-->

اقتباس - أشواك وحرير

 



اقتباس 



على الجانب الآخر ودعت "روان" الطبيب، ودلفت للداخل مجددًا حتى تطمئن على والدة زوجها.. لاحظت نظرات "هالة" المسلطة عليها بقوة؛ مما جعلها تتصنع اللامبالاة، واتجهت لتعدل لها من وضعية الوسادة خلف ظهرها، فشق الصمت حديث السيدة المسموم :


_أوعي تكوني فاكرة إن الشويتين اللي عملتيهم دول هيخلوني أحبك أو أرضى بيكِ لإبني!


أتسعت عيني "روان" بدهشة فحتى وإن كانت تعلم مسبقًا بما تضنيه لها من كراهية إلا أن الحديث غير مناسبًا تمامًا في هذا الوقت! نفضت عنها ذاك الشعور، واستمرت في مهمتها بينما أسترسلت "هالة"  حديثها :


_ريحي نفسك وبلاش تمثيل، مش بيجيب نتيجة معايا.


تنهدت "روان" وابتعدت خطوتين للخلف، ثم كتفت ذراعيها وأردفت بهدوء حزين :


_أنا مش بمثل ودول مش شويتين.. لو أي حـ... 


قاطعتها الأخرى بفظاظة صريحة ينهال منها الكراهية والحقد :


_حتى لو مش تمثيل، أنا عمري ما هحبك أو حتى أقبلك.. أنا بس وافقت على جواز إبني منك علشان ميزعلش!


ابتسمت "روان" إبتسامة باهتة لم تصل لعينها، وتسائلت بسخرية :


_وأنتِ لما بتعادي مراته مش شايفه إنك بتزعليه؟!


أجابتها "هالة" مباشرةً، وهي تتفحصها بعينيها دون أن تحيد عنها :


_أنا عارفه مصلحته، وعارفه إنه هيزعل شوية وبعدين يفوق، هو محبكيش زي ما حب مراته اللي بالمناسبة عمره ما هينساها!


كانت "روان" تستمع لها مُفضلة للصمت على أن تدخل معاها في شجار لن يؤتي بثماره، ولكن الحديث السام أصاب كرامتها وبقوة، فقررت الدفاع عن زوجها حتى ولو كانت غير متأكدة من مشاعره تجاهها.. المهم ألا ينجرح كبرياؤها :


_مالك بيحبني و...


قاطعتها مسرعه :


_مش حب! ده وهم نتج عن فراغ! بيحاول يلاقي حد شبهها، مش مصدق إنها راحت! بيحاول يخليكِ تشبهيها! بصي على الحجاب اللي على رأسك ده! زيها! هي كانت محجبه! لكن أنتِ مهما اتشبهتي بيها عمرك ما هتوصلي لمكانتها في قلبه، مش شايفك ولا هيشوفك غير سد خانة!


كانت كل كلمة تتفوه بها بمثابة خنجر مسموم يجرح بقوة في جدران قلبها، تشعر وكأن صخره صلبه اعتلت قلبها.. الخوف والقلق يسيطران عليها خوفًا من صدق الحديث الذي وبنسبة كبيرة يبدو صحيحًا! هي تشعر بذله! الحسرة تجتاحها وخاصةً بعدما سلمت له نفسها قبل قليل! لملمت كرامتها المهدرة على أرضية الغرفة، وقررت الذهاب إليه في المشفى، فلن تفشل أبدًا تلك الزيجة خاصةً بعدما حدث بينهما وخطوتها الجريئة تجاهه.. ستشعر أنها رخيصة وهي لن تسمح بذلك، عليها أن تحاول ولا تستسلم من أول جولة لها معه! اتجهت لباب الغرفة بصمت وشموخ، فأستفزتها عبارة "هالة" المتشفية بعدما لاحظت حالتها المبعثرة :


_هي الحقيقة بتوجع كده.


تأففت "روان" من الحديث وأصابها الضجر من تلك المرأة التي بدت تحتضر منذ قليل والآن صحتها تضاهي الخيول العربية! ولكنها ألتفتت إليها بكبرياؤها المعهود، وحدثتها بثقة مصطنعة حمدت ربها عليها :


_كلامك مش مظبوط! جوزي فعلًا كان بيحب مراته القديمة بس ده كان في الماضي، دلوقتي أنا مراته وبيحبني! وحتى لو مش بيحبني في إيدي اخليه يحبني!


أعتدلت "هالة" في سريرها، وبادلت غريمتها الإبتسام بثقة فحتى وإن كانت تبتسم لها الآن إلا أنها متأكدة تمامًا إنها استطاعت تحطيم تلك الجسارة الماثلة أمامها والتي تدعي القوة :


_الأيام بينا يا روان، وخليكِ متأكدة إن قعدتك هنا مش هطول!



❈-❈-❈


صف سيارته على قمة ذلك الجبل الشهير ضواحي مدينة القاهرة.. ألتفتت "ميرنا" حولها تمسح المكان بعينيها؛ فأعترتها لمحة من الدهشة تبعه القلق خاصةً مع خلو الجبل في تلك الساعة الشتوية المتأخرة، فلا يوجد سوى السكون التام وصوت الرياح.. أدارت رأسها في اتجاهه، و سألته مبتسمه بإصطناع بينما تتجلى الدهشة علي تقاسيم وجهها :


_حبيبي.. إحنا إيه اللي جابنا هنا؟


طالعها بملامح متجهمه، ثم أجابها بإقتضاب :


_مخنوق شويه!


وبالرغم من إرتعابها من نظرته إلا أنها ادعت التماسك، وأمسكت كف يده تمرر عليه إبهامها بنعومة، ثم أردفت بحماس :


_إيه رأيك نروح النايت؟


نفض كفه من يدها، ورد بغلاظة فهو لا يريد تذكر تلك المستنقعات العكرة :


_مش هروح الأماكن القذرة دي تاني!


_ما أنا وأنت وميرا كنا بنروح!


قالتها بإستنكار لا يخلو من الدهشة، وبالرغم أنها لم تتعمد ذِكر ابنة عمه إلا أنه رمقها بنظرة قالته وأردف ببرود قاسي يضاهي برودة الجو خارج السيارة :


_عاوز أنضف!


ترجل من سيارته واقفًا في مهب الريح الباردة علها تُبّرد نيران قلبه المندلعة، فلا يلتفت لقتلها! لم يكن عليه من الأساس أن يرد على محادثات والدها الملحة حتى يتأكد مما سيفعله معها، فوجئ بها تحاوط ذراعه من الخلف بحميميه، و أردفت بدفء حقيقي يقسم أنه استطاع خداعه :


_طب بس قولي مالك؟


طالعها بصمتٍ وترقب لربما تخلع ذلك الرداء الوهمي العاشق له، فلم يكن منها سوى نظرات الرجاء؛ مما جعله يجيش عما بصدره محاولًا سبر أغوارها :


_واحد فتحت له بيتي، واعتبرته من أهلي، واستأمنته على حياتي وعلى نفسي وبعد كل ده طعني في ضهري وكان هيقتلني تخيلي!


كان يطالعها بنظرات هادئة مبهمه لم تتفهمها، بينما هي كانت تبادله بصمتِ وترقب محاولة سبر أغواره "فعن أي شخصٍ يتحدث" قطعت صمتها سريعًا وأردفت بهدوء حَذِر : 


_مش يمكن أنت فاهم غلط؟!


ألتفت إليها بقسوة، فأبتلعت ريقها بتوجس، وصححت حديثها مسرعه :


_قصدي إنه مكنش قاصد يأذيك! أو ممكن أنت فهمت غلط وفيه سوء فهم.


حديثها لم يكشف له ما يدور بداخل عقلها؛ فشملها بنظرة مطولة من رأسها وحتى أخمص قدميها، ثم نظر للهاوية خلفها فأبتلعت لعابها برعب حينما رأته ينظر لسفح الجبل.. لا تدري ما السبب وراء حالته الغريبة "أمن الممكن أن يكون كشف أمرها؟ ولكن كيف كشف أمرها وابنة عمه مختفيه؟" فضلت أن تلتزم الصمت ولا تستفزه بأحاديثها حتى تعرف الحقيقة و تلوذ بالفرار من ذلك المكان المرعب، وبعدها ستحاول جاهدة مستميته حتى تثبت له حبها الحقيقي حتى وأن واجهها فحينها ستتوسل إليه بألا يتركها وإنها فعلت كل ذلك لأنها تعشقه وتهيم به، وإنها مَنْ تستحقه وليست الأخرى! أما عنه فقد تراقصت الشياطين أمامه تصور له قتلها؛ فأقترب منها بخطوات بطيئة وأردف بفحيح مرعب أخافها :


_بس أنا مش بسيب حقي!


أتبع جملته بطبع قبلة رقيقة على خدها الأيمن الذي يكاد يلامسه، وطوق خصرها بذراعه، عم المكان الصمت سوى من حديث العيون.. شق سكون الليل هاتفه فأسرع مُجيبًا له ظنًا إنه أمر يتعلق بإبنة عمه، ولم يلبث ثوانِ حتى انتفض صارخًا بهلع :


_مستشفى إيه؟


طالعته بعدم فهم، وانبثق الفضول من عينيها، فأوقف حيرتها قائلًا بقلق وتلعثم :


_كريم ابن مالك متعور ومحتاج نقل دم فصيلته نادرة زي فصيلتي.



❈-❈-❈



قطعت طرقة المشفى بخطى مُثقله بطيئة، عقلها مُنشطر لقسمين، الأول قلقًا على الصغير والآخر يفكر في حديث "هالة" فلم يستطع خوفها أن يمحي آثار جرح قلبها منذ قليل.. اقتربت من قرينها بحذر ولكنه لم ينتبه لوجودها؛ فجلست بجواره تراقب قلقه وحُزنه بصمتٍ وألم، احتضنت كتفيه من الخلف وأغرورقت عينيها بالدموع، ثم مالت برأسها على كتفه وبدأت في البكاء بأنين خافت، لم تكن هي أبدًا من تبدأ بإظهار مشاعرها للآخرين نظرًا لبيئة نشأتها وشعورها دائمًا بالغربة وسط التجمعات المشحون أفرادها بالمشاعر تجاه بعضهم البعض ولم يستطع حياؤها من منعها من احتضانه؛ خاصة بعدما حدث بينهما منذ قليل.. فقط احتضنته لتهون عليه أو على الأصح لأنها مَنْ كانت تحتاج وبشدة لذلك الحضن، احتاجت للأمان والإحتواء طوال سنوات عمرها فقررت أن تمنحهما لنفسها بعدما هجرت وطنها وباتت لاجئة في كل الأوطان.. ظلت تحرك كفها بحركات رتيبة على ظهره وتكرر همسها "بأن كل شيئًا سيصبح على ما يرام" وكأنها كانت تهمس لنفسها وليس هو، رفع "مالك" أنظاره إليها سائلًا عن والدته بهدوء مريب :


_ماما عاملة إيه؟ 


أبعدت رأسها عنه ومسحت دموعها بسرعة، ثم طمأنته بإيمائه من رأسها :


_الحمدلله بقت كويسة، ضغطها بس كان وطي علشان كده أغمى عليها.


أومأ هو الآخر بتفهم، فسألته بتحشرج ولكن نبرتها بدى فيها الإهتمام جليًا :


_طمني على كريم، عامل إيه؟


لم تترك حدقتيه ملامح وجهها، ورد بصوت مكتوم :


_خوفت عليه أوي، طول الفترة اللي فاتت خايف يروح مني هو أو أخو...


وضعت كفها على فمه مسرعه لتمنع حديثه، ثم تطلعت في عينيه مباشرةً وأردفت بجدية :


_القضاء معلق لحين النطق به! متقولش كده!




مسحت دمعة خائنة فرت من إحدى عينيه، و أكملت حركة يديها فوق ظهره، فأخترق همسه أذنها من جديد يشكو إليها مرارة أيامه :


_أنا اتحملت الفقد مرتين، ومش هقدر أخسر ولادها زي ما خسرتها!


تنبهت كل حواسها عند ذكره لزوجته السابقة، وخفق قلبها بخوف و رغمًا عنها لم تعد تستمع سوى لحديث "هالة" يتردد في أذنها حول عشقه للراحلة، أما عنها فستبقى خانة دائمًا مهمشة في حياته؛ ليعوض بها رحيل الأولى.. أغمضت عينيها تاركه قدرها بيد خالقها؛ فإرهاق عقلها بالتفكير لن يتسبب لها سوى في الألم والكآبة حتى بدون دليل على إدعائات حماتها المزعوم بأنها في حياته مجرد بديل.. ربما يحبها أيضًا! لن تستعجل الأحداث والأهم الآن سلامة ابنه!


يتبع