-->

الفصل السادس والعشرون - مرآة مزدوجة

  



الفصل السادس والعشرون

 

عقد عمر ذراعيه أمام صدره بينما راقب الطبيب الذي قام بفحص قدم والدته، كان ينظر له بنفاذ صبر منتظرًا منه أن يرحل في أسرع وقت ممكن، فهو لا يطيق هذا الشاب الذي يسكن بالشقة المجاورة لهم بسبب إعجاب والدته الشديد به كونه متزوج وبنى عائلة خاصة به، لم تتوقف يومًا عن مقارنته به، هو يعلم أنها تريد مصلحته ولكنها تضايقه بطريقتها تلك، كان عمر يدعي البرود كعادته ويتجاهل جميع تعليقاتها، ولكنه بات لا يطيق وجود هذا الشاب أو لقائه به بالصدفة عندما كان يذهب للعمل، هز عمر قدمه بتململ، بينما نهض الطبيب وقال موجهًا حديثه لعمر:

 

- طنط دلوقت تقدر تتحرك زي ما هي عايزة. 

 

ابتسم عمر باصفرار وأومأ له بينما قاده نحو الخارج وقد بدا للجميع وكأنه يطرده بصمت، أغلق عمر الباب خلفه وزفر براحة، خلل أنامله بين خصلات شعره مبعثرًا أياها، أصبحت تلك عادته بالشهر الماضي، أن يتجول بالشقة بمظهر فوضوي كمن استيقظ من النوم لتوه، أن ينام كثيرًا، وأن يتناول الكثير من الطعام، بدا له شخصًا غريبًا، ولكنه شعر أنه قد عاد لأيام المراهقة، عندما لم يكن قد اكتشف تلك الشخصية المثالية التي تجذب الناس وسعى لأن يكونها، كان يفكر بهذا الأمر لعدة أسابيع، فقد أعاد حديث ليليان بداخله عدة ذكريات، ذكريات كان بها مرتاحًا وسعيدًا، وجميعها لم يكن بها معروفًا بل كان مهمشًا من الجميع، ذلك جعله يتمنى لو يعود لتلك الأيام، أراد أن يشعر بالدفء والسكينة، أراد أن يتوقف عن التصنع للحظة، وعندما توقف بالفعل وعاد لطبيعته الفوضوية الكسولة بات لا يريد أن يعود لهذا الشخص الخيالي الذي كانه، هذا يحدث عندما تضع نفسك بضغوطات عديدة ثم تأخذ قسطًا من الراحة فلا تود أن تعود لتلك الضغوط مجددًا، مثل أن تكون بعام دراسي ثم تنتهي منه وتأخذ إجازة تصبح كارهًا للعودة للدراسة مجددًا ولعام دراسي جديد، كان هو كذلك، وأصبح لا يريد أن يعود لشخصيته المثالية الكريهه، كما أنه الآن على القمة، كاتب مشهور ومالك لدار نشر، لقد وصل لأقصى طموحه وهذا بدوره يشعره بالإطمئنان ويحفزه على التخلي عن الضوابط التي اخترعها، فإن اعتزل تلك الطريقة وهو على القمة لن يتأثر بشيء ولن يفقد شيء كما أنه سيعيش مرتاحًا وسعيدًا.

 

وضع عمر الصحنين على الصينية المعدنية وحملها نحو غرفة والديه، كان قد قرر أن يتوقف وهو على القمة، أنا يعيش ببساطة، وأن يجعل أحدهم يحمل معه عبء الحياة، فهو عندما تحدث مع ليليان وتشاركا عدة أمور أصبح يدرك أن الحمل عندما يحمله اثنين يصبح أخف، أدرك أن الحياة دائمًا اثنين كما سمع عندما كان بالمدرسة، فبالنهاية لم يكن آدم ليستطيع الحية وحيدًا دون حواء تؤنس وحدته، وحواء لما خلقها الله دون آدم؛ لهذا كان قد اتخذ قراره وعلم ما عليه فعله منذ ما يقرب الأسبوعين، ولكن تجري الرياح فيما لا تشتهي السفن، فعندما كان على وشك تنفيذ خطته، تعثرت والدته ولوت قدمها وجالست الفراش لمدة أسبوعين آخرين كان على عمر خدمتهما به، تنهد عمر بينما وضع صحنين الحساء بين والديه المستلقيان فوق الفراش، ابتسمت والدته وقالت:

 

- علمتك تطبخ علشان لما أمشي وتفضل لوحدك. 

 

قبل عمر رأسها بهدوء وقال:

 

- ربنا يديكِ طولة العمر يا ماما أنتِ وبابا وتعيشي وتشوفي أحفادي كمان. 

 

قطبت والدتها جبينها بتعجب بينما نظر له والده بمكر وابتسم دون أن يتفوه بشيء ولكن نظرته وحدها جعلت عمر يدرك أنه يفهم مقصده جيدًا، قالت والدته بتهكم مرير:

 

- على أساس إنك هتتجوز أوي يعني. 

 

ابتسم عمر وقال مقترحًا:

 

- وليه لا؟ 

 

تهللت أسارير والدته وقالت بدهشة:

 

- ده بجد؟ 

 

أومأ عمر مجيبًا، فأطلقت والدته الزغاريد ليحاول إسكاتها هو ووالده، بينما قال عمر:

 

- ده أنتِ حتى مسألتنيش تبقا مين. 

 

قالت والدته بسخرية:

 

- ما هو أكيد اللي جلالته يتنازل ويتواضع ويفكر يتجوزها تبقا حاجه مش عادية. 

 

ابتسم عمر بهدوء وقال شاردًا:

 

- هي فعلًا كدا وهتعرفي ده لما تشوفيها، بس الأول اديني فرصة أتكلم معاها وأشوفها موافقة ولا لا وساعتها أخد معاد مع أهلها. 

 

غمز والده وقال بمكر:

 

- يا عيني يا عيني بقينا بنسرح أهو. 

 

ضحك عمر بخفوت وهز رأسه موافقًا، ثم نهض ورفع سبابته وقال بمزام وكأنه يخاطب طفلين:

 

- الشوربة كلها تخلص، أنا مطلعش عيني وأنا بعملها علشان تتساب أديني بقول أهو. 

 

ثم تركهما ورحل نحو غرفته، ألقى بثقله على مكتبه الصغير وأمسك بالرواية التي طلب العمل على طباعتها بشكل سري وقد ساعده محمد في هذا الأمر، الآن هو يحمل أول رواية تم طباعتها لدى دار النشر خاصته، لم يتخيل يومًا وهو يجلس يمسك بقلم وورقة وينظر لهما بحيرة يحاول أن ينفذ ما نصحته به عمته أنه بعد حوالي عشرين عامًا سيحمل بيده رواية طُبعت لدى دار النشر التي يمتلكها، روايته، اتسعت ابتسامته وفتح الرواية ليبدأ بتنفيذ ما أراد فعله منذ أسبوعين.

 

--

 

ضحك سليم بقوة بينما نظر له زين بغيظ، فقد دعاه لمنزله ليخبره مطلب هاجر الغريب بالنسبة إليه، فهو لا يرى أن الأمر يستحق كل ما تفعله هاجر، حسنًا لتغضب وتثور عليه وتصفعه كما تريد، ولكن أن تطلب منه أن يذهب لطبيب نفسي؟ هذا مبالغ بحق، فهو كان يخاف فقط، تمكن منه الخوف لبعض من الوقت وجعله مترددًا، الجميع يخافون لماذا تصعد الأمور وتجعلها مشكلة خطيرة؟ هو لا يرى أنه بحاجه لطبيب يشخص حالته لأن مشكلته بسيطة، كل ما هو بحاجه إليه هو شخص يخبره باستمرار إنه يبلي بلاءً حسنًا وأنه سينجح، شخص يخبره أنه لا يضيع تعبه على اللا شيء، شخص يخبره أنه حقيقي وأنه يقوم بالشيء الصحيح، جذب سليم انتباهه من بين أفكاره عندما قال:

 

- بص أنا شايف إنك تقبل باللي طالباه، بالنهاية يعني الدكتور النفسي مش بع بع. 

 

نظر له زين بضيق، ففهم سليم نظرته تلك وقال محذرًا:

 

- لا بقولك ايه متعاندش وإلا أجيب لك علي يضربك بدل ما هو عاملني كيس ملاكمة. 

 

ابتسم زين بشماتة وقال:

 

- تستاهل يمكن تبطل الجنان اللي بيجي لك ده كل شوية. 

 

فرد سليم ذراعيه بحركة مفاجئة وقال مغنيًا إحدى الأغاني بحماس مفرط:

 

- وجناني ده عين العقل! 

 

جفل زين وضحك بينما راقب سليم الذي أكمل غناء بنفس الطريقة الاستعراضية وقال:

 

- وربنا في مهلبية في دماغك مش مخ لا. 

 

توقف سليم عن الغناء وعدل نظارته وقال بهدوء ينافي نبرته الحماسية أثناء الغناء:

 

- أنا مبحبش الحزن، علشان كدا بحقر من شأن احزاني وبهون احزان الناس التانية، بهزر وافرفش، ممكن أبان مجنون، بس المهم إني مستسلمش لحزني. 

 

خفتت ضحكة زين وأصبحت ابتسامة صغيرة، ثم زفر وتأمل الشارع الصاخب وأضواء المتاجر التي تلمع بطريقة تؤلم العين، ولكنه لم يهتم في تلك اللحظة فقد شرد بشيء أهم، هو لا يريد أن ينفذ مطلبها، لن يفعل، سيكون صريحًا أكثر، سيخبرها أن دواخله أكثر، وحتى وإن كان يخاف من أن يخبر أحدهم بدواخله، ولكنه سيفعل، لأجلها هي.

 

- بقولك، بعد ما نحللك مشكلتك دي عايزين نعمل طلعة على الواد علي عايزين نجوزه هو كمان مش معقول يعني احنا نتجوز وهو لا. 

 

قطب زين جبينه ونظر له مستفسرًا وقال:

 

- نتجوز؟ 

 

عدل سليم نظارته في توتر بعد أن أدرك ما قاله، فأجاب ممازحًا:

 

- أيوه ما أنا مش هقعد يعني، ده أنا حتى شكلي كيوت وهادي ووديع، والبنات بتيجي بالشكل البريء ده. 

 

صاح زين باستنكار:

 

- الله! أومال فين توبت إلى الله والكلام ده كله؟ 

 

عدل سليم من هندامه بعنجهية وقال بغرور مصطنع:

 

- أنا توبت فعلًا، بس ده ميمنعش إن البنات بتكراش عليا أصلًا. 

 

نظر له زين بتشكك، فقال سليم:

 

- والله ما بهزر، فاكر علا الكلحة اللي ارتبطت بيها؟ كان ليها واحدة حرباية متلونة مش طايقاها وعملت عليا دور الحبيبة وأصلك كيوت وأصلك مش عارف ايه وكدا. 

 

حك زين ذقنه التي نمت قليلًا وقال مفكرًا:

 

- البنات دي حواراتها كترت أوي. 

 

قال سليم ممازحًا:

 

- بس منقدرش نلغيهم للأسف. 

 

لكزه زين وقال من بين ضحكاته:

 

- يا ابني بقا اتهد. 

 

- بفرفشك شوية علشان ميتقش لك عرق. 

 

تنهد زين وقال وقد تزاحمت الأفكار بعقله مجددًا:

 

- أنا خلاص قررت هعمل ايه. 

 

نظر له سليم بتخوف وهمس: 

 

- ربنا يستر، ومتوديناش ورا الشمس. 

 

--

 

- ومن ساعتها وهو مختفي ومفيش حد عارف السبب. 

 

قالت ليليان بانفعال وهي شبه تضرب المعالق ببعضها البعض، نظرت لها ليلى وهي تستمع لحديثها جيدًا بينما كانت تمضغ قطعًا من الجزر وقالت:

 

- طب ما يمكن حصله ظرف أو حاجه مهمة شاغلاه. 

 

نفت ليليان قائلة:

 

- قولت كدا بردو، بس دي مش أول مرة يعملها اختفى مرة أسبوعين ورجع تاني ولا كأن حاجه حصلت. 

 

قالت والدتها التي وقفت أمام الموقد مقترحة:

 

- ما يمكن هو بيشتغل في دار شوية وفي شغله الأساسي شوية، مش قولتِ إنه مرشد باين؟ 

 

زفرت ليليان وقالت بحيرة:

 

- مش عارفة يا ماما، ممكن. 

 

عم الصمت للحظة إلا من صوت الأواني، قطعت ليلى الصمت قائلة بخبث:

 

- بس ليه منفعلة كدا أوي يا لولي؟ 

 

تركت ليليان الطبق من يدها واستدارت لنتظر لها نظرة قاتل متسلسل لضحيته، ثم عادت لتغسل الصحون بصمت بينما ضحكت ليلى وقالت موجهة حديثها لوالدتها:

 

- خلفتِ أتنين عُبط يا رحمة، واحدة واقعة ومكرهه الواد فيها والتانية واقعة في بيت رعب. 

 

اعترضت والدتها قائلة:

 

- بيت رعب ايه بس ما أنا شوفته والواد محترم وجان في نفسه كدا. 

 

ثم تنهدت بهيام وتابعت شاردة:

 

- فكرني بأبوكوا الله يرحمه لما جه يتقدم لي، كان نفس المظهر ده بالظبط. 

 

ابتسمت ليلى وقالت:

 

- أوه، شكل ليليان ناوية تعيد قصة حب رحمة وأحمد. 

 

ابتسمت والدتها، بينما استدارت ليليان ونظرت لهما بغيظ وصاحت:

 

- يعني بقيت واقعة في نظركوا؟ 

 

أومأت كلتاهما وهما تكتمان ضحكاتهما، فعادت ليليان وأمسكت بالصحن بينما تمتمت بغيظ:

 

- أنا هثبت إنكوا غلطانين، وعلى فكرة بقا يولع هو وشغله. 

 

ضحكت ليلى بخفوت، ثم اقتربت من والدتها لتتولى مهمة الطهي عن والدتها.

 

--

 

بدأت ليليان يوم عمل إعتيادي، كانت الدار على قدم وساق، فقد بدأت الاستعدادات لمعرض الكتاب الجديد، ولكن ليليان شعرت أن الوقت مبكر بشدة على استعدادات كتلك، فهم في شهر أكتوبر وما زال هناك ما يقرب الأربعة أشهر على المعرض، اللعنة هل هم سيظلون على تلك الحالة لأربعة أشهر؟ هي لن تحتمل هذا!

 

جلست ليليان خلف مكتبها وبدأت عملها بالطريقة الاعتيادية الهادئة عكس الجميع، فهي مقتنعة أنها تقوم بعملها على أكمل وجه في جميع الأحوال، سواء في الأيام الإعتيادية أو في وقت التحضيرات للمعرض.

 

كانت ليليان تحاول أن تركز على عملها، ولكن الضوضاء والتذمر من حولها جعلاها تفقد تركيزها عدة مرات، هل هم في روضة أطفال؟ لماذا جميع زملائها مزعجين هكذا؟

 

تأفأفت ليليان وهي تعدل الخطأ المئة ربما في نصف ساعة فقط، بعد دقيقة ربما شعرت ليليان بسكون غريب يخيم على المكان، فرفعت رأسها تنظر في المحيط بتعجب، لتصطدم عينيها بعمر الذي وقف يوزع نظراته الحادة بين الجميع، مما جعل ليليان نفسها تشعر بالتوتر رغم أنها تعلم سبب غضبه، ولكنها لم تستطع ألا تشعر أنها مذنبة، عقد عمر ذراعيه أمام صدره وقال بجمود:

 

- أغيب شهر أرجع ألاقي المنظر ده؟ 

 

ثم أشار لهم بينما ترقب الجميع ثورة غضبه التي ستطال الجميع، ولكنه خالف توقعاتهم عندما هز رأسه وتوجه نحو مكتبه وهو يتمتم:

 

- تمام، الكل مخصوم منه أسبوع علشان الهمجية دي. 

 

تنفس الجميع الصعداء عندما رحل، فهم يخافونه بشدة وكونه قد مرر الأمر بعقاب بسيط كهذا إنجاز بحد ذاته لهم.

 

عادت ليليان لعملها وهي تحاول تجاهل الاضطراب الذي بداخلها، هي لم تفتقده لا، يبدو أنه أفضل حالًا وأقل جمودًا، كان يرتدي لأول مرة قميص أبيض اللون، لم تره يومًا يرتدي شيئًا سوى اللون الأسود، كان شعره أيضًا بحالة فوضوية، هل بدأ بالتغيير؟ هل استمع لنصيحتها؟ لا تعلم ولا تهتم، هي لم تفتقده، لم تتذكر أحاديثهما التي كلما تذكرتها شعرت بأنه حولها يؤنس من وحدتها بينما تكون ليلى منشغلة في دراستها ووالدتها في الأعمال المنزلية، لقد كانت ذكراه وحده تبعث الدفء في قلبها، وهذا خطير، خطير بشدة، فهي قد اعترفت أن فتاة مثلها قد تنجذب لعمر بسهولة كبيرة، زفرت بتعب من تلك الأفكار التي استحوذت على عقلها بالشهر الماضي وما زالت تفعل حتى الآن.

 

في وقت الاستراحة، تعمدت ليليان أن تذهب للمقهى الصغير حتى لا تصادف عمر إن ظلت بمكتبها.

 

جلست وحدها بعد أن طلبت قدحًا من القهوة التي لم تحبها يومًا، ولكنها اعتادت مذاقها بفضل عمر، ما كادت ترتشف من قدحها، حتى وجدت محمد يتوجه نحوها مبتسمًا بلطف كعادته وقال بحرج:

 

- مبدأيًا أنا بعتذر لك، بس فيه حاجات لازم نخلصها النهاردة، فـ معلش هناخد من وقت البريك بتاعك تخلصيها ينفع؟ 

 

ابتسمت ليليان بدبلوماسية وقررت أن تغتنم تلك الفرصة التي ستبعدها عن عمر لا محالة وأجابت:

 

- مفيش مشكلة، بس هاخد معايا القهوة. 

 

اتسعت ابتسامة محمد وحك مؤخرة عنقه وقال:

 

- أصلي كل ما أقول لحد يتحجج وأنتِ عارفه مقدرش أجبر حد يشتغل في وقت راحته. 

 

- فاهمة ومعنديش مشكلة والله. 

 

أشار محمد لها نحو السلم وقال:

 

- طب اسبقيني عقبال ما أجيب فنجان قهوة أنا كمان ونبدأ الشغل. 

 

أومأت ليليان موافقة وسبقته للأعلى، توجهت نحو مكتبه لتجد شيئًا بحجم الكتاب مغلف بورق مقوي بني اللون يعطي هذا الشيء الغامض مظهرًا عتيقًا، كان هناك خيط رفيع بنفس لون الورق أدخل به بطاقة كُتب عليها « افتحني »،نزعت ليليان الورق وهي تشعر بالفضول تجاه هذا الشيء لتجدها رواية، رواية لم ترها قبلًا، تصفحت ليليان الغلاف لتلتقط عينيها شيئًا جعلها تتصنم في مكانها، كُتب على تلك الرواية اسم عمر بجانب اسمها كمؤلفين لها، مهلًا ماذا! ظلت ليليان تحدق باسمها المطبوع على الغلاف بأعين جاحظة وفم مفتوح، حتى أتى صوت رخيم مميز ليقطع دهشتها قائلًا:

 

- ممكن تعتبريها هدية إعتذار. 

 

انتفضت من مكانها وجفلت بينما راقب عمر ردة فعلها عن كثب ولم يمنع تلك الابتسامة التي شقت وجهه، حدقت به ليليان للحظة لا تستوعب ما يحدث، كل ما تمكنت من قوله كان:

 

- ايه الرواية دي؟ 

 

رفع عمر كتفيه وأخفضهما وقال بتلقائية:

 

- روايتنا 

 

نظرت له ليليان ببلاهة وقالت:

 

- بس أنا مش كاتبة ومكتبتش اي حاجه في الرواية دي. 

 

ابتسم عمر ابتسامة ونظر لها نظرة ذات مغذى، أخرج الدفتر الصغير من جيب بنطاله ووضعه على الطاولة أمامها وقال:

 

- أومال ده كان ايه؟ 

 

نظرت ليليان للدفتر بتعجب للحظة، قبل أن يربط عقلها الأمور ببعضها وتفهم مقصده، هل كان يجعلها تكتب كل تلك الأشياء ليضعها برواية؟ هل كل تلك النقاشات كانت من أجل تلك الرواية؟ هل هذا يعني أنه لم يتحدث معها لأنه أحب النقاش معها كما فعلت وإنما ليكتب رواية؟ نظرت للرواية بحزن وشعرت بالخيبة الشديدة وقالت بنبرة لم تختفي منها الخيبة:

 

- يعني كل كلامنا كان علشان الرواية؟ 

 

مهلًا ما الذي ظنته تلك الساذجة؟ لقد تمكن عمر من قراءة ما فكرت به بسهولة بواسطة لغة جسدها ونبرة صوتها، ضحك باستنكار وأجاب:

 

- فعلًا؟ ده اللي وصلتِ ليه؟ ميمشيش معاكِ إن من كتر ما حبيت كلامنا مع بعض حبيت أخلده بشكل أبدي؟ 

 

شعرت ليليان بالاضطراب داخل صدرها، تشعر بالخجل ولكن بدا وكأنها خائفة وليست خجلة، يخبرها الآن أنه أحب حديثهما معًا، يدمر شكوكها ويطمئنها، هذا ليس جيد، عليها الآن أن تضع النقاط على الحروف حتى توقف هذا الاضطراب بداخلها، رفعت نظرها لتواجه عينيه المبتسمتان، قضمت شفتيها بتوتر وقالت:

 

- هو أنت لو كنت حابب مثلًا كلامنا كنت هتفضل بتلعب لعبة الظهور والاختفاء دي؟

 

اختفت الابتسامة تدريجيًا من على وجهه وأصبحت ملامحه جادة، تنهد بعمق وأجاب بهدوء:

 

- ممكن دلوقت تبقي كارهاني، ممكن تبقي مفكرة إني بلعب لعبة سخيفة معاكِ، بس أنا مش كدا، أنا قعدت حبة حلوين أفكر في كلامك كويس، كلامك ساعدني في إني احسم قراري في حاجات مصيرية كتيرة، ولما أخيرًا حسيت إني خدت قراري وجهزت رواية علشان أديها لك كهدية، بس ماما وقعت ولوت رجلها، فـ اضطريت اقعد معاهم اسبوعين كمان علشان أخدمها هي وبابا. 

 

لقد كان حدسها صادقًا إذًا، شعرت ليليان باحترام عظيم تجاهه، ابن بار بوالديه، هذا شيء نادر وجوده في عصرنا الحالي؛ لهذا تعاظم شعور ليليان تجاهه وقالت وقد أصبحت نبرتها أكثر لطفًا:

 

- بصراحة أنا دماغي قعدت تودي وتجيب. 

 

ثم أعادت إحدى خصلاتها خلف أذنها، فابتسم عمر وقال:

 

- أنا فاهم، وده حقك بردو. 

 

اتسعت ابتسامتها وأبعدت نظرها عنه، نظرت إلى الرواية بين يديها لتبتعد عن نظرته اللطيفة، لتلاحظ فارق بين إحدى الصفحات، فقالت بتعجب:

 

- هو فيه حاجه بين الورق؟ 

 

ادعى عمر عدم المعرفة وقرب وجهه نحو الرواية بفضول بدوره وقال:

 

- معرفش شوفي. 

 

فتحت ليليان الصفحة، لتجد خاتم مثبت بخيوط بحيث تستقر كلمة واحدة في حلقته الفارغة « تتجوزيني؟ » تسمرت ليليان أمام تلك الكلمة ولا تعلم كيف عليها أن تتصرف، ماذا تقول أو ماذا تفعل؟ لا تعلم، وضعت يدها على فمها بتأثر بينما ضحكت بسعادة، لا تصدق أنه يعرض عليها الزواج، لا تصدق أنه فعل كل ما فعله اليوم، هل يراها مناسبة له؟ هل يراها جميلة؟ هل يريدها زوجة حقًا! كانت تضحك دون تصديق، بينما شاركها عمر بابتسامة هادئة وقال:

 

- علشان أكون صريح، أنا مبعرفش أقول كلام حلو، بس أنتِ يا ليليان الشخص اللي محتاجه واللي عايزه يكمل باقي العمر معايا، أنتِ الشخص اللي عايز أحكي له وأتكلم معاه وأفضفض له من غير ما أخاف إنك هتمسكي أخطائي وتتصيديها أو إنك تفهميني غلط، أنتِ الشخص اللي مش هتكسف أعبر له عن ضعفي، أنتِ الشخص اللي هيشيل معايا أعباء الحياة وهبقا مطمن وأنا معاه يا ليليان، أنتِ الوحيدة اللي حسيت معاها بأجمل شعور ممكن يحس بيه الانسان، الونس، أنتِ ونسي يا ليليان ومش عايز أخسرك، أنا عايزك تبقي مراتي ونبقا على الحلوة والمرة مع بعض، ونس لبعض، موافقة ولا لا؟ 

 

عبر عمر عن كل ما كان يجول بخاطره منذ أن بدأت علاقته بها، ولكنه شعر بالخوف من رفضها لوهلة؛ لهذا تحولت نبرته لليأس وهو يخبرها بكل ما جعلته يشعر به في تلك المدة القليلة.

 

كانت ليليان لا تصدق كل ما تسمعه منه، هذا ما تمنته دومًا، هذا هو الزوج الذي أرادت أن تحصل عليه، هذه هي نفس الشخصية وهذا الرجل هو من دعت الله كثيرًا أن يرزقها بمثله، تجمعت الدموع بعينيها بينما كانت تضحك باستنكار، تشعر أنها بحلم وردي لا يتحقق سوى بالروايات والأفلام، أجبرت نفسها على التوقف عن الضحك ونظرت له بسعادة لم يرها عمر يومًا وقالت:

 

- أكيد موافقة يا عمر أكيد، أنا على طول كنت بدعي ربنا إنه يرزقني بشخص يكون ونسي، وعمري ما اتخيلت إني هلاقيه فعلًا. 

 

مسحت ليليان دموعها، بينما نظر لها عمر متنهدًا براحة بعد أن طمأنته، نظر لردة فعلها اللطيفة بالنسبة إليه وشعر بالسعادة كونها سعيدة بعرضه، الآن فقط قد تأكد أن اختياره لم يكن خاطئًا، الآن يدرك أنه سيعيش حياة هادئة ينعم فيها بالسلام الداخلي مع ليليان.

 

ضحك عمر بخفوت وحاول تهدئتها، فقال:

 

- طب اهدي بس، أقولك خدي بقية اليوم أجازة.

 

أخرج منديل من جيبه وأعطاه إياها لتسمح دموعها، هدأت ليليان قليلًا ونظرت له بأعين ذابلة ولكن سعيدة وقالت:

 

- يعني أكلم ماما ونتفق على معاد؟ 

 

بدت غير مصدقة لكل ما يحدث رغم تأكيده على رغبته في الزواج منها عدة مرات، ابتسم عمر وأومأ لها، فانصرفت في خطوات بطيئة، ثم وقفت عند السلم ونظرت له ومنحته أفضل ابتسامة لديها ورحلت وقد شعرت وكأنها فراشة تحلق عاليًا في الهواء لا تسير فحسب.

 

--

 

تنهدت ليلى وقالت بخفوت لمعرفتها بأنهما مراقبتان:

 

- بس يا هاجر مش شايفة حوار الدكتور ده وسع منك شوية؟ 

 

ابتسمت هاجر ونظرت نحو الطاولة المواجهة لهما والتي يجلس عليها سليم وزين، أمالت على ليلى وهمست مجيبة:

 

- كنت عايزة أغيظه بس، مشوفتيش شكله كان عامل ازاي لما قولت له، مسخرة! 

 

ضحكت ليلى بخفوت قدر الإمكان وهمست:

 

- بس ده اختبار حلو بردو، لو وافق يبقا هو بيتغير علشانك وده مش واقعي علشان احنا مش في رواية فـ تسيبيه ساعتها، ولو قال لك بطلي جنان وإن الأمراض النفسية جنان والدكتور مجنون ورفض سيبيه بردو علشان ده معناه إنه عقليته مقفلة ومغفل واحنا منرضاش إنك تتجوزي واحد زي كدا. 

 

ابتسمت هاجر بشر وقد أعجبتها الفكرة ونظرت لزين بتوعد، ولشدة دهشتهما وجدتا زين يبادل نظرتها بنظرة متحدية ونهض مقتربًا من طاولتهما، بينما جلس سليم براحة ووضع سماعات الرأس، خلع نظارته وأخفي وجهه بين ذراعيه فوق الطاولة غير مكترث لما يفعله صديقه، سحب زين كرسي وجلس في مواجهة هاجر، لتبتسم ليلى بحرج ونهضت قائلة بتلعثم:

 

- يا خبر أبيض، نسيت كنت عايزة اجيب ملخصات، علشان، ماشي، سلام. 

 

نظرت لها هاجر بغيظ دون أن تستطيع التحدث، عندما انسحبت ليلى واختفت تمامًا عن الأنظار، عادت هاجر لتنظر له بجمود وابتسمت باصفرار، بادلها زين الابتسام وقال:

 

- على فكرة أنا حسمت قراري. 

 

صمت ليتبين ردة فعلها، ليلاحظ تحول نظرتها من الجمود للترقب، فتابع:

 

- أنا مش هنفذ اللي قولتِ عليه، مش علشان أنا معترض على الفكرة، إنما أنا مش محتاج دكتور أنا محتاج حاجه تانية. 

 

أرجعت هاجر ظهرها للخلف وعقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت بتحدي:

 

- محتاج ايه يعني؟ 

 

تنهد زين بتعب، فالطريقة التي تتحدث بها تثبت أنها لا تصدق كلمة واحدة مما قال،ولكنه سيحاول أن يفهمها، لهذا قال بخفوت:

 

- أنا محتاج شخص يسندني ويفضل جنبي، شخص يفكرني دايمًا إني بعمل الصح وميستخفش بخوفي، شخص يطمني، بس. 

 

شعرت هاجر بالتأثر رغم محاولاتها ألا تفعل هذا، أو على الأقل ألا تظهر هذا، وضعت هاجر ذراعيها على الطاولة وقالت بهدوء:

 

- طب ليه مقولتش كل ده؟ ليه مكنتش صريح؟ 

 

هز زين رأسه وأجاب بنبرة خافتة، فبدا كمن يجاهد للحديث:

 

- علشان كنت خايف منك، خايف تستخفي بيا. 

 

زفرت هاجر وصمتت للحظة، لم يجد أحدهما ما يقول، فجلسا بصمت يتبادلا النظرات الحائرة، حتى حاول زين التحدث مجددًا لينهيا هذا النقاش، فقال:

 

- أنا شايف إن خلاف زي ده كان لازم يحصل علشان يعرفنا على بعض، احنا اتخطبنا واحنا منعرفش حاجه عن بعض، علشان كدا الخطوبة معمولة علشان نتعرف على بعض ونشوف هنقدر نعيش مع بعض ولا لا، ولولا كل اللي حصل مكنتيش هتعرفي الحاجه الوحيدة اللي كنت مخبيها عن الكل، خوفي، ومكنتش أنا هعرف إنك مستعدة تتقبليه. 

 

أومأت هاجر موافقة، فظهرت ابتسامة صغيرة على محياه ونظر لها برجاء وقال:

 

- يعني مستعدة تقبلي بيا وتسامحي؟ 

 

نظرت له هاجر بحيرة، تريد مسامحته ولكنها تشعر أنها تألمت أكثر منه، قلبها يريد أن يسامحها ولكن عقلها يأبي ويريد أن يستمر في الإنتقام منه، بعد وقت من التفكير ابتسمت بشر وقررت أن تنصر عقلها، فقالت:

 

- امم سيبني أفكر، ودلوقت اسمح لي علشان عندي حاجات أهم. 

 

نهضت هاجر وهي تمنع نفسها من الضحك على مظهره الأبله المندهش، هي لن تتركه ليحصل على مراده، لتؤرق راحته لبعض من الوقت.

 

--

 

كان سليم يحاول أن ينعزل عن العالم بتلك الموسيقى الصاخبة مجددًا، يريد أن يفكر وأن يحدد مشاعره، ولكن تلك الموسيقى لم تنفعه، ليلى هادئة ومسالمة وحرة، يتطلب للتفكير بها موسيقى مماثلة لها؛ لهذا قام بإغلاق ما كان يستمع لها واختار واحدة أخرى.

 

هو بحاجه لليلى بجانبه، يفتقدها ويفتقد تلك الهالة اللطيفة التي تحاوطتها، يريد أن يتحدث معها، وأن يتمازحا ويقوما بأشياء خرقاء مثل جميع الأصدقاء بالأفلام الأجنبية، ولكن هذا لأن ثقافتهم بالخارج تسمح لهم بذلك، ولكن هنا الثقافة والدين والعقيدة تمنعان كل هذا، مما يحتم عليهما الابتعاد تمامًا حتى لا يخالفا بينهما، إلا إذا.. انتفض سليم من مكانه مبتسمًا بعد أن راودته فكرة، سيتحدث مع علي أولًا ثم يقرر إن كان سينفذها أم لا، ولتحتمل ليلى وجوده الأبدي بحياتها، هي من دخلت حياته وكانت الشخص الذي كان بحاجه إليه منذ وقت طويل، لا يمكنها أن تعطيه هذا وتمنعه منه.

 

نهض سليم وأعاد تشغيل الموسيقى الصاخبة ليستعد للركض نحو منزله علّه يلحق علي عندما يأتي للراحة بعد انتهاء نوبته بالمستشفى، عليه أن يخبره بفكرته ويرى رأيه بها. 

 

يُتبع..