخر نحو الغرفة:


-ماله في إيه؟


رفع أحد حاجبيه بطريقة مستنكرة، ورد عليها بتهكم متزايد:


-يعني انتي جاية معاه الطريق كله ومش عارفة ماله وجاية تسأليني أنا!


تبع كلماته انفراج ثغره للجانب مع حركة وجهه المستنكرة لضآلة تفكيرها، وملاحظتها المعدومة للتغير الواضح عليه، وتحرك من أمامها متوجها نحو الغرفة، باقية هي موضعها تحتل الغرابة قسمات وجهه، مطت شفتيها بدون فهم لمضمون رد أخيها، غير متوصلة للسب في وجوم الآخر، ثم لحقته إلى الداخل.


اتسعت ابتسامة "عدي" عندما وجد عيني زوجته تُفتح تدرجيا، وتابعها بعينيه وهو تتنقل ببصرها على وجوههم الباسمة، حتى استقرت على الجالس جوراها، مسك يدها ومسح فوقه بإبهامه، ثم أخبرها بصوت خافت:


-مبروك يا حبيبتي.


ابتسمت له بوهن شديد، واطمئنت من قربه، كما أن عبارته أوحت بقدوم وليدهما إلى الحياة سالما معافيا، كانت تود إخباره برغبتها في رؤيته، إلا أنها تشعر بالخدر ما يزال يسري في عروقها، ولم يزُل كامل مفعوله بعد، ناجما عنه ثقلا في لسانها، أوصدت عينيها بتيه محاولة التغلب عليه، إلا أن تلك السحابة المقابلة لحدقتيها، ترغمها على إغلاقهما، ولكنها انتبهت من بين تشوشها إلى صوت "طيف" القائل بحفاوة:


-البيبي زي القمر يا سوفي، شبه عدي بالظبط.

 

التفت إليها "مجد" برأسه، وعقب بسخرية:


-وهو لسه بان عليه شبه!


نظرت له بنظرة واثقة وهي تقول بتصميم:


-أنا عندي رؤية في الأطفال اللي بتتولد، هيبقى شبه عدي.


أراد أن يناغشها، ويثير غيظها، واعترض على ما قالته، بتساؤل مستنكر: 


-وإيه اللي مخليكي متأكدة كده؟ يعني البيبي شكله بيفضل يغير أول سنة ومبيثبتش على شكل، وانت بقى بنباهتك من اول ماتولد حددتي شبهه!


تعجبت من اعتراضه على تشبيه الرضيع بوالده، وخطابته في غرابة بالغة:


-الله! وانت ايه اللي مضايقك؟ هو مش انت ابنك طلع شبهك، فيها إيه لما ابن عدي يبقى شبهه! هو مش أبوه؟


استعادت "أسيف" كامل إدراكها مع صوت ضحكاتهم الذي صدح إثرا للمناوشات المرحة الدائرة بين "مجد" و"طيف"، وأثناء ذلك وقعت عينيها على الرضيع النائم على السرير المقابل لها، اهتزت بسمة فوق شفتيها لرؤيتها له، والدموع بدأت تترقرق في عينيها، تراءى ل"عدي" نظرها المصوب نحوه، نهض على الفور من جوارها، وراح يجلبه لها، وضعه بتؤدة بالقرب من حضنها، قربت يدها منه وملست برفق فوق رأسه، انسابت دموعها رغما عنها تأثرا بوجوده بالقرب من قلبها، الذي ينبض الآن حبا له، وسرورا لرؤيته، رفعت عينيها الغائمتين بالدموع إلى زوجها، وكأنها تشكره بنظراتها على كل ما فعله لأجل تلك اللحظة، كان متابعا منذ البداية لتعبيراتها، متراءيا له دموعها الفرحة بقدومه، لم يختلف حالته كثيرا عنها، فقد كان يشعر بقلبه يتقافز بداخل صدره من شدة السعادة، لمعت عينيه بالدموع، وهو يبتسم في عاطفة عارمة، التقط كفها في يده، وقبله مطولا بحب لا ينضب بداخله، بل يزداد ويتعاظم مع مرور الأيام بينهما.


قطع التناغم الروحي بين الزوجين، صوت "نادية الذي صدح سائلة ابنها باهتمام بالغ:


-مقولتلناش يا عدي، هتسميه إيه؟


التفت إليها وعلى محياه ابتسامة واسعة وهي يجيبها دون تفكير:


-أنا وأسيف كنا متفقين إن احنا هنسمية يامن.


عبرت تعبيراتهم جميعا على إعجابهم بالاسم، وتفاوت ذلك فوق قسماتهم، ابتسمت له والدته وهي تدعو في حبور:


-حلو يامن، يتربى في عزك يا حبيبي.


بادلها الابتسامة بأخرى مسرورة وهو يرد عليها في صوت رخيم:


-الله يبارك فيكي يا ماما.


استطرد "هشام" مباركا وداعيا للمولود:


-ربنا يباركلكوا فيه ويجعله ذرية صالحة يابني.


أمن "عدي" على دعواته وهو ينظر ناحيته:


-آمين يا رب يا عمي.


حينئذ وجه نظره نحو زوجته التي هتفت باسمه، وطلبت منه بصوت ظاهرا عليه الأعياء:


-قربه مني عايزه أبوسه.


رفعه قليلا عند فمها، لتقبل وجنته، واشتمت عبقه، الذي انعش روحها، ورسم البسمة على وجهها، اقترب "عدي" منها، مقبلا رأسها، وراح يهمس لها  بما لم يستمع إليه غيرهما، من أمنيات ورجاوات يتمنى أن تحقق بقربها، ومعسول العبارات التي تنفذ عبر قلبها، لتمحي شعورها بآلام عايشتها، وما يزال تأثيرها المضني محتلا جسدها، وتنسيه هو قلقه الذي تآكل به، الدقائق الماضية، حتى اطمأن قلبه، وسعد بقدوم نجله.



❈-❈-❈


إجبار النفس على مغادرة قوقعة الحزن، والتظاهر بالصلابة والثبات، أمر مستنزِف وشاق، وعلى الرغم من أن كل ما بداخلك يدفعك للإنهيار، إلا أن الالتزامات الموضوعة فوق عاتقك، لا تسمح لك إلا بالتماسك، حتى وإن كان ذلك يتطلب منك مجهودا جبارا، وبذل طاقة مضاعفة، عزاءك الوحيد وقتئذٍ هو اختلاؤك بنفسك بعد انقضاء يومك، حينها يمكنك التفريغ عن شحنات الحزن العاصرة لروحك، بالصورة التي تراها ملائمة، وباعثة على الهدوء لثورتك الداخلية، اضطر "عاصم" إلى مغادرة البيت، بعد مضي ثلاثة أيام العزاء، فعمله لن ينتظر حتى يتعافى من نكبته، او تندمل جروح قلبه، كانت ملامح وجهه جامدة، ولكن عينيه فشلتا في موارة الحزن الدفين بداخله، شعوره بأنه قد فقد كل عزيزٍ وغالٍِ في حياته، يدفع البؤس لقلبه، وعلى الرغم من أن حزنه على وفاة والدته كان أضعاف حزنه الآن، إلا أن الحزن تلك المرة مصحوب بالوحدة والتيه، كأنما أصبح في غياهب هوة، سقط بها على حين غرة، ويتطلب منه إنتشال نفسه منها، بدون أن يرمي له أحد حبالا، أو يجد له بر أمانا، بعيدا عن وحشة الهاوية.


بينما ينظر بأوراق أحد الصفقات، ويتفقد بنودها، صدح صوت هاتفه، معلنا عن تلقيه لمكالمة هاتفية، مد يده وأغلق صوته، متجاهلا الرد على المتصل، دون حتى تفقد هويته، ولكنه صدح رنينه مرة أخرى، مما جعله يشعر أن الأمر هام، نظر بالرقم الذي لم يكن مسجلا، شعر أنه مألوفا، ولكنه لم يحدد صاحبه، وضع الهاتف على أذنه بعدما فتح الخط، وقبل أن يتكلم، نفذ عبر أذنه صوت ذلك البغيض الذي كان شريكا لوالده في عمله الغير مشروع، وهو يقول ببرود مثير للإستفزاز:


-البقية في حياتك، قولت مينفعش معزكش بنفسي.


هنا وانفلتت زمام تحكمه بنفسه، برقت عينيه على آخرهما، واحتقن وجهه في لحظة، وراح ينعته بأقذر الشتائم وهو يصرخ فيه بهياج:


-يا * يا * أنا مش هعدي اللي عملتوه بالساهل يا *، وحق أبويا وغدركم بيه هاخده من حبابي عنيكم، دم أبويا مش هيروح هدر يا *.


تغاضى الآخر عن سبابه له، وتكلم على نفس الشاكلة المستفزة والمتشفية في نفس الآن:


-انت مش رفضت الشغل معانا، ده جزاء اللي يعصانا، ومش احنا اللي يتمسك علينا حاجة، واهو أبوك مات وسرنا اتدفن معاه، واللي عندك أعمله.


غامت عيني "عاصم" بالكراهية، ورغم فوران دمائه مما تفوه به الآخر، إلا أنه تظاهر بالهدوء وهو يخبره بما يشبه الفحيح بأنفاس متهدجة:


-بس اللي انت متعرفوش ان الورق معايا.


التوى ثغره للجانب وهو ينتظر أن يستمع لوقع كلماته عليه، فقد قصد إخباره بذلك الأمر نكاية به، وفي لحظتها آتاه صوته الهادر في صدمة منفعلة:


-معاك! معاك ازاي؟


توحشت نظراته المسددة للفراغ، وأخشوشنت نبرته وهو يؤكد عليه ويتوعده بالشر:


-زي ماسمعت، كل اللي يدينكوا في شغلكوا القذر معايا، وانتوا كده اللي اختارتوا تعادوا عاصم الصباحي، مترجعوش تندموا.


لم ينتظر أن يسمع من الطرف الآخر، وأغلق الخط، وألقى الهاتف على سطح المكتب، ثم دفن رأسه في راحتيه، متكئا بمرفقيه على المكتب، حاول التحكم في نهجان صدره، وهو يعيد كلمات ذلك البغيض في ذهنه، ورغم علمه المسبق بها، إلا أن اعترافه في تسببه في إزهاق حياة والده جعلت الدماء تغلي بعروقه، ولكن ماذا عساه يفعل أمام قدرٍ محتوم النفاذ! لقد تسبب والده لسنوات للكثير بأمراض مزمنة، ومنهم من وافته المنية تأثرا بتلك الأمراض، وعن طريق نفس الأناس الذين كانوا شركاءً له في تلك الأعمال المشينة، لقي حتفه، متجرعا من نفس الكأس، متعرضا لنفس الأمراض التي ألحقها للكثيرين، ناجما عنها اهتراء أعضائه وتدمرها، وكانت وفاته ناجمة عن ذلك، ليكن جزاءه من جنس عمله.رفع رأسه عن يديه عندما استمع لصوت طرق على باب المكتب، زفر نفسا محمل بالكدر قبلما يسمح للطارق بالولوج:


-ادخل.


على فوره فُتح الباب، ودلفت السكرتيرة الخاصة به، وأخبرته بنبرة عملية:


-في واحدة عايزه تقابل حضرتك يا فندم.


ضم ما بين حاجبيه في عبوس لم يزُل منذ آتته تلك المكالمة، وسألها بجمود جاد:


-واحدة مين؟ مقالتش اسمها؟


كادت أن تخبره بالاسم الذي أبلغته به تلك المرأة، ولكن حال دون نطقها بحرف، اقتحام تلك السيدة الغرفة بخطواتها الأنثوية الواثقة، والتي ما إن طلت من باب المكتب حتى نهض "عاصم" عن جلسته، والتفاجؤ محتل قسماته، وهو يستمع إلى صوتها الرقيق الذي لم يقع على سمعه منذ سنوات مضت، وهي تخبره بالاسم بالنيابة عن الأخرى ومعرفة عن نفسها:


-مي شاهين.



❈-❈-❈



محاولاتها في إبعاد فكرها، عن إعصار البؤس الذي يهاجمه، ويدوي فيه بأفكار مؤرقة، وباعثة على الشكوك، كانت تبوء بالفشل، بالأخص مع تجاهله التام لها، حتى إنه لم يبرر لها تلفظه بذلك الاسم، بينما كان في أحضانها، تغمره من عطفها وحنانها، فها قد مرة قرابة الشهر على وفاة والده، وهي قد تخطت منذ فترة ليست بوجيزة مرحلة نفاسها، والغريب أنه لم يقرب لها، حتى أنها ما رأت بعينيه أي رغبة تجاهها، رغم تشاركهما ذات الفراش، وارتدائها الثياب المكشوفة، التي في العادة ما تؤثر على دواخله، وتجعله يطالب بقربها، ليظفر منها بمآربه.


ظلت هواجسها تتلاعب برأسها، مخلفة عشرات التساؤلات التي تحتاج لإجابة قاطعة، تنهي بها الصخب الدائر في فكرها، لكنها لم تفلح في إيجاد أية إجابة، تخرج بها بسبب مقنع لتجاهله الواضح لها، مما نغص عليها راحتها، وآرق فكرها، فثما ما يبعث الظنون حول هجره لوصالها، فهو عادة ما لا يستطيع التحكم في رغبته إن تأججت، وهذا إن كان يوضح شيء، فلن يوضح سوى شيئا وحيدا، وهو أنه ما عاد يشتهيها، وهذا وحده كفيلا بجعل ثقتها تتزعزع في نفسها، وربما تظن أن حملها، وما خلفه على جسدها من بعض التغييرات، التي لم تختفِ بعد، هو السبب في نفورها منها.


وربما الفراغ الكبير الذي يحاوطها طوال اليوم، هو ما جعل الظنون والهواجس تنبجس في رأسها، وربما أيضا جسدها يتعطش لقرب حميمي، يرتوي عن طريقه، بلمسة، او ضمة، تخمد اشتعال قلبها الذي يتلوى على جمرات الجوى، وتهدئ من لوعته الممزقة لشغافه الحساسة، ومع نفورها الملحوظ لتذكرها لماضيها معه، وبداية علاقتها النكراء به، إلا أنها تشتاق لرؤية لهفته عليها، والشعور بحُر أنفاسه وهو تجول على وجهها عندما يدنو منها ليلثمها، جال بذهنها ذكرى بعينها، مشابهة لما تتمنى أن يعود بينهما، من شغف كان حينئذ متقد بداخله حيالها.


كانت واقفة أمام المرأة، تطالع هيئتها، وتتفقد احتواء ذلك القميص الحريري لمنحنياتها المثيرة، والتي ما كانت تلتفت إلى تلك الأنوثةر العارمة، لولا إخباره لها لعديد من المرات، وهو يطارحها الغرام، وينهال من حرمة جسدها، قاتلا براءتها بأشنع الطرق الحميمية، وأسلحته الذكورية المهيمنة، لا تدري السبب في جلبها لذلك القميص، الذي يكبر عمرها بعمرٍ، كما أنه غريب عن طبيعة ثيابها البيتية، او المتخصصة بالنوم، إلا أنها أحبت رؤيتها فيه، عندما وقعت عينيها عليه، أثناء تسوقها وجلبها لثياب أخرى غيره، كانت تمرر يديها على خصريها بإعجاب، وهي تتمايل أمام المرآة، متغافلة عن ذلك الواقف أمام عتبة باب الغرفة، غير منتبه له لدخوله بالأساس، انتفضت في وقفتها عندما استمعت إلى نبرته الرجولية، وهو يتقدم نحوها بابتسامة عابثة، ونظرات ماكرة موجهة نحو جسدها الظاهر من خلف القميص:


-ويا ترى جايباه عشان مين القميص ده؟


ابتلعت ريقها بتوتر من حضوره الفاجئ، وشعرت بالخجل من رؤيته لها في تلك الأثناء، وتخضب وجهها بحمرته الطبيعية عندما استشعرت نظراته تنفذ عبر القميص، ويمررها على جسدها بحرية عارمة، نكست نظراتها لأسفل وهي تشعر بسخونة وجهها منعكسة على عينيها، وأجابته بصوت خفيض بإيجاز حرج:


-ليا.


لمحت بنظرها الذي رفعته لحظيا نحوه، ابتسامة ملتوية شفتيه بها للجانب، وعلق بعدما أصبح قبالتها بعبثية، ويده عرفت الطريق لمحاوطة خصرها ليلصقها به:


-بس القمصان دي مبتتلبسش كده يتقعد بيها في الأوضة، او يتنام فيها عادي، ده تلبسيه عشان حد عايزاه يشوفه عليكي، يعني مثلا حد بتحبيه، وكان نازل دلوقتي، فغير رأيه لما شافك.


استندت بساعديها فوق صدره، انفرجت شفتيها بابتسامة فرحة لعدوله عن رغبته في المغادرة، وبقاءه معها بدلا من ذلك، وسألته بنعومة لا تخلو من الدلال، فقد عززت عبارته ثقتها في نفسها كأنثى:


-هو حلو عليا اوي كده؟


امتدت يده الأخرى نحو بشرة كتفها، مسح فوقه مرورا بحمالة قميصها التي انزلقت من فوق كتفها، بفعل أصابعه العابثة، ليظهر نصف نحرها بسخاء أمامه، دنا منه لاثما فوقه تارة، ومداعبا تارة أخرى، مجيبا إياها بأنفاسٍ ساخنة من بين ذلك:


-انت مش شايفة نفسك ولا إيه؟ وبعدين بقولك كنت نازل وغيرت رأيي، دي مبتحصلش كتير خدي بالك.


كانت استجابتها لفيضان لمساته التي اندفعت على جسدها سريعةً، وواضحةً، ومحفزةً لتماديه معها، غرقا لبعض الوقت في دوامة من الإنتشاء، انتشلها هو من تأثيرها الطاغي، قبل أن تعلن استسلام لجرفها إلى داخلها، وهو يبتعد قليلا عنها، قائلا بنبرته المنخفضة الساحرة:


-بما إننا كبرنا وبقينا بندور على الدلع، فعايز منه علطول بقى.


لم تكن تستطيع مجاراة جرأته، خاصة مع تلك النظرات الجائعة، عضت على شفتيها، محاولة التحكم في رجفتهما، ثم ردت عليه بخجل جم:


-بس أنا محروجة أوي وأنا لبساه، انا مش عارفة أنا جيبته ليه أصلا.


حدجها بتلك النظرة التي تجمع بين المكر والاستمالة إلى ما يستهويه، وسار بظهر كفه على طول ذراعها، مما جعل قشعريرة لذيذ تصيب طول عمودها الفقري، وراح يخبرها بنوع من الطلب اللئيم:


-عشان عاصم حبيبك، هو انتي مش عايزه تبسيطيني؟


نهج صدرها بصورة واضحة، وكادت تزوي بين يديه، وهي ترد عليه برعشه أصابت صوتها:


-آاه.


ابتسامة تحمل الاغترار تراقصت فوق شفتيه، قبل أن يقترب من وجنتها هامسا بصوت باعث على الإغواء:


-أهو انا بتبسط بالحاجات دي، واللي تحت الحاجات دي.


قبل وجنتها قبلة مليئة بالشهوة، ثم زحفت شفتيه نحو شفتيها، دمغهما بقبلة أطاحت بما تبقى من ذرات صمودها الواهي، وسحبها معه نحو الفراش، بعدما أنزل الحمالة الأخرى للقميص، لينزلق أرضا تحت أقدامهما، غاب ما حولها، وما عادت تشعر بشيء سوى باستسلامه المخزي لفيض مشاعر جياشة، اجتاحت بواطنها دون هوادة، مخلفة ذنبا آخرا دون في صحيفتها، متغافلة تغافلا تاما عن عقابه الشنيع. فاقت من تلك الذكرى التي يتأرجح شعورها نحوها بين النفور والرغبة، على صوت بكاء أحد رضيعيها، تقدمت نحوه وبالها ما يزال مشغولا بمن تحتاج إلى ضمته، وإلى لمسة تشعر بها بما يتغلله نحوها من الرغبة والإشتهاء، فقد أتعبتها لوعة هجره لها، شاعرة في بعده بالنبذ والإقصاء.



❈-❈-❈

بنظرات مترقبة، طالع "عاصم" المحامي الخاص به، والذي ينشغل تلك الفترة بأمور الأرث، قد طلب منذ ما يقارب الساعتين رؤيته، وعن طريق المصادفة كان الآخر كان في مطعم قريب من مكتبه، كان يتناول العشاء مع أحد العملاء، وعند انتهائه عرج عليه، ليرى ما عنده من مستجدات، رفض الإفصاح عنها في الهاتف، بعدما انتهى المحامي من النظر إلى بعض الأوراق أمامه، وأعطاها إلى مساعده، الذي غادر المكتب فور أخذها منه، سأله "عاصم" بصوت جاد:


-خير يا متر؟


بتحفظ في نبرته ودون كلمات استهلالية، خاطبه بعملية متطرقا مباشرة إلى صلب الموضوع:


-إعلام الوراثة كان النهارده، والقاضي أجله.


زوى "عاصم" ما ببن حاجبيه في غرابة، وتساءل على فوره:


-ليه؟


على نفس الشاكلة أجابه المحامي بإيضاح:


-لعدم حضور جميع الورثة.


تفشت معالم الغرابة بوجهه، لم يركز كثيرا في مضمون عبارته، واستفهم منه عن شيء بعينه جال في ذهنه:


-ازاي! هو انت مش معاك توكيل بالحضور بالنيابة عني؟


علم الآخر أنه لم ينتبه لصيغة الجمع في عبارته، ولم يتفقه ما تدل عليه، ورد عليه في توضيح متزايد بصوع حذر:


-ايوه، بس ظهر وريث تاني لكمال بيه.


تدلى فكه السفلي في صدمةً، ورمقه بنظرة غير مستوعبة مفهوم ما قاله، وسأله بغير فهم:


-وريث تاني؟ ازاي يعني يبقى في وريث تاني وأنا الابن الوحيد ليه؟


هز المحامي وجهه هزة خفيفة، وهو يقول بتوقع جال في ذهنه مسبقا:


-زي ما توقعت إن حضرتك متعرفش حاجة عن الموضوع.


زفر "عاصم" في سأم من مماطلته، وهدر فيه بصبر نافذ:


-موضوع ايه؟ ماتتكلم علطول أنت هتنقطني كلمة كلمة.


رغم ريبته من وقع ذلك النبأ على سمحه، إلا أنه استجمع جأشه، وأبلغه مباشرة:


-في ابن تاني لكمال بيه.


انقلبت سحنته، واضحت تعبيراتها جامعة بين الصدمة والغضب في آن واحد، استنفر في جلسته، وتطلع إليه بنظرات محتدمة، صائحا فيه بحدة وانفعال:


-انت بتقول إيه؟


كان متفهما لصدمته، وثورته المتوقع، ولكنه حافظ على هدوءه، لكي يفهمه بما علم به عن طريق الصدفة صباح اليوم، وكانت صدمته جلية عليها حينها، وعلى نفس تلمنوال الهادئ أخبره مؤكدا:


-زي ماقلت لسعادتك، انا اتفاحئت زي حضرتك بالظبط، لإني معرفش حاجة عن الموضوع ده، ولا كمال بيه كان جابلي سيرة عن إنه ليه ابن تاني، والغريبة إنه مش طفل صغير، والموضوع من قريب، الابن شاب وسنه تقريبا تسعة وعشرين سنة.


زاغت عينيه بصورة واضحة، عقله عجز عن تصديق ما يقال، وردد بصوت يحمل صدمة مضاعفة:


-إيه؟


لم يرِد أن يطيل عليه بالتطرق إلى تفاصيل أخرى حول ذلك الشاب، خاصة وأن كلها مجمع في ملف، مد يده له به، وأشار تجاهه بعينيه وهو يخبره في هدوء:


-اتفضل، دي كل البيانات الخاصة بيه اللي قدرت اجمعها النهارده.


التقط من يده الملف بعصبية زائدة، وفتحه على الفور، ليقع عينيه في بداية الصفحة إلى اسم والده، المنسوب إلى اسم نطقه بوجوم ساخط:


-عز!



يُتبع ..