-->

الفصل السادس والعشرون - كما يحلو لكِ - النسخة العامية



 الفصل السادس والعشرون

النسخة العامية

تنويه: كل التفاصيل الواردة بالفصل لا تحمل توجهات المؤلف ولا يتفق معها من أي منظور أو ناحية!

 

ليس هناك أسوأ من هذه النيران التي تُطلق لهيبها وتلتهم كل ما تلمسه ألسنتها المتأججة ولا تترك في النهاية سوى دمار، رماد، وهشيم.. فإهانته حرقتها بنار القهر بينما لم تخلف سوى هشيم لروحها المحترقة!

 

ما الذي يُريده بكلماته وأفعاله؟ هل يُريد مُجرد معاقبتها، أم استبدال كيان بكيان لا يتمنى سواه ولا تملكه هي لا بنشأتها ولا شخصيتها ولا بشريتها التي تقارب من الفطرة السليمة تجاه الكثير من الأمور في حياتها؟ هو حقًا يستمتع بهذا وخصوصًا أنه في أفضل امزجته.. لماذا يريد رؤيتها تنهار أسفل عينيه؟  

 

لقد أخبرتها "مريم" يومًا ما أن من يُعاني من اضطراب ثنائي القطب مثل زوجها تمامًا، غالبًا ما يعقب نوبات هوسه مزاج معتدل، لذلك وصفت لها علاج بدوره يُساعده على تثبيت مزاجه كي يتلافى الوقوع في نوباته، وتتلافى هي الوقوع في ثورات جنونه، ويتلافى العالم شره الذي لا يعلم عنه شيء..

 

لذا ما الأسباب خلف تصرفاته الآن؟ السا دية اللعينة التي لا يستطيع التحكم بها، تطغى عليه، على حياته، على تصرفاته، على ردة فعله تجاه كل موقف، ولا تغفل أنه تطغى عليها الآن.. بتلك النظرات العميقة المُخيفة المتشفية بذلك الانكسار وتلك الصدمة وهو يُشبها من جديد بالحيوانات، وكأنه لم يفعل قط، وكأنه لا يفعل بالفعل..

 

أسوأ ما به أنه يستطيع أن يختار أكثر ما يؤثر عليها حقًا، وأسوأ ما يتركه لها أنها لم تظن بكابوس مروع يفزع نومها أنه قد يفعل بها كل هذا، ولكن صبرًا.. لن تغمض لها عين قبل أن ترى هذا الرجل ذليل أمامها، بأي طريقة كانت، وحتى لو بلغت من العمر مائة عام، ستعمل طوال حياتها على أن تحصل على ملامحه وهو يتذلل لها، وستقوم بإهانته، وستبرع في الأمر.. ولا تكترث بأن تكون مثله بنفس السوء، هي امرأة سيئة على كل حال لوقوعها في عشق هذا الوغد أمامها! ولكن أولًا أين لها بسبيل الفرار والهروب من بطشه الذي لا ينتهي؟! لقد ألحق الفزع بها من كل ما تختبره ذعرًا من مجرد الفكرة أنها لن تستطيع الهروب من كل ما تختبره معه!

 

-       فاكرة قولتلك ايه في أول جوازنا.. ارجعي كده لورا شوية، وقوليلي فاكرة ايه؟

 

تفقدته بنظراتٍ مختلطة بين الانكسار والرثاء على حالها وبين حُزنها بأنه ليس الرجل الذي تتوقع منه هذه التصرفات وأنه خذلها وحنث كل وعوده لها، لم تغفل عن ترك العنان لدموعها قليلًا، الكثير من الخوف فهو يعشقه بعينيها أو ربما بأعين كل النساء، أم عن انتقامها وخطتها، فحاولت أن تحافظ عليهما في طي الكتمان وتستعد أن تغامر وترى الأسوأ معه، ربما الصفعات القوية من الحياة هي من تفيق المرء.. ولقد كانت غافلة في سذاجتها لأعوام كثيرة!

 

أشار بسبابته أن تتكلم وتجيب سؤاله فادعت الارتباك المختلط بخوفها، ولكنها كانت تفهم مليًا ما الذي يريد سماعه، يريد أن ينادي بهيمنته من جديد، فلتلاعبه قليلًا:

-       إنك عايزني أكون بطريقة مُعينة!

 

ابتسم ابتسامة جانبية ثم عقب ببرد لا يتناسب مع تلك الحرب المشتعلة بداخله:

-       حلو أوي، وأنتِ عملتي ايه؟

 

اتسعت عسليتيها، كأنها تبحث عن الإجابة، تشعر أنها في ورطة، تحاول أن تبدو مرتعدة منه ثم همست مجيبة بشفتين مرتجفتين:

-       رفضت!

 

نظرته المتفحصة الظاهرية بينما أمام عينيه لا يراها سوى الأنثى الوحيدة بالوجود التي خُلقت من أجله، لماذا فرط في حق أن يراها بتلك الهيئة منذ البداية، لماذا هي امرأة عاصية؟ لم لا يُمكنها تقبل ما يُحبه ويشتهيه؟ هل هذا كثيرًا على أن يجده بها ويطالب به في المرأة التي لا يعشق سواها؟!

 

حربه تحتدم مع نفسه، لا يُفكر سوى بإنهاء كل ما يسنه من قواعد توارت خلف عدة شهور وبعض محاولات من كلاهما ربما لا تحتاج سوى أن تتذكرها، ويذهب مسافة قليلة للأمام، يدنو، ويُقبلها، ويعيد ذلك اللهيب بين جسديهما من جديد، وليذهب كل شيء آخر للجحيم!

 

هناك أمر يعلمه، يتأكد منه، ولو كان مجنونًا لا يُصدق سواه، وحتى لو سيفقد عقله سيعترف بهذا أمامها آلاف المرات، هو مستمتع للغاية بكل ما يختبره معها منذ تجاهله إياها مرورًا بالعشرة أيام ووصولًا إلى هذه اللحظة وهي جاثية على اربع، هناك خوف وانكسار بعينيها، سيستمتع بالطقوس السادية، وستخلب عقله بصراخها من وطأة الألم، وعندما يرى انعكاس الألم عليها يعرف أنه لن يتحمل شدة اثارة ما ستتركه في نفسه وقد يتراجع وقتها عن كل ما خطط له فقط من أجل أن يحصل عليها.. كل هذا حلم جميل.. أمنية يطمع بتحقيقها منذ الوهلة الأولى التي وقعت عينيه عليها.. ولكن ما يُصيبه بالإحباط والغضب على حد سواء هو أنها لا تستمتع بأي من هذا!

 

يتذكر تلك الكلمات من ماركيز وهو يقول لا يجوز ممارسة عمل امتلاك على روح متحررة، وها هي روح متحررة أمامه، بل روح ثائرة.. لماذا غامر من البداية معها؟ يستحيل أن يكون عشقها من النظرة الأولى..

 

لقد اشتاق لكلماته وهو يحاول أن يُعجب بها بحيادية بعيدًا عن سفسطته الجاحدة للأديان ولوجود إله بشكلٍ مُطلق، يعلم جيدًا أن هناك اختلاف لا نهائي شاسع عن هذا الرجل منذ أكثر من مائتي عام، ولكن لطالما وجد تقبل بداخل نفسه لأفكاره التي يُنادي العالم بأكمله أنه رجل متطرف لا ديني..

 

وفي الحقيقة، التي لا يُدركها بالفعل، هو مختل مثله، بأي زمن وبكل وقت ستجد هؤلاء المختلون فيما بينهما يتفقا في بعض الآراء.. وهذا ما يفعله تمامًا بصحبة كلمات لرجلٍ كتبها من سنوات كثيرة أطاح عقله المتطرف بما تبقى من المنطق، وأطاحت سنوات السجن ما تبقى له من قدرة عقلية على التخيل، فلم يقم بكتابة سوى تخاريف جنـ سية ساد ية مُغرضة!

 

رجل سا دي، لابد له من امرأة مازو شية، يلحق هو بها الألم ويستمتع، وتتلقى هي الألم وتستمتع، والطرفان يُنهيان وقتهما وهما مدركان أنه كان وقت جيد.. فقط مثله مثل رجل وامرأة يُمارسان الحب.. لا يطيق أن تكون المرأة غير مستمتعة معه، وبما يراه منها يستمتع، ولكن فهمه أنها لا تحب هذا وترفضه ولا تستمتع معه أمر قاتل بالنسبة له، ولكن ماركيز قال أيضًا، اقتلني أو اقبلني كما أنا، لأنني لن أتغير أبدًا.. عليه توضيح هذا لها جيدًا!!

 

-       لا، مرفضتيش لأنك معايا مش هتقدري ترفضي أي حاجة، أنتِ كل اللي عملتيه هو إنك اتصرفتي زي البهايم!

 

المزيد من الخذلان يضربها في مقتل، منذ أيامٍ قليلة كانت تُفكر كيف ستذهب وتتركه وهي تعشقه، كم ستتألم دونه، ولكن ما تراه منه الآن يُساعدها بشدة على كراهيته، بنبرته المهيمنة طاغية الزهو والاعتزاز بالنفس الزائف الذي لا يعلم عنه شيء، لن تنسى كلماته إلى يوم قيام الساعة!

 

-       تعالي نفتكر بقا سوا واحدة واحدة كده.. بس مش هنا!

 

قالها ونهض، وجذب السلسة اللعينة وكأنه يملك زمام روحها بين يديه، وأمام مجسم خشبي وقف، هذا ما كانت تتوقعه منذ البداية، التكبيل والجلد والصفع، علمت أنه لن يتوقف عن همجيته.. ومن جديد، كانت مخطئة بشأنه!

 

نفس الطقوس ناظرًا لها بمقلتيها، يتعذب كلاهما، فهناك من يستهدف جعلها خاضعة له وهو يتعذب بالسيطرة على نفسه ومحاربة رغبته بها، وهناك من يتعذب بالإهانة والخذلان، جحيمان والعشق لن يملك أن يخمد أي منهما!

 

أصبحت مُقيدة بتلك الحبال في غضون دقيقتان، أكثر أو أقل، لا تدري، ولا تهتم سوى بالتفكير بما ستصرخ به لاحقًا حتى يقتنع عقله المسموم فاقد الأهلية بأنها ستستمر بهذا الزواج اللعين، ومحال أن تكون كما يحلو له..

 

يحاول بشتى الطرق أن يتوقف عن لمح ما يبتغيه منها ويشتهيه وينقل كيانه لعالم آخر، ولكنه يعاود أدراجه ولا يُسلط اهتمامه سوى على أن يوضح لها أن كل ما هو عليه وهذا الزواج هو من يملك زمام أموره، ومحال أن يصبح يومًا كما يحلو لها..

 

هذا ليس بزواج، بل تحول الأمر لحرب شنيعة، الدماء تتناثر هُنا وهناك، طعنات قاتلة، والخسائر ضحيتان مسكينتان، لا الزواج يُكفيه العشق، ولا النزاع، والأقوى لا ينتصر.. الأمر لا يُمكنه أن ينجح كما يحلو لأحد، بل كما يحلو للمنطق والعقل والواقعية، قبل العشق، سواء قبلا هذه الحقيقة، أم لا يحلو لكلاهما، رغمًا عن أنفهما كلاهما فشلا بهذا الزواج..

 

فشلت هي بالاختيار، وفشل هو بتشبثه بالمرض!! وكلاهما لا يستطيعا الاستمرار بهذا الطريقة التي بُنيت على باطل، سينهاران عما قريب!

 

ابتعد وأحضر اسطوانة صغيرة من الغاز، أخرجها من شبه خزانة متوسطة الحجم، وتلقائيًا أصبح رعبها الذي تحاول أن تزيفه حقيقي.. أما عن هذه المنضدة المعدنية صغيرة الحجم التي وضعت بداخل خزانة أخرى لا تعرف ما الذي سيفعله بهما، هل سيقوم بالطهي أم ماذا؟!

 

تركهما أمامها، حدق بالفزع المنهمر من عينيها، استمتع نوعًا ما، ويكاد يرى قلبها يقفز كي يغادر ضلوعها، ولكن ليس بعد، هناك المزيد، والكثير، والعديد من الأشياء التي لن يتخيلها عقلها الذي أفسده الدلال!

 

يحتاج لتدخين الغليون بصحبة فنجان من القهوة المرة، كما عليه أن يستخدم تلك القداحة التي لم تُستخدم من وقت ليس بالقريب.. الغليون أولًا أم هذه الأسطوانة أم هذه العصا الجلدية؟ لابد من أن يديها الآن بدأت في الشعور بألم طفيف تظن أنها ستتحمله، ولكن شدة العقد ستسمح لها بالتُعلم، الدرس ليس سهل على الإطلاق!

 

أشعل الغليون وتنفسه، ومقلتيه ماكرتين، يحاول إخفاء رغبته بما لا يشتهي سواه، دقيقتان بعد وستفلت زمام الأمور من بين يديه، وسيهرول معانقًا إياها كطفل ضل طريق ذراعي أمه!

 

نفث المزيد من تبغه، أشعل الأسطوانة، ووضع فوقها المنضدة المعدنية، ووضعها أسفل قدمها التي لم يترك نفسه ليلمسها، من أجل سببان، الأول هو رغبته التي ستسيطر عليه لو فعل، والثاني هو شعور التقزز الذي يتمنى أن ينجح بإيصاله لها.. لعله يُفلح بهذا!

 

استخدم العصا ليقوم برفع واحدة من ساقيها لتصبح لا تستند سوى على قدم واحدة، ثم وكز بمنتهى الرفق قدمها بالعصا ورافق وكزته نبرته المتلذذة بأمره وهو يرفع حاجبيه ثم اخفضهما ببعض المزاح:

-       ارفعي رجلك عشان متتلسعش!

 

اتسعت عينيها في رعب مما استمعت له وسرعان ما أدركت أنه بالفعل دفع الأسطوانة التي تعلوها المنضدة لتصبح أسفل قدمها! وقبل أن تبالغ بالمزيد، ذهب وتركها مغادرًا الغرفة بأكملها، ربما ستعلم الآن أنه لا يمزح بشأن ما يُريده.. لتقتله أو لتقبله.. هو لن يتغير أبدًا!

--

بعد نصف ساعة كاملة، وقف أمام الباب من الخارج وهو ينظم أنفاسه بعمق، أمر وحيد فقط يجن أن ينتصر عليه، تأثيرها الذي تملكه عليه، سواء بجسدها أو بروحها، عدا ذلك، كل شيء سيكون على ما يُرام!!

 

زفر وهو يغلق عينيه، فهو مشتت للغاية وبالكاد يتحمل، أمسك بقدح القهوة الخاص به، ثم عاد من جديد، وبمجرد عدة خطوات للداخل وهي تشعر بالذعر من ذلك السطح الساخن أسفل قدمها التي تقوم برفعها، عاد من جديد ليتطلع لهذا المنظر الخلاب، تبغ غليونه احتاج لأن يُشعله من جديد، تناول رشفة من القهوة، وبمنتهى الهدوء المستفز سألها:

-       كنا بنقول ايه بقا؟

 

تريث وهو يتفحص أعماق مقلتيها ليرى المعاناة والقهر بصحبة الفزع كل هذا مختلط ببعض التوعد منها، لذا من جديد يعرف أن أمامه طريق طويل وعر معها حتى يُمحي هذه النظرة عن بكرة أبيها ويستبدلها بأخرى مُذعنة له، فأجاب نفسه بمزيد من الهدوء:

-       آه، كنا بنقول إن تصرفاتك تصرفات بهايم وعايزين نفتكر انتِ عملتي ايه بالظبط.. واحدة واحدة كده عشان نراجع سوا مع بعض، فاكرة إيه اللي حصل أول جوازنا؟

 

هي لا تتذكر شيء، ولا تستطيع أن تُجيبه سوى بعد أن يزيل تلك اللعنة من أسفلها، فقدمها لا تقوى على التحمل، وبأي وقت ستخور قواها وستُخفضها، وتلك السخونة المنبعثة من هذا الصفيح الساخن بفعل النيران أسفله مؤشر مرعب بالنسبة لها!

 

-       ممكن تشيل اللي تحت رجليا ده وبعدين هنتكلم في كل حاجة!

 

نبرتها المتوسلة الخائفة بصحبة عسليتيها الفاتنتين كان أمر رائع للغاية، معاناتها نفسها تثيره، ألمها وخوفها أكثر ما يستفز رجولته، لو كانت فقط تشعر بالمثل لكان شعر هو الآخر أنه قد ملك الدنيا بأكملها، لديه الكثير لفعله على كل حال!!

 

-       خايفة؟

 

سؤال مستفز جديد يثير بداخلها الارتباك، ولكن هي ليست في وضع يؤهلها للجدال الآن ولا تلقيبه بالمجنون، وبالطبع لن تصل لما تريده بأي لهجة اعتراضية فاكتفت بإجابة صريحة وصوت مرتعش ذعرًا:

-       اكيد خايفة، مبقتش قادرة أفضل واقفة على رجل واحدة.. أرجوك ابعدها عني!

 

ابتسم بمكر ثم تحدث بنبرة ذات مغزى لم يغب عنه سيطرته بنفسه وصوته الهادئ:

-       فين العقد دلوقتي اللي اتريقتي عليه في يوم وكنتي معترضة إن يبقالك تدريب معين، كان زمانك استحملتي!

 

تريث لبرهة ثم نبس بما اثار المزيد من خوفها الذي سرعان ما اختلط بالكثير من التخمينات بعقلها جراء ما قاله:

-       مش مهم.. مش مهم العقد، زي ما كانت مش مهمة الأوضة، زي ما هو مش مهم العقاب، وزي ما مش مهم بالنسبالك أي حاجة أنا عايزها.. المهم اللي انتِ عايزاه.. عايزة ايه بقا؟!

 

ابتلعت وهي تحاول النظر له بتوسل لعله يستجيب إليها وهمست له:

-       عايزة تبعد النار اللي تحت مني، مش قادرة استحمل اكتر من كده!

 

ارتشف من قهوته، واتخذ لحظة ليستنشق من غليونه، ثم تفقدها باشتهاء واستفزها متعجبًا:

-       ليه؟

 

هي تعرف أنه مريض، وتعرف أنه مصاب باضطراب الشخصية السادية، ولكنه ليس بغبي لدرجة تؤهله للنطق بسؤال كهذا فتحاملت على كل هذا الذل الذي لم تعد تطيقه واجابته:

-       رجليا بتوجعني، كفاية أرجوك!

 

نظر لها بتشفي شديد، الابتسامة الطاغية التي علت ملامحه كان لا يضاهيها فرحة، معاناتها أكثر ما يجعله يشعر بالراحة، ومن يجد المتعة في ألم غيره فهو مضطرب بالتأكيد!

 

تعمقت نبرته كما لمع ذلك الظلام الداكن بين جفونه وهو يتفقد كل ما أوتيت من حُسن ثم تكلم بهدوء مبالغ فيه جعل عينيها تدمع من جديد:

-       ممكن تخسي من غير عقد، وممكن تنامي في الوقت اللي أنا أحبه من غير عقد، وممكن اعذبك من غير ما ألمسك ولا لمسة، وممكن أعمل كل حاجة أنا عايزها من غير ما أكلمك كلمة واحدة.. وبمنتهى البساطة ممكن اتحكم في وقتك وشغلك وكل حياتك ومن غير أي عنف! صح يا قطة؟!

 

لقد انتصر، هذه كلماته التي تؤكد هذا، ينتصر، لتدعه يشعر بالفرحة، ولكن تُريد أن تبعد عن هذه السخونة المنبعثة من أسفلها ولقد بدأت بشرتها تتشرب بحمرة تأثير النيران عليها، وهو حتى لم يبدأ بعد!

 

ابتلعت وهي تحاول أن تثبت بوقفتها وهي تُمسك بتلك الحبال التي تُكبل يداها ثم أخبرته بأنفاس تعالت توجسًا وقهرًا:

-       صح، كلامك كله صح، أرجوك ابعد النار دي وأنا هاعمل كل اللي أنت عايزه!

 

ضحك بسخرية عندما استمع لكلماتها ثم عقب سائلًا:

-       انتِ بتاخديني على قد عقلي، ولا بتعملي معايا صفقة؟

 

هز رأسه بإنكار وما زال وجهه يحمل بقايا ضحكته وارتشف المزيد من القهوة بينما انطلقت نظرات التوعد المختلطة بالتقزز من عينيها كألسنة الجحيم لتجده يُتابع حديثه متأملًا بتلك الفِتنة التي يراها أمامه وهو يُترجم تلك الرسائل من عينيها بمنتهى الوضوح وفهمها كما هي دون أن يصعب عليه الأمر:

-       أنتِ حتى فاشلة كسيدة أعمال، لكن شاطرة بس تلحقي المصايب، عارفة، أنتِ هوايتك التصليح، بتحبي أوي تشتغلي بإيدك، تعملي نظام كامل، تحطيله قواعد وخطوات، وبتبذلي كل جهدك إن النظام ده ميحصلش فيه خلل أو مشكلة، بتحبي التحكم أوي، إنما لو جينا لوقت الجد والقرارات والكلام والاتفاقيات زي اللي بجد بيتقال عليهم سيدات أعمال، أنتِ ولا حاجة!! مش ده شُغلك بردو؟ شوية أكواد وعشان شاطرة فيها عرفتي تحافظي على الكام شركة، إنما مسألتيش نفسك مرة واحدة، ليه الشركات دي مبقتش أكتر، معملتيش فرع جديد مثلًا أو ضميتي لنشاطكم حاجة..

 

تعالت أنفاسها غضبًا، بالرغم من موقفها الذي لا يؤهلها للغضب، ربما كانت لابد أن تُركز على الانصياع المؤقت والفزع وإرضائه لتفر من أسفل بطشه بها ولكن عفويتها ما زالت تتواجد بداخلها، لذا كان عليه أن يُطيح بهذا الكبرياء تمامًا عبر عدة كلمات، الكلمات على كل حال هي من تُغير شعوب وأمم، وتحرك الثورات، وتدمر زعماء ودول، والتاريخ الذي يحفظه حافل بتلك المناسبات:

-       دماغك متبرمجة، مبتقبلش غير التصليح والقواعد، بس اللي انتِ بتشوفيها من وجهة نظرك وبس!! زي ما أنا بالظبط شغلي اللي مبطيقهوش خلاني أصدق واقتنع إن أي حاجة في الدنيا ممكن تقنعي بيها غيرك..

 

نفث المزيد من دخان غليونه بعد أن استنشق منه وهو يُرتب كلماته مليًا ثم أكمل بنبرة كمن يُحدث نفسه محدقًا بعيدًا عنها حتى لا تظن وكأن ابتعادها عنه يؤثر به:

-       كل العقل والمنطق والتاريخ والأدلة الأولية تقول إن فُلان قاتل، أو تاجر مخدرات، أو ليه آلاف التجارات الممنوعة، إنما مع الوقت ممكن بمنتهى البساطة الموضوع يخلص بغرامة، أو صُلح، أو أدلة جديدة خالص.. المهم الشاطر اللي يعرف يقنع اللي قدامه باللي شايفه.. من الآخر، يبرمج دماغه على قواعده هو مش قواعد وقوانين الغير!!

 

اشرأب ليها ثم لاقى عسليتيها بسواد لامع ابتهاجًا من أقواله وهو زاهي بنفسه أكثر من المُعتاد ثم رسم ابتسامة مغازلة كيانها الأنثوي المُهلك له وهمس إليها:

-       أنا وأنتِ زي بعض! كل واحد فينا عايز يبرمج اللي قدامه!!

 

اراح جسده بُكرسيه ولا يغفل عن لمح الاستفزاز الذي يُشعل غضبها بداخلها ثم تابع:

-       بس الفرق إن أنتِ بتحبي البرمجة، فعشان كده بتنجحي فيها، زي اللي بيحب الرسم وبيعرف يرسم لوحة تلفت نظرك.. ده المتوقع من حد بيحب شغله.. إنما أنا مبحبش القضايا ولا حفظ القوانين ولا إني أدور على الأدلة، ولا حتى إني اتفاوض مع واحد واثق إنه متهم.. وبالرغم من كل ده إلا إني ناجح، ونجحت، ومتأكد إني هنجح في أي قضية لأني بعرف أوظف امكانياتي كويس جدًا لده! بس تعرفي؟

 

أنهى ما تبقى بفنجانه واحتدمت ملامحه بالجدية والثبات وهو يُفكر في كلماته مليًا حيث ستبدأ المواجهة من هذه النقطة تحديدًا فاستنشق أنفاس متعددة من غليونه بينما يلمح عدم استطاعتها في الثبات وهي توشك في أي لحظة على الانهيار وستسقط قدمها لا محالة وأخيرًا تابع كلماته:

-       أنا مبتبرمجش يا قطة، مبتصلحش، محدش بيمشيني زي ما هو عايز.. حتى القانون اللي بيحكمنا كلنا أنا مبمشيش على كلامه..

 

قلب شفتيه ثم مدد ذراعيه يمينًا ويسارًا على مسندي الكُرسي وارتفعت سبابته لتعبث أسفل شفتاه ثم همس بتساؤل أرعبها:

-       هنعمل ايه بقا في الموضوع ده؟

 

صمت عجيب لا يتخلله سوى صوت الغاز الذي يغذي النيران أسفلها، وعُزلة مع الرجل الذي عشقته يومًا وعلى يده تتذوق أنواع عذاب شتى أنهكت روحها، ونظرات لا تدري تصيبها بخيبة الأمل والإحباط والحزن لأنها عشقته يومًا، أم تصيبها بالخوف والفزع جراء هذا العذاب المؤلم الذي لا ينتهي منذ أكثر من شهر بأكمله عندما بدأ بتجاهلها، أو ربما تصيبها بالشتات لتتراجع عن خطتها التي تجعلها تقبل كل ما تمر به على يده، أم الشتات!! شتات يتبعه شتات منذ أن عرفته وصولًا لتلك النار التي ستحرقها لو فقط تنازلت وأخفضت من قدمها!

 

-       أنتي بتبرمجي وتحطي قواعد وشاطرة في ده.. أنا بقا بجيب القواعد وببرمج بردو بس بقواعدي أنا مش بقواعد وقوانين المفروض واللازم، احنا شبه بعض أوي، أنا مصمم إني أقبل باللي شايفه صح، وانتِ مصممة تصلحيني وتمشيني على القواعد الصح من وجهة نظرك.. الحل إيه؟

 

فلسفة ماهرة، يُحدث عقلها من جديد بمقدرة رائعة أن يدفع رأسها للتفكير في سفسطة عقله الخرب، منطقيًا كلماته صحيحة، لا يُمكنها سوى أن تقتنع بهذا، إنما بعد ما رأته واختبرته بنفسها معه وعلى يديه تدرك أن جنونه ومنطقه الذي بُني على باطل لا يمكنها سوى أن ينهار في عينيها، لأنها وببساطة طفح بها الكيل من كلماته الخبيثة التي لا تُفيد!

 

-       أنا مفياش عيب عشان يتصلح، وأنتِ مصممة بكل الطُرق إنك تصلحيني.. لا أنا هاقبل ده، ولا هاقبل سِت تمشيني.. الحل إيه؟

 

أزعجه بشدة نفاذ تبغ غليونه، فنهض لإعادة تعبئته، أشعله كما يُشعل رأسها وكامل حواسها بالإجبار المستتر على الاستجابة لقواعده، استنشق مرة أخرى مُفكرًا بما سيقوله لاحقًا، لقد اضطرم تبغه وأصبح مفعمًا باللهيب، ينقصه فقط عاشقًا لتنفس السموم ليلتهمه بأكمله.. تمامًا كما ينقصها أن تخضع له! لن يقبل سوى بهذا!

 

استدار مواجهًا لها من على مسافة وهو يُلاحظ وتيرة أنفاسها المتصاعدة فزعًا وجسدها بأكمله قارب على الانهيار الوشيك ثم تكلم وكأنما لديه وقت لا ينتهي، كأنه على يقين أنها لن تذهب وتتركه يومًا ليغرق بأعماق عقله الفاسد وشخصيته المضطربة ثم قال بنبرة راوية بحتة:

-       تعرفي.. اليومين دول رجعت اقرا رواية بحبها أوي.. اترجمتلي مخصوص لأن النسخة المترجمة اللي اتنشرت قانونًا مش موضحة الحقيقة، وأنا بتضايق أوي فوق ما تتصوري من الكدب والضحك على العقول، لو هحب حد أو حاجة أحبها كلها، زي ما هي، بس أهم من كل ده إنها لازم تناسبني في محتواها، ترضيني ولو بجزء منها، وتتوافق مع أغلب أفكاري.. ومعنديش أي مُشكلة إني اختلف في الرأي مع الكاتب، بس في النهاية يسيب لعقلي اللي يرضيه ويقنعه ويحسسني إني بعد كلامه المكتوب لمس جوايا حتة معينة، حتى لو متفقناش في كل حاجة! بس هرجع وأقولك إنه في النهاية كلام، وماليش علاقة بالكاتب غير إني أحكم على كلامه من وجهة نظري البحتة! تعالي احكيهالك..

 

يقص عليها رواية، بهذا الوقت وهي تقارب على الاحتراق، هل يُعذبها بأفكاره المتعفنة أم يؤلمها بمجرد كلمات وأمر تافه تعرف مليًا في البداية أنه سهل وقابل التحقيق ولكن مع الوقت تكتشف كم هو صعبًا أن يحدث ويستمر، كعلاقتها معه تمامًا.. لو سألها أحد لا يملك عقلًا هل يُمكنك الوقوف لبعض الوقت على قدم واحدة فوق نار مستعرة أسفلك وصفيح ساخن دون أن تمسيها؟ ستكون اجابتها بنعم، تصورها المحدود والعفوي لن يجيب سوى بهذا!

 

ولكن لو سألها أحد موضحًا لها التفاصيل المؤلمة، هل يُمكنك أن تتحملين التقييد، وتستمرين بالوقوف بثبات وصلابة على ساق وحيدة، لما يزيد فوق الساعة بأكملها، وأنتِ لا ترتدي شيئًا كما ولدتك أمك، وهناك صفيح ساخن أسفل قدمك التي لو فكرتِ بالوقوف عليها لتدعم وزنك وتُريح جسدك الذي مزقه الألم في قفص حديدي لمدة عشرة أيام متوالية وكل ما يُسمح لك أن تتحركين على أربع، ستصرخ به حتمًا وستترك السائل وهي تُعطيه نظرة استحقار ثم ستتجنب معرفة هذا الشخص لمجرد سؤال انبعث من أفكاره المريضة..

 

ها هما، جسدها يُمثل علاقتهما ببعضهما البعض، والساق الوحيدة التي ظنت أنها ستتحمل هي العشق والانجذاب فيما بينهما ونظرتها السطحية لتقبله هو نفسه كزوج لها، الحبال التي تؤلم رسغيها هي قواعده اللعينة وأفكاره المتعفنة، والصفيح الساخن الذي سيحرقها عاجلًا أم آجلًا لو فقدت المقدرة على التحمل في جزء من الثانية هو كل ما سيصيب جسدها بالاحتراق الوشيك كما تُحرق روحها ويتلظى عقلها بكثرة المحاولات، أمّا عن السائل فها هو مستمتع أسفل عيناها المقهورتان بغضب الجحيم، ولكنه سائل خبيث، لم يُعطها كامل التفاصيل بسؤاله، موقف وحيد فقط لا يُمثل لها سوى علاقة مدمرة مستهلكة لكيانها بأكمله حتى قاربت على الاحتراق!

 

-       الرواية بتحكي عن واحدة، كان قدمها ساعتها طريقين عشان تاخدهم.. يا طريق شمال، يا إما تحافظ على نفسها.. وفي اخر القرن التمنتاشر بمملكة أوروبية كان كله شمال.. واحدة معهاش فلوس، معهاش ورث، مش متجوزة، لسه صغيرة، الحل عشان تعيش إنها تبقى شمال! والكل نصحها بده..

 

تنهد بعمق ثم تابع:

-       أنا رافض فكرة إن الجسم يبقى مستهلك بالمنظر ده، وكل واحد ياخد منها حتة، سواء هي رافضة أو قابلة، بس الفكرة مش في الفعل، الفكرة في اللي الرواية بتحاول توصله!

 

قلب شفتيه واستغرق في التفكير الفلسفي البحت ثم أكمل بينما هي توشك على الانهيار في أي وقت الآن:

-       قابلها رجالة كتير في رحلتها، هي مصممة تكمل بدماغها، وكل اللي شافها في مجتمع مليان حرامية وقطاع طُرق وطبقة الدين بالنسبالها ولا حاجة، بيستحلو القـ تل والجنـ س والشُرب، قالولها إنهم عايزنها، سواء بالفعل والتحرش، أو بمجرد الطلب والكلام!! وهي بردو فضلت مصممة على اللي هي عايزاه، إنها تحافظ على نفسها في طبقة معدومة تحت خط الصفر، الست فيها بتبيع نفسها عشان تاكل!

 

ارتكن بمقلتيه لأحد أركان الغرفة وأردف بالمزيد وهو يستغرق بالتفاصيل التي حفظها عن ظهر قلب فيما يخص هذه الرواية أمّا عنها فلقد أدركت أن المزيد من تحملها لن يوصلها لأي طريق سوى تضرر قدمها التي لا تستطيع تحمل رفعها بثبات أكثر من هذا:

-       لغاية ما واحد قابلها، واطمنتله، وقالت هو ده اللي اديله الأمان عشان بس يوفرلها مكان يحميها غير الشارع والفقر ويديها آخر اليوم أكل تاكله.. وفجأة غدر بيها وبتصحى تلاقي نفسها مش زي ما كانت.. نام معاها ورماها، يعني لا منها اتمتعت بالفعل نفسه، ولا منها سمعت كلام كل اللي عرض عليها الطريق الشمال، ولا منها اقتنعت إن هي دي الطريقة الوحيدة اللي تضمنلها مجرد وجبة رخيصة، وفي النهاية، حصل عكس كل اللي هي عايزاه!

 

رطب شفتاه ثم التهم أنفاس مؤذية، ونفثها من شفتين لا تتفوها سوى بالهراء الخالص وتابع مُكملًا:

-       الوقت كان وحش اوي ساعتها، ثورة، مع وضد، الشعب بيثور على النظام الملكي، الشعب عايز يكمل في الليبرالية، غني وفقير ومفيش وسط، الغني رافض وعايز المملكة اللي هتضمنله يفضل عايش زي ما هو، والفقير فاكر إنه هيضمن حقه بالتفكير المتحرر، الدين بيتحارب، طبقة كافرة شايفة إن الدين ده جهل وخوف، وإن وجود إله مستحيل، أو شايفينه ظالم، والغني اللي بيروح الكنيسة مستخبي ورا إيمان مُزيف عشان يقولوا عليه إنه راجل مؤمن ولكن الحقيقة إن كفره أشد من كُفر الفقير.. ووقتها الست اللي معهاش ورث بتبقى حاجة من اتنين في الوقت ده، يا خدامة بلقمتها، يا شمال، ومكنش فيه اللي بتتجوز غير اللي معاها ورث.. الوقت كان صعب اوي.. السجون مليانة وفيه اللي بيهرب، وهي كانت فاكرة إن رأيها صح، وإن الدنيا أمان، دينها كان بيحركها إنه هينجيها من كل حاجة، وذكائها كان محدود عشان صغيرة ومشافتش الحياة صح، أنا مؤمن إن ربنا موجود، ومؤمن إن المواقف مش شبه بعض، مؤمن بالدين وبصدقه، إنما الإنسان الغبي والمحدود هو اللي بيفتكر إن عدالة السما هتحميه، والدين بس هو اللي بيحميه.. مع إن الدين نفسه هو اللي صرحلنا بحاجات كتيرة في مواقف الأزمات.. لو الإنسان هيموت مسموحله يشرب بق خمرة لو مفيش غيرها، ويصلي في الحرب وهو مستعد يحارب، وياكل من لحم الخنزير لو مفيش غيره في صحرا مع إنه حرام عشان يقدر يكمل ويعيش، صرحلنا نقتل دفاع عن النفس، وعن الشرف، وحتى سن حدود لكل أذى.. الدين مش جهل ولا خوف، الدين الصح مبيجبرش الإنسان يكون غبي.. الدين هو قانون، شريعة سماوية بتحلل وبتحرم، بس بطلة الرواية كانت غبية!!

 

هل يتحدث عن الدين الآن؟ فلسفة وأديان ونظرة الإنسان وإيمانه بالشرائع السماوية؟ ما الذي يجري بعقله الفاسد وهي هنا توشك على الاحتراق؟!

 

امتلئ زهو بداخله وهو يقتنع بكل ما يقوله، والتهم ادخنته، وفكر بالمزيد، ومجرد رؤيتها ستنهار تذيب قلبه راحة وسعادة حتى سار يضخ دماء الابتهاج بعروقه، ولم يمنعه كل هذا عن قول المزيد:

-       كانت ممكن تفرط ولو بجزء صغير من نفسها، أو تعيش بلقمتها، أو عشان مكونش كداب هي حاولت تعيش بلقمتها واتسجنت لما اتهمها صاحب البيت بالسرقة، كانت ممكن تلاقي الطريقة إنها تسمع الكلام وتاخد الطريق الشمال عشان تعيش زي ما اختها عملت، الرواية دي دايمًا بتشغل دماغي اوي، كل الظروف حواليها تقول إنها لازم تاخد الطريق الغلط – من وجهة نظرها طبعا – والكاتب معندوش حيادية لأنه كان مُلحد وأنا ضد ده تمامًا، أنا غيرهم، شايف إن البطلة غبية، وهو كافر ومصمم يقول إن السبب في كل اللي حصلها هو الدين، وأنا مش شايف إن حد فيهم صح.. شايف إنها كانت ممكن تعمل حاجات كتيرة لو شغلت عقلها، كانت تشتغل في الدعا رة بشكل مستخبي، متبيعش نفسها وتبيع غيرها، تحاول تلاقي حل وسط.. بس الأسوأ من الكُفر والإلحاد هو الغباء.. ومفيش أي شريعة في الدنيا بتقول للإنسان يكون غبي!

 

تفقد حالتها المزرية التي ستنهار في أي وقت الآن ليجدها تُصيح وهي تبكي متوسلة:

-       أرجوك، مش قاردة استحمل أكتر من كده.. رجليا مش قادرة ارفعها، كفاية.. كفاية ومش هضايقك في أي حاجة تاني..

 

همهم وهو يُفكر بجدية تجاه ترهاته وتابع متجاهلًا معاناتها التي تثلج قلبه بالنيران التي أوشكت على مس قدمها:

-       كانت ممكن تخدع، تقنع، تستنجد بأختها وتدور عليها في البيوت المشبوهة وتعيش ليها خدامة وتتحامى فيها بدل ما هي بنفسها تبقى زيها.. تحارب، تتعلم تبقى قوية، تدافع عن نفسها، بس هي غبية أوي! غبية بجد! مبتعرفش تتصرف، متعودة إن عدالة السماء موجودة من غير ما تتحرك هي وتشغل عقلها اللي ربنا اداه ليها، أيوة أنا معاها إن فيه ظُلم والناس وقتها كانت بتاكل في بعض حرفيًا، بس الغباء أسوأ من أي حاجة!

 

لم يُمكنها التحمل أكثر وسقطت قدمها لتصرخ مجهشه ببكاء شديد ومست تلك النيران بشدة وحاولت أن تبتعد عنها بشتى الطرق ولكنها لم تستطع من شدة السخونة فصاحت بين بُكائها:

-       عايز ايه تاني، كفاية، أنت بجد وصلت بيك المرحلة إنك تعمل فيا كده

 

حاولت أن ترفع قدمها المرتجفة من جديد وهي تبكي آلمًا لينهض ووقف أمامها ثم نفث دخانه وأكمل كلماته:

-       عارفة ايه الشبه بينك وبينها، أنتِ يا قطة أغبى منها، وبكل اللي عندك فأنتِ قدامي ولا حاجة، ومفيش حل غير إنك هتقبلي باللي بقوله، مش بقولك تكوني شمال، ولا أصلًا فارق معايا الراوي عايز البطلة تعمل ايه، اللي فارق معايا إن الإنسان اتحط في موقف، يا يقبل يا يُرفض ويستحمل اللي هيحصله.. ما دام هو غبي ومش لاقي حل للي هو فيه.. زيك بالظبط!!

 

حدقته بغلٍ هائل وهي تنظر لها بقهرٍ لم يغب عنه غضبها ووقف هو مستكينًا بنظراتٍ متشفية لم تعد تقبلها، يُريد أن يجد عقلها حل حتى تُخلص نفسها مما هي فيه، أن تقبل الألم ما دام هو الحل الوحيد لتُنهي ألم أكبر وأقوى وأشد، الألم هو الحل الوحيد كي تتخلص مما يفعله بها!

 

لُعبة عقلية، كان يُمكنها بمنتهى البساطة أن تتخلص منها منذ البداية قبل أن يصبح هذا الصفيح ساخن لدرجة تؤلمها، ولكنها ليست بهذا الذكاء لأن؛ وبسبب الظروف المحيطة، كثقته التي تطغى عليه، الترهيب واغواء نفسها بأنها تُعذب، لقد صدق عقلها بالفعل أنه لا مفر، لقد كبل وقيد يديها وليس قدميها، ولكن بعد أن لمست ألم الاحتراق مرة، سيُمكنها الآن أن تواجهه مرة أخرى..

 

النفس التي تُجرب الهوى مرة، والجسد الذي يعتاد على الألم، والروح المُهانة، رويدًا رويدًا تحت ظروف مُعينة ستخضع بالنهاية! حتى ولو للحظة حاولت التخلص من العذاب كما تفعل هي الآن!

 

قامت بدفع المنضدة الساخنة المعدنية بقدمها المُرتعشة وهي تتحامل على شدة الحرارة التي ستصيبها بالطبع بالألم ولكنه ألم وقتي وسرعان ما تبعتها بأسطوانة الغاز بقوة شديدة، دفعت كل ما أسفل قدمها باتجاهه وهي تنظر له متهدجة الأنفاس بانتصار وروحها المتحررة بداخلها تأبي الخضوع والانصياع، ولكن إلى الآن لقد تقبلت ألم وقتي.. لعدة لحظات.. لقد استجاب عقلها بالكامل أن تتألم ولو فترة وجيزة من الوقت..

 

ابتسم بمنتهى الزهو ثم حدثها بهدوء مُستفز لم يتناسب مع حالتها الباكية وهي تسارع أنفاسها من ألم الاحتراق:

-       ما كان من الأول يا قطتي.. لازم نوصل للدرجة الوحشة دي عشان تتصرفي وتلاقي حل.. بعد ما وقفتي كل ده في الآخر استحملتي وجع بسيط عشان تخلصي من وجع أكبر! عرفتي إنك غبية؟!

--

أزال الأسطوانة وقام بإغلاق النار بها قبل أن تقوم بحرق الغرفة بأكملها وانتظر حتى بردت تلك المنضدة المعدنية وقام بإعادة كل شيء إلى مكانه، وأعطى لأنفاسها فرصة كذلك كي تهدأ قليلًا كي يكون التالي قاعدة وقانون فيما بينهما، لتقبلها أو لتتقبلها، أو تخضع وتنصاع، أو ربما عليها أن تفعل.. هذه كلها اختيارات متاحة أمامها لتختار من بينها لم يعد لديها خيار آخر!

 

هو في مزاج معتدل، ثابت، لا يتضح به اضطراب ثنائي القطب، لا يُعاني من الهوس ولا من الاكتئاب، هذا هو الرجل الذي تزوجته، سادي الطباع، سادي التفكير، يُحب أن يُعذب من أمامه، وألم من أمامه يدخل السرور على قلبه ويُرضيه ويشعر بسببه براحة طاغية، هو مصاب باضطراب الشخصية السادية المترسخ بداخل أفكار طفل صغير تعلم أن وظهره يُجرح أن في الألم مُتعة، وأن القوي هو من يؤلم، ها هو في قمة اعتداله وعدم تأثير أي اعراض من مرضه العقلي، هو يتصرف بمنطق مؤذي، ومؤلم؛ وسادي لأنه قد اختار منذ أكثر من عشرين عام بعقله الباطن بعد ما اختبره بنفسه أن يكون قوي، كما الفتى الذي اذاه، وكما والده.. والقوي دائمًا وأبدًا يستمتع بألم الغير!! وهذا بالطبع من وجهة نظره المضطربة الخاطئة!!

 

تنهد وتوقف عن تدخين غليونه، التجربة خير دليل، ومن خاض التجربة بنفسه يختلف رأيه كثيرًا عن الذي لم يُجرب.. ولقد جربت واختبرت وتألمت، فما الحل والنهاية والدرس المستفاد من تلقينه لها؟

 

-       نرجع لموضوعنا ونسبنا خالص من الرواية، بس هقولك حاجة، بغض النظر عن إنك غبية وشبهها إلا إنك في النهاية بتستوعبي.. يمكن بالطريقة الصعبة.. تعالي اقولك نفس اللي كتب الرواية قال ايه، قال إن مينفعش روح حُرة يتمارس عليها فعل التملُك! وانتِ حُرة!

 

ابتلعت من تلك الكلمات وهي ترمقه عاد لكُرسيه الذي أحضره ليُصبح أمامها مباشرة، يا له من جبان ويا لتأخر عقلها في الادراك، لو كانت دفعت المنضدة واسطوانة الغاز بوجهه لكان تضرر بشدة، غبية، ما زال يُدهشها بنوع من أنواع الخداع وخُبث لا يُضاهى.. لا يُمكنها أن تتقبل أي كلمات منه الآن، فهو يُطري عليها بقول إنها حُرة، ولكنها لن تستجيب لرجل لئيم مثله!

 

تفقدها بزوج من الفحم الذي توسط عيناه الكاشفة للحقيقة دائمًا والتي تفهم من أمامها بمهارة، وكأنه جهاز كاشف للكذب، وهي تعلم أن ليس هناك مفر منه، خاصة الآن، وليس هناك ما يؤثر عليه كنوبة أو أعراض عقلية!!

 

-       بنوتة حلوة، بتلبس اللي بتحبه، تكلم اللي تحبه، بنت بابي، متدلعة، بتزعق لرجالة.. حُرة، مجربتش انها تكون محبوسة في قفص لأيام، ولا جربت إن الأكل يبقى بالحساب وكل حاجة بمواعيد، أنتِ طول عمرك وحياتك حُرة.. لدرجة إنك كنتِ حرة في اختيارك لمستقبلك العملي!

 

لوهلة احتدمت نظرته التي لم تكن واضحة ومستترة، بالكاد استطاعت فهمها، فهو أمام نفسه يشعر بالانتقاص، لم يملك أن يفعل مثلها بيوم من الأيام وهو طفل صغير، يكره القانون بشدة وتحمله، ولكن هذا الأمر من الماضي ولقد اختلف كل شيء على كل حال!!

 

-       وأنا راجل حُر، مفيش حد يختارلي، ولا يمشيني، ولا بقبل قوانين غيري.. بس بيني وبينك حصلت حاجة لا أنا ولا أنتِ كنا عارفين إنها هتحصل.. ومش معنى إني هعترفلك بده قدامك إنه يخليني ضعيف، بالعكس، ده هيوريكي الصورة الكاملة!! أنا حبيتك.. وجودك نفسه في حياتي بقا أمر مستحيل اغيره تحت أي ظرف من الظروف، فدلوقتي لازم حل من اتنين، يا اكسرك واجبرك غصب عنك تبقي زي ما أنا عايز، يا اشوف قواعدك عاملة ازاي عشان نكمل وتكملي في حياتي

 

هل يتحدث عن عشقه لها؟! لديها الاستعداد أن تضحك وتضحك وتقهقه حتى تبكي وتبكي إلى أن تفنى الأرض ومن عليها، أو تهلك هي نفسها.. يتلاعب بالعشق الآن وفي هذه اللحظة حتى يُبرر لها عذابها، يا له من محتال مجنون!

 

التقت اعينهما، الباكية بالأخرى التي تبعث الخوف في النفوس، هناك شبح للعشق، أو أثر طفيف، أثر مُعاتب لعلاقة تدمرت بالكامل، ولكنها لم تعد تفيد بعد الدمار!

 

-       سيبتك براحتك، اتفقنا إن مفيش أي حاجة من اللي انتِ مش عايزاه، وحصل والتزمت بقوانينك.. في كل حاجة كنت مبقولكيش لأ، وتبقي كدابة ومعنديش أي مانع اموتك لو بس قولتي اننا مكناش متفقين ومبسوطين وكل واحد فينا حس بالحب ده! نسيتي ولا تحبي نعيد تفاصيل ملهاش لازمة؟!

 

رمقته وكلماته بها أمر لا تستطيع انكاره، نعم كلاهما اختبرا لذة لا تضاهى بالعشق قبل أن تكتشف أمر حبيبته السابقة وتشابه ملامحها معها، ولكن ما بُني على باطل فهو باطل، حتى ولو كان يبعث مشاعر لا يُضاهيها أمر بالحياة!

 

-       ردي عليا!!

 

صراخه بنبرته الرجولية التي انبعثت حولهما في فراغ هذه الغرفة الشاسعة جعلت جسدها ينتفض وهو يلمحها بهذا الغضب لترضخ ثم همست بإجابة لا تعرف هي كاذبة بها أم مُحقة:

-       فاكرة.. كلامك صح!

 

هبطت بعض من دموعها وهي تشعر بالرعب، القفصين والمعاملة غير الآدمية وما فعله بها منذ قليل لم يتركا بنفسها سوى ضرورة الرضوخ – المؤقت – لم يعد لديها حل آخر أمامه حتى لا يُقابلها بالمزيد من الأمور المُفزعة ووقتها ستفقد عقلها وستبدأ بالتصرف مثله وهو غير واعي وانتظرت حتى عاد لهدوئه واكماله لترهاته:

-       إنك شبهها روحك نفسها مقبلتش تكوني بديل، إنك تكوني نسخة تانية لحد أنا عرفته، كل دي افكارك وتوجهاتك.. فالحل من وجهة نظرك بعد كل اللي صدعتيني بيه من التفاهم والنقاش والاحترام إنك تروحي تخلعيني.. مش انتِ بتفكري كده، ولا كلامي غلط؟

 

عينيه اكتفت بالتحذير دون أن يُرهق نفسه بالغضب والصراخ، وهي كانت على قدر من الذكاء أن تُجيبه بهدوء ومصداقية هامسة بصحبة دموعها ورافقها سؤاله الذي أعاد ذكريات تمنت لو أنها كانت استمرت للأبد:

-       أنا فكرت في الانفصال عشان خوفي من إنك تكون بتكدب في كل حاجة وخبي عليا حاجات كتير!

 

تفحصها لوهلة، وبداخله شعر بالألم المساوي لنفس مقدار غضبه، أما عن ملامحه فهي ثابتة بتشفي لا يتغير، لديه البراعة في الأمر، ولكن أن تطيح بكل ما تركه بين يديها من تاريخ مظلم وهو يعبر عن ضعفه بكلمات صاغها بصعوبة لتقرأها المرأة التي تعشقه، يا لها من حقيرة، عاصية، ناكرة لكل معاني العشق، سيطيح بكيانها هو الآخر، القليل من الصبر بعد وسينتهي من هذا العقل المسموم ليبدله بالكامل بآخر جديد لا يترسخ به سوى قوانينه هو!

 

أطلق تأتأة مفادها عدم الموافقة على ما تقوله وأخبرها دون اهتمام:

-       أنا اصلًا مش هقولك وواريكي أدلة تنفي كلامك، بصراحة مش فارق معايا.. اللي فارق معايا دلوقتي هو الحل.. الحل اللي هيخلينا نعيش في اتفاق، لأن فكرة الانفصال مش مقبولة بالنسبالي.. وافكارك جربناها وفشلت.. وانتِ لسه اهو مجربة، الحل في منتهى البساطة.. وبنفسك هتجاوبيني بعد ما مر علينا كل التجارب..

 

 

نهض ووقف خلف الكُرسي واستند عليه وهو يحدق بها ولقد آتى وقت الأسئلة الهامة التي يريد سماع اجابتها عليها:

-       بعد ما جربتي الاقفاص، والمواعيد، والحر، والأكل اللي بحساب، والوجع، والذل وأنا بهينك.. وبعدين خرجتِ لسرير وأكل وهدوم وراحة وحياة إنسانة، تختاري ايه فيهم؟

 

ابتلعت وتوقفت عن البكاء وهي تلمحه بملامح أنهكها الخوف والريبة، فهي يستحيل أن تثق به، ولكن صوت المنطق الباعث لخطة فرارها منه للأبد تقول بأن تذعن ولو لحظيًا لما يُريد:

-       التانية.. بعد ما خرجت..

 

أومأ برأسه في تفهم وقال مُعقبًا:

-       حلو.. حلو أوي..

 

ضيق عينيه بعد أن تريث لبُرهة ثم سألها مرة ثانية:

-       وبعد كل الوجع اللي حستيه والنار تحت رجليكي، اتصرفتي ازاي؟ وعملتي ايه وكنتي حاسة بإيه وانتِ بتعملي ده وليه اتصرفتي كده؟!

 

ملامحه المنتظرة لإجابة منها شافية عليه كان لابد من أن تتنازل أمامها ولم تستطع أن تواجه اتساع عينيها توجسًا مما قد يفعله بها فأجابته:

-       زقيتها برجليا، وحسيت بوجع النار، والخوف من إني هلمس النار تاني.. فاتصرفت إني استحمل شوية، واحاول مخافش، والوجع البسيط أحسن ما الوجع يفضل مكمل

 

وكأنه وجد ضالته التي كان ينشدها منذ أن توقف عن الحديث معها، بل منذ أن تزوجها.. لقد اقترب للغاية من ايمانها بالأمر، لذا كان عليه الطرق على عقلها وهو يتأجج بانصياعها ورضوخها ومصداقيتها التي يلاحظها بنبرتها بمنتهى الوضوح:

-       هايل جدًا.. يعني اننا نستحمل الوجع ونتغلب على خوفنا شوية، هيريحنا قدام من حاجات كتير.. برافو.. فهمتيني كويس يا قطة!!

 

عاد من جديد ليجلس بغروره الذي لمسته به منذ أول وهلة لها بهذه الغرفة وهيمنته تطغى على كل حركة بملامحها وتحركاته لتبتلع خائفة، فهو نجح أن يُذيب عقلها بالفعل، ولولا أنها كان لديها بعض الاستعداد لما هي مُقبلة عليه ولغايتها في التوصل لحل نهائي يُمكنها من الفرار منه، لم تكن لتستطيع الصمود أبدًا، لو حدث هذا منذ البداية لكانت انهارت أو رضخت له!

 

-       إنك تستحملي الوجع، سواء في نفسيتك أو في جسمك، وأنك تتغلبي على خوفك معايا، هو ده الحل.. دي هتكون حياتنا.. لأن جربنا بأسلوبك ومنفعش.. نجرب بقا المرادي بأسلوبي أنا.. وهو ده اللي هينفع.. إنك تفضلي حرة ده مش حل، لازم تفهمي كويس أوي إن أنا بمجرد وجدي في حياتك يخليكي مش حرة في حاجات كتيرة، زي ما أنا كمان مش حر!

 

حكم وقرار مختلطة بترهات تفزعها، ما الذي يريد الوصول له حقًا؟ ولماذا يرمقها الآن بنظراتٍ راغبة تمتزج بأخرى تصيب نفسها بالرعب؟

 

-       أي راجل في الدنيا بيقا جوا نفسيته إنه يجرب، إنه يمل ويزهق، احنا طماعين بطبعنا، لكن انتو غيرنا.. عمر ما الست بتفهم احتياج الراجل لواحدة واتنين وعشرة.. وأنا بمنتهى السهولة كنت ممكن اموتك في اليوم ألف مرة لو بس فكرت في علاقة مع واحدة ست تانية.. عايزك تفهمي كلامي وهديكي كده دقيقتين تتخيلي إني متجوز عليكي، أو وصلت لطريق علاقات جسدية وأنا متجوزك.. حاولي تتخيلي وتشغلي دماغك شوية، انتِ ست متجوزة واحد المفروض فيه ما بينهم حب، صحيتي في يوم عرفتي انه بيخونك، أو عرف عليكي واحدة، أو اتجوزت وشرعًا وقانونًا ده حقي.. غير إن قسيمة الجواز مفيهاش شرط بتبليغك بالجوازة التانية.. وقانونًا هعرف اتصرف لو فيه ألف قانون بيمنع ده، ده لو فيه فعلًا، وشرعًا سهل اوي وبسيط إني اعمل اشهار بجوازتي التانية وبموافقة كل أهلها، حتى لو قانونًا مش مُثبت على الورق.. وصدقيني ألف من تتمنى راجل زيي!!

 

ابتسم نصف ابتسامة مغترًا بنفسه ثم تكلم آمرًا اياها بنبرة مُحذرة:

-       غمضي عينك وتخيلي.. وردي عليا!

 

 

تفقدته بحسرة شديدة، ثم فعلت ما أمر به بمنتهى القهر، أكان هذا ليُرضيه؟ لا بالطبع، كان عليه أن يعبث بعقلها أكثر، وبجسدها، وبتذكيرها بمن الذي ينص القوانين الآن، ومن يملك زمام الأمور، ومن القائد ومن التابع في هذه العلاقة التي على ما يبدو لن يُنهيها إلا بمقتلها أو برضوخها!

 

تحرك بمنتهى الهدوء واتجه ليقف خلفها وهي ما زالت مُقيدة بهذا المجسم الخشبي، يتفحص منها ما يجعله يشعر بالاختناق بمنتصفه الأسفل وكأن ملابسه فجأة أصبحت لا تناسبه وتسبب له شعور مُزعج بالضيق، ولو كانت في الجحيم جثة هامدو محترقة، لن تتوقف عن اصابته بالإثارة وكأنه لعبة بين يديها!!

 

اقترب قليلًا منها، واندفعت الدماء تغلي بعروقه بضرورة أن يتملكها بكل الطرق الممكنة عاجلًا أم آجلًا، بالرغم من كل ما يفعله ولكن ما زال يشتهيها، وكونها الآن لا تستطيع سوى أن تفكر ألف مرة قبل التفوه بحرف من كلماتها تجعله يود أن يحصل عليها في هذه الهيئة أكثر من أي شيء بالحياة!

 

تملك لحظة فاصلة استطاع أن يُسيطر بها على نفسه من خلالها وهو ينظم أنفاسه حتى شعر ببعض الهدوء وعادت ملابسه تتلاءم في قياسها من جديد، فاقترب مرة ثانية ثم همس بالقرب من أذنها:

-       جوزك يعرف واحدة تانية، لا أحلى منك، ولا أغنى منك، إنما عرفها عشان عايز يعرفها وخلاص.. هيلاقي منها حاجة مش هيلاقيها فيكي.. ايه رأيك في الكلام ده؟

 

يؤثر عليها بكلماته، ويتأثر هو باقترابه منها بهذه الطريقة وهو يرى كل ما يبتغيه بها، شهر لعين كان عليه أن يُقضيه دون الاقتراب منها.. هي تعرف تأثير الأمر الأول عليها ولقد تعلمت ما يفعله، بينما تأثير الأمر الثاني لم يخطر على بالها في مثل هذا العذاب الذي تمر به!

 

لو كان استمر للحظة أخرى من جديد لكان انهار، كان عليه أن يبتعد ويصرف نظره قبل أن يلتهمها ولا يبقى بجسدها المقدرة على التحرك لأيام، لذا ابتعد، تصنع فعل شيء بعبثه ببعض الأدوات ليُرهبها وهي لا تدري ما الذي يصنعه وليس لديها أي فكرة عن أي أداة قد يستخدمها عليها.. ولكنه في الحقيقة كان يُحضر ما يُخفي به عينيها.. لن تفر اليوم دون أن يجعلها تبكي من مجرد عدة كلمات، دون إهانة، ودون عنف، ودون أي أمر يُرهبها، بل على النقيض تمامًا سيجعلها تتمنى عودة بعض الذكريات بينهما إلى أن تتوقف عن عنادها وترضخ لما يُريده هو!

 

احضر كذلك عصا رفيعة تتصل ببعض الفراء الناعم للغاية، وأحضر مجرد سلسلة تستخدم للأطواق كي تستمع للصوت وتفزع إن فقط خرجت الأمور عن زمام يده!

 

عاد من جديد وهو يضع عصابة فوق عينيها مخملية ثم عاد من جديد ليقف خلفها تمامًا وتفقد منها المزيد بهذا الشعر المسترسل على جسدها الفاتن الذي يحرضه على التنازل التام ومعانقتها ثم تعويض كل تلك الأيام الماضية بصحبتها في فراشٍ واحد..

 

-       لقيتي إجابة؟

 

همس بالقرب من اذنها وابتلع في صمت وأنفاسه تلقائيًا تتصاعد بينما ترددت هي في اجابتها عليه، وضعت الكثير من التخمينات.. وها هي القصة تُعاد من جديد.. شتات، لا تدري ما الصواب وما الخطأ معه، وغد لعين!!

 

حاولت أن تسيطر على ارتباكها واختارت إجابة مُحايدة وقلبها تتصاعد ضرباته فزعًا مما قد يفعله بها لو أن الإجابة كانت خاطئة:

-        اكيد هضايق..

همهم واقترب أكثر إليها حتى باتت تشعر وكأن أنفاسه على بعد سنتيمترًا واحدًا منها ثم حدثها بما لم تتخيله قط:

-       احكيلي يا قطتي عن وقت حلو ما بينا مش قادرة تنسيه!

 

أنفاسه المنعكسة على ملتقى عنقها بكتفها باتت تُربكها أكثر ليقشعر جسدها من مجرد تخيل ما قد يفعله بها الآن، آلاف من الحيل التي يملكها عقله المجنون وهي لا تعلم عنها شيئًا، وغابت تمامًا عن التفكير في أي شيء سوى ما قد يفعله بها، لقد ظنت أنها ستتحمل القليل بعد، وظنت أنها قد تستطيع الفرار منذ أيام ماضية بعد أن قررت أن تذهب لمنزله، ولكن ها هو يبعث بها الارتباك، الشتات، والخوف.. وكأن كل ما قضته معه من شهور لا تُفيد!

 

-       للدرجة دي مفيش أي وقت حلو قضيناه سوا؟

 

آتى تساؤله لينبهها من غفلتها ولكن بهمس تعرفه جيدًا، نبرته يصرخ بها الرغبة، هل هذا هو الوقت المناسب لعلاقة جسدية؟ هل انعدم شعوره إلى هذه الدرجة؟!

 

همهمت وهي تحاول أن تجد أي فترة جيدة سريعًا ولكنه شعر بالملل في نبرتها وكأنها فقط تريد أن تجيب السؤال وتنتهي ليس إلا:

-       لما عملنا الـ euro tour وسافرنا تاني مرة سوا في أول الجواز!

 

هل تظن أن الأمر هين، هو لا يُريد هذا، بل يريدها أن تبكي عشقًا من أجله، ولن يتوقف إلى أن يصل لما يريد ويحرز هدفه معها اليوم!

 

-       ايه اللي انتِ فاكراه؟

ابتلعت وهي تعاني من عدم رؤية شيء ثم استمعت لسلسلة خلفها ولم تتذكر سوى أنها كانت تُساق كالحيوان الأليف بصحبة اهاناته المتتالية لها لترتبك أكثر وتحدثت على عجالة والذعر يتضح بنبرتها:

-       كنت بتسمعني طول الوقت، وكنت هادي، وحسيت إننا في يوم ممكن نكون أسعد اتنين في الدنيا.. وكنا مبسوطين!

 

رطبت شفتيها ثم ابتلعت وهي تتذكر كل ما فعله بها بالأيام الماضية وما فعله منذ قليل ليتصلب جسدها في استعداد لصفعة أو جلدة أو ربما سيؤلمها بشيء ما، فهي تتذكر تلك العجلة المعدنية التي مررها على جسدها ذات يوم وهو يُعرفها على محتويات هذه الغرفة اللعينة واستطاع أن يستمع لأنفاسها المرعوبة ولكن هذا لم يكن ليكفيه فسألها بهمس صخبت به أنفاسه المتثاقلة بما يتفقده منها:

-       أي وقت بالظبط، يوم ايه، وكنا فين؟

 

ابتلعت وهي لا تدري ما الذي يقصده من كل هذا، هي لا تستطيع أن تفكر ولا تتذكر سوى وحشيته معها منذ أيام ومنذ قليل، لا تستطيع أن تُسلط تركيزها سوى على هذا، وكل ما تتذكره بالسابق هو غبائها وسذاجتها وكل ما فرطت به كفتاة لابد لها من أن تعلم كيف يكون لها علاقة سليمة منطقية مع زوج متفاهم، ولا تتذكر سوى أنها تزوجت من رجل سا دي مجنون!!

 

فجأة انتفض جسدها عندما تلمسها شيء مبالغ في نعومته وهو يمر من أسفل عنقها هبوطًا لظهرها وما يليه بحركات متأنية وحاولت أن تركز بما سأله ولكنها تشعر بالمزيد من الخوف، فلطالما تبع مثل هذه التصرفات أمر قاسي يؤلمها!

 

-       لما كنا في سلوفاكيا، قبل ما نرجع من السفر، في البيت ده اللي بعيد!

 

همهمت وهي تحاول ألا تتلعثم وتتمنى أنها اجابته بما يُريد بينما تلك التحركات على جسدها لم تعد تنبه عقلها إلا لما سيؤلمها به وهي تضرع بداخلها أنها ستستطيع الصمود أمام الألم الذي سيُلحقه بها وانزعجت للغاية من أجل أنها لا تستطيع الرؤية ولا تبين ما سيقع بها لتستمع لصوت السلسلة من جديد فانتفض قلبها يرجف بعنف حتى تيقنت أنه سيترك قفصها الصدري وسيغادر في أي لحظة الآن!

 

اقترب أكثر ثم قلب طرف العصا ليمررها بدلًا من الفراء فابتلعت في ذعر وهي لا تدري هل سيقوم حقًا باستخدامها أم لا وهمس متعجبًا:

-       احنا قعدنا هناك اكتر من يوم، ايه اللي فاكراه؟

 

تريث لجزء من الثانية ثم أضاف بمكر:

-       حصل حاجات كتيرة واحنا هناك.. فكريني كده..

 

وكي يُصاعد من ترهيب نفسها قام بما يشابه ضربها ولكن بمنتهى الخفة التي لن تؤلم طفل لم يبلغ بعد العامان من عمره ليجد صراخها انطلق فورًا وحركة جسدها تضطرب بشدة فسرعان ما قال:

-       ياه، للدرجة دي الضربة صعبة وبتوجع..

 

التقطت أنفاسها المضطربة وهي لا تعلم إلى أين يريد الوصول وهي كالضريرة التي فقدت بصرها لتتلعثم وهي تقول:

-       أنا، أنا، أنا آسفة!

 

بدأت عينيها في ذرف الدموع وهي تود الصراخ بداخلها أنها خائفة، مذعورة، قلبها سوف يتوقف عن العمل من كثرة ما يفعله وبمجرد سماعها لصوت السلسلة من جديد وجدت نفسها تبكي وتجيب سؤاله قبل أن يفعل بها شيء يؤلمها:

-       في اليوم اللي، اليوم بتاع الصبح، مش اول يوم، التاني اللي كنا فيه مع بعض لما..

 

ابتلعت وهي تحاول أن تصوغ جُملة وحيدة مفهومة بين خوفها وأسئلته التي لا تتخيل ما الذي قد يفعله لو قامت بإجابتها بشكل لا يُرضيه ثم أكملت بين بُكائها:

-       لما نزلت من الـ roof وكنت معايا، ونمنا مع بعض، كانت تقريبًا المرة الوحيدة اللي متكلمناش فيها، وكنت مبسوطة معاك.. وكنا بنهزر وبنضحك قبلها.. وبعدين فضلنا قاعدين جنب بعض، ولقيتك بتقرب مني.. أرجوك كفاية أنا مش قادرة استحمل، رجليا بقالي كتير واقفة وايديا وجعتني، ورجلي اتحرقت من النار.. كفاية.. هاعمل كل اللي أنت عايزه بس كفاية!

 

ما يبدر منها ليس بضعف ولا تقبل للإهانة ولا تجيبه لترضيه وحسب، بل الأمر الآن بات يتعلق بذكرى واحدة جعلتها لا تطيق صوت هذه السلسلة وهي تُجذب منها أسفل قدماه ثم تعلق من عنقها بفعلها لمدة ساعتين على مدار خمسة أيام متتالية، ولا تستطيع سوى تخيل نفسها كحيوان أليف بداخل هذا القفص وصوت تلك السلسلة اللعينة يتهاوى محدثًا صوت يقشعر له بدنها كلما تذكرته وهي تتلمس فتحات القفص!

 

-       بتعيطي ليه؟

 

ابتلعت من سؤاله ولم تتوقف عن بُكائها فهمست قائلة:

-       أنا تعبت، وموافقة اعمل أي حاجة، بس كفاية كده..

 

همهم متفهمًا وهمس بالقرب من أذنها ليجدها تحاول الابتعاد عن أنفاسه وانتفاضة تسري بجسدها ولكنه لم ينتظر وأخذ يطرق على عقلها:

-       مانا عارف إنك تعبتي.. بس لغاية دلوقتي أنا لسه ملمستكيش ولا ضربتك ولا عملت أي حاجة.. كل اللي عايزه هو رد على اسئلتي، احنا لسه بنتكلم.. وانتي واقفة مش أكتر، وايديكي متوجعتش ولا حاجة وشايفها كويسة اهي.. كمليلي بقا، حسيتي بإيه يومها؟

 

لعين وحقير ووغد وكل ما يُمكنها تصوره من سُباب وصفات بشعة تُناسب شخصية رجل مختل مثله، لماذا يصل بها الحد لهذه الدرجة من أجل أن تنفصل، لقد شرع الله الطلاق، وقانونًا يُمكنها الانفصال، لماذا لا يحقق لها ذلك، هل عشقه يسن أن تُعذب وتُنتهك عقلًا وروحًا وجسدًا بهذه الطريقة؟ ولو كان مهووسًا بها، ولو كان قلبها لا ينبض إلا لسواه ومن أجله، هي مستعدة لفقد حياتها على أن تواجه المزيد معه!!

 

حاولت السيطرة على بُكائها وجسدها يتشنج وهي تحاول أن تمنع نفسها عن البكاء لتُفكر في لعنة اسئلته التي لا تعني لها أي شيء منطقي، هو يُعذبه بالفعل فلم يسألها عن اوقاتهما الجيدة، أما عنه فلقد رأى ما الذي يُحدثه هذا الصوت كلما استمعت له فقال من جديد بنبرة نافذة للصبر لم تتخل عن همسه الراغب بها:

-       احكيلي حسيتي بإيه يومها، وبسرعة، مش هستنى كتير..

 

من جديد قام بتحريك تلك السلسلة فتحدثت بتوسل:

-       حاضر حاضر، أنا فاكرة.. حسيت إني مبسوطة ومش محتاجة أي حاجة تانية في الدنيا غير إني افضل جنبك! كان نفسي نفضل كده على طول..

 

حالتها المزرية ازدادت تشتتًا وهي تحاول أن تستجمع نفسها لينتفض جسدها بمجرد امرار هذا الشيء الناعم عليه فابتلعت وهي لا تدري إلى متى سيستمر عذابه لها ووجدته يتساءل باستمتاع غريب بنبرته الهامسة وكأنه رجل يمارس الحب وليس مجرد رجل لعين يقوم بانتهاك مقدرتها العقلية:

-       ممم، وامتى كمان كنتي مبسوطة معايا؟!

 

تعجبت عندما احست أنه يقف أمامها ولم يعد خلفها لينعقد لسانها لوهلة ولحسن حظها لم تر تلك النظرات التي تفترس مفاتنها فارتجفت شفتيها وهي تحاول التفكير في الوقت الجيد معه لعله ينتهي ويرضى اجابتها:

-       لما، اليوم بتاع العقد، لما نزلنا نفطر برا، كان يوم حلو..

 

وجدها بدأت تهدأ قليلًا فهمهم ثم عقب بسؤال جديد:

-       وامتى تاني؟

 

تنهدت وهي لا تدري إلى متى يود الذهاب بأسئلته العديدة ولم يأت على عقلها سوى تذكرها لتلك العشرة أيام التي اطنبت يومها بإجابتها فتقبلها فحاولت من جديد أن تجيبه إجابة نهائية شافية لأمراضه المتعددة ووافيه لأسئلته السخيفة التي لا تتناسب مع ما يفعله لها:

-       الفترة اللي كنا فيها، طول الشهر ده قبل ما تسافر، كانت أيام حلوة اوي، وكنت فاكرة إن عمرنا ما هنختلف على حاجة تاني، كنت مبسوطة معاك، وكنت اتأكدت إني حبيتك ومفيش أي حاجة تانية هتقدر تبعدنا عن بعض، لا مشاكل ولا نقاش، كنت افتكرت إنك فعلًا عمرك ما هتجبني الأوضة دي تاني، وثقت فيك وقولت يستحيل يعملها أبدًا، وعمره ما هيقولي تاني ثواب وعقاب وحساب.. بس..

 

الكلمات، سلاح ذو حدين، إما يُشفي أم يؤلم كنصل السيف الحاد الذي يردي من أمامه قتيلًا من شدة حدته، وتلك الكلمات جعلتها تُرثي على حالها، لينطلق لسانها وبكت، بدون تعمد، فقط من مجرد تذكر الأمر:

-       كنت ساعتها حاسة إنك الراجل اللي استنيته طول عمري، وكنت شايفة إنك بتفهمني وبتحبني، وشايفني الست الوحيدة في الدنيا وكأن خلاص كل الستات والناس خلصت من حواليك، كل كلامك اللي كنت بتقوله كان بيبقى مهم اوي بالنسبالي، وإنك قربت مني وصارحتني بكل حاجة كنت مقدرة ده اوي، وقتها كنت مبسوطة لأني كنت فاكرة إنك يستحيل تكون مخبي عليا أي حاجة.. كانت أطول فترة استمرينا كويسين من غير مشاكل، وكنت بحلم إننا نستمر كده على طول.. بس في الآخر طلعت تعرفني عشان أنا شبه واحدة تانية!

 

استمتع كثيرًا بذلك الضعف الممتزج بألمها، لم يعد جسدها يتململ بمكانه، بل كانت روحها تتمزق، وكل هذا النحيب لم يكن بفعل الخوف، أو الألم، بل بفعل المشاعر، ما زال بداخلها حُزن من أجله، ومن أجل كل ما حدث بينهما!!

 

حاول السيطرة على نفسه ثم جذب تلك العصابة من فوق عينيها وهي ما زالت تبكي ليسألها وهو ينظر بمقلتيها ليتبين صدقها من عدمه:

-       بتعيطي ليه؟ إيه اللي يعيط أو يضايق في التفاصيل دي؟

 

نظرت له بانكسار وحزن دفين انعكس بعينيها خلال دموعها التي لا تتوقف ثم اجابته بهمس يعج بمصداقيتها التي صدق بها فورًا:

-       لأني ممكن استحمل إنك تضربني بس مستحملش واحد كداب.. وانت كدبت عليا في كل حاجة، قولت مليون مرة هتعمل مليون حاجة وعمرك ما ادتني سبب اثق فيك وأنا بلاقيك بتعمل العكس، إني شبه يُمنى مش المشكلة، المشكلة إنك دايمًا بتكدب عليا، ودايمًا بكتشف كل مرة إنك كلمتك معايا مش واحدة، عشان كده وقتها كانت بالنسبالي اخر حاجة ممكن استحملها وطلبت الطلاق.. ومن بعدها مشاعري اتغيرت ليك، وصدقني أو متصدقنيش، أنا مبقتش بتصرف كده غير بسبب كدبك وحياتك وماضيك اللي مش عارفة ممكن يوصلونا لإيه في النهاية!!

 

تفقدها وشعر برغبته تحتدم بداخله، رؤية معاناتها وألمها كان أمر فوق الوصف بالنسبة له، لا يفكر سوى بتأجيل العقاب لأجل غير مسمى، ويهشم هذا الجسد الذي اشتاق له، وخصوصًا وهي مُكبلة وعن قريب لن تستطيع التحمل لوقت أكبر، لا، لم يكن هذا هدفه!!

 

سيطر على نفسه سريعًا واقترب منها للغاية لتنكمش على نفسها بينما لم يكن سوى يحل وثاقها وليرهبها أكثر بردة فعله غير المفهومة بعد كلماتها وهي تنعته بالكاذب رمقها بنظرة فارغة من المشاعر ثم تركها بالغرفة وذهب للخارج ليدعها تخمن ما الذي سيحدث بعد ذلك!!!

--

جلس على تلك الطاولة وهو يحاول أن يحافظ على ابتسامته التي بالكاد تغيب عن أعين الجميع ولم يتعود أحد على رؤيته متجهمًا هكذا ليرى تلك الفتاة التي تعمل بمركز مرموق بالشركة المقابلة وهي تحاول أن تستدعي انتباهه ثم قالت متسائلة بنبرة مرحة:

-       ايه فينك، كنا لسه بنسب ونلعن في الـ HR اللي خاربين الدنيا! هم حلوين اوي كده عندكم ولا ايه؟

 

همهم منتبهًا لها وكأنه لم يستمع لشيء ليتكلم صوت رجولي:

-       سيبيه عشان هو مقريف شوية اليومين دول والشغل بقا اخر اهتماماته خلاص!!

 

ضيقت ما بين حاجبيها ثم تفحصته مليًا بنظرة ذات مغذى وهتفت به:

-       ايه يا عم يايا، ايه اللي حصل فجأة واخدك مننا كده؟ لولا إني مُضربة عن الجواز كنت غيرت عليك!

 

أشار لها زميله، فثلاثتهم قد تعودوا على تناول الطعام في استراحة الغداء، ولا يتفارق أي منهم كل يوم عمل، ثم همس لها من على مسافة وهو يفتعل بعض الحركات المازحة:

-       مجنناه.. بقينا كل يوم بالمنظر ده!

 

تفقدته مليًا وتعجبت باندهاش:

-       ايه ده.. ومتقوليش! لا كده ازعل بقا..

 

تجهمت ملامح "يونس" أكثر ثم زفر بضيق بعد أن بات الأمر أصعب من اللازم ليتحمله فنهض عاقدًا حاجباه وهو يغمغم:

-       أنا غلطان إني قاعد معاكم!

 

تركهما خلفه غير مكترث لحالة المزاح الخاصة بهما، ومن الغريب عليه ألا يمزح، أن يُصبح متجهم طوال الوقت، وأن ترفضه فتاة بهذه الطريقة، لا يدري ما الذي سيحدث لو انتظر إلى أن تعود إلى الجامعة، على ما يبدو لقد ورط نفسه والأمر هذه المرة في غاية الجدية لدرجة أنه لا يستطيع الانتظار من أجل فتاة وكل ما يُفكر به هو الذهاب ليقف تحت منزلها حتى يلمحها صُدفة!!

 

 --

خرج مغادرًا للغرفة وبمجرد استناده على الباب انهارت ملامحه تمامًا التي كان يعمل جاهدًا على تزيفها، وتلك الرغبة اللعينة لها بداخلة لا تنوي الاندثار في أي وقت قريب.. لو فقد السيطرة على نفسه هذه المرة لن يكون هناك أمر جدي فيما بينهما بالمستقبل، وستعرف هي أنها تملك عليه طائلًا وتأثير لا يختفي دائمًا وأبدًا..

 

خلع قميصه القطني قصير الكم ثم ألقى به أرضًا غير مكترث لنظام المنزل الذي يقوم بإفساده ثم توجه عاري الصدر للأسفل ولا يُفكر سوى بمحاولة الهدوء، استعادة رباطة جأشه على مشاعره التي لا تتوقف لها، ربما كوب من العصير البارد والاغتسال بماء مثلج كي يُذهب تلك اللهيب التي أججته بداخله كلما لمحها، وخصوصًا أنها باتت نسخة قريبة من تلك المرأة التي تخيلها وأرادها يومًا ما..

 

اتجه نحو المطبخ وقام بسكب العصير بواحدٍ من الأكواب ثم فاجئه ذلك الصوت الرجولي المتحدث:

-       أنا دورت عليك في البيت كله ملقتكش، كنت فين يا عمر؟

 

التفت ببعض الصدمة لتواجد والده لأول مرة بمنزله واجابه متسائلًا وهو يبحث عن تبرير منطقي بداخل عقله:

-       ازيك يا بابا؟

 

أومأ له باقتضاب مبالغ فيه وملامحه لا تحمل خير قط فمن الواضح أن "يزيد الجندي" قد آتى للنزال الضاري الحاد معه ثم كرر سؤاله من جديد:

-       كنت فين يا عمر؟

 

عقد حاجباه وتصرف ببرود لا يتفق مع ذلك البركان الثائر الذي يغلي بداخله فأجابه هو الآخر بما لا يُفيد:

-       كنت فوق!!

 

رمقه والده بنظرة غير راضية، فبالطبع هو لا يعجبه شعره الطويل المعقود للخلف ولحيته النامية ببعض المبالغة، بالرغم من تهذيبها ولكنها لا تليق بوجه محامي!!

 

تنهد وهو يُحدق به ثم اعطى له نظرة مفادها "هات ما عندك" فهو يتوقع أنه سيُحدثه عن العمل، ولكن من وجهة نظر والده ليس هناك سبب ولا داعي لفشله سوى أمر واحد قط، تلك الفتاة التي ذهب وتزوج منها وجعلته لُعبة بين يديها وأصبح في النهاية ابنه أضحوكة الجميع وهم يتغامزون ويتلمزون لماذا توقف "عمر الجندي" عن العمل كمحامي!

 

كل ما لا يتحمله ويميته حقًا أكثر من هذه الفتاة هو أن حلمه الذي تجسد في طفل صغير آتى يومًا ما بعد أن فقد الأمل في الإنجاب قد قارب على الاستحالة!

 

التفت حوله بالمنزل وهو يُبدي نظرات مُعجبة وتحدث قائلًا:

-       حلو بيتك..

 

ابتسم له ابتسامة لم تقابل عينيه كعلامة على امتنان لم يتعد حدود الذوق مع الرجل الذي جعله كل ما هو عليه ليجده يتابع متعجبًا:

-       ويا ترى فين مراتك؟

 

كل شيء وكأنه معد لها مُسبقًا، فسرعان ما اجابه:

-       خرجت!

 

قلب شفتيه وهو يومأ ثم غمغم:

-       كويس هنكون براحتنا، هي اللي برا وأنت في البيت.. هايل!

 

تريث لبرهة ثم ضيق عينيه نحوه فلم يُلاقيه ابنه سوى بنظرات صلبة فارغة من المشاعر ليجده يتحدث بهدوء غالبًا ما يسبق عواصف ضارية متتالية لن تنتهي لشهور:

-       غريبة.. مع إنهم برا قالولي إن انتو الاتنين موجودين.. وبقالي نص ساعة بدور عليكم في البيت ومش لاقيكم!

 

تركه والتفت ثم قام بسكب بعض العصير له، هو ليس بمزاج مناسب لأي كان مما سيُنادي به والده، يعلم عن ظهر قلب أنه يريد أن يراه الأفضل بين الجميع، ولكن في هذا الوقت لديه ما يهمه أكثر من العمل!

 

عاد من جديد ثم قدم العصير لوالده فتناول رشفة منه ليجد ملامح تشابهه تحدق به وسأله بنبرة جامدة:

-       اديني اهو قدامك، عايز ايه؟ ايه السبب المهم أوي إنك منورني في بيتي اللي أول مرة تدخله، المحاضرة هتكون عن مراتي ولا شغلي ولا شكلي؟!

 

يُتبع..