-->

اقتباس - الفصل الثلاثون - الجزء الثاني - كما يحلو لكِ - النسخة العامية




اقتباس


الفصل الثلاثون

 

الجزء الثاني

 

النسخة العامية

 

 

فحميتين باهتتين، وصراع عقلي مرير لا يستطيع الصمود أمامه، وحقائق من سرقتها ومحاولة تهديده بما باتت تملكه بين يديها ثم خيانتها له مع رجل آخر أو حتى الاستعانة بها ليُساعدها بالهروب ومحاولتها أن تصوره كمجنون أمام الجميع، حتى "يُمنى" بكل ما ظن أنه عاناه معها نفسها لم تفعل به مثل فعلتها هي..

 

لطالما حذره والده منها، وكالعادة كان مُحقًا في كل كلماته عنها، لا يُصدق إلى الآن أنه كاد أن يُعاديه من أجلها، عشق النساء ما هو إلا عذاب والمغفل مثله من يُلقي بنفسه إلى التهلكة الأزلية!!

 

اتجه للخارج وهو يُمسك بالصندوق البلاستيكي ثم القاه بداخل الآخر الزجاجي وأحضر ترياق هذا العقرب السام واعطاه لها حاقنًا وريدها به وجلس على طرف هذا الفراش وتفقدها بتحديق طويل لم يُدرك لكم من الوقت، لا يعرف بعد أن مع قلة الطعام المُقدم إليها ودمار عقلها وجهازها العصبي قد تفقد الرغبة تمامًا في الاستيقاظ، وكأنما المتبقي بداخلها من عقل يُدافع عنها لكي لا تعود لهذه الحياة، فلقد ذاق وبالًا من العذاب لم يعرف أنه موجود ولو حتى بالخيال!

 

امتدت يده تلقائيًا لكي تزيح خصلة من خصلاتها ولكنه توقف بيد مرتجفة من شدة الغيظ بداخله، لقد أخذ على نفسه عهدًا بألا يلمسها.. ولكنه يرتدي قفازه، لن يكون تلامسًا فعليًا أليس كذلك؟!

 

نظر حوله ثم ذهب ليُغلق الباب وجلس بجانبها ولم يفعل سوى تفريق نظراته بينها وبين محتويات الغرفة، شعور يلتهم العقل، لم تمر سوى نصف ساعة وشعر بالوحشة وثقل غريب على صدره من تأثير هذا اللون عليه!

 

قرر أن ينظر لها بدلًا من هذا اللون لكي يتوقف عن اهلاك عقله – المتضرر بالفعل دون وعي منه ولا معرفة – هناك غضاضة تعتصر قلبه حُزنًا، لقد كانت حياته مثالية منذ عشرة أيام، كيف يُمكنها أن تقلب حياته رأسًا على عقب بهذه الطريقة؟!

 

-       منعت نفسك تلمسها ليه؟ زعلان؟!

 

ابتلع وهو يعقد حاجباه ولا يدري لماذا يستمع لصوته المفكر هذا الآن، واليوم، وتحديدًا بهذه اللحظة؟! لماذا يلازمه صوت أفكاره في أصعب الأوقات عليه على الاطلاق؟!

 

-       مش قادر تلمسها عشان خاينة، ولا عشان ضحكت عليك؟ ولا عشان حبيتها بجد ومكونتش عايزها تتجنن؟

 

حاول أن يتوقف عن التفكير بهذه الطريقة بينما لح عليه عقله – كما يعتقد ويظن ولكن حقيقة الأمر أن هذا الصوت هو هلوسات سمعية متأصلة بداخله – وظل يتفقدها ليتعالى صوته القاسي الذي لا يرأف به صارخًا:

-       ما تموتها وتخلص.. اديتها الترياق أصلًا ليه، دي متستاهلش!

 

صوت أفكاره مُحق، بينما تلك العضلة بقفصه الصدري تأبى تخيل البقاء دونها، ولكن هذا ما عليه فعله، هي زوجته وليست زميلته بالجامعة، هو رجل بالغ ذكي وليس فتى مراهق صغير، يحق له قتلها، ويحق له عذابها كما فعلت وهي تعذب عقله بحقيقة أنه كان مُغفل وساذج طوال المدة السابقة!

 

شعر بضجيج برأسه كطرق مستمر لا ينتهي حتى كاد أن يفصل رأسه عن جسده، لماذا يحدث له كل ذلك معها؟!

 

-       مش لو كنت سمعت كلام يزيد الجندي من الأول كان زمانها دلوقتي عملالك حساب!

 

تفقدها وتأثرت ملامحه ثم وجد دموعه تنهمر رغمًا عنه وهو ما زال ينظر لها وهو لم يشعر قط بمثل خيبة الأمل التي تحتل كيانه مثل الآن وما زالت هي الأخرى فاقدة لوعيها تمامًا بينما بدأ هو في نفس الوقت يفقد جزء من وعيه بشكل مختلف آخر يتناسب مع تهيئة عقله الفاسد!

 

اقترب منها والقى برأسه بمنتصف صدرها ثم انتحب بشدة، هل أخطأ بحق نفسه عندما ناقض كل ما عاهد نفسه عليه؟ لماذا لا تريد البقاء معه للأبد؟ لماذا فضلت عليه رجل آخر؟ ولماذا قامت باستغلاله؟ لو كانت طلبت كل ما يملكه ورؤية كل ما فعله يومًا لكان أعطاها كل ما تريده!

 

لم يكن يبدو عليها أنها امرأة مستغلة، ولا خائنة، وحياتها كانت خالية من العلاقات، لماذا لم يكن كافيًا لها بعد كل ما حاول أن يفعله من أجلها؟ لماذا لا يتقبله أحد ولم يتقبله أحد طوال حياته؟ كان مستعد أن يتخلى عن الحياة من أجلها، بل فعلها لشهور طويلة وأوقف دُنيته بأكملها عليها.. لم ارتكبت بحقه هذه الجرائم؟!

 

كيف يعمل عقل رجل مثله؟ تقلبات مزاجية شديدة، هوس، مزاج معتدل، سقوط في نوبة اكتئاب، تتراوح شدتها بين الخطورة وبين ما قد تتحمله النفس البشرية، بسبب وبدون، هناك في الأساس خلل في الموصلات العصبية بداخل عقله، تلك المواد الكيمائية التي تتفاعل مع بعضها البعض لتضمن لعقله القدرة على التفكير بصواب وفعل تصرفات منطقية نسبها نفسها غير متوازنة..

 

من حسن حظها أنه لم يرتاب بها بالسابق دون سبب أو دليل ملموس، عقله يعمل بهذه الكيفية، يغضب ويرتاب ويحزن ويفرح وينشط ويخمل دون سبب منطقي، ومن حسن حظه أن وجودها بجانبه ضمن له القليل من السلام العقلي الوقتي.. أحيانًا يكون العشق والدعم مُسكن، ولكنه لم يكن علاجه الذي سيُنجيه!

 

الأمر ليس خيانة امرأة ولا عشق، وليس استغلال، وليس إعادة القصة وتكرار الماضي، ولا الألم، ولا كل تلك الأفعال التي قد يواجهها المرء بحياته من أحداث قد يكون مُذنب وجاني بها وقد يكون ضحية، الأمو وما فيه هو أن العقول المريضة لا تصلح لتفهم ما يحدث حولها بتفكير سليم أو سوي، رأسهم لم تُصنع لهذا لو تركت دون وعي وفي الكثير من الخالات لابد من تدخل دوائي عاجل..

 

تشبث بها أكثر ونحيبه يتعالى بدون شعره، ألم بصدره لا ينتهي، يبكي عليها، من أجلها، أو يُرثي على ما يحدث له، وحالة من اللاوعي أخذته لشعور الحاجة في عناق طفل لأبيه، أو لأمه، أو لأي مخلوق يتقبله مثلما ظن أنها تفعل في يوم ما..

 

زجره صوته بسؤاله السخيف ليجيبه ببكاء ونبرة مسموعة:

-       عارف لو يزيد الجندي شافك كده هيقول ايه؟!

-       يبقى يقول اللي يقوله، أنا مش هاعرف أعيش من غيرها! أنا مكونتش عايز اجننها ولا اموتها، بس هي اللي خلتني اعمل فيها كده!

 

 

تحدث ببكاء، وتشبث بها بتعلق مرضي وكل ما يُسكنه أنها لا تدري بأي مما يفعله، ولا تستمع له، لقد كان يحتاج لهذا أكثر من أي شيء، يريد أن يُعاتبها أو يلومها أو حتى يسألها لماذا فعلت به كل ذلك؟ هي لا ينقصها أموال، ولم يتوقف عن محاولة اظهار عشقه لها وجعلها أولوية قبل كل البشر في حياته بل والأشياء، ما الذي تريده أكثر من هذا؟ لماذا تريد أن تكون هذه نهايتهما؟! هو لم يكن يريد أن يعنيان ولا يفترقان، كيف حدث هذا بين يوم وليلة؟!

--

سخونة رهيبة وكأنها وقعت بقاع الجحيم تنتشر بجسدها، جفناها كأنهما جبلان يأبيان التزحزح من مكانيهما، وهناك ذلك الثقل الرهيب الذي تشعر به يطبق على جسدها!

 

وجوه كل من عرفتهم في حياتها تتحول لوجوه بيضاء بالكامل، منعدمة الملامح، وهناك مياه تأتي من كل مكان تبلل جسدها وتدفعها للأسفل، لابد من أنه قد ربط بدنها وثبت به صخرة ثم اغرقها بمياه ساخنة، لا تشعر بعد بأنه هو من يعانقها، ولا تعي أنها تُعاني من حمى شديدة بفعل لدغة ذاك العقرب لها، والهذيان الذي وقعت به أثر لكل ما حدث لا يخبرها بعد أنها تتعرق بشدة..

 

لقد كانت خائفة من أن يفعل المثل بوالدتها أو أخيها، هي تعرف أنه كان لينتقم، ولكنها كانت نصيحة "مريم" إليها، أن تقوم بالإبلاغ عنه والحصول على دليل ضده تجاهها هي وليس تجاه الآخرين في قضايا أغلقت منذ سنوات، وأن تقوم بطلب المساعدة من اقرباءه، وأن تبتعد بأسرع ما يكون، لقد كانت تعرف أنها ستتعرض لعذابه، ظنت أنه قد يلمها ويقسو عليها ولكن ليس بمثل هذه الطريقة..

 

تذكرت المزيد، في أي وقت يصعب عليها ما تتحمله عليها أن تتشبث بالحب، حب نفسها وهذه العلاقات السعيدة في حياتها، أن تقدرها، أن تتيقن أنها ستعود إليها يومًا ما وستمتلك الكثير من العلاقات الأخرى، أخيها، والدتها، نجاحها بعملها، ذكائها في تبين الكثير وصمودها أمامه ومعه طوال كي هذا الطريق، هي لم تكن سيئة بالكامل، لقد حاولت، الابتعاد عنه هو الصواب، لم يقتنع قط بشأن مرضه.. وحتى في اللحظات الأخيرة كان يُنكر الأمر باستخفاف منه..

 

والدها هو أكثر شخص تحتاج إليه الآن، تحاول أن تتشبث بالذكريات السعيدة معه، ابتسامته، الثناء عليها، ملاعبتها وهي طفلة، أول مرة قام بتعليمها القيادة على سيارته وهي بالصف الأول الجامعي، أول سيارة ابتاعها لها، ليته كان معها، أو ليتها ماتت بالفعل وبنهاية هذا النفق أبيض اللون ستجده.. هل تستمع لصوته يبكي من أجلها؟!

 

أطلقت أنين ببكاء وشعرت بأن صوتها يأبى المرور عبر حبالها الصوتية وهذا الثقل لا يبتعد عنها، وكأنه يحول بينها وبين وصولها لوالدها، لابد أن هذه سكرات الموت، أو هي تحلم، تتشبث بتلك الأوقات السعيدة مع والدها لعل الآلام تتوقف وتبارحها دون رجعة..

 

التفكير بمن تحبهم وتفعل كل هذا من أجلهم كان ما تتعلق به، لو ساءت الأمور هذا كان غايتها، أن تعود سالمة عندما يجدها أخيه أو ابن عمه وزوجته، وقتها سيستطيع الجميع رؤية ما يفعله، قد تكون مُعذبة أو يحتل جسدها الآلام، ولكن فليقنعه الآخرون، لقد كانت هذه نهاية محاولاتها معه، أن يره أحد منهم في وقت جنونه، وستعود هي لأخيها وتعانقه، وستخبر والدتها أنها بخير، تود بشدة عناق يجمعها بأي منهما، وفي وقت ما سينتهي هذا الكابوس، ولكن لماذا بعد كل تفكيرها بعائلتها وبنفسها تشعر به؟! هذه رائحته! هي تعرفها جيدًا، ليس هذا ما تريد أن تتشبث به، بل تريد تذكر من تُحبهم، ما الذي يفعله بها؟ هل يقوم بدفنها حية وهذا ثقل التراب فوقها؟ أم أنها ماتت وهذا هو شعور الموت؟

 

أطلقت أنين مصاحبًا لكلمات لم يفهمها وكأنما عُقد لسانها، نبهته من غفلته بإرادته أن يختفي هو نفسه من الوجود بين ذراعيها، واتكأ على يديه يرفع بدنه عنها ثم اقترب يحاول أن يستمع لما تقوله ليشعر بسخونة جسدها وازدياد تعرقها، هو لم يمسها، ولا يستطيع فعلها، ليس بعد أن قامت بمنح نفسها لرجل آخر، لقد حالت بينهما الملابس، واقتنع تمامًا بهذه الفكرة الساذجة..

 

نهض وهو يحاول السيطرة على بكائه وابتلع بقايا دموعه ثم مسح وجهه وتظاهر بالصلابة وناداها ببرودة حاول أن يُزيفها:

-       روان، اصحي!

 

استمعت لصوته أو ما شابه صوته، فتصاعد أنينها وارتفعت ضربات قلبها تلقائيًا في خوف ثم ثبتت تمامًا استسلامًا لحالة من فقدان الوعي!

 

تفقدها بحسرة ثم حملها وهو مقتنع أنه لا يلمسها، يقنع نفسه بأنه سيستطيع الاستمرار، ويقنع نفسه أنه يمكنه مواصلة هذا، ولكن ما لا يعرفه أنه سيسقط بهوة اكتئاب عميقة ليس لها بداية من نهاية!

 

توجه ليبدل ملابسها لملابس غير مكشوفة، وما رآه منها حرك مشاعره نحوها برغبة ضئيلة، ليزجر عقله الأهوج بولعه بها الذي يستمر في اغرب الحالات، حتى وبعد خيانتها له بتلك الطريقة واستغلالها لعشقه، كيف يقبل على نفسه مثل تلك الخيبة؟!

 

نفض عقله من تلك الفكرة المقززة الدافعة للغثيان وقام باستدعاء الأطباء، الجميع ينظر له بهول من حالتها، ضربات قلبها غير المنتظمة وحالة الحمى الشديدة وموضع الحقن بذراعها وافتقارها للتغذية على ما يبدو لأيام..

 

قال أحدهم ومسعف آخر يقوم بوضع أنبوبة مغذية لوريدها مباشرة:

-       حالتها صعبة، جسمها ضعيف جدًا، وواضح إن عندها تسمم

 

ابتلع الرجل من تلك الملامح الباردة التي غلفت وجهه ثم فاجئه برده المقتضب:

-       هي اخدت مضاد للسم ده، هتموت؟ ولا لسه هتكمل؟

 

تردد الرجل الذي لا يعرف من هي ولا ما الذي يفعله هذا الرجل بها وكيف سممها حتى وصلت لهذه المرحلة ثم قال بصوتٍ مهتز:

-       مع المحاليل والمسكن ولو اديتها المضاد الصح هتبقى كويسة، هي بقالها فترة متسممة، وهتحتاج كام يوم عشان تفوق من الحمى دي واثار السم!

 

رمقه باحتقار ومزيد من الخوف تجاه من يستطيع بمنتهى السهولة فعل ذلك بأحد بينما لم يكن منه سوى الرد عليه بنظرة محذرة قبل قوله المهدد:

-       حسام جابكم هنا عشان محدش يتجرأ ويفتح بوقه، لو عايزين تترموا في السجن وتبطلوا المهنة خالص وتروحوا انتو وهو في ستين داهية يبقا تبلغوا عني.. أو متبلغوش، القرار يرجعلكم!

 

حول عينيه نحوها وهو يحاول أن يدفن حزنه بداخله ثم أردف:

-       اطلعوا برا!

 

نظر هؤلاء الرجال لبعضهم البعض وغادروا للخارج، وفي الحقيقة لم يكن أي منهم خالي من العيوب، فلقد اختار هذا الرجل له حفنة من حقراء تستروا عليه لسنوات من أجل الأموال والمناصب التي يغدق بها عليهم!

يُتبع..