-->

الفصل السابع والعشرون - كما يحلو لكِ - النسخة العامية


 الفصل السابع والعشرون 

النسخة العامية

 

انكمشت على نفسها ودخلت في نوبة من البكاء الشديدة لمدة دقائق بعد كل ما مر عليها بصحبته، كانت لابد أن تعرف أنه مختل لدرجة لا يُمكنها تحملها، لم يعد لديها سوى الفرار في أقرب فرصة، أن تكون خادعة، خائنة، أو كاذبة، أهون لها آلاف المرات من أن تستمر مع رجل مثل هذا، لم يعد هناك حل سوى ذلك، أن تجرب كل شيء حتى تصل لما تريده، لقد تلقنت الدرس، البقاء للأقوى كما يحاول أن يُبين لها، وما سيُزيدها قوة هو أن تحصل على ما يجعله يهابها ويخاف منها..

 

الأمر كمسألة رياضية بالنسبة لها، كل المعطيات المتاحة تخبرها بأنه رجل غير قابل للتقويم أو التصليح، لذا عليها الفرار بعد آخر محاولة منها بمنتهى الاستمات باستخدام كل الحيل كما علمها هو، أن تكون خاضعة وتقبل قدمه، أم تلقبه بسيدي كما يريد، أن تنقطع فترة عن الجميع، ستفعل أي وكل شيء، وحتى لو فشلت هناك حلان لديها لتتخلص منه، إما يقتلها كما هي أو الانتحار لو كان سيحافظ على ما تبقى منها، وهذا بالطبع لو فشلت كل محاولاتها.. لن تحيا أبدًا كامرأة مهانة، مسلوبة الإرادة والكرامة..

 

لقد غفرت بالسابق له لأنها لم تكن تفهم الأمر، كانت ترتاب بشأن اضطراباته وأمراضه، ذهبت لمختص ولم يُفلح إقناعه، وعندما حاولت أن تفر بالإجراء الطبيعي المنطقي لأي امرأة متزوجة يرفض زوجها أن يُطلقها وديًا وجدته يُحاصرها أثناء نوبة هوسه الأخيرة، ماذا لو كان فعلها أثناء مزاج معتدل؟ هل كان ليقتلها وقتها؟ حقًا لا تستبعد هذا.. أو السؤال الأقسى على عقلها لتتحمله، ما الذي كان ليحدث لو أنه كان ساديًا أثناء هوسه، تعرف الإجابة على هذا، كان مكانها الآن أسفل التراب وهناك شخص لطيف يضع الورود على قبرها!

 

حاولت أن تتحكم في انتفاضات جسدها المتتالية من شدة البُكاء، توقفت عن الحيرة وسيطرت على صوت افكارها، لقد توقعت الأسوأ بالفعل منذ أن طرأت فكرة الحصول على الأوراق منذ البداية، عليها أن تتوقف عن هذه الترهات الثائرة بعقلها، كي لا تُضعفها وتصيبها بالجنون، هي متوقعة بالفعل كل هذا منه، وهذا ما عليها تصديقه الآن!

 

تفقدت الغرفة باتساع عينيها من شدة الذعر لترى إن كان هناك كاميرات للمراقبة فتفقدت جميع الأركان ولم تجد شيئًا بعد أن بحثت مليًا..

نهضت وتوجهت لتقترب من باب الغرفة التي من المفترض أن تحتوي على خزينة تحمل كل ماضيه الأسود الذي لو ظهر للعيان سينهي هذا مسيرته كرجل لم يقم بخسارة قضية قط لأنه مُدلس خبيث لا تحتوي دمائه على ذرة واحدة من النزاهة أو العدل! هذا لو كانت حبيبته السابقة محقة بالطبع..

 

ولكن لم ستخبرها بذلك سوى لو أنها طامعة به ستحاول أن تساومه، أو لو كانت تريد العودة له فربما تستهدف أن تخرجها نفسها من حياته، وخصوصًا بعد أن عرفت أنه تزوج نسخة طبق الأصل منها، ولو كانت تخدعها، فهناك الانتحار، هذا هو الحل الأخير!!

 

حضرت بعقلها التبرير المنطقي، تريد تناول شراشف لتغطي بها جسدها، لقد سأمت أن تكون دون ملابس، وبعض الثورة عليه فسيصفعها أو ليُكمل عقابه أو ليفعل أي لعنة وسيقوم بتوبيخها بالمزيد من الكلمات المؤلمة، وسيمر الموقف، وستنتهي أو ستموت، أيهما أقرب!

 

حاولت أن تجد حل لفتح الغرفة لتجد أن الباب الكتروني بالكامل، لا يعمل سوى ببصمة يده، أمامها حلان، الأصعب وهو أن تنتظر عودة ثقته بها كي يترك لها هذه الغرفة لتذهب إليها كيفما شاءت، أو أنها تقوم بكسر نظام الحماية بالكامل.. تتمنى فقط وجود الفرصة المناسبة لهذا وستجد حلًا لإحضار ما يُساعدها بسهولة!

 

عادت من جديد واختارت أن تجلس على كُرسيه، فكل هذا الخوف لم يمنعها من فعلها، يدور بداخلها رغبة انتقامية بحتة له لا تستطيع أن تتحكم بها، تقسم لو خرجت حية من هذا المنزل لن تتوقف عن اذلاله بكل الطرق المتاحة في يديها.. وخصوصًا ذلك الانتهاك النفسي الذي اذاقه إياها، ولا تكترث أن تكون بمثل دناءته معها!

 

حاولت أن تكون منطقية بعض الشيء لتتنهد ثم نهضت في النهاية من فوق كُرسيه وذهبت لأحد الأركان لتجلس أرضًا متكومة على نفسها، فرغبتها بالانتقام لن تتحقق سوى بعد أن يتحقق ما يُريده هو.. على الأقل لو تريد أن تنفذ ما تُفكر به منذ شهور عليها أن تقنعه أنها باتت كما يحلو له.. ستحاول التغلب على تقززها وآلمها مؤقتًا، وإلا لن تمانع أن يقوم بقتلها أو قتل نفسها.. لا تعرف لكم من الوقت ستتحمل هذا العذاب ولكن أن تموت ولديها العقل والانتصار في أنها لم تتقبل اختلاله العقلي والنفسي أفضل ملايين المرات من الاستمرار بهذه اللعنة!

--

ابتسم له نصف ابتسامة وهو يرمقه مليًا وتفحص تلك الملامح التي تبدو وكأنها تتحفز لجدال ولم يغفل عن أسلوبه الذي لم يُحدثه به من قبل بينما اجابه قائلًا:

-       لا المرادي مفيش محاضرات، المرادي فيه سؤال، وتحذير!!

 

تنهد ثم حدق بالأرضية وهو يحاول أن يمنع نفسه عن تدمير أي شيء حوله، سؤال ماذا وكيف له أن يحذره؟ ألا يرى أنه قد أصبح رجل بما فيه الكفاية.. لقد اكتفى حقًا من كلماته ومحاضراته وضرورة حثه على كيف يتعامل مع زوجته وكيف يستمر بنجاح في عمله، والتوقيت الذي آتى به غير مناسب على الاطلاق وهو كان لتوه يحارب بداخله لكي يُسيطر على نفسه أمامها، بالكاد يستطيع تحمل كلمة لأي أحد يُفرض عليه ما يفعله الآن، سواء أكان بعمله، أم بحياته، أم بأي لعنة تخصه..

 

 حاول أن يستلهم بعض الصبر ويتناسى تلك التي مزقه الاشتياق لمجرد لمسة واحدة منها كي ينتهي في أسرع وقت من محاضرة جديدة معه وأمسك بكوب العصير وتناوله بين يديه ثم حدثه بهدوء:

-       تعالى يا بابا نتكلم واحنا قاعدين.. مش هنفضل واقفين كده

 

جلسا سويًا بباحة الاستقبال للمنزل ليتحدث "عمر" متسائلًا:

-       سؤال ايه اللي عايزني اجاوب عليه؟

 

لمحه بنظرة جانبية يمتاز بها والده دائمًا ثم نطق بسؤاله:

-       اللي أنت فيه ده هيكمل كده لغاية امتى؟

 

ابتلع وهو يتفحصه بنظراتٍ ماثلت نظراته وتعجب مجيًبا:

-       تقصد ايه باللي أنا فيه ده عشان أعرف اجاوبك صح؟

 

هل يُمثل أنه غبي لا يفهم، أم لهذا الحد قد استحوذت تلك اللعينة على حياته بأكملها إلى درجة جعلته بالكاد يُشبه الرجل الذي كبر ونما أمام عينيه لحظة بلحظة؟

 

ابتسم له ابتسامة مقتضبة ثم اجابه بطريقة غير مباشرة:

-       زمان كنت فاكرك صغير ومش عارف مصلحتك والبنت اللي عرفتها زمان كانت ممشياك، قولتلك تبعد عنها لغاية ما كلامي طلع صح في الآخر، بعدها ابتديت تتغير، ابتديت تشتغل وتركز في شغلك زيك زي أي راجل شاطر، صحيح كنت بتاخد قضايا لناس عليها علامات استفهام والكل كان يشك فيهم، بس في النهاية أهو نجاح ليك إنك تبرأ اساميهم أو تلم القضايا وتتقفل بتنازل وصلح واتفاقيات بين الطرفين من تحت الترابيزة بعيد عن الأقسام والمحاكم.. كنت مبسوط بيك وقتها، وعمري ما رفضتلك أي حاجة، زي إنك تبعد وتبقى عايش لوحدك..

 

تريث لبرهة لعله يقوم بالرد عليه بإجابة شافية ويفهم ما يود قوله بمفرده وادعى الانشغال بإشعال سيجار ضخم من نوعه المُفضل ولكنه شعر بأعين ابنه لا تتركه وتتفحصه وجل ما قاله كان سؤال غاية في الاستفزاز:

-       حلو، وبعدين؟

 

لم يتركه ليلحق به الغضب وتنفس من سيجاره ونفث ادخنته بوجهه وفي عُرف ملتهمي الأدخنة المسممة هذه علامة على عدم التقدير والاستخفاف بمن أمامك ولكنه سيطر على نفسه وأكمل ما ود أن يقوله للنهاية فقد يفهم ما الذي أصبح عليه:

-       وبعدين تركيزك زاد وشغلك كبر وكبرت شركتك وبقا عندك محامين عُقر مستبعدش إن واحد فيهم يبقى يزيد الجندي التاني، اسمك بقا مسمع في كل مكان، كنت اقنعتني إنك وصلت لمرحلة أنا نفسي معرفتش اوصلها، إنك متخسرش ولا قضية في حياتك دي حاجة أي محامي يتشرف بيها، خلتني فخور إني أبوك، لدرجة كان جه وقت وكنت بتسأل هو أنت والد عمر الجندي، كنت برد وأنا مبسوط وأقول للناس آه.. أيوة أنا أبو الراجل اللي مفيش منه اتنين!

 

قلب شفتيه ورفع احدى حاجبيه ثم عقب ببرود:

-       هايل، عايز ايه تاني بقا اكتر من كده؟

 

تصنعه للغباء وعدم الفهم لن يوصله سوى لأن يُخرجه عن شعوره، وسيكون عليه أن يتخذ ردة فعل تجاه كل ما يفعله، ولكن كما علم هذا الطفل الصغير أمامه هو لا يزال مسيطرًا على نفسه ولم يترك له الفرصة حتى ينجح باستفزازه:

-       كنت بس نفسي اشوفك راجل متجوز، عندك حياة وحد يشيل اسمي واسمك بس..

 

تريث لبرهة ليستدعي كامل انتباهه وتنفس من سيجاره لينفث الأدخنة بوجهه وأشار له بنفس اليد التي تحمل سيجاره ليرى ما نهاية كل هذا التعلق والتشبث بفتاة لعينة غيرت مجرى حياة ابنه لتجذبه من السماء وتخسف به الأرض:

-       البنت اللي أنت اتجوزتها دي..

 

من جديد سكت لبرهة وقام بنفض الجزء المحترق من سيجاره أرضًا أمام قدميه لينجح باستفزازه ببراعة فلم يكن من الآخر الذي احتدمت دمائه لفعلة والده سوى أن يُصحح كلماته ورد قائلًا:

-       اسمها روان، بطل تتجاهل إن ليها اسم ووجود واعرف إنها مختلفة وإلا مكونتش اخترتها واتجوزتها!

 

قلب شفتيه اعجابًا بما يستمع له وهمهم بتفهم بينما ضيق عينيه نحوه ليُغمغم قاصدًا أن يستفزه لحد الغضب حتى يتحدث بالحقيقة في ثورة غضبه:

-       يعني عشان مش شبهها، والمفروض أنا اقتنع!

 

زفر بضيق وهو لا يدري ما شأنه بمن اختارها ليتزوج منها ثم عقب بنبرة نافذة للصبر:

-       يمكن شبهها في الملامح، لكن لا الطباع ولا الخبث ولا الخيانة ولا التربية والحياة، ولا حتى المجال والتعليم، ولا نفس الأهل ولا الاختيارات.. أنا عارف أنا اتجوزت مين كويس!

 

استمع لنبرته التي بدأت في عكس ذلك الغليان بدماء عروقه ليحافظ هو على هدوئه ونفث المزيد من الأدخنة بوجهه ليراه يزفر بانزعاج ليُتابع بهدوء شديد ازاد من استفزازه وجعله قارب على الانفجار:

-       لا واضح فعلًا.. من ساعة ما اتجوزتها وأنت اثبتلي إني ربيت راجل بجد!

 

أطلق زفرة مصحوبة بهمهمة ساخرة يقصد بها عكس كل ما قاله ليجد الغضب يلوح على ملامحه فهذا هو ما أراده من البداية أن يوقع به في هوة عميقة من الغضب حتى يصرخ مُصرحًا بالحقيقة التي لا يستطيع إيجاد سبب منطقي لرفضه تقبلها بعد كل ما مر عليه من خبرات بالحياة وفهم لأناس مختلفة فأكمل كلماته:

-       يعني مراتك، بنت شاطرة، وشايلة شغل أهلها، وافقت تتجوزك بين يوم وليلة بعد ما خلصتلها قضيتها اللي بتاخد وقت كبير في المحاكم في غمضة عين، دلوقتي اتحولت بمجرد جوازك منها لطفل صغير فاشل قاعد في بيته زي النسوان وحتى حتة عيل مش عارف تجيبه منها، مفكرتش مثلًا إنها مش عايزة تخلف منك عشان ليها سبب تاني؟ أو مثلًا إنها مش في دماغها الجواز وبتستغلك فترة وبكرة تبعد عنك؟ مآمنلها بمنتهى التخلف وناسي إن سبب تأخيرك طول حياتك هو واحدة شبهها.. مستني يحصل ايه تاني عشان تفوق على اللي بتعمله فيك.. داخل على سنة سايب شغلك عشانها، ليه يعني؟

 

توقف لبرهة وتفحصه قبل انفجاره ثم تابع:

-       هو صحيح لما أنت بتحبها اوي كده، ليه هدومها على سرير في اوضة وفيه اوضة تانية؟ وايه اللي مخليك موقف اسطول حراسة برا؟ فاكرهم هيمنعوني عنك مثلًا وهيحموك ويحموها مني؟ أنت ايه اللي مخبيه والكل برا قالي انها هنا هي وانت وحاولوا يكلموك بس موبايلك مقفول؟ انت فاكرهم هيقدرو يمنعوني؟ لما عرفوا أنا مين كسروا كلامك بمنتهى السهولة ودخلت يا اما أنا اللي كنت هقطع عيشهم.. شخصيتي دي كلها وتفكيري مش مخلينك تتعلم حاجة أبدًا مني؟!

 

اكتفى بتلك الأنفاس التي تثاقلت غضبًا من كلمات والده وحدقه متفحصًا دون أن يسمح لأهدابه باللقاء فطرق والده على الصفيح الساخن الذي بدأ يشعر بتأثير لهيبه:

-       كل ده وبعد اللي علمتهولك مش فاهم هي بتعمل فيك ايه؟ ما يمكن هي اللي قصدت توقع عشان متخلفش منك وتنزل الجنين، وإلا كانت حملت بعدها.. مش عارف تمشي بيتك ومراتك وحياتك ولا تحب اعلمك واربيك من أول وجديد؟ ولا مشوفتنيش في حياتي كنت عامل ازاي؟ متعلمتش مني أي حاجة والكل بقا يفكر مليون مرة قبل بس ما يتخيل إنه يعمل حاجة أنا ممكن ومجرد احتمال إني موافقش عليها؟

 

نهض وقد دفعه غضبه المكتوم لحالة من الهياج الشديد ليصرخ به رادًا له كل ما قاله برسالة واضحة واجابة شافية لكل ثرثرته السابقة وهو يحدق به حيث يجلس وهو والآخر يرمقه بأعين التمعت بلهيب الغضب:

-       روان مش مها الجندي، ولا يمنى.. مراتي غير مراتك، وأنا غيرك، وحياتنا مش هتبقا زي حياتكم.. وشغلي عاجبني كده، أظن إن أنا بكل اللي عملته ووصلتله وأنا أصلًا مختارتش تخصص بمزاجي وقولتلك طيب وحاضر وسمعت كلامك.. اجيب اسطول حراس ولا لأ حاجة تخصني، ومش معنى أنهم عرفوا إنك والدي ووافقوا يدخلوك تبقى غلطتهم، الغلط إنهم لقوا في وشهم واحد أجبرهم بأسلوبه إنهم يسمعوا كلامه عشان خايفين.. وبقولك ايه، كفاية بقا كلام في الحوارات دي عشان كلامك بقا ماسخ، وبقيت بزهق منه.. ومش هارجع شغلي غير بمزاجي ووقت ما أحب، ويا ريت متجيبش سيرتها تاني لو هتتكلم عنها بالطريقة دي!

 

اختلفت ملامحه ونظر له بتوعد وكتم غضبه بداخله وأومأ بالتفهم وأخذ آخر أنفاسه من سيجاره الضخم ثم قال:

-       تمام اوي.. هنطلع مراتك برا الحِسبة ونخليها على جنب.. عمومًا دي بت صغيرة وهعرف اتصرف معاها بمنتهى السهولة!

 

نهض ثم دعس بقايا سيجاره أسفل قدمي ابنه مباشرة بحذائه وهو ينظر للأسفل بإشارة ومغزى أنه يستطيع أن يفعل بها المثل ورف رأسه لتتلاقى اعينهما المتشابهة في استعداد للحرب التي أعلنها والده بكلماته:

-       عريس وعايز يتبسط، إجازة وراحة من الشغل، طيب سفر، طيب بياخد وقته، انما تدخل على سنة من غير شغل ده أنا مش هاقبل بيه!

 

حدقه "عمر" بنظرات غير مكترثة واستعاد سيطرته على نفسه وقال ببرود ثلجي:

-       اللي عندك اعمله!   

 

رفع حاجباه مندهشًا وانعكست ملامحه لينبعث منها البرودة المماثلة في المقدار والمضادة في الاتجاه فقط ما اختلف هو تلك الابتسامة المتوعدة وهو يهمس له:

-       تمام، وده اعتبره تحذيري الأخير، قدامك بمجرد ما تتم سنة جواز وبعد كده أنا اللي هتصرفلك في حياتك دي كلها ما دام أنت بقيت فاشل!

 

تركه واتجه نحو بوابة المنزل ليتوقف لوهلة ثم التفت إليه وقال بنبرة غير مكترثة قبل أن يُغادر:

-       صحيح، أنا قابلت علي أبو المكارم مدير بنك ... من كام يوم وسأل عليك، ابقا كلمه!

 

اندفعت ملامح باستغراب له بينما لم يفهم ما أراد والده أن يوصله له، فاكتفى بأن يوصله فقط تلك الرسالة ثم غادر، فلقد عرف بعد لقاءه بهذا الرجل بمقدار ذلك المبلغ الذي قام بتحويله من حسابه الشخصي لحساب شركتها منذ حوالي ثلاثة شهور، بالطبع لن يترك ولن يسمح لامرأة أن تقوم باستغلال ابنه ماديًا دون وضع حدود لها!!

 

أمّا عن هذا الرجل الذي تضرر بشدة لدرجة نسي بها كل ما حدث أثناء نوبة هوسه الأخيرة لا يرى ولا يُصدق أن بعد كلماته لوالده الذي لطالما أراد رؤيته ناجحًا، أنه أصبح عاشقًا لها لدرجة قاربت على السماح بقطع علاقته بينه وبين أبيه للأبد! وبداخله؛ لا يكترث سوى لها هي وحدها.. لقد أصبح مهووسًا بها لدرجة تفوق الخيال، وعليه أن يضع نهاية لكل ما يحدث بينهما في الآونة الأخيرة الآن وفورًا قبل أن يدفعه العشق لفعل المزيد مما لا يؤمن به ولكن مع توضيح المزيد من القواعد بأصعب طريقة ممكنة حتى لا تنسى هذا الدرس للأبد!

 

هل حقًا يكترث لوالده وما يراه ويشعر بالقليل من الندم تجاه هذه الطريقة التي حدثه بها، ألا يرى إلى أي حد تضرر عقله؟ منذ أن كان طفل، من مدرسة عسكرية توجب عليه أن يبتعد عن حضن والدته وأخيه الصغير وحتى أبيه نفسه، إلى درس قاسٍ بتحمل الألم بعد أن تم تشريح جسده بقطعة زجاجية ورفض والده أن يعانقه، متبوعًا بدرسٍ أقسى بأن يمكث بمفرده ثلاثة أشهر، ليتحول بعد هذه الصدمة إلى كيان قاسي كل ما يُريده هو أن يدمر البشر، وبعدها لمجتمع مختلف تمامًا بمدرسة كل الفتيان بها يتعاملون مع بعضهما البعض بأريحية لم يستطع أن يتواكب معها، ثم لاقى صدمة الالتحاق بكلية الحقوق، وجدال عنيف طوال سنوات جامعته بالوحيدة التي رق قلبه لها لتُمثل له كل ما لم يجده في بشر طوال حياته، لقد كانت له الأم، الأب، الصاحب، والحبيبة، وحتى شعور الأخوة وجده بين يديها ليستيقظ على إعصار أنها خائنة وهو رجل مغفل..

 

يا ليته يعلم أن كل سنوات معاناة حياته لم يكن السبب بها سوى رجل واحد فقط، ولسوء حظه قد طُبع اسمه متبوعًا باسم والده الذي كان السبب في كل ما يُعانيه في بطاقة تعريفه الشخصية، يومًا ما سيدرك أنه يُعرف نفسه ويُعرف الجاني عليه فقط بنطقه لأربعة أسماء "عمر يزيد أكمل الجندي" أمام مسمع ومرأى من الجميع.. ولكن لن يتيقن من كل هذا سوى بعد فوات الأوان!

--

هسهست بتوجع وهي تمرر يدها على قدمها التي تأذت بفعل النيران، وحاولت اقناع نفسها أنه لا يتبقى سوى القليل بعد حتى تلوذ بالفرار للأبد من بطشه الذي لا ينتهي..

 

قامت بعقلها بعد باقي الأرقام لتصل لرقم ألفين وخمسمائة ثم سبته وبعدها الرقم ألفين خمسمائة وواحد، وكررت فعلتها وسبته، عقلها لا يغيب عنه الفرار أو الانتحار، لن تستسلم لهذا الحقير ولو عشقها عشقًا لا تكفيه السماوات السبع هي ستتركه لا محالة بأي طريقة من الطرق!

 

تعجبت بينها وبين نفسها لما أخذ كل هذا الوقت، أم عليها أن تقضي باقي هذا اليوم حبيسة بهذه الغرفة التي لا تذكرها سوى بالجحيم وكل الأسباب التي تدفعها لكراهيته، أو تُجبرها على كراهيته، كل ما يجعلها تشعر به الآن أنها ظنت أنه يعشقها وتعشقه إلى درجة التحليق في السماء وبدون سابق انذار منذ أن وجدت تلك الصورة وقعت في أعماق بركان لا يخمد! لقد خدعها خداع بامتياز، وليس هناك أسوأ من اعترافها بأنها غبية وساذجة!

 

بدأت تنظر للغرفة ومحتوياتها بعد أن اصابت بجفاف في أعينها من كثرة البكاء ثم أخذت تنظر لكل تلك الخزانات التي تحتوي على أدراج وهي تخمن ما الذي قد يوجد بها فنظرت نحو الباب وفكرت في الذهاب لتفقدها فترددت، وفضلت الجلوس، فهي حتى غير مسموح لها بالتحرك لو آتى ووجدها تعبث بشيء ما.. صبرًا، ستعبث به هو نفسه وبنفس الطريقة الموجعة وهو يكيل إليها الإهانة والخوف!

 

لم يمر كثيرًا، بالكاد وصلت إلى الرقم ألفين وسبعمائة ثمانية وتسعين وهي تسبه هذه المرة لتشبهه بالثور الهائج الذي يكبلوه لإجراء عملية اخصاء عما قريب.. يا له من منظر بديع لو حدث هذا بالفعل!

 

آتى الثور لتوه وهو يدخل من باب الجحيم المتقد الذي باتت تعيش فيه، لم تره سوى هكذا، تتخيله يُساق من عنقه ليتجه جالسًا على كُرسيه ولكن أكثر ما أرعبها هي زجاجة الخمر التي أمسك بها..

 

وجدت انظاره مُسلطة عليها بهذا الركن البعيد نوعًا ما ليحدثها بنبرة آمرة جشة فارغة من المشاعر انتفض لها جسدها خوفًا حقيقي غير مُدعى:

-       تعالي على ايدك ورجلك!

 

ربما ابتعاده عنها بعض الوقت انساها كم بات يُخيفها، فما مرت معه بالأيام الماضية أدركت الآن أنه قد ترك اثرًا بنفسها.. فزع من مجرد لمحة منها نحوه، وذعر من تخيل ما الذي قد سيفعله بها، وبعد تجربة الحياة معه تعرف أن "عمر الجندي" الثمل شخص غير مرغوب به على الإطلاق.. تتمنى فقط أنه لم يتناول شيء عندما تركها لأنه لو فعل لا تدري كيف قد تنجو من ثمالته التي اختبرتها مرارًا..

 

امتثلت امره البغيض واتجهت كما أراد ووقفت لتنتظر أمامه فرمقها أسفل قدميه وبنفس الصوت من جديد أمرها:

-       بُصيلي

 

فعلت على الفور ليرى في عينيها مزيجًا من الخوف، الارتباك، ورغبة ضئيلة بالرضوخ له، نوعًا ما هذا المزيج سيكون جيد لبناء ما يُريد أن يشيده منذ البداية، ولكن لا يزال هناك الكبرياء والرفض متواجدًا بمقلتيها، حتى ولو بهتا قليلًا..

 

قام بفتح الزجاجة التي أجبرت مُقلتيها على التحرك لتتابعها في صمت بينما تناول منها البعض ليدعها ترتطم بسطح المنضدة الجانبية لتخلف صوتًا جعلها تبتلع ثم نهض فجأة فانتفض جسدها توترًا فوجدته يخلع قميصه القطني قصير الكم ثم جلس من جديد وحافظ على نبرته من جديد وهو لثالث مرة يملي بأوامره التي لا تنتهي:

-       اتعدلي في قعدتك

 

فعلت ورأى التوتر يزداد بعينيها وتلجلجت أنفاسها بينما ألقى بقميصه عليها وأشار لها أن ترتديه ففعلت سريعًا بينما في الحقيقة هي لا تستطيع أن تشتم لرائحته التي باتت تصيبها بالغثيان بمجرد الشعور بأنفاسه في نفس المكان معها!

 

خلل شعره ونظراته غير مفهومة اطلاقًا بالنسبة لها لا تدري هل هذه نظرات راغبة، منزعجة، أم تريد الانتقام منها؟ لا تجد أي إجابة لدرجة آلمت عقلها..

 

-       بصي.. دلوقتي قدامك حل من اتنين.. عقاب وعقاب ليل ونهار وأذى ليكي ولأهلك وكل اللي يتشددلك وكل اللي هيفرقو معاكي لغاية ما بنفسك تتمني تبقي زي الجزمة في رجلي كده كده مش ورايا حاجة غيرك.. يا إما نلم الدور وتتعدلي زي الشاطرة من نفسك.. وهحاول اسمحلك بفرصة تانية لو اثبتيلي إنك اتعدلتي بجد، قولتي ايه؟ الأول ولا التاني؟

 

تفقدته وهي تفرك يديها ببعضها البعض، ربما ما يتفوه به الآن كان أفضل من كل التخمينات برأسها، أن ينتهي الأمر وعقابه المختل كما يُنادي به، توافقه على الدخول لهذه الغرفة في عدة ممارسات متتالية للجنـ س العنيف إلى أن تصبح هذه الغرفة متاحة لها طوال الوقت وتحصل على ما تريده وتفر منه!

 

لم يأخذ تفكيرها سوى جزء من الثانية واجابت بلهفة:

-       التاني طبعًا!

 

ابتلعت في انتظار ما سيقوله، كلماته شجعتها بداخلها أن تتقبل المزيد على أمل أن تفلح فيما تخطط له منذ أن استفاق من نوبة هوسه منذ أكثر من شهرين لترطب شفتيها وتابعته وهو يتناول المزيد من الزجاجة مباشرة بينما لم تعلم ما يدور في عقله!

 

اقترب للأمام قليلًا بعد أن فرغ من تجرعه هذا السائل الحارق وجمع يديه ببعضهما وتفحصها جيدًا وكل ما تمناه أن يحدث ولو تلامس بينهما من جديد، نعم هو لا يغفل عن عذابها الذي ينتظرها، ولكن تأثيرها عليه وعلى حياته وعمله وحتى والده أصبح يفوق الحدود.. هو مهووس، لا يجد حل سوى ذلك!

 

-       قومي وقربي!

 

نهضت سريعًا وأخذت خطوة للأمام بينما نظراته تفترسها لا تدري رغبة أم مجرد تفحص عميق كي يعرف ما إن كانت صادقة أم كاذبة وفي لحظة وجدته يجذبها لتسقط فوق قدميه ولم تستطع التحكم في أنفاسها المرتعدة التي انبعثت منها رغمًا عنها!

 

اكتفى بعدم رؤيتها إياه وهو يغمض عينيه ويعانقها بقوة لينهل من رائحتها كالظمآن الذي لم تلمس شفاهه قطرة ماء واحدة منذ يد هذا المخنـ ث التي كانت تستقر بظهرها ولم ير كيف تعالت نبضات قلبه تسارع بعضها البعض وهو في حالة من الاشتياق لم تصبه قط طوال حياته لأي أحد أو حتى لأي شيء!

 

مرت الدقائق وهي تصاب بالذعر وهي لا تدري هل الأمر انتهى بهذا العناق أم هناك ما سيُصيبها به من جديد وبعد مُدة وجدته يعدل من جلستها حتى بات يرى وجهها بوضوح ليتمعن متفحصًا، هذا وكأن كل ما تعلمه لسنوات سيُفيد أمام تأثيرها عليه الذي لم تمتلكه سواها، لعن العشق ولُعنت هذه الصغيرة التي لا يدري كيف دفعها القدر لتقف أمام مكتبه يومًا ما!

 

-       متوترة ليه؟

 

ابتلعت وهي تخفض عسليتيها المرتبكتين نحوه ثم همست له بتلعثم:

-       مفيش!

 

ابتسم بسخرية شديدة وقال بنبرة متسائلة:

-       أول مرة أقرب منك ولا ايه؟

 

تفقدت ملامحه بينما هو يفعل المثل، ولكن اختلفت رمقتها له الفازعة عن خاصته التي لا تدري كيف عليها تحديدها، هل هو مشتاق لها أم راغب بها وحسب؟

 

رطبت شفتيها ليحترق بداخله من شدة تحكمها بها ثم اجابته:

-       لا، مش أول مرة!

 

سلط انظاره على شفتيها ثم همس بفحيح لأول مرة تستمع له منه:

-       طيب اهدي.. لو كان عندي شك إنك مش هتستحملي كل اللي حصل وكمان اللي لسه هيحصل مكونتش عملته..

 

حاوت ألا تسخر، ألا تبكي، وألا تعارض، ولكن بداخلها ترسخ أمر وحيد ليس له ثاني، لن تقبل أي من كلماته المخادعة بعد الآن!

 

حاول أن يُعدل من جلستها كي يحثها على الاسترخاء قليلًا فظلت ناظرة له بتوتر بينما هو أمسك بالزجاجة وتناول البعض منها ليتنهد وهو يعيدها مكانها ونظر إليها بمنتهى الجدية وتحدث بهدوء حقيقي لا يدعيه:

-       أنا عارف إني دلعتك وعارف إني فرطت في حاجات كتيرة استحالة اقبل واحدة ست غير بيها.. عشان بحبك.. بتحسي بده ولا لأ؟

 

تفقدته لوهلة ثم قررت أن تجاريه ليس إلا بالرغم من نبرتها المرتبكة التي اجابته بها:

-       ايوة بحس بده!

 

همهم إليها ثم ذهبت عينيه لتتفقد ساقيها ولا شيء يحول بينهما وبين انظاره المشتعلة لهما ثم عاد لينظر لها من جديد وقد تأثر حقًا حتى بدأ في التفريط في محاولة تبين صدقها من عدمه وأكمل كلامه:

-       ممكن أنسى جدالك، رفضك، عصيانك، عدم سمعان كلامي، الخلع، كل حاجة ممكن أنساها.. ما عدا حاجة واحدة بس استحالة اعديها!

 

رأى ارتباكها يزداد بالرغم من تحدثه بمنتهى الهدوء كما شعر بتهدج أنفاسها وسيطرة الوجوم على وجهها واستمرت في صمتها فسألها ما لم تكن تتوقعه:

-       فاكرة كنت بحب يُمنى ازاي؟

 

ضيقت ما بين حاجبيها باستغراب وأومأت على كل حال لتجاريه واجابت بصوت خافت:

-       ايوة

 

لم يستطع منع نفسه عن تلمس خصلاتها التي تخفي البعض من ملامحها فأبعده بطرف أنامله وصرفها لخلف اذنها وابتلع ثم سألها:

-       عندك شك في إن حبي ليكي أكبر من حبي ليها بكتير اوي؟

 

أومأت بالإنكار فورًا ولكنها لم تغفل ما الذي لا يستطيع أن يدعه يمر مرور الكرام ليتابع بثرثرة عكست أنفاسه المُلتهبة من شدة اشتهاءه لها:

-       يمنى ابتدت معايا بخطوات وأنا عشان الحب عديت وسامحت، وانتي مشيتي بنفس الطريقة، هي كانت استغلالية وطماعة وعايزة حاجة مُعينة، إنما انتي عايزة تمشيني أنا على طباعك وتصرفاتك وشخصيتك وكل حاجة بتعمليها واتربيتي عليها شايفاها صح وأنا اللي المفروض أوافق عليها.. فاللي حصل من فترة أنا مش قادر انساه، ولا صورته قادر انها تروح من عيني!

 

توجست بداخلها وتجهم وجهها أكثر لتجده يجذبها نحوه ثم همس بأذنها بإطناب نزل على أذنها كالصاعقة وجعلها تفهم لماذا قارن بينها وبين "يُمنى" منذ لحظاتٍ قليلة:

-       مش الخلع، ولا خناقنا، ولا رفضك لكل حاجة أنا عايزها، لكن إن راجل غيري يشوفك يادوب مغطية جسمك اللي من حقي أنا بس ويحط ايده عليكي في بيتي، ده معناه حاجة واحدة، إن المرة الجاية هيحضنك حضن أخوي، وبعدين يبوسك بوسة مجاملة عادي زي أخته، وشوية شوية هخش اجيبه من اوضة نومي وهو قالع ومعاكي في السرير.. ده تفكيري، وده اللي شايفه، وده اللي مش قادر أنساه.. فكري كويس أوي يا بنوتي في سؤالي الجاي ده.. عندك اعتراض على حرف واحد من اللي بقوله؟

 

لا تُنكر أنها باتت تُفكر في كلماتها ملايين المرات قبل النطق بحرف واحد وكل هذا يحدث لعقلها خلال جزء من الثانية فسرعان ما أجابته:

-       لا معنديش!

 

تنهد براحة شديدة ووجدته يطبع قبلة على وجنتها بتريث بالغ به ثم عاود همسه لها:

-       ما دام متفقين، يبقى دي الحاجة الوحيدة اللي مش هعديها honey، لازم بس اوضحلك وجهة نظري بطريقتي.. وانتِ هتساعديني في ده.. مش كده؟

 

تملكها الذعر لثانية واحدة ولكنها احبطته بداخلها، أما عن أنفاسها المُرتبكة لم تملك عليها سلطان، كما شعرت بتدخل رجولته بينهما لتحول بين ذلك الذعر وبين تخميناتها لتعلم أن كل هذه رغبة محضة خالية من أي اشتياق، وبدون أن تفكر لمزيد من الوقت حتى لا يرتاب بها أومأت في صمت بالموافقة بينما هو عدل من جلسته بكرسيه وحرر عناقهما وأشار برأسه لها ثم حدثها قائلًا بنبرة ماكرة:

-       طيب وريني عندك استعداد تعملي ايه عشان تساعديني.. ارجعي مكانك على الأرض واثبتيلي إنك فهماني..

 

ترددت وهي تنهض ثم عادت من جديد لتجلس أمامه وعقلها لا يستطيع التوصل لما يقصده بعد بينما باغتها بقوله وعينيه تبرق بالرغبة المختلطة بلذة استمتاعه بعذابها وتهيئها النفسي أن تتقبل منه لاحقًا ما سيفعله منذ الآن فصاعدًا:

-       خدي بالك لو معملتيش اللي أنا اقصده كل غلطة برد فعل مني!

 

ترددت قليلًا، أو كثيرًا، لا يهم ما تشعر به، عقلها فقط مُثبت بتركيز شديد على ما سيجعلها تنتهي من هذه اللعنة للأبد!

 

حاولت التفكير مليًا بمقصده ثم اقتربت منه قليلًا وتابعها هو بعينين ثملتين بالرغبة الشديدة لها ليجده تقوم بتقبيل يده بشغف لم يعهده منها وارتفعت عسليتيها نحوه ليجدها تتساءل عما كان هذا هو مقصده أم لا وبالرغم من اعجابه بما فعلت لم يكن هذا ما يريده..

 

فكانت ردة الفعل الأولى صفعة بنفس كف يده الذي قبلته منذ لحظة واحدة، كان ينتظر بُكائها، أو ينتظر منها رمقة وكأنها تخبره بحوار عينيها أنها لا تستحق ذلك، أو حتى أنه يقوم بظلمها، على النقيض تمامًا، غازلته بعسليتين راغبتين به!

 

لا يعرف بعد أن مجرد هُدنة ولو قليلة باتت تتركها لتُفكر مليًا في هدفها، لو فقط نجحت في الاحتيال قبل أن تصل للأوراق هذا سيكون نجاحًا على المستوي الشخصي بالنسبة لها، كما خدعها مرارًا وتكرارًا.. ومما عرفته عنه هو رجل سا دي ويتأثر بشدة بجسدها.. لذا ستستخدم كل الوسائل المتاحة بين يديها!

 

-       مش ده اللي أنا عايزه..

 

ابتلعت وهي ترفع عينيها له بنظرة اربكته لدرجة جعلته يبتلع ثم همست له سائلة برضوخ لم يتوقعه منها:

-       ممكن أحاول تاني؟

 

أومأ لها موافقًا وهو يُفكر بالقادم الذي عليه فعله وكيف ستتقبل هذا منه، لو لم يتحرر هذا الكبت بداخله لا يدري كيف سيتحمل التالي معها، لم يعد يستطيع الاحتمال أمامها دون التفكير بأمر رغبته اللعينة التي لا تندثر أمامها، ووقت تلقينها الدرس الأخير تجاه ما فعلته قد ينهار في لمح البصر ويجد نفسه بدلًا من أن يُعذبها يقيم معها علاقة أخرى تمامًا.. هل هذا بسبب العشق؟ أم لأن هناك تلك الكيمياء اللعينة والانجذاب الجسدي فيما بينهما؟ لم يعد الأمر واضح له، فقط يريد أن يتخلص مما يحمله بداخله لأكثر من شهر كامل، ومعها لم يستطع الانتظار قط، منذ أول مرة له معها وحتى الآن هذه أطول فترة امتنع عنها، وبصراحة شديدة بينه وبين نفسه هذا أقسى ما عاناه معها!

 

كررت فعلتها ولكن وهي تتجه للأسفل، تقبل كلتا قدميه، تتجرع اهانتها ولكنها تقوم بصرفها لآخر المهام على قائمتها، ستنهار لاحقًا وستبكي ولكن ليس الآن، حلها الوحيد أن تكون مخادعة وخبيثة هذا هو الحل مع رجل محتال متلاعب كالدجال مثلما اعترف بنفسه في يوم من الأيام بخطاباته المراوغة التي عبثت بكل مشاعرها وعقلها لفترة من الزمن ليست بقصيرة أبدًا، أن يكون هو مريض ويتناسى نوبات هوسه وربما كلماته فهي ليست بمريضة مثله ولم تنس حرف واحد من كلماته، ولا تصرف من أفعاله!

 

رفعت عينيها بغزلٍ صريح وهي تحاول أن تحتال عليه بملقتين تنتظران نظرة رضاء واحدة منه واستمرت كما القطة المشاغبة بالقرب من حذاءه ولم يفهم أنها كانت تلعن نفسها مرارًا على ما تقوم به، ولكن كل ما جال بعقله أن هذا ليس بمقصده ولم تمتثل أمره، هي فقط جعلت حالته تنتقل من سوءًا لأسوأ بما تفعله، هل تريد أن تفقده عقله من شدة الإثارة وتشوقه لها أم ماذا؟

 

كان عليه أن يضع حدًا نهائيًا لتلاعبها به فدنا ليجذب شعرها ثم حاوط عنقها بيده بصلابة وهو يناضل أن يحافظ على ملامحه فنجح ببراعة، ولكن نظراته عبرت لها أنه أوشك على الانفجار من شدة رغبته بها..

 

ترك شعرها ثم لطمة منه وهو لا يزال يحتوي عنقها، كانت أبشع من سابقتها ولكنها قتلت الشعور بداخلها وكانت على شفا حُفرة من البكاء فاختارت ألا تفعل بينما وجدته يُحدثها من بين أسنانه المتلاحمة:

-       ما انتِ كنتِ حلوة في اخر سفرية وفهماني.. جاية النهاردة تعملي فيها غبية؟!

 

رطبت شفتيها وتحولت عينيها للنعاس بالرغبة وأومأت بالإنكار أسفل خصلاتها التي تبعثرت من لطمتيه لتجد يده تزداد صلابة لدرجة أوجعتها وهمست له بما لم يتوقعه:

-       مش غبية، أنا عايزة بس اعمل كل الحاجات اللي بتحبها كلها عشان اثبتلك إني بقيت زي ما أنت عايز في كل حاجة.. واللي أنت تقصده أنا فاهماه كويس!

 

اتجهت يديها بنقلات مدروسة علمها إياها يومًا ما، فعلتها كثيرًا أثناء ظنها بمنتهى الغباء أن زوجها يعشقها ولا تريد فقط سوى ارضاءه جسديًا وتحقيق امتاعه كما يفعل معها.. الأمر كان بالسابق بالتراضي البحت ولكن اليوم هي مجبرة على ادعاء الرضاء والتقبل والاذعان، ترغم على أن تصبح شبيهة من يُمنى، ونسخة طبق الأصل من خاضعة مخضرمة لن تقبل سوى هيمنته وسا ديته وعشقه وهوسه المرضي..

 

لو فقط تعرف كم يحترق بما تفعله به وهو فاقد لكل معاني السيطرة والتحكم بين يديها لتوقفت حتمًا، وقد أوشك على فقد زمام كل ما هو عليه إن لم تتوقف عن كل هذا الشتات الذي تسببه له، عليه أن يستعيد سيطرته عليها وبسرعة شديدة قبل أن تهلكه أسفل يديها!

 

ابتعدت يده عن عنقها لتُمسك بخصلاتها التي تبعثرت أكثر بفعل قبضته العنيـ فة الهمـ جية وبدأ يُتابع شفتيها وما تفعله ليجد نفسه في أقل من دقيقة لا يستطيع تحمل تأنيها وتريثها فيما تُكيله إليه من عذاب!

 

تفرقت شفتاه وهو يلهث بينما تفوه آمرًا:

-       بسرعة..

 

لمسته أناملها بتأني اذاب آخر ذرات قدرته على التحمل ثم نظرت إليه بتلاعب وحدثته بنبرة خافتة جعلته يُطبق أسنانه في غيظ:

-       مش أنت اللي علمتني إن فيه حاجات لازم متحصلش بسرعة وإلا تأثيرها مش هيكون حلو!

 

هل تستخدم كلماته ضده؟ لقد جنت على نفسها بما قالته!

 

نهض وارتدى ما ساعدته على التحرر منه منذ قليل ولم يكترث للذهاب كي يُحضر طوق ولا سلسلة ولا غيرها فاكتفى بجذبه لخصلاتها إلى أن اتجه بها إلى أقرب حائط كي يحاصرها، ما لم يره أن رغبته بها أقوى بكثير من كل تلك الترهات التي أقنع نفسه بها منذ الثامنة عشر وحتى يومه هذا..

 

أحيانًا تسود الإرادة والهدف كل شيء آخر.. وهذا ما جعله يتصرف بغضبٍ تام كالضرير، وهي إلى الآن كانت سعيدة للغاية بتملك ذلك التأثير عليه، وأدركت أنها لو استعادت تلك العلاقات المتوالية تباعًا فيما بينهما ستملكه كدمية بين اصابعها، فهي تحمل له قولًا سيُفاجئه حتى لو قام بتعذيبها بما لا تتوقعه.. مكر المرأة لا يزال لديه الغلبة في بعض الأمور!

 

اخفض من ملابسه مجددًا بينما تعلقت عينيها برغبة هائلة بخاصتيه لتجده يُحدثها بقسوة لاهثًا:

-       لما أقول كلمة متناقشنيش فيها!

 

كانت المرة الأبشع على الإطلاق، هذا ليس به وجه لأي مُتعة سوى لاضطراب شخصيته السا دية وهو يقوم بخنقها بحركاته المتوالية وهي يرفض أن يغادر فمها ولو لوهلة، أن يقوم بدفع رأسها نحوه وهو يجذب خصلاتها بين يديه لتشعر بألم شنيع لا تستطيع وصفه وتشبثت قدر ما استطاعت به ثم حاولت دفعه ولكن دون فائدة!

 

أسوأ دقيقتان بينهما، لم تتخيل سرعته الشديدة بمنتهى الهمـ جية وهو يفعل الأمر، لقد قاربت على فقد تنفسها حتمًا، لم تعد تتحمل دفعـاته التي تتوالى بوتيرة سريعة حتى بدأت عينيها في ذرف الدموع، يستطيع أن يحول الأمر من مجرد امتاع لزوجها بشفتيها إلى ذكرى سوداء لن تنساها لطالما سارت الدماء بعروقها!

 

خارت قواها على التحمل وبالفعل شعرت بالغثيان الذي دفعها لإفراغ كل ما تزال معدتها تحمله فأعطاها استراحة قصيرة وهو يرمقها بهيمنة وتقزز شديد ولم يكترث لمعاناتها في الحصول على بعض الهواء وبمجرد انتهائها أمسك برأسها من جديد وابتعد عن المكان قليلًا من شدة تقززه ورفعها حتى شعرت وكأن ثقل جسدها أصبح بأكمله مستندًا بين يديه ولم تعد تستقر على قدميها بالكامل وقبل أن تمنعه بتوسلات عاود كرته بغلظة شديدة وهو يدفع برأسها للجدار خلفها إلى أن صرخ بين أسنانه محررًا ما كان يتحمله لأكثر من شهر كامل!

 

تركها لتسقط أسفل قدماه والتقط أنفاسه وهو يخفي جسده من جديد ولبضع ثوان شعر وكأنه لا يستطيع الوقوف فاستند على الجدار لوهلة ثم سرعان ما استعاد القليل من السيطرة على جسده وابتعد وهو يتفقدها ليرى وجهها انعكس عليه اثار فعلته وبقايا ما يُثبت على افراغه لحمل كان يتحمله بشق الأنفس، وبالرغم من اعجابه بما توصل له معها إلا أنه حدثها باستهزاء وتقزز زيفه ببراعة لكي يطغى على ملامحه:

-       قومي نضفي القرف اللي على وشك، ونضفي اللي انتي عملتيه، لو جيت ولقيتك زي ما انتِ رد فعلي مش هيبقا كويس!

 

توقف للحظة حتى يطمئن أنها لن تفقد وعيها بنظراتها الناعسة تلك لتفوق توقعاته من جديد وهي تهمس له:

-       حاضر!

--

 

بمجرد تركه للغرفة تغيرت ملامحه للضيق الشديد، رؤيتها كقيلة دائمًا أن تُغير خططه، فجأة من رجل مُضرب عن العلاقات والزواج لآخر متزوج بها، ومن رجل يريد أن يقوم سلوكها لكي تصبح كما يحلو له إلى آخر يريد أن يقترب منها ويعانقها ويقبلها.. ما النهاية لسحرها إياه؟ ما المفر من كل هذا؟!

 

حل عقدة شعره ووقف أسفل المياه الباردة وهو يتذكر ما كانت تفعله منذ قليل، ظاهريًا تبدو وكأنها تغيرت، أما بباطنها لم يعد ير شيء، هل هذا كان لرغبته بها؟ لابد من أن هذه هي الحقيقة، أعمته الرغبة واشتهائها ليس إلا.. ليس هناك حل سوى هذا، سيعود لها من جديد وسيعرف ما الذي تضمره له! والحيلة بسيطة للغاية، سيرى إلى أي حد ستتحمل هذه المرة، فما حدث منذ قليل ليس بمقياس أبدًا على أنها تغيرت ورضخت له في النهاية..

 

-       ساكت دلوقتي بالذات مش كده؟ بطلت تدافع عنها خلاص؟!

 

حدث نفسه بينما لم يجد إجابة، ما لا يفهمه بعد أن هذه هلوسات، سمعية ومرئية أحيانًا على حسب مقدار ما يُعانيه وقتها وشدة صدماته، وفي مزاجه المعتدل وبعد التأثير الدوائي الذي انتظم عليه لمدة، اعتداله – مزاجيًا – سيستمر لفترة أكبر هذه المرة!

 

انزعج بشدة من هذا الخواء بداخله ثم اتجه سريعًا ليُجفف شعره وارتدى ملابس نظيفة ثم نثر بعض من عطره واتجه ليتناول بعض القهوة، فما سيفعله سيحتاج منه أن يكون مستيقظًا في كامل وعيه، فلقد اختبر الأمر بنفسه في يوم من الأيام ويعلم كم هو مؤلم!

 

وبغض النظر عن الألم، يعرف مليًا كيف يترك الإنسان في حالة من الخوف، شعور بغيض بالذل والإهانة، وخصوصًا عندما لا يكون له ذنب في شيء..

 

وما يعرفه، ويختار أن يُصدق به، أنها ليست خائنة، فلقد رأى نظرات هذا المخـ نث لها، هو لا يشتهيها، وهي لا تتفقده بتلك النظرة ولا الأنفاس المسلوبة عشقًا به.. يكفيها هذا الدرس القاسي على كل حال فلقد ذاقت لأيام متوالية ما لا بأس به من التعلم أنه لا يمزح معها ولن يقبل سوى ما يحلو له..

 

--

ارتكزت على الحائط لما قارب دقيقتان كي لا تنهار واستندت بيديها لتدعم جسدها، ما حدث بالرغم من همجية الفعل نفسه ولكنها تعلم أن هذا ما يمتاز به، وستُنكر وسوف تكون كاذبة لو أنها اعترفت بغير الحقيقة، همجيته تلك كانت تعجبها في بعض الأحيان بصحبة تغزله بها!

 

ظنت أنه هوس الهوى، الهيام عشقًا، نادت بأن هذا هو جنون الغرام ربما، حتى في أفضل لحظاته كان يمتاز بهذه التصرفات ولسوء حظها بالوقوع في رجل خبيث مثله كانت تتقبل أفعاله وهي تظن أنها من قبيل الانجذاب الجسدي وتلك الكيمياء اللعينة فيما بينهما وبمجرد بعض نظرات كان يحدث تفاعل يؤدي لانفجار لا ينتهي فيما بينهما سوى بعد أيام!

 

ولكن هذه المرة أن تكون كارهة لرجل، يملؤها غريزتي الفرار والانتقام منه، اختلف شعورها كثيرًا، وبكل الأسف لا تستطيع حتى أن تسمح لنفسها بالنظر أو الصراخ أو البكاء وإلا سيكتشف أنها تحتال عليه!

 

خانتها واحدة من دموعها التي جرت دون تحكم منها أو إرادة لتشق سبيلها على وجنتها وحاولت أن تجد أي شيء بالحمام كي تجفف جسدها به بعد أن أزالت اثار همجيته وقامت بتنظيف الغرفة كما أخبرها فلم تجد سوى منشفة صغيرة ابتلت بالكامل عند انتهائها من استخدامها!

 

لن تنسى ما يفعله بها، أن تصبح امرأة منعزلة عن حياتها وتقوم بالتنظيف والجلوس أسفل قدمي رجل تفني كل محاولاتها في ارضائه وحتى ولو من أجل الفرار منه، لن تنسى هذا طوال حياتها!

 

حاولت التغلب على هذا القهر الذي تشعر به وهي تخبر نفسها أن تصبر القليل بعد، ما دام وصل لهذه المرحلة لن تخسر سوى عدة لقاءات حميمية معه، عليها بدهاء أن تقنعه بالدخول للغرفة وبعدها ستصل بسهولة لتلك الأوراق، لا تحتاج فقط سوى أن يفتح لها بوابة الخلاص الأخيرة!

 

جلست أرضًا بالقرب من كُرسيه وهي تتصنع الانصياع الزائف، جذبت ركبتيها إلى صد رها فهذه هي الوضعية الوحيدة التي قد تنتشل أفكارها من أنها مجردة من أقل الأشياء كالملابس، وكالحياة واكتفت بالنظر للنافذة لتعرف أن السماء التحفت بظلمة الليل لتدرك أن ها هو يوم آخر لم تنل به سوى العذاب، وبداخلها حثت نفسها على ألا تنسى هذا لاحقًا!

 

لم يمر كثيرًا حتى رأته يدخل الغرفة من جديد، فاشرأبت تتفقده لتلاحظ اختلافه، وتسرب لأنفاسها رائحة عطره ومن على مسافة استطاعت التعرف بسهولة أنه لتوه فرغ من الاغتسال وملامحه تبدو مستيقظة أكثر، وكأن ما حدث منذ قليل جعل النشاط يدب بسائر حواسه على نقيض ما حدث لها، لقد ازدادت روحها دمار، وانتشرت رائحة احتراق كيانها لدرجة اصابتها بالاختناق..

 

كمن ينتظر شيئًا ما، ولم تتركه ليفعل، ذهبت إليه على أربع، وجسدها بأكمله يشعر بالتوجع، سواء قدمها التي تضررت بالفعل، أو حرب الاختناق الضاري منذ قليل، أو حتى تلك الكلمات التي غادرت شفتيها دون أن تدرك كيف نجح بها وقتها.. حتى ذراعيها لم تعد تستطيع حملها بعد تقييده إياها..

 

لم يعد يعرف ما الذي تريد الوصول له، ولا يدري هل عليه أن يثق بأن كل ما يفعله منذ أن تجاهلها ووصولا لليوم غير أي شيء بها أم لا، وأن تأتي كما الهرة تقبل قدمه غاية في رضائه كان هذا حلم بعيد المنال، ولكنه يتحقق، فلماذا عليه ألا يستمتع؟

 

اخفض من نظره نحوها ثم تكلم ببرود وهو يحاول أن يُحدد ماهية مشاعره ويتمنى أنه استعاد بعضًا من سيطرته على نفسه:

-       قومي!

 

نهضت على الفور فتفقد ملامحها واقترب ليشتم رائحتها لجزء من الثانية ليجدها اغتسلت بالفعل وتفقدت عينيه تلك البقعة التي كانا يقفان بها منذ قليل فوجدها نظيفة فابتعد من جديد وحدقها باستغراب لم يتضح بسواد مُقلتيه ثم تكلم آمرًا:

-       زي ما انتي روحي اوقفي عشان هربطك تاني..

 

القليل بعد، القليل، بعض الصبر ليس إلا، أن تمتعه بفمها بتصرفاته المرضية هذا مؤشر لقيامه عن قريب بممارسة علاقة جسدية معها، خطوة واحدة تبعدها عن كل ما تريده.. عليها أن تتحمل القليل بعد، وكل هذا كان ما اخبرت به نفسها وهي تتجه حيث أخبرها..

 

ثبت يديها بنظرات لم تفهمها يمينًا ويسارًا وشد الحبال بطريقة بشعة حتى أصبح التحرك بينهما مستحيل وكذلك فعل بقدميها ليصلهما بحبال عُقدت جيدًا بإتقان بدائرتين حديديتين مثبتتين بالأرضية، وما أدهشها حقًا هو ذهابه ليحضر ما يُشابه عصا معدنية استقرت ببعض فتحات هذان العمودان أمام خصرها تمامًا وهذا ما قيده هو الآخر وثبته بإحكام ثم ذهب وتركها وعاد إليها من جديد ليجلس على هذا الكُرسي أمامها بعد أن اذهب وأشعل احدى سجائره وجذب الزجاجة من جديد وتناول منها القليل..

 

-       فاكرة الرواية اللي كنت بحكيلك عنها، تعالي نكملها سوا!

 

رسائله اللعينة المخفية في القصص والأساطير قد فاقت حد احتمالها ولكن سرعان ما أخبرت نفسها أنه تبقى القليل بعد، لقد أوشكت على الفوز واحراز هذا الهدف الوحيد الذي تبتغيه منذ مدة!

 

-       لما بتصحى بعد اللي حصلها وبتلاقى نفسها وسط الزرع بتحاول تمشي وهي بتسأل نفسها ذنبها ايه، ومفكرتش للحظة إنها غبية.. بس تعرفي يا قطتي، اللي حصلها بعد كده كان اكبر اثبات على غبائها..

 

وجدته ينظر لها بتشفي وملامح غريبة كمن يحمل بداخله أمرًا ما لا يريد أن يفصح عنه فابتلعت خوفًا مما قد يفعله بها وارتقبت اختلاله الذي تابع به:

-       لقت اتنين بيتكلمو، بيشتغلو عند حد مهم، وتقدري تقولي إن كان فيه بينهم علاقة مكنتش مقبولة في الفترة دي.. وهم اخدو بالهم انها سمعتهم.. حاولت تفهمهمهم وتتحايل عليهم انها مسمعتش حاجة بس مصدقوهاش، عذبوها وربطوها في اربع شجرات على هيئة مربع، كانت من كتر اللي بيحصلها قرب جسمها ميستحملش وبطنها كانت هتوصل لمرحلة الانفجار.. بس الراجل المهم اتدخل ساعتها..

 

استنشق من سيجارته واكتفى بإسناد الزجاجة أسفل قدمه وعينيه تأبى ترك خاصتيها ثم أكمل ترهاته:

-       قالها هنشوف إذا كان كلامك صح ولا لأ مع الوقت وسلوكك وتصرفاتك هتثبت كلامك.. واخدها البيت وشغلها عنده خدامة، كان عايش مع عمته، حاول يقرب منها ويناقشها ويفهمها إن طريقتها غلط.. وتفكيرها متخلف.. بس فضلت مكملة زي ما هي، وكأن كل اللي حصلها معلمهاش حاجة.. ابتدت تعجب بيه، أصله كان كلامه حلو وشكله أحلي، وبقت عاطفية اوي معاه.. مع انه مكنش ليه في الستات اساسًا!

 

لحقها بتلك النظرة لتضيق ما بين حاجبيها لتفهم أنه يقصد أنه كان شاذ الميول فابتلعت بتقزز لهذا الشيء المشين والآن فهمت ما معنى العلاقة التي كان يتكلم عنها منذ ثواني ومن جديد أردف وهو يُحدق بسيجارته المشتعلة:

-       هو مشافش حبها ليه اللي ابتدى يكبر، وطبعًا عمته كانت شايفة إن ده بعيد كل البُعد عن الأدب، والفضيلة، والأخلاق.. كانت بتحاول تخليه زيه زي أي راجل، يحب الستات ويتجوز، وكانت شديدة اوي معاه في طريقتها، فهو كمان كان مصمم على نزواته وبيتعامل بنفس طريقتها وبمجرد ما كان بيشوفها مش سعيدة كان بيبقى مبسوط.. أصل فيه ناس مبترتاحش غير لما توجع اللي قدامها!!

 

نفس عميق تناوله ونفثه، تحاول فهم رسالته الخفية، ولكنه سهل لها الأمر هذه المرة وهو يوضح أكثر:

-       هي بتقرب منه، وبيتناقشو، وفضلت علاقتهم مكملة بنفس الطريقة خمس سنين.. المفروض انها من اسعد الأوقات في حياتها، كان ابتدى يثق فيها، أو كان قرب يثق فيها، فقالها احلفيلي إنك مش هتقولي سري لحد.. واني أقدر اثق فيكي.. وبما أنها ست زي أي ست قالتله استحالة اطلع سرك، لأ مش كده.. أنا فاكر كلامها بالحرف، قالتله ازاي توسوسلك نفسك إني أخون ثقتك.. بترمي عليه إن تفكيره بيوسوسله وإنه هو الغلطان مش هي.. عمومًا

 

تنهد ثم عاود الحديث مرة ثانية ليُكمل هذه القصة وهو يترك سيجارته الأولى بالمنفضة بعد أن أشعل منها أخرى:

-       طلب منها تساعده يموت عمته عشان كان زهق منها وعايز البطلة تساعده، عايز يتمتع بالورث اللي عمته ساعدته انه ياخده والحياة اللي هو عايزها والحرية اللي تخليه يعيش بالطريقة اللي اختارها.. أنا ضد ميوله طبعًا.. بس فيه حاجة.. هو عرفها بمنتهى الصراحة هو عايز ايه، إنما هي صممت على اللي هي شايفاه صح!

 

ارتشف القليل من زجاجة الويسكي المركز، بعد أن اخلط مذاقها بصحبة ادخنته السامة، وحدق بها مليًا ثم قال بابتسامة ساخرة:

-       كل اللي طلبه منها إنها تحط لعمته السم في الأكل، هي سابت بقا الهروب، وإنها تسمع كلامه، وإنها تصارحه، وفي الآخر راحت عرفتها خطته.. مُتخيلة خانته ازاي؟ بعد ما هو اللي دافع عنها وأنقذها من اللي كان هيموتها.. كان ممكن بمنتهى البساطة تهرب، بعد خمس سنين قدرت تجمع فيهم فلوس وارتاحت وكبرت ومبقتش صغيرة زي الأول، كان ممكن يبقى ليها معارف وعلاقات كتير تنفعها وقت الزنقة، إنما الغبي بيفضل طول عمره غبي.. زيها!!

 

عقدت حاجبيها وهي تحاول أن تتبين ما الذي يعنيه بترهاته وجسدها بات يصيبها بالآلام المتلاحقة في سائر أنحاءه مرة ثانية، لتجده في النهاية يُتابع:

-       عمته بعتت جواب ووقع في ايد واحد من خدامينه، وكان بيحبه أوي، فراح عرفه كل حاجة.. وساعتها اكتشف خيانتها ليه! والجواب كان فيه كل الحقيقة!

 

نهض ثم اتجه ليقف خلفها وهو يُمسك بزجاجة الخمر بيده ثم فاجئها بالسائل الذي تلمس ظهرها هبوطًا لما بعده حتى ساقيها وأكمل قصته اللعينة:

-       بعد ما عملت فيه كل ده كانت لسه بتحبه جواها، ازاي الستات بتقدر تعصى وتحب في نفس الوقت، بس عمومًا ده للأغبيا اللي زيها بس.. واللي يؤكد غبائها أنه اداها معاد بليل عند نفس الشجر اللي كانت مربوطة فيه من خمس سنين.. وعذبها، ربطها في شجرة بعد ما عرفها إنه عرف حقيقتها، وساب الكلاب عليها تعضها.. وساب بس ايديها عشان يتفرج عليها وهي مش قادرة تعمل حاجة وسط الحراس.. وفي النهاية اتهمها انها هي اللي قتلت عمته قصاد الكل.. ويستحيل كلمة ست خدامة تساوي كلمة راجل معاه فلوس في الوقت ده.. وسابها تمشي عشان هي تبقى سبب قتل عمته قدام الناس وسابلها شوية فلوس مخدهاش منها عشان يبقى سهل يلاقي الجاني ويبرأ نفسه!

 

اتجه ليُلقي سيجارته الأخيرة في المنفضة وتجرع البعض من الزجاجة ليتساءل بالكثير مما لا يحتاج إجابات عليه:

-       حذرها واداها فرصة، وهي مسمعتش الكلام، ومكانتش صريحة.. مش كده؟ ما كانت ممكن تصارحه، بس متبعهوش، لو كان من الأول عاملها بطريقة مُعينة يستحيل كانت تعمل عملتها.. عشان كده العقاب بيفكر اللي زيها ميغلطوش تاني، أصل فيه ناس لو اتسابت لدماغها بتعمل كوارث، صح يا قطتي؟

 

حسنًا، هو يخبرها بطريقة أو أخرى أنها مثلها، وأنه سيعاقبها، جلدات وصفعات أم مما رسة عنيـ فة؟ يا تُرى ما الذي سيفعله حتى تنتهي من هذه اللعنة للأبد؟!

 

أصابها بالذعر لينتفض جسدها وهو يقوم بكسر الزجاجة بما فيها على المنضدة وحدقها بجدية غير عابئًا بأنها لم تقم بالإجابة على سؤاله وحدثها بنبرة خافتة افزعتها:

-       بس أهم حاجة إن العقاب يوجع بجد، عشان الغلطات متتكررش، تسيب علامة عشان كل ما نشوفها نفتكر احنا غلطنا في ايه، أو على الأقل تسيب ذكرى جوانا كل ما نفتكرها يستحيل أبدًا نتصرف بنفس الطريقة تاني!

 

امسك بقطعة من الزجاج لتتسع عينيها في رهبة حقيقية متناسية كل ما حاولت أن تقنع نفسها به الأيام الماضية ومن جديد أردف بنفس صوته الذي صاعد خفقات قلبها لتصبح سرعتها جنونية:

-       أنا شخصيًا جربت حاجة، وغيرتني طول حياتي.. يمكن أنا جربتها بالطريقة الصعبة.. إنما هخليكي تجربيها بطريقة أسهل شوية!

 

اتجه خلفها وهو يحدق بجسدها ثم اقترب من اذنها ليهمس بفحيح جعلها تقارب على فقد عقلها من شدة الرعب الذي يُسببه لها:

-       مش قادر أنسى ايد راجل غيري عليكي، على الست الوحيدة اللي تخصني وليا حق فيها، ولا قادر أنسي إنك سمحتيله بده، بس أنا هغير الصورة والتفاصيل وهقدر امسحها من دماغي بطريقة سهلة أوي!!

 

وما إن بدأ حتى صرخت وبشرتها تواجه هذه الزجاجة التي لا تتركها دون أن تسيل دمائها، بينما هو ثابت لا يهتز به شعره، يصيبه صراخها بالراحة، ويصيبه بالمزيد من خداع نفسه بأنه قادر على الكثير معها!

 

-       أرجوك كفاية، أنا مش هاقدر استحمل.. محدش هيجي جانبي تاني والله بس كفاية!

 

أكمل بطريقة غير متقنة رسم ما يُشابه بكف اليد أسفل مؤخرة عنقها بمسافة مقبولة، بنفس المكان الذي كان يلمسها هذا المخـ نث به، لم يُجبها، فقط لاحظ محاولات فرار جسدها فمنعها عن التحرك وهو يدفعها للأمام حيث تلك العصا التي ثبتت خصرها، توسلاتها وتضرعها له لم يُغير شيء به..

 

لم تكن الجروح غائرة كما أصابته يومًا ما، ولم يكن صراخها يُشبه صراخ طفل صغير لا حول له ولا قوة، ستستقر في النهاية بعناق لم يحظ به هو من والده، ربما الآن هو الجاني ولاحقًا سيكون من يهون عليها.. ربما ستتعلم هذه المرة لا محالة أن وجود رجل آخر في صورة عقله غير مقبول..  ومجرد لمسة يد منه عليها هذا هو العقاب الذي سيُخلص عقله من تذكره صورتهما معًا!

 

اتجه ليقف أمامها وهي تبكي آلمًا وتحاشت النظر إليه تمامًا ثم حدق بها مليًا ليحدثها آمرًا بنبرة جدية:

-       بُصيلي!

 

لم تستجب وهي لا تزال تشعر بالألم كالحريق الكاوي لظهرها وهي تشعر بالدماء تسيل منه ويأتي بدناءة فعلته ويأمرها بأن تنظر له، فليتعفن في الجحيم، لن تستجيب له ولو قتلها.. لقد قارب على فعلها عمومًا وهي لم تعد تكترث!

 

لم يتقبل بالطبع ردة فعلها فأمسك بطرف الزجاجة ووجهه ليلامس أسفل ذقنها وأجبر وجهها على الارتفاع لكي يرى عينيها واضحة أمامه بكل ما تحتويه من مشاعر لتحاول أن تتماسك فهي لا ينقصها جولة من محاضرة في علم التشريح ولكن تلك النظرة الشرسة بعينيها لم تذكره سوى بالمرأة التي كانت تمتلئ بالكبرياء أمام مكتبه!

 

وقف أمامها كالصنم للحظات، وأدرك شيء وحيد، الخوف والذعر وكل ما فعله أو قد يفعله ليس له سوى نهاية واحدة بالتأكيد.. وهو لا يريد أن تكون هذه نهايتهما!

 

اتجه ليحررها من قيودها وهو يشعر بالشتات بداخله، فمهما فعل هذه الأنثى ليست بخاضعة، ولن تتقبل الخضوع، ولن تكون سوى بأحلامه!

 

وضع يده على عنقها وسرعان ما اتجه للغرفة الملحقة وهو يدفعها ثم قام بفتحها بعد أن مرر سبابته على البصمة التي الحقت بجهاز الحماية لتتوقف عن صوت بُكائها ولكنها لم تستطع أن توقف دموعها المنهمرة من شدة الألم الذي لا يُحتمل..

 

أوقفها مولي ظهرها لمرآة مثبتة على الحائط واتجه للطرف الآخر من الغرفة ودفع مرآة متحركة حتى يتثنى لها رؤية ما فعله ثم قال:

-       ده عشان يفكرك كويس بغلطتك لفترة مش قليلة، وعشان يشيل من دماغي لمسة ايده عليكي.. أسبوع أو اتنين بالكتير وهتروح.. لو حابة المرة الجاية تسيب أثر فيكي طول عمرك مش هتأخر!

 

حدقها بإحباط اختلط بغضبه واقترب نحوها ثم أخبرها:

-       متلبسيش حاجة تغطي ضهرك طول الأيام الجاية عشان اتفرج عليكي!

 

رمقته بغضب رغمًا عنها والألم بظهرها كان أسوأ ما اختبرته من شعور بحياتها لتدخل بنوبة من بكاء جارف ظنت أنها لن تنتهي إلي أن تذهب بأنفاسها إلى الأبد وحاولت أن تبتعد بأنظارها عنه لتجده يُمسك بأسفل ذقنها بصلابة فواجهته بصمت شفهي ولكن عينيها باحت بالكثير من الوعيد له ليفاجئها هو هذه المرة بقوله:

-       أي حاجة في الدنيا أنا مستعد اعملهالك.. لكن راجل غيري لأ! دي أنا مش هسامح فيها أبدًا..

 

دفعها للخارج ثم قصد أن يتضرر ظهرها وهو يُثبتها على أحد الجدران ونظر لها بجدية أكبر من سابقتها وصرخ بها سائلًا:

-       فاكرة إيه اللي حصل هنا بالظبط، فاكرة يومها قولتلك ايه؟ من غير تفكير ولا وعي مني وكنا لسه مكملناش شهر جواز؟!

 

حدقته واكتفت بالصمت غير مكترثة بعشقه التافه الذي أثبت لها مرارًا أنه لا يعني له هو نفسه شيء ليجذب شعرها بقسوة وامتلأت عينيه بدموع مكتومة لم يسمح لها بالفرار وصاح بها:

-       بصتك ليا خلتني متأكد إنك غيرهم وعمرك ما هتكوني زيهم، وأنا كمان غير الراجل اللي كنتي بتحلمي بيه، زي ما أنتِ غير الست اللي كنت بحلم بيها.. يمكن احنا الاتنين فشلنا اننا نغير بعض، بس اللي مش هسمحله يفشل هو وجودك في حياتي يا روان بأي طريقة أيًا كانت ايه هي!  

حملها رغمًا عنها واتجه للخارج مبتعدًا عن كل ما هو عليه وهو قد أقر بنفسه أن بعد كل ما مر عليهما لم يعد هناك ما يحلو له، ولا ما يحلو لها.. ربما الأمر لم يعد يحلو سوى لحياة لا يعرف كيف ستنتهي بهما ولا ما تحمله في طياتها لهما!

يُتبع..