-->

الفصل الرابع والعشرون - كما يحلو لكِ - النسخة العامية

 

الفصل الرابع والعشرون

النسخة العامية

 

بعد مرور عشر أيام..

 

حبيسة بقفص لا تستطيع المكوث بداخله جالسة، لو لم تنم على يديها راكعة بالفعل وهي عارية لن تستطيع أن تنال قسط من الراحة، لمدة خمس أيام كان كل حلمها أن تحصل على متر إضافي حتى يُمكنها التحرك، لقد تحولت حياتها إلى جحيم لا تُطاق، ووصولًا إلى اليوم وجدت نفسها تبكي رغمًا عنها متناسية كل ما ظنت أنها ستتحمله من أجل الفرار!

 

من الذي يفعل بزوجته هذا؟ حتى ولو أنه لا يشعر نحوها بمشاعر، لماذا يفعل شخص عاقل مثل فعلته الشنيعة معها؟ عشرة أيام كاملة، يرمي لها بلقيمات قليلة وشربة مياه خلال موعدين للإفطار وللعشاء، وبعد كل منهما بساعتين موعد لقضاء حاجتها، يا له من كريم!

 

لقد دخلت هذه اللعنة طوعًا، ظنت أن الأمر سينتهي بعد ساعة أو اثنان وهو يقوم بصفعها أو تكبيلها أو حتى فعل أي من عقابه الذي يُنادي به، ولكن هل العقاب من وجهة نظره أن تشعر بهذا القهر؟

 

حتى الجلد والصفع والتكبيل أهون آلاف المرات أن تشعر بمثل هذا الشعور على نفسها، لا شيء أسوأ من أن تشعر بالقهر الصريح، وكأنها باتت لا تختلف شيئًا عن، هي حتى لا تجد الكلمة المناسبة لوصف كيف يقوم بمعاملتها!

 

وسؤال لعين وحيد، يُكرره على مسامعها، ولبروده وعدم حديثه معها هي تتذكر كل الإجابات التي تفوهت بها، وإلى اليوم لا تدري إلى متى سيستمر هذا العذاب، فحتى مُلاك الكلاب يذهبوا معهم بنزهة بين الحين والآخر.. ما يفعله معها هذه المرة لا يستطيع عقلها مواكبته!

 

تفقدت الغرفة حولها مع انبعاث ضوء النهار أخيرًا، تلك الأسواط والعُصي، المجسمات الغريبة، الكثير من الأدوات التي لا تعلم كيف ومتى كان لديه الوقت لاستخدامها، مجرد تسليط انظارها على التفاصيل يصيبها بالاختناق، وتشعر وكأنها على شفا حفرة من الانهيار..

 

لقد قاومت، صرخت وتكلمت وبكت وحاولت أن تفلت خارج هذا القفص وفعلت كل ما بوسعها لعله يقبل بالأمر، هي تتذكر تفاصيل أيام عذابها مليًا وكأنه بات اسمها الذي ستتذكره طيلة حياتها ولن تخطأ بنطق تفاصيله كما تنطق حروف اسمها، ولكن بعد ما حدث في خلال الأيام الماضية لم تعد تجد سوى إقناعه بأنها باتت خاضعة كما أراد منذ البداية، واياها لو اكتشف خديعتها وإلا ستصبح بالمرة المُقبلة في عداد الموتى!!

 

آلمها هذه المرة فاق حد الاحتمال، ليس لجرح ببشرتها سيُشفى بعد مدة، ولكن لهذا الجرح الأعمق بداخل نفسها، عندما تتذكر ما مر عليها لن تستطيع سوى الانهيار!

--

تتذكر أول يوم لها بهذا العذاب الذي لا تعلم ما نهايته..

أول مرة آتى وأخرجها خارج هذا القفص اللعين، كانت تبكي بهيستيرية، تتوسل ألا تعود لداخل هذا السجن الصغير، حتى من حُكم عليهم بالإعدام لا يجلسوا بمثل هذه المساحة الضيقة، بمجرد ادراكها أنه آتى بالفعل فعلت كل ما بوسعها حتى يُحررها، ولكنه انتظر، لم يكترث لأي من كلماتها التي صاحت بها، نظرة طويلة باردة لا تحمل جزء من ذرة مشاعر إلى أن اجبرها في النهاية على الصمت، والسكوت، التوقف عن البُكاء والاعتراض وفي النهاية؛ الإنصات!!

 

جعلها يومها تجلس على ركبتيها المصابتين بالتوجع بالفعل، ووقتها نظر إليها بملامح لن تنساها أبدًا، حتى لو استطاعت النجاح والابتعاد عنه، ولسذاجتها ظنت وقتها أن الأمر انتهى، ولكن لم يحدث، لقد كان يُريد أن يصيبها بفقدان العقل أو الخضوع، أيهما أقرب!!

 

 

-       أنا بعمل فيكي كده ليه؟

 

رمقته مليًا ثم اجابته بتلقائية ونبرة مستفهمة:

-       عشان كلمتك بأسلوب مش كويس؟!

 

 هز رأسه بالإنكار باقتضابٍ شديد بالكاد لمحته فكادت أن تتابع:

-       عشان مـ..

 

قاطعها برفع اصبعه فوق شفتاه كعلامة على السكوت فتوقفت عن الكلام من تلقاء نفسها لتجده يحضر طبقين من جانبه، واحد يحتوي على طعام والآخر على بعض المياه، اكتفى بوضع كلاهما أسفل قدماه مباشرة، ولم يبالغ بالكثير من الكلمات حيث آمرها:

-       كُلي..

 

توجهت عينيها وهي تجده يُعدل من وضع قدمه، هو يقصد أن يقوم بإهانتها، ليس هناك تعريف آخر لهذا، يريد أن يقنع عقلها بأن أفضل معاملة لها هي معاملة تُشبه معاملة الحيوانات، وبالرغم من كل ما ظنت أنها ستتعرض لها لم تُفكر قط أنها ستكون مضطرة أن تتناول الطعام من أسفل قدميه..

 

تلك الغضاضة بداخلها منعتها أن تتصرف كما الحيوان تمامًا مثل ما يُعاملها هو، لقد فشلت أمام نفسها، ولأنه أول يوم لعذابها كان يتوقع منها ذلك، فهي ليست سوى الفتاة المدللة الفاتنة التي لم يخبرها والدها كيف عليها أن تطيع الرجال!

 

وجدته ينتظر، دون النظر لها، يقرأ بكتاب لم يحمل أي عنوان، دقائق مرت وهو في انتظار أن تنصاع له وتخضع لما قال، ولكن آتاه ردًا منها لم تكمله:

-       أنا مش هاعـ..

 

من جديد اوقفها بنفس الإشارة وهو يضع سبابته على شفتيه وما يقارب دقيقتان جلس منتظرًا ليحدق بساعة يده في النهاية ثم نهض، تابعته بعينيها لتجده يُمسك بشيء دائري بيده يتدلى منه سلسلة واقترب منها لتعود للخلف قليلًا ببعض الرهبة، وقتها لوهلة ظنت أنه سيقوم بتكبيلها وسيُنهي الأمر بعد أن يخبرها بأخطائها كما فعل بالسابق، لذا حاولت الثبات ولكنه لم يكترث ووضعه حول عنقها ثم جذب السلسلة بغتة فاختل توازنها لتجد نفسها بتلقائية تستند على يديها لتصبح من جديد كما الحيوان الذي يسير على أربع، ابتعد ثم اتجه نحو القفص، قام بإدخال هذه السلسلة بين فتحاته، ثم جذب السلسلة ليقوم بتعليقها على الجدار بجانب القفص مما اجبرها على العودة من جديد إلى الداخل..

 

صرخت بهلع، ظنت أن كلماتها ستقنعه بالأمر، عانت كي تتخلص من جذبته القاسية وكأنه لا يضعف أبدًا بالرغم من أنها تحاول الخروج، تريد بكل الطرق أن تتحرر من هذه اللعنة حول عنقها، تجذبها وتحارب كي تقوم بخلعها ولكن لا تدري كيف اغلقها حول عنقها لن تقبل عذاب يوم أمس ليتكرر، فتساقط في النهاية صوتها مختلطًا بنبرة مرعوبة كانت جديدة على اذنيه لها واقع السحر عليه ليطغى الرضاء بداخله:

 

-       لا أنا مش هاقعد في الزفت ده ثانية واحدة كمان، أرجوك بلاش كده، أنا مستعدة اعمل أي حاجة غير إني أكون هنا، خرجني يا عمر، خرجني بدل ما..

 

-       بدل ما ايه؟

 

قاطعها ثم سرعان ما تابع:

-       مش هتقدري تعملي حاجة، وكل حاجة هتعمليها صدقيني المرة دي هيكون ليها رد فعل مني، ومش معاكي انتي بس، مامي وبسام والشغل ويونس ويارا وولادها هيلعبو معانا المرة دي.. حاولي بس تنطقي بكلمة غلط، أو تعملي حاجة مش عجباني، وشوفي ايه اللي هيحصل.. وأول حاجة هبتدي بيها هي شغلك!!

 

قام بإغلاق القفص ثم تطلعها بعناية والذل ينهمر مصاحبًا لتلك الدفقات المقهورة من عسليتيها، ما زال العصيان ينفجر من حواسها وما زالت تعتز بنفسها، تظن أنها أعظم من أن تتذوق الطعام بجانب قدميه، ربما لاحقًا ستبدأ بالتعود، على كل حال الإنسان يستطيع أن يتحمل عدم تذوق الطعام وعدم تناول المياه لعدة أيام، أمامها شهر بأكمله حتى يبدأ القلق يُشغل عقله، لا يمانع الذهاب بهذه الجولة كل يوم إلي أن يرى زهد هذه المرأة في الحياة، وليرى إلى متى ستتحمل، إمّا أن تكون كما يحلو له، وإمّا أن تموت جوعًا وعطشًا كما يحلو لها، والبقاء للأذكى بهذه القصة اللعينة، والغُلبة لمن يملك بين يديه زمام الأمور!

 

-       كمان ساعتين هتروحي الحمام.. لو لقيت بصة واحدة مش عجباني أخرك هيبقى في الركن اللي هناك ده!

 

أشار بسبابته على واحدًا من أركان الغرفة ولمحها لمحة أخيرة بطرف عينيه وهي مُجبرة أن تتحمل الركوع على يديها وركبتيها ولن تستطيع التحرك بفعل السلسلة المُثبتة على الجدار.. وبمجرد خروجه كانت لا تزال مصدومة من هذه التجربة، حاولت التحرك أو حتى اخفاض رأسها كما فعلت بالسابق ولكن دون جدوى، فالأمر يؤلم حد اللعنة.. ووقتها بعد محاولات عِدة لم يصحب أنفاسها سوى البُكاء..

 

فتاة جيدة، لم تفعل يوم شيء خاطئ، فعلت كل ما بوسعها لتكون متفوقة، تتعامل مع الجميع بحدود، بذلت مجهودًا قد لا تتحمله امرأة فقط لتحافظ على عمل والدها، الكثيرات تحسدنها على ما توصلت له وهي تُبقي على أحوال أُسرتها كما هي بل حساباتهم البنكية قد تحسنت أحوالها، كانت لا تحصل سوى على التقدير الأعلى بين صفها، وهذه هي نهايتها، أن تعامل معاملة الحيوانات؟! وعلى يد من زوجها؟!!

 

رجل ظنت أنه سيكون واحد من أفضل الرجال، غفرت له وسامحته ووثقت به بدل المرة آلف مرة، ثم يعود ليُهينها من جديد مُذكرًا إياها بنفس تفاصيل بداية زواجها؟

 

لو كان يقصد أن يُعيد نفس القصة المريرة لم يكن ليفعل بها ذلك، ولو كان محقًا بعشقه لها لم يكن ليُهينها إلى هذه الدرجة، وكل هذا من أجل ماذا؟ ارتيابه بأنها خائنة، لم لا يُطلقها ويتركها بسلام؟ هل الحياة كإنسان طلب صعب للغاية؟

 

أن تبقى هكذا لمدة ساعتان، مُعلقة من عنقها كما البهائم، جالسة على أربع كما الماشية، حبيسة بداخل قفص كالحيوان، تذهب للحمام بموعد محدد، بعد الطعام بساعتين، ثم تعود ليشفق عليها ويقوم بفك السلسلة، ثم بالمساء، يعاود الكرة، يُلقي لها بالطعام أسفل قدميه، يأمرها بأن تتناول الطعام، وباليوم الأول لم تستطع أن تفعلها، لذا يُكبلها من عنقها، وبعد ساعتين يسمح لها بالذهاب إلى الحمام، ومن ثم العودة إلى القفص.. وأخيرًا تنام متكومة على نفسها، عارية، تعاني من حرارة الجو، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة بداخل هذا القفص الحديدي، فلا حتى يُمكنها الجلوس حتى تنام!

 

عشرة أيام، نفس القصة تُكرر، وبكائها يزداد، وتلك المهانة تتجرعها بداخلها، لا تستطيع الإفلات من هذه المشاعر المخزية، والأسوأ سؤاله الذي يتكرر وكلما اجابت عليه يُشير لها بأن تصمت.. ثم يأمرها بتناول الطعام.. وسؤاله يكون دائمًا في الصباح!

 

تتذكر اجاباتها جيدًا، وها هي تحاول أن تعرف ما الذي يريد أن يحصل عليه كإجابة، فتسع إجابات لم تكن أي منهم صحيحة على ما يبدو، فهي لم تقل الكثير على كل حال بالأيام المنصرمة، ولكن حقًا ما الذي يُريدها أن تجيب به؟

--

 

باليوم الثاني كانت اجابتها بعفوية مرة ثانية:

-       عشان الموقف اللي حصل مع يونس!

 

أشار لها بالصمت، ولم يكترث ببكائها، ورفضها وصراخها، كانت تلك السلسلة اللعينة تتحكم بها وهو يجذبها بشدة، فحاولت باليوم الثالث، اليوم الذي كان الأبشع على الإطلاق، ومهما حدث، ولو أصبح أفضل الرجال بالعالم يومًا ما لن تنسى ما فعلته من أجل أن تبقى على قيد الحياة بعد أن شعرت أنها ستموت لو أكمل ما يفعله بها:

-       عشان اخدت الكتاب من غير ما ارجعلك!

 

إجابة ثالثة خاطئة حيث أومأ لها يومها بالنفي، هزة رأس تكاد تُرى، ولكنه بهذا اليوم كان يتواجد بعينيه بريق غريب، بريق مستمتع بهذا العذاب الذي تكابده، وعلمت أنها إن لم تتناول الطعام لن تخرج حية من هذه الغرفة، وتيقن هو الآخر أن ذلك الإرهاق الذي يراه على ملامحها وفي تحركات جسدها سيجبرانها في النهاية على تناول الطعام من أسفل قدميه، وبجانب حذاءه، بل وعليها أن تكون ممتنة للأمر!

 

-       كُلي..

 

آمرها ثم لمح ساعته ليحدد لها دقائق قليلة فقط للطعام، وبعدها فتح نفس الكتاب الذي طُمست ملامحه، وانتظر وهي جالسة على رُكبتيها تنظر له، وكما لم يتوقع أيًا منهما ذلك، أجهشت بالبُكاء.. وكما لم تتوقع هي لم يُجرب أن ينظر لها وحتى ولو بلمحة سريعة، ولا بطريقة غير مباشرة، وكأنه ولد بلا قلب نابض، بل خُلقت القسوة من خلف ضلوع صدره!

 

كل ما قاله، كل ما وعدها به، كل تلك المحاولات، كيف له أن يصيبها بهذا الألم وهي جالسة أمامه وأسفل قدميه بهذه الطريقة وحتى مجرد نظرة وحيدة منه لا يُشفق بها عليها! كاذب بامتياز، بل هو محتال!  

 

حاولت أن تُكَون بلسانها جُملة واحدة بين نحيبها ثم همست بتوسل حقيقي لا تظاهر به بعد أن طعنتها اهانته لها لليوم الثالث على التوالي:

-       أرجوك مش هاقدر آكل بالطريقة دي، بلاش الأسلوب ده أرجوك، أنا مستعدة اعمل اللي أنت عايزه بس بلاش الموضوع ده!

 

لم يكترث لما تقوله، ولم يهتم حتى لنظرة وحيدة منه، بالرغم من أنه يتحرق شوقًا لرؤية التوسل الجلي بعينيها، ولكن لن يدعها لتُفكر أنها تستطيع التأثير عليه، لن يسمح لها، سوى بمعرفة الوقت المتبقي لها:

-       قدامك أربع دقايق بالظبط والأكل يتشال!

 

نبرة باردة، هادئة، فارغة من كل المشاعر، وتركيزه بالكامل قد ذهب لتلك السطور اللعينة المستغرق بها كالتلميذ الذي لديه اختبار بها بالغد، وكأنه لم يُخبرها للتو بأن عليها قتل نفسها!

 

لم تعد تتحمل الوضع، قررت أن تثور من جديد لعل الأمر يفلح هذه المرة، لقد قام بتهديدها بعائلتها من قبل ولم يفعل شيئًا لهم، حاولت النهوض من جلستها الموجعة، وقبل أن تفعل وجدت السلسلة بالفعل بين يديه، يُمسك بها، وجذبها بمنتهى الهدوء ولكن بعنف، لتتهاوى أرضًا منكبة على وجهها، وبعد تجربة هذا العطش، بمساء اليوم الثالث، وعند رؤيتها لتلك المياه بالقرب منها، كانت على وشك أن تفعلها ولكنها رفضت أن تخضع لعقله المريض!!

 

وبالمساء، عاد في موعده، وأخرجها من سجنها الصغير، ثم وضع الطعام والشراب أسفل قدميه، وأمسك بالسلسلة، دون كلمات هذه المرة، لتتهشم بداخلها وهي تبكي على ما ستفعله، واضطرت في النهاية أن تتناول كل المياه التي لم تكن كثيرة على كل حال، أما عن مشاعرها بهذا اليوم، فلا تجد الكلمات الملائمة لوصفها، لقد باتت تكره نفسها على ما فعلته!!

--

 

 باليوم الرابع ظنت أن المياه ستُبقيها حية، ونظراتها المتوعدة لا تتوقف عن ملاحقته، أمّا عنه، فهو ليس بمتواجد سوى ليُمسك بتلك السلسلة، ثم يذهب لينتظر أمام حمام خالي من كل شيء سوى المناديل الورقية.. وتعود لقفصها من جديد، وبهذا اليوم صباحًا أجابت سؤاله وهي تنظر له بكراهية تتمنى لو أنه لا يلاحظها:

-       عشان قابلته صدفة من وراك؟!

 

نفس هزة الرأس، ونفس الإشارة بالسكوت، وهي لم تعد تدري ما الذي عليها فعله، لذا حاولت يومها مجددًا، وتحدثت بشراسة لا تتناسب مع ارهاقها فهي لم تتناول أي طعام لمدة أربع أيام متواصلة:

-       أنا مبقتش مستحملة الأسلوب ده، لو خلاص هتكون دي النهاية طلقني وابعد عني!

 

لم تر تأثير بالطبع، وكأن كلماتها أوراق خريفية متساقطة حملتها الرياح وذهبت بعيدًا، وها هو يُكمل في ضبط نفسه بعدم النظر لبُكائها وتوسلها وتضرعها إياه، وثورتها عليه.. لو فعل سينتهي الأمر بمضاجعة ستصرخ آلمًا بها، وسينتشي هو للغاية بها، ولكن هذا ليس هدفه، لو فقط تتخيل ما الذي يشعر به بعد تحقيق حلمًا ظن أنه بعيد المنال وأنها الآن بما تبدو عليه لا تملك سوى تناول المياه من أسفل قدميه، أفضل مرة تقع بها عينيه عليها، لكانت فعلتها منذ أول مرة لها هنا، ولكن ستعرف هذا لاحقًا.. وما كان منه في النهاية بعد تخيلاتٍ عدة سوى أن يجذب السلسلة ويعلقها بالجدار، يغلق قفصها، ثم يذهب بعيدًا قبل أن يهوى غارقًا في سحرها الذي أصابه آلاف المرات من قبل!!

 

اليوم الخامس كان بمثابة الانتقال من عذاب الجحيم إلى جنة النعيم، آتى وسألها بالصباح، عن سبب ما يفعله بها، اجابتها كانت جديدة هذه المرة، وصوتها يرتجف خوفًا من أن تكون الإجابة خاطئة، ولقد كانت:

-       عشان قولتلك إنك مش راجل!

 

لأول مرة تقوم بقول شيء وتراه ينظر إليها، بمقلتيها مباشرة، ولمحت الغضب بعينيه، ربما لمجرد ثانيتان، ثم هزة رأس تكاد تراها بالنفي، ومن جديد صوته الهادئ تدخل بينهما في هذا الصمت آمرًا:

-       كُلي..

 

يومها كانت تشعر بالإعياء من شدة الجوع، الإرهاق يندفع بجسدها، فتناولت الطعام الذي لم يكن سوى قطعة من الخبز وبعض الجبن وهي تحاول أن تتوقف عن ذرف الدموع التي طغى مذاقها على مذاق ما تتناوله، ثم ارتوت بكامل المياه القليلة التي يُحضرها لها، ويومها انتهت ثم عادت لتجلس مكانها، حدقت بالأرضية وهي لا تدري لو نظرت له ستبكي أم ستصرخ لينتهي الأمر في النهاية بإصابة من تتحرق شوقًا لبقائها معهم، فكما يفعل ما لم تتوقعه قط هذه المرة، لن تستبعد أن يؤذيهم هذه المرة أيضًا كما يهشم روحها رويدًا رويدًا وهي أمامه!!

 

ولكن هل عليها التحمل في النهاية حتى تصل لما تريده؟ ظنت في البداية أن الأمر سيكون هين ولكن أفعاله وذلك القهر وكراهية النفس بداخلها لا يُحتمل!!

 

الأمر فاق كل تخيلاتها، ولكن قد كانت بالخارج لكثير من الأيام ولم تُفلح أي من الحلول معه، وهذا هو الحل الوحيد المُتبقي، عليها أن تُكمل في امتثال أوامره، وإمّا تخشى أن تُعيد القصة بأكملها من البداية، ووقتها ستقتل نفسها!!

 

رمق بنظره الأطباق أسفل قدميه، وجدها فارغة، فجذبها نحوه وهو ينظر لها فتلاقت اعينها بمقلتيه بارتباك واضح وتوجس جلي، ويومها لم يقل سوى كلمة واحدة:

-       شاطرة!

 

ثم تبعها بنقلها من هذا القفص الضيق إلى آخر أوسع تستطيع أن تجلس به، وبداخله وسادة، وتوقف عن تثبيت السلسلة لمدة ساعتين بالجدار، وكأن هذا النعيم بعينه، لقد حول امرأة طموحة تريد أن تسيطر على حياتها بالكامل لتتمنى مجرد وسادة.. لن تنسى هذا طالما تسير الدماء بعروقها!!

 

يومها استطاعت النوم، نامت براحة لم تنم بها منذ خمسة أيام، وكلمة جديدة منه قد أضافها بمجرد انهائها لطعامها، هل هذا ما يُريد؟ أن تمتثل أوامره؟ هل هذا هو الحل النهائي للفرار منه للأبد؟

 

حسنًا، فلتفعل، إن كانت فقط تريد التخلص منه ستفعل، ووقتها، وبمجرد حصولها على كل المستندات التي تثبت جرائمه، لن يأخذها به شفقة ولا رحمة، ستهينه إهانة لن يتخيلها، فقط كما يفعل معها، وأمام الجميع.. ليس بغرفة عازلة للصوت في منزل أقرب من قد يستمع لصراخها به هو حصانه المسكين!

--

 

استيقظت باليوم السادس وأخذت قرارها بالانصياع له في كل ما يُريده، وقصدت أن تنهي الطعام بالرغم من التقزز والغثيان الذي تشعر بهما أسفل قدميه، ترى نفسها وهي ترتدي أفضل ما لديها وتصرخ برجال قاموا بفعل أمر خاطئ بخصوص العمل، ثم تتخيل كيف تبدو الآن، واجابته من جديد على سؤاله، بنبرة مليئة بالذل، وتمنت لو كانت الإجابة الصحيحة:

-       عشان حذرتني من لبسي وكلامك كان صح وأنا كنت غلط ويونس شافني!

 

لم تكن هذه الإجابة لتُشفي عقله المريض، بل أراد أن يعذبها أكثر، بتحمل حرارة الصيف صباحًا والظلمة مساءًا وعدم غسل جسدها لمدة ستة أيام متوالية وكل ما تحصل عليه هو نفس الكلمات.. لقد أوشكت على فقدان حياتها بهذه الطريقة، ولكنها لن تستسلم لهذا اللعين، الأمر بات ثأر وانتقام وليس فقط مجرد أنها تريد الحصول على الطلاق!

 

اليوم السابع صباحًا، وجبة الإفطار، جيدها ما زال بداخل ذلك الطوق، والسلسلة تعود لمالكها، لقد برع في جعلها تُدرك هذه الحقيقة، وحتى تنجو عليها المثابرة، حتى ولو كان عليها أن تصبح كاذبة باحتراف، ستكون مثله، وجه آخر له، لا يهم، ولكنها لن تيأس، اليوم قامت بتحضير سبب آخر مقنع قبل تناول وجبتها الصباحية القليلة التي لا تسمن ولا تغني من جوع وتحدثت بنبرة يصرخ بها الذل لعله يرضى:

-       عشان اخدت قرار من دماغي، خرجت مع عنود من غير ما ارجعلك في حاجة!

 

نفس ردة فعله لا تتغير، واليوم الثامن مثله، نفس التفاصيل واجابته إجابة أخرى تمامًا ولقد أُرهقت من كثرة التخمينات التي تدور في رأسها:

-       عشان عليت صوتي عليك وأنا بحاول اشرحلك إني مش خاينة وسمحت ليونس يلمسني!

 

احباط جديد، ونوم على وسادة، دون غطاء، دون ابسط احتياجات الإنسان الفطرية، انتهى اليوم، ولم تنتهِ معاملته التي كان من الواضح خلالها الكثير من الرسائل، هي لا تفرق الكثير عن الحيوان الأليف، بل ليس من المسموح لها البقاء بخارج القفص، يمن عليها بالطعام والشراب، والمعاملة الآدمية كانت تتمثل في ذهابها إلى الحمام في موعدين محددين، ولا عزاء لتلك الأيام التي تمنت أن تذهب بها إلى الحمام قبل موعده فقط بنصف ساعة، ولكن بالطبع لن يحدد أحد سواه أبسط الاحتياجات بحياتها!

 

اليوم التاسع، وأخيرًا، هناك جُملة وحيدة عقب بها على اجابتها التي كانت خطأ من وجهة نظره، لقد اجابت يومها بصوت بهت به الحزن على حالها، لقد شعرت بالتقرف من رائحتها، شعرها الذي تراه يتساقط من شدة ضعف جسدها، لم تعد تعرف ما الذي سيُرضيه بعد كل تلك الأسباب، فقالت بنبرة مرتجفة وهي لا تصدق أنها ستكذب بفعل لم ترتكبه:

-       عشان أنا خاينة.. بس صدقني أنا معملتش كده!

 

تساقطت دموعها من تلقاء نفسها وهي تتوسل له:

-       أرجوك كفاية، أنا مبقتش لاقية سبب واحد يقنعك.. قولي طيب ايه اللي هيرضيك وهقوله!

 

شعرت بمرارة الحزن المختلط ببكائها بينما هز رأسه بمنتهى البرود وكأنها لا تعاني، وكأنه كان كاذبًا بكل ما أخبرها به، يستحيل أن يكون هذا الرجل الجالس أمامها هو من ظنت أنها تعشقه، هذا محال!!

-       بكرة عاشر يوم ليكي هنا، كنت فاكر إنك ذكية بس غباءك بجد مالوش حدود.. فكري في كل حاجة، من الأول للآخر، وأنا معنديش أي مانع نفضل كده زي ما احنا، أكل وحمام وبس!!

 

رمق أسفل قدميه ثم جذبها من السلسلة التي تتدلى من الطوق حول عنقها ثم بنفس صوته الآمر الذي لم يتغير نطق بالثلاث أحرف:

-       كُلي..

--

 

وصولًا لليوم العاشر، كانت مستيقظة طوال الليل، أعصابها على شفا حفرة من الانهيار، تلك النظرات المهيمنة التي يصوبها من عينيها نحوها كانت أكثر مما تستطيع تحمله، تلك الرسالة التي يوجهها لها بنظرة انتصار وكأنه انتصر عليها بالفعل كانت تؤلمها، الإهانة والتذلل أسفل قدميه بجانب حذاءه فقط من أجل لقيماتٍ قليلة وشربة ماء لا تُكفي ظمأها، الأمر بات يصيبها بالقهر من أجل نفسها.. وتكره نفسها لظنها يومًا ما أنها ستستطيع الحياة مع رجل مثله، هي الوحيدة المُلامة، وهي من فعلت كل هذا بنفسها، لا تتمنى سوى رؤية نفسها تحترق في الجحيم من أجل ما فعلته!!

 

كان عليها أن تضع كل هذا جانبًا، فكرت واستجمعت كل الأسباب التي تُزعج رجل سا دي، كان عليها أن تتذكر كل مرة غضب منها، وكل مرة نادى بعقابها من أجل ما فعلته، فما كان منها بعد كل ما جمعته بعقلها يومها سوى الإجهاش بالبكاء، اظهار حُزنها بأكمله، والاطناب بإجابتها قدر المستطاع، وبعد أن أخبرها أن تفكر من البداية إلى النهاية كان التالي هو كل ما استطاعت التوصل له:

-       أنت بتعمل فيا كل ده لأني عمري ما كنت مناسبة ليك، عمري ما سمعت كلامك، دايمًا بجادلك في كل كبيرة وصغيرة، دايمًا بتريق على كل حاجة بتقولها، وعشان مقدرتش حبك ليا، ومقدرتش إنك حاولت في حاجات كتير عشاني.. بغلط وبكرر غلطاتي، ومبتعلمش من أي حاجة بتمر علينا.. ببساطة..

 

صعب عليها التنفس وهي تبكي مليًا حيث تحولت الكلمات من مجرد إجابة تريد أن تحصل بها على رضائه لسكين يطعنها طعنات غائرة متوالية بداخلها ثم همست بصعوبة متابعة كلماتها:

-       ببساطة أنت بتعمل كل ده عشان أنا مش زي ما أنت عايزني!

 

أخذت ترتجف من شهقاتها المتوالية، تنظر له لا تتمنى سوى قبوله لما قالت، رضاءه على عدة كلمات تخرج منها باتت كل ما تتمناه لكي تتخلص من عذابها اليومي الذي لا تعلم إلى متى سيستمر، كان كحلم يُصبح حقيقة وهو يجذب تلك السلسلة اللعينة إليه واختل توازنها فسرعان ما وضعت كلتا يديها تستند على كلتاهما ليهمس لها بشبه ابتسامة:

-       أخيرًا يا بنوتي!

--

عشرة أيام كاملة، تمر بتباطؤ شديد لا ينتهي، لأول مرة في حياته يختبر هذا الانتظار والصبر من أجل شيء، لطالما اعتاد أن يصل لكل ما يريده، بالإلحاح، بالالتزام، بالشروط أو العقود أو الصفقات أو بفعل ملامحه الجذابة التي تقف في منتصف الفتى الجيد، واللعوب نوعًا ما، ولكن ما يختبره مع هذه الفتاة مختلف اختلاف شاسع عن أي واحدة حاول أن يقترب منها بالسابق!

 

وما يزيد الأمر تعقيدًا هو تلك المكالمة من صديقتها منذ خمس أيام مضت، لقد أخبرته برفض صريح أن "عنود" تتمنى له الخير وأن كل ما يطالبها به بعيدًا بُعدًا تامًا عن كل ما تطمح هي له، وهذا لا يستطيع أن يتقبله أو حتى يُصدقه، فمن تكون هذه الفتاة التي لا تريد الارتباط برجل داعم بطبعه وسيتمنى أن يحقق لمن يعشقها وتصبح زوجته كل احلامها لو في استطاعته؟

 

عشق، زوجته، ما هذه العجلة؟ لماذا حتى مرت هاتان الكلمتان على عقله؟ ولماذا لا يرى سواها في هذا الموضع؟ بالسابق انتظر شهرين، والآن عشرة أيام غير كافية لمحوها من عقله، ولا يجد بداخله إجابة صريحة على سبب تعلقه الشديد بها!

 

حدق بشاشة هاتفه مرارًا، يحدثها أم يحدث صديقتها؟ والاثنتان ستقومان بصده وابلاغه بقرار رفضها الحاسم كما حدث من قبل، وتمنى لو يستطيع الحفاظ على المتبقي من ماء وجهه، ولكن في الحقيقة لا يكترث!!

 

خلل شعره وهو يتناول نفس طويل زفره بإرهاق، لم يتعود الصبر قط من أجل أي شيء في حياته، يبدو أنها تُعلمه هذا وتسقيه له كالحنظل كريه المذاق.. ولا يجد سبب مقنع لرفضها هذا، يومها أنهت المكالمة، وبعدها بأيام تُرسل صديقتها لتخبره أن الأمر لن يمكنه الحدوث، على الأقل لديه الحق بما أخطأ، أو لماذا لا يمكنها قبوله!

 

-       ازيك عاملة ايه؟

 

كان بالفعل قد اتصل بصديقتها، على الأقل رفضها ومحاولة النقاش معها أهون آلاف المرات عن التناقش مع تلك العنيدة التي لا تكف عن صفع كل باب يؤدي إليها بوجهه

 

-       الحمد لله!

 

ابتلع وهو يرتبك بشدة وحاول انتقاء كلماته وقال بثقل لسانه الناطق:

-       هو.. هو ليه مصممة أن مش هاينفع، أنا مش مقتنع بأي حاجة من اللي قالت عليها، وأنا مرفضتش أي طلب هي طلبته، ليه فجأة بعد ما كانت بتكلمني قالت مش هننفع لبعض، من غير تفسير حتى.. على الأقل أنا من حقي أفهم فيه ايه!

 

 

استمع لتنهيدتها من الطرف الآخر، وطال صمتها لمدة طويلة، بينما وجهت له سؤال أصابه بالغضب لشدة غباء السؤال بل ولغبائها:

-       هو أنت بجد عايز ايه منها؟

 

هذه لابد أنها لم تعبر الصف الخامس الابتدائي، يستحيل أن تكون فتاة تدرس بكلية الطب، ما الذي سيريده رجل بعد التحدث بمنتهى الصراحة بأنه يريد الاقتراب والارتباط من فتاة، ولكن ربما سيُقنعها قليلًا لو تحمل هذا الغباء:

-       أكيد عايز ارتبط بيها عشان معجب بيها!

 

استمع لهمهمة مطولة منها وسألته من جديد سؤال يمتلئ بالركاكة:

-       معجب بيها اوي يعني؟

 

هذه الفتاة غبية بالتأكيد، لا، لابد من أن عقلها مصاب بضرر ما، ولكنه سيتركها لتجيب بنفسها على هذا السؤال:

-       انتِ شايفة ايه؟

 

أطلقت همهمة مُفكرة ثم حدثته لتقول:

-       طيب بص، لو عندك استعداد يعني وعايزها، اصبر شوية لغاية ما الدراسة تبتدي.. هانت وكلها شهر وهنرجع الجامعة تاني.. ساعتها يمكن أكون عرفت أقنعها، وكمان تكون بحُريتها بعيد عن البيت، عنود حياتها مش سهلة وهي تستحق واحد يستحمل عشانها.. لو بالنسبالك تمام أوعدك إني هحاول تاني معاها!

 

يصبر شهر بالإضافة أكثر من ثلاثة أشهر منذ أن رآها لأول مرة، ما هذا الهراء، لماذا كل الحلول مع هذه الفتاة قاتلة؟! لو استمر الأمر بهذه الطريقة سيتزوجها بالتزامن مع وصوله للقبر.. ولكن حسنًا.. لو كان هذا هو الحل الوحيد الذي ليس هناك سواه.. وليرى هل سيُصاب باليأس وسيتوقف عن التفكير بالأمر أم ستستحوذ على عقله أكثر!!

 

يُتبع..