-->

الفصل الثالث والعشرون - كما يحلو لكِ - النسخة العامية


 

الفصل الثالث والعشرون

النسخة العامية

 

حاولت التغلب على ارتباكها وتفقدت باب غرفتها أكثر من مرة ولكنها لم تطمئن بالكامل، والساعة قد قاربت بالفعل على التاسعة مساءًا، وهي لا تريد أن تهاتفه في وقت متأخر، فهي حتى لا تحدث الرجال على الإطلاق، لا تريد ترك انطباع له أنه يمكنه أن يحدثها مثل ما يريد ووقتما يحلو له!

 

قررت أن تأخذ جولة بالمنزل لتعرف أين الجميع وحتى تتأكد أن الوضع آمن لتقوم بمهاتفته قبل أن يتأخر الوقت أكثر من هذا فأول ما فعلته تفقدت غرفة مكتب والدها لتجد الأضواء مغلقة والصمت يعم المكان فهدأت قليلًا، هي لا تستبعد أبدًا أن "عمر" قد يكون أخبره عن رؤيتها إياه حتى ولو بصحبة "روان" لن يقبل كلاهما الأمر!

 

اتجهت بعدها إلى المطبخ فلابد أن والدتها تصنع لـ "عدي" العشاء أو تطمئن على ما سيتناوله فهي لا تذهب للنوم مطمئنة دون هذا وكأنه فرض عليها..

 

حاولت أن تستطلع الأخبار قليلًا فحدثتها قائلة:

-       ماما متعرفيش بابا امتى عشان عايزة اخد منه فلوس عشان الجامعة؟

 

اجابتها "مها" بعد أن تفقدتها بنظرة جانبية ثم عادت لتنظر لما تفعله:

-       ما أنتِ عارفة إنه عمره ما بيقول على مواعيده، بس هو بقاله كام يوم بيتأخر برا..

 

همهمت وهي تقترب منها وتفقدت ما تصنعه ثم قالت بحماس:

-       ما تجيبي حتة من البسبوسة الحلوة دي

 

رمقتها ببعض الانزعاج ثم قالت:

-       خدي وسيبي الباقي لعدي انتي عارفة هو بيحبها قد ايه!

 

أطلقت زفرة بتهكم ثم غمغمت وهي تأخذ بعضًا في واحد من الأطباق التي احضرتها:

-       وهو أنا يعني بنت البطة السودا ومش بنتك، ما تدلعيني أنا كمان، ولا هو عُدي بس اللي يتعمله البسبوسة وأنا لأ، وبعدين هو فينه عُدي، مقضيها سهر زي كل يوم ولا ايه!

 

تفقدتها والدتها بنظرة مطولة ثم قالت ببعض السخف:

-       لسه مكلماه وهيتأخر برا آه، وبعدين أنا في سنك كنت بساعد ماما الله يرحمها وكنت بشيل بيت بحاله مع دراستي وكمان كنت شاطرة فيها، لما تعوزي حاجة ابقي اعملي لنفسك!

 

ابتسمت لها ابتسامة لم تكشف أسنانها حتى باتت شفتاها خط مستقيم وعقبت قائلة بنبرة ذات مغزى:

-       بقا بذمتك الدراسة اللي أنا فيها وأنا في طب أزهر والمذاكرة اللي أنا بذاكرها كنتي بتذاكري زيها، متشكرين يا ست الكل..

 

تركت الطبق بعد أن قامت والدتها بإفساد شهيتها للحلوى ثم اكتفت بتناول زجاجة مياه وتوجهت لغرفتها فهي من النادر أن تترك أمها شاشة التلفاز التي يُعرض عليها المسلسلات التركية التي تعشقها وتتفقدها بغرفتها وقد أطمئنت بالفعل أن والدها وأخيها بالخارج ولن يعودا عن قريب، عليها فقط أن تتفقد المرأب من الشرفة وهي تُحدثه وعلى كل حال هي لن تطيل بمكالمتها!

 

طالت زفرتها وهي تحدق برقمه ثم نظرت لباب غرفتها من جديد ونهضت لتطفأ الأنوار حتى يظن الجميع أنها خلدت للنوم وشعرت بالارتباك يُسيطر عليها من جديد فقامت بتغير اسمه من "يونس" إلى "بسنت" حتى لو تفقد أحد هاتفها لن يرتاب بشأنها، هي على شفا حفرة من إفساد "عمر" لحياتها ولا تريد المزيد من الأسباب التي تدعم هذا الفساد..

 

وقفت أمام الشرفة تتابع وصول أي منهما ثم قامت بالاتصال به وهي تشعر بتوتر شديد وخفقات قلبها تتصاعد اضطرابًا من الموقف نفسه فهي لم تهاتف رجل من قبل، ربما السائق أو رجل تقوم بالحجز معه من أجل دراستها ليس إلا، وخاصة هذا الرجل هو معجب بها فأصابها المزيد من الخوف لتُفكر أن تنهي المكالمة ولكنها قد تأخرت بالفعل:

-       أخيرًا!

 

وصلها صوته لتحمحم وهي تشعر بأن لسانها انعقد وحاولت البدء بالكثير من الكلمات ولكنها وجدت نفسها بمنتهى العفوية توبخه بشدة:

-       أنت ازاي تسمح لنفسك تاخد رقم بسمة وتكلمها وكمان تقولها اخليني اكلمك، هو حضرتك مش هتبطل عمايلك دي؟

 

اعتصرت عينيها وهي تهز رأسها نادمة على ما تفوهت به وتزايد ارتباكها بينما لم تستمع منه سوى لهمهمة بتفهم شديد وفاق كل توقعاتها عندما عقب بغزل صريح ونبرة دافئة على كلماتها:

-       لما أي راجل عاقل يُعجب بواحدة حلوة، محترمة، أخلاقها كويسة، متفوقة، زي القمر وعمر ما واحدة لفتت نظري زيها، يبقى من المفروض يحاول بأي طريقة إنه يوصلها، ولا انتِ شايفة إيه؟!

 

لسانها لن يستطيع أن يقوم بالرد على هذه الكلمات، هذا لم يكن الهدف من البداية، لن تسمح له بالتمادي، ولكن عليها انتقاء كلماتها جيدًا دون تلعثم، عليها أن تسأله بثقة شديدة كما تتحلى بها دائمًا مع الجميع:

-       هو حضرتك عايز ايه بالظبط؟

 

غمغم بعدم رضاء:

-       تاني حضرتي!! وتاني بتسألي عايز ايه!

 

تريث لجزء من الثانية واستمعت لتنهيدته ثم اجابها في النهاية:

-       حضرتي عايز يتعرف عليكي اكتر وصدقيني معنديش أي مانع للارتباط لو لقيت اننا متفاهمين ومشاعرنا متبادلة، تحبي اجاوبك مرة تالتة أو رابعة أو خامسة على السؤال ده؟!

 

سكتت ودام صمتها، مشاعر، مشاعر ماذا هي حتى لا تعرفه، وجدت نفسها يزداد ارتباكها وتحدق بالأرضية ثم انتبهت بعد مُدة للشرفة من جديد حتى تخبره ما لديها قبل وصول أخيها أو والدها فقالت وهي تحاول أن تتحلى بالثقة:

-       طيب، هو لو عايز تتعرف عليا قدامك اهو المكالمة دي، اسأل اللي أنت عايزه، واعرفني زي ما تحب، هنتكلم مرة، وأنا كمان عندي أسئلة وشروط مُعينة في الإنسان اللي يمكن في يوم ارتبط بيه، وبعد كده هتديني فُرصة أفكر شوية، لو لقيت إن الموضوع مناسب ليا ممكن ننزل نتقابل بس عُدي يكون موجود معانا!

 

صُدم من كل ما استمع له ثم تعجب بعفوية:

-       نعم!! عُدي!!

 

سرعان ما نهته بزجرٍ واضح:

-       آه عُدي، امال فاكرني هاعمل حاجة حرام واخرج مع واحد من ورا أهلي.. أنا عمري ما اعمل كده!

 

خلل شعره بعصبية ثم عقب بزفرة طويلة ولكن دون أن يُفسد ما توصل له معها:

-       ماشي..

 

سرعان ما سألته فهي بالكاد استطاعت أن تتحدث بجمل مفهومة وتشعر بالخوف ما لو ظهرت أمامه كفتاة صغيرة:

-       اتفضل، حابب تتعرف عليا في إيه؟

 

كرجل اعمال، يفهم جيدًا أنه من الغباء أن تدلي بم في رأسك أولًا وتكشف أوراقك في بداية اللعبة، ليدعها تسأل هي ما تريده:

-       لا اسألي انتي.. حابة تعرفي ايه؟

 

لن تتشاجر كالطفلة على من يبدأ أولًا، لديها معايير معينة عرفتها منذ صغرها، هي تريد كل شيء على النقيض من والدها وأخويها، فبدأت بأول ما صدمه:

-       أنت بتصلي بانتظام؟

 

تريث لبُرهة ثم اجابها:

-       بصراحة لأ، ممكن يوم الجمعة وصلاة العيد وأحيانا بصلي التراويح وكل الصلاة في رمضان، بس مسلم يعني وبصوم رمضان.. ايه كمان عايزة تعرفيه؟

 

لن تتقبل أبدًا رجل لا يحافظ على صلاته، هذه العلاقة محكوم عليها بالفشل، ولكن لتنتهي اولًا من ترتيب أسباب رفضه:

-       هو انت عندك كام سنة؟

 

همهم ورد متسائلًا بابتسامة تستطيع رؤيتها فضلًا عن سماعها:

-       تديني كام سنة؟

 

سرعان ما زجرته بنبرة رسمية:

-       لو سمحت أنا مش بهزر معاك هنا، أنا فيه حاجات معينة بسأل عليها ومتوقعة منك ترد عليا فيها بصراحة.. هديك كام سنة ايه، مش معايا بطاقتك والله عشان اعرف!! لو عايز تهزر ممكن تكلم أي واحدة غيري تهزر معاها

 

ضحك على ما يمر به ساخرًا من نفسه في المقام الأول ثم عقب مجيبًا سؤالها:

-       أنا مش فاهم انتِ واخدة كل حاجة قفش ليه، أنا هتم تسعة وعشرين سنة شهر 12 اللي جاي.. عندك أي أسئلة تانية؟

 

اجابته بجدية شديدة:

-       ايوة طبعًا، أنت عندك مانع من إني اشتغل؟

 

آتاها رده بعفوية فورًا دون أن يأخذ وقتًا للتفكير:

-       وهمانع ليه، ايه التخلف ده اصلًا، المفروض ده ميبقاش سؤال أساسًا..

 

بدأت أن تطمئن قليلًا فأضافت ببعض التلعثم:

-       ولو، ولو يعني حبيت أفضل أدرس، واحنا دراستنا مبتخلصش، مش هتضايق يعني في يوم؟

-       لا!

 

آتاها اجابته مقتضبة وواضحة فتابعت من جديد:

-       لو ارتبطنا وحصل مثلا واتجوزنا، مش هتقولي كفاية وبطلي والبيت أهم وكل ده وانتي عندك أولاد وإنك أولوية قبل كل حاجة قبل دراستي وشغلي ومش هتعترض على ده؟

 

تنهد ليُجيبها بهدوء ونبرة شعرت بابتسامته خلالها:

-       نتجوز بس الأول وأنا اعملك كل اللي نفسك فيه، عايزة ايه؟ عيادة؟ هجيبلك العيادة قبل ما نتجوز كمان في المكان اللي تختاريه، تحبي اقدملك في جامعة تانية لو حابة تعملي ماجيستير أو تكملي دراستك فيها، معنديش أي مُشكلة.. أنا بس عندي سؤال واحد!

 

تريث لبُرهة ليستمع ولو لأي كلمة تدل على أنها مهتمة بما يقوله ولكنها كانت غائبة بتلك الكلمات التي استمعت لها فأكمل هو وقد أحبط بداخله:

-       انتِ ليه مبتكلميش على حاجة غير شغلك ودراستك وبس؟

 

قالت بنبرة تلقائية تعجبت بها:

-       امال هتكلم في ايه يعني؟

 

تناول نفسًا طويلًا ثم زفره وهو يحدثها بصوتٍ دافئ لتصدمها كلماته:

-       هو انتِ فيه حد عرفتيه قبل كده قالك مثلًا خلصي كليتك وهتتجوزي ومش هتكملي دراستك؟

-       لا لا، حد مين، أنا عمري ما اتعرفت على حد أصلًا..

 

كان ردها عفوي غير مُحضر له مسبقًا فسألها من جديد:

-       امال خايفة أوي كده ليه؟ ليه كل كلامك عن دراستك وزي ما أكون لو ارتبطت بيكي هحرمك منها مثلًا؟

 

استمع لصوتها المهاجم الذي لا يعرف ما الدافع وراء كل هذا الهجوم به:

-       أصل أنا عارفة الرجالة كويس، في الأول بيقولو كلام حلو ووعود وبعدين بيتحولو

 

همهمة طويلة غادرت شفتيه ثم سألها:

-       ويا ترى عارفاهم كويس ازاي وأنتِ مالكيش علاقات قبل كده؟

 

عقدت حاجبيها ولم يُعجبها تلك السخرية الخفية بنبرته ثم دافعت بشدة عما تقصده:

-       مش معنى إني ماليش علاقات قبل كده، إني معرفش البنات والستات بيحصل في حياتهم ايه، على الأقل بفهم الرجالة من تجارب البنات والستات اللي ارتبطو واتجوزو.. مش شرط تبقى زي كل الرجالة التانيين ومش شرط أكون أنا زي باقي البنات، بس على الأقل إني أشوف مشاكل غيري ده يخليني أحد بالي كويس من اختياري للإنسان اللي هكمل معاه باقي حياتي..

 

فكر قليلًا بكلماتها ثم عقب بمنتهى الموضوعية من وجهة نظره:

-       حلو الكلام ده، بس مش أوي، يعني ممكن كل البنات والستات اللي تعرفيهم، وبالرغم من أنهم بيكلموكي بصراحة بس انتِ مسمعتيش من الطرف التاني .. مش لازم كل واحد قعد مراته في البيت عشان هو متخلف ولا دماغه فيها أوهام أيًا كانت ايه هي يبقا ده هينطبق عليكي واللي هيرتبط بيكي هيقولك اقعدي في البيت، وبرضو متعرفيش ما يمكن شغل الستات والبنات دي بتوصل لدرجة بتتعبها وهي مكملة لدرجة تأثيره بيكون على صحتها مثلًا، فمش كل حاجة تسمعيها صح!

 

اقتنعت بكلماته نوعًا ما ولكنها وجدت أنها ستدخل بنقاش طويل لا نهاية له الوقت بدأ يمر وهي تشعر بالخوف لو وصل أخيها أو والدها فحمحمت ثم قالت برسمية:

-       طيب بص، أنا هاكمل دراستي وشغلي ومش هجبر حد طبعًا يجبلي عيادة والكلام ده، وبما إن سنك كبير يبقى أكيد عايز أولاد، وأنا استحالة أفكر في الموضوع قبل سن سبعة وعشرين سنة، وأنا حاليًا عندي عشرين سنة، هل ممكن تستنى سبع سنين عشان بس اخد القرار؟ وكمان فيه حاجة مهمة، أنا استحالة اقبل ارتبط بواحد مبيصليش، فأظن كده من البداية احنا مش نافعين لبعض ومش مناسبين لبعض..

 

خلل شعره وبدأ في الانزعاج بشدة فسألها بنبرة حادة قليلًا:

-       هو انتِ كده بتقفلي كل الأبواب في وشي؟ مين قال إني عايز أولاد قريب، ومين كمان قال إني مبصليش.. مش هقولك إني من البيت للجامع والجامع للبيت بس هحاول أكون احسن.. انتي ليه صعبة أوي كده؟ هو انتي عندك عقدة من الرجالة ولا إيه؟

 

ربما جُملته الأخيرة التي تسائل بها كانت في غاية العفوية، ولكنها كانت الحقيقة الموجعة، فالرجل المتحكم القاسي الذي طُبع اسمه بعد اسمها ببطاقتها الشخصية، والثاني الغائب الذي لا تتذكر ملامحه بالكامل، والآخر المُدلل بشدة من والدته، لم يتركوا لها سوى كراهية الرجال والتصديق باستحالة التعامل معهم!

 

راجع كلماته قليلًا ليشعر بأنه أفسد كل محاولاته للوصول إليها فسرعان ما قال من تلقاء نفسه قبل أن تشن حملة هجوم كلامي حاد عليه:

-       أنا آسف مقصدش أتكلم بالأسلوب ده، بس كلامك عصبني جدًا، دي عمرها ما تكون طريقة اتنين بيتعرفو على بعض.. يعني كان قدامك ألف سؤال تسأليه غير البديهيات دي، شغلك ودراستك دول حياتك وقراراتك أنتِ حُرة فيهم وماليش أصلًا حق اتدخل في حاجة زي دي، وقرار الولاد ده أكيد هيكون بالاتفاق بيني وبينك، وبالنسبة للصلاة انتِ عندك حق ويارا كل شوية تكلمني على الموضوع ده، أظن كده جاوبتك على كل اللي انتي عايزة تعرفيه، فيه حاجة تاني أقدر اجاوبك عليها؟

 

فكرت قليلًا وهي بعد كلماته الأخيرة لا تجد أي سبب للرفض ثم سألته لتقول:

-       اشمعنى أنا؟ ليه فضلت تعمل كل ده عشان توصلي؟

 

تنهد وسمعة ضحكة خافتة ثم اجابها:

-       لا دي قصة طويلة أوي من سنين.. عندك وقت تسمعيها؟

--

بعد مرور خمس أيام..

-       عايز ايه يا باسم؟

هذه بالطبع ليست بالطريقة المُثلى ليقوم بافتتاح مكالمة هاتفية ولكن كان عليه أن يتعامل بهذه الطريقة وإلا لن يتوقف هذا المزعج عن ارسال الرسائل له!

 

-       حضرتك فيه تصريحات دفع كتير لاستخدامات شخصية وبمبالغ كبيرة وشيكات ومحتاجين توقيعك، الناس مستنية بقالها اكتر من تلت شهور وعمرنا ما اتأخرنا كده على حد!

 

حسنًا لم تُعجبه هذه الأخبار، ولكنه سيُنهي هذه اللعنة حالًا:

-       الناس دي بتتعامل معانا يا باسم بقالها قد ايه؟

 

ارتبك المتواجد على الطرف الآخر من الخط فهو يعلم منذ متى ولكن هذا السؤال البديهي يبدو وأنه سيكون بداية لغضبه الذي لا ينتهي:

-       من سنين.. أجدد واحد فيهم بقاله على الأقل سنتين!

 

من هذا التوتر الذي يستمع له بنبرته، كان بمثابة إشارة البداية له ليُسلط كامل غضبه عليه:

-       طيب أنت مش عارف ازاي تشتغل مثلًا؟ ولا تحب اعلمك شغلك من أول وجديد؟ ولا يمكن ارفدك واجيب حد يقدر يتعامل مع الموردين بتوعنا والناس اللي بتمشيلنا الشغل؟ مش عارف تختصر كل ده وتقولهم إنك هتجيب مني موافقة 10% زيادة على كل فاتورة عشان التأخير! لو مش عارف تشتغل بلغني وأنا كفيل بإني اجيب حد غيرك بأقل من مرتبك كمان!

 

أنهى المكالمة بانزعاج دون المزيد من الكلمات وأغلق هاتفه من جديد، ثم عاد من جديد ليُفكر بها، لقد قتلها صمته ولم تعد تدرِ ما الذي يُفكر به بصحبة كُتبه، وهذا ما كان يريد أن يُحرزه معها، أن يقتلها بالتجاهل، أن يجعلها تشعر بأنه لم يعد يرغب بها ولا يلاحظها وكأنها ليست موجودة بالحياة، ببساطة كأنه لا يراها، وهو على يقين بأن دمائها تغلي بداخلها!

 

ربما لو كانت امرأة واعية لما تفعله ولتصرفاتها معه لكان تصرف معها اليوم بشكل مختلف، على الأقل كان ليعانقها وقتما تألمت مثل ما يحدث لها كل شهر، ولكن هذه المرة كأنه لا يعرف اسم "روان" ولا صاحبته.. ولكن الحقيقة أنه مستعد للموت من أجل أن يعود كل شيء كما هو!

 

فكر مليًا وأحكم قراره، هي ليست بخائنة، ربما هناك بعض التجاوزات بينها وبين هذا المخـ. نث، والدليل أن غضبها يتصاعد كلما تجاهلها، وتريد أن تستخدم حيل الأنى معه بإغرائه بشتى الطرق بينما لم يترك لها الفرصة بأن تظن أنه يستجيب إليها، لو فقط استمعت لما يدور في رأسه من أفكار قد تتأكد من مدى اشتياقه لهذا الجسد اللعين، هذا الجسد الذي يثور بشدة لعدم مسه إياها لما يقارب العشرون يوم، ولكن لا يزال هناك المزيد في جعبته..

 

لو كانت تعشقه لكانت بكت، كانت ستحدثه بشأن الطلاق وأن تتخلص منه، كانت حجبت جسدها عنه، ولكن لا يزال يلمح بعينيها بريق التفاخر بنفسها عندما ينظر لها باشتهاء، هذه التفاصيل يستحيل أن تحملها امرأة خائنة، أنثى لم تخلق سوى له هو وحده، ولكن عليه أن يلقنها درسًا قاسيًا في كل ما يتعلق بأمر الرجال الآخرون!

 

المواقف هي من تسن كيفية التعامل في الحياة، ومعها هي لابد من أن يكون الدرس غاية في القسوة حتى لا تكررها مرة ثانية، لا بملابسها غير المحتشمة ولا بتعاملها مع ابن خالتها، ولا حتى بأن تثير ريبته مرة ثانية، هل هي خائنة؟! لم يتأكد بعد!

 

كل تفكيره يذهب ليُبرئها، الكثير من محاولاتها معه تقول إنها تعشقه وتريده هو، ولكن لقد حاولت غيرها لسنوات وفي النهاية قامت بخيانته مع أولى الفرص التي توفرت لها، وفي هذه اللحظة تحديدًا لا يستقر تفكيره سوى بالتساوي بين أنها بريئة وبين أنها متهمة بفعل شنيع.. ولا يستطيع الاستقرار بعد أي من الاحتمالان صائب..

 

كما أن هناك أمر غريب لا يستطيع التعامل مع حقيقته، عندما علم بخيانة "يُمنى" كان يستحيل أن يشعر باشتهائها، وتوقفت عن اثارته، حتى ولو كانت عارية أمامه، أمّا تلك اللعينة التي عشقها بالفعل، فهو لم يعد يتحمل مدى رغبته بها وتلك الحرب التي يخوضها فقط ليضبط نفسه أمام فتنتها، ما الذي تفعله به؟ وكيف لها أن تتحكم وتسيطر عليه بهذه الطريقة؟

 

حدق بتلك الحروف وهو لا يرى منها سوى خطة محكمة، درس قاسيًا، ثم بعض التعامل الطبيعي التلقائي.. وبعدها سيراقبها دون أن تعلم.. وليرى هذه المرة ما الذي سيحدث، ولو حدث وكانت الحقيقة أنها خائنة، وقتها سيقوم بقتلها، ليس لديه حل سوى هذا!

 

كان بداخله يشعر بالخوف ولا يُريد إيجاد دليل، ولكن سيرى ما الذي ستفعله بعد ما يعده لها، والبداية هي كل شيء.. بداية جديدة لهما بقواعد جديدة.. إن اتبعتها سيكون كل شيء على ما يرام، وبمجرد اكتشاف دليل أو بدر منها عصيان للقواعد، سيقوم بسجنها للأبد، أو قتلها!

 

لقد فكر يومًا ما بسجنها، السيطرة على عملها، عزلها عن الجميع، هذه كانت خطته بالسابق عندما طالبت بالطلاق عندما علمت أنها تُشبه "يُمنى".. وفجأة استيقظ بيوم ما ووجد كل شيء على ما يرام فيما بينهما، لا يدري كيف حدث ذلك، يعلم أنه يبالغ بثمالته لفترات وليس ليوم أو ليلة، ولكن الحقيقة الموجعة التي لا تتقبل النقاش، هو أنه يعشقها لدرجة تجعله يود أن يُبرئها أمام عينيه حتى لا تصبح أسوأ من عرفهن بالحياة!

 

حاول أن يُسلط تركيزه على كلمات جليسه الوحيد بهذه الأيام، دائمًا ما يعود لأوفيد مهما قرأ بالكثير من الكُتب، وكلما عاد، كلما رأى الإجابة بطيات سطور خطها منذ أكثر من ألفي عام:

 

لا تطلب منها أن تتحمل جوعًا شديدًا،

 ولا تعطها عصيرًا مُرًا لكي تتجرعه، وذلك ما يمكن أن يفعله غريمك.

إن الريح التي تدفعك بعيدًا عن الشاطئ

حتى تتقدم في عرض البحر، لن تجدها مواتية بعد ذلك.

والحب الجديد المتقلب، يجب أن يزدهر بالممارسة،

وسرعان ما ينمو أقوى، إذا كانت تربيتك له حكيمة.

ذلك الثور المخيف، هو العجل الذي اعتدت أن تمسد شعره

وهذه السنديانة الوارفة الظلال، كانت شجيرة ذات يوم.

الجدول الصغير يكتسب القوة بالجريان

ويجمع كثيرًا من المياه في مجراه.

لا شيء كالاستعمال، اجعلها معتادة عليك،

ولا تنفر من أي ضجر وأنت تضع هذه الغاية في الاعتبار.

ولا تكن أبدًا بعيدًا عن السمع، ولا تكن أبدًا بعيدًا عن النظر،

أرها ملامحك في الليل والنهار كليهما.

لكنها ستفتقدك بحسرة حين تشعر أنك أشد وثوقًا بحبها،

وهي ستثابر على اهتمامها بك، وإن كنت بعيدًا عنها.

امنحها استراحة: فالأرض إذ ترتاح تنتج

غلتها المثلى، والحقول الجافة تتشرب الأمطار..

 

كيف لهذا الرجل أن يكون معاصرًا لمصيبة حياته بالوقوع في عشقها؟ كيف له أن يصف بدقة ما يحدث بينهما في هذه الآونة؟ ليُعطيها استراحة إذن طبقًا لمعاييره الخاصة، ولكن..

 

شتت انتباهه عندما استمع لهذا الارتطام بحمام السباحة الذي يقع أمام عينيه مباشرة ليجدها تقوم بالسباحة بالفعل فاكتفى بمتابعتها بعينيه في هذا الليل الذي لم يتأخر بعد، عشر دقائق كاملة تبدو خلالها مستمتعة بهذه المياه وشعورها المنعش بعد يوم حار كان من الصعب أن يُفكر المرء بالتواجد بالخارج لأي سبب من الأسباب..

 

انتظر مترقبًا لتلك اللحظة التي ستغادر بها المياه، فاتنة بقوام يخطف بصره، لطالما فعلت وستظل تفعل لا يدري إلى متى، ولا يعرف هو نفسه كيف ومتى سيتوقف عن الافتنان بها؟

 

ملابس سباحة من قطعة واحدة من اللون الأحمر الدامي، تلتصق بكل منحنياتها التي يحفظها عن ظهر قلب، وشعرها المبتل ينساب على ظهرها وها هي تحاول التخلص من تلك المياه العالقة بتمرير يديها عليه وهي تقف بمنتهى الثقة وكأنها لا تدري أنها تهلكه بما تفعله!

 

تابعها وهي ترتدي هذا الثوب الشفاف فوق ملابس السباحة ثم بدأت في تجفيف شعرها بأحد المناشف ووجدها تجلس في مقابلته تمامًا على الجهة الأخرى من المسبح ثم ارتشفت بعضًا من كأس على ما يبدو تحتوي على بعض العصير المثلج وبعدها مددت قدميها لتقوم بتناول واحد من الكتب وشرعت في القراءة!

 

هناك حقيقة معروفة عنه، لا يسمح لأحد بلمس كُتبه ولا حتى استعارتها على سبيل الاطلاع، وما تحمله بين يديها يبدو أنه من كتبه، هي لم تقم بإحضار ولو كُتيب وحيد منذ أن تزوج بها إلى هذا المنزل، لابد وأن ما تعانقه بين أصابعها يعود له، ولن يتركها لتتمادى في هذا، هل تظن أنها في عُطلة لتتصرف بهذه التصرفات؟ أم تظن أنه يُدللها مثلًا ليعطيها أشياءه كي تستخدمها!

 

اتجه نحوها وانبعثت مُقلتيه إلى عنوان الكتاب ليزداد غضبًا عندما رأى أنه واحد من كتبه المُفضلة، فن الهوى لأوفيد النسخة المترجمة – الطبعة الأولى! سيقتلها لو لزم الأمر كي يحصل عليه منها بعد أن بحث عن هذه النسخة لعام كامل وهو يدخر من أمواله القليلة حينها فقط ليحصل عليه!

 

فكر بانتزاع الكتاب من بين يديها ولكنه أدرك أنه قد تتضرر بعض الصفحات في خضم العنف الذي قد يُصيبه بها، فقرر أن الطريقة المثلى هو الحصول على الكتاب أولًا والتأكد من أنه سليم بعيد عن أي تمزق أو فساد ثم سيُريها نهاية كل استفزازها له فورًا دون تقاعس.

 

قدم يده لها وعينيه كالفحمتين المتقدتين مسلطتين نحو الكتاب لترفع عسليتيها نحوه ثم سألته:

-       عايز ايه؟

 

لم يقم بالرد عليها وانتظر أن تناوله الكتاب بينما تصنعت البلاهة وكأنها لا تفهم ما يُريده لتقول بنبر غير مُكترثة:

-       البشر الطبيعين بيتكلمو، قول عايز ايه وأنا اديهولك..

 

من جديد عادت لتقرأ في هذا الكتاب الذي صعب عليها قراءته، فطريقة كتابته تبدو قديمة والطباعة تبدو غاية في الصعوبة والخط المُستخدم بالكاد استطاعت تقبله ولكن لو كان هذا سيجعله يأتي حتى يقف أسفل قدميها بهذه الطريقة، الأمر يستحق العناء حقًا!

 

لم يتغير وضعه ولا يزال يُقدم يده نحوها، بينما سلطت تركيزها على ما كُتب في هذا الكتاب، لتجد أنه يتوافق تمامًا مع اختلال عقله:

هذه كلها جرائم بشعة، ارتكبتها نسوة أعماهن العشق.

فسعار الأنثى محموم!

يسلمها إلى جنون محتوم..

 

سُعار، ثانية واحدة، هل هذا الشاعر المجنون يُشبه المرأة بالكلاب لذلك باتت الأنثى بالنسبة له مُصابة بالسعار، وهي تتذكر أنه كان يُشبهها بالكلبة، حسنًا، أمر واحد بالتأكيد، ليس كل الكتب والأشعار توفي المرأة حقها وحتى لو عن طريق نظرة الرجل المريضة للعشق والهوى من وجهة نظره..

 

أكملت المزيد من السطور التي لم تكن كثيرة على كل حال بملامح متقززة بشدة:

هيا صاحبي لا تتردد، فالمرأة رهن اشارتك.

ما أندر أن تتأبّى إحداهن.

ولا تخشى هزيمة، فجميعهن بالغزل يسعدن،

من قبلت منهن، ومن تأبت.

استعرض كل جديد من الألاعيب تستهويهن.

فلا نملك أكثر إغراء مما نملك.

 

لم تصل بعد سوى لربع هذا الكتاب المتخلف وها هي ترى هذه الصور الرومانية القديمة بصحبة هذه الكلمات المستفزة، وهو يقف بصلابة الصخر ويتجاهلها منذ عشرون يوم وكل ما يكترث لأجله هو هذا الكتاب، جيد للغاية، ستحصل على استجابة منه فورًا لو كان هذا حقًا قد جعله ينهض ويأتي بقدميه حتى عندها!

 

رفعت نظراتها الغاضبة نحوه وهي تشعر بنيران تسري بداخلها، بالطبع هذا المجنون قرأ كلمات لمجنون آخر مثله، فدفعه هذا للتعامل مع النساء باستحقار، سُعار الأنثى!! يا لهما من وغدان!

 

-       قولتلك عايز ايه؟ ما تنطق؟ ولا متعلمتش الكلام وأنت صغير؟!!

 

لم يُجبها، فقط تحولت نظراته لتتشبع بنيران الغضب الذي فاق غضبها، هو لا يزال يشعر بشيء، جيد للغاية!

 

نهضت بمنتهى الثقة ثم تجرعت ما تبقى بكوب العصير، ولا تزال تُمسك بالكتاب، فرفعته لنظره وصاحت به:

-       بقالك أكتر من عشرين يوم مبتكلمنيش كلمة واحدة واللي فرق بس معاك إن معايا الكتاب ده؟  

لم يقم بالرد عليها ويده ما زالت على وضعها، يمدها نحوها حتى تعطيه الكتاب، ونفاذ صبره المختلط بغضبه المتقد في وسط مقلتيه المتفحمتين كاد أن يصيبها بالرعب ولكنها قد واجهت هذه الملامح من قبل وتعرف جيدًا الآن كيف تخرجه عن سكوته!!

 

-       للدرجة دي الموضوع مهم بالنسبالك والحاجة اللي خلتك تتعامل معايا هي الكتاب ده، لا بصراحة كده كتير!

 

تعالت أنفاسه الغاضبة واقترب منها خطوة واحدة ويده كما هي في انتظارٍ لتعيد الكتاب له لترفع احدى حاجبيها بتحدي ثم حدثته بنبرة مستفزة لتقول:

-       طيب ايه رأيك الكتاب ده مش هيرجعلك غير لما تكلمني!

 

لوهلة شعرت أنها انتصرت، وبعد ملامحه التي تزداد غضبًا أدركت أنها قريبة للغاية لإخراجه عن صمته الدائم ولكنه لم يفعل فاحترست بشدة من المسافة فيما بينهما وكلاهما ما زالا يحافظان على صلابتهما الظاهرية فلقد بدأت هي الشعور بالخوف وهو قارب على فقد اعصابه بالكامل!

 

لم تصدق أن هذا حقًا ما استفزه، لقد كانت تحمل له كلمة ستقتله، وتعرف أنها ستُخرجه عن صمته، ولو قتلها الآن هي حقًا لن تكترث، على الأقل ستكون نجت بنفسها من هذا الجنون دون أن تصبح هي مجنونة وتقتل نفسها، ولكنها لن تترك له الراحة أبدًا ليشعر بانتصاره حتى يُلقيها بيديه في هذه الغرفة الملعونة وهي على أتم استعداد على أن تتحمل العذاب فقط لتنجو من هذا الزواج ولو كان الثمن صمت دام لعشرون يومًا وعذاب يتبعه لأيام قليلة، لقد أوشكت على الحصول على هذه الأوراق على كل حال!

 

-       حقيقي مش مصدقة إن ده اللي فرق معاك، شوية كلام في ورق قديم ومكتوب بشكل يوجع العين وكمان كلام متخلف ورجعي.. لكن أنا، مراتك، اللي المفروض فيه ما بينكم مُشكلة ممكن تتحل في عشر دقايق بعد مناقشة فيها تفاهم واحترام، بعد كل اللي مرينا بيه وكل الوعود والكلام الحلو والجوابات، سايبني زي رجل الكنبة ومتجاهلني ومفكرتش تتعامل معايا غير لما لمست الكتاب ده!

 

دمعت عينيها وبرقت بدموع كقضبان السجن الآسر لمقلتيها العسليتين ولكنها لم تسمح لها بالفرار بعد لتلقي بالكتاب بغتة في منتصف المسبح ثم همست باستفزاز:

-       اتفضل روح هات الكتاب بنفسك.. روح كلمه هو بقا!

 

اتجهت لتغادره بعد أن شعر بغليان دمائه بداخل عروقه وأجيج لا ينتهي سيطر على كيانه فما منه سوى أنه تبع خطواتها الواثقة، أمسك بخصلاتها، جذبها إلى المسبح من جديد ثم القى جسدها به!

 

رفعت عسليتيها له بعد أن استطاعت الحصول على توازنها في المياه والتقطت أنفاسها التي اضطربت اثناء القاءه إياها لتمطر عليه وابل من الكلمات المستفزة لعله يأخذها إلى تلك الغرفة الملعونة:

-       لا ده أنا فعلًا باين إني بتعامل مع طفل مش راجل لأن موضوع الكتاب استفزه اوي.. حقيقي وبجد نفسي مرة اشوفك بتتعامل زي الرجالة الواثقة في نفسها، إنما كل شوية تثبتلي إنك مش راجل بتصرفاتك دي!

 

هذه هي الكلمة التي أخبرته بها تحديدًا في بداية زواجهما وجعلته يتحدث لها ويتكلم معها، تتوقع الآن تصرف مجنون منه، في خلال ثلاثة.. خلع قميصه بالفعل.. اثنان.. وسرواله المنزلي.. واحد، وها هو اجتمع معها بالمسبح، جيد للغاية.. لقد وصلت لما تريده، ولكنها لم تكن تتوقع أن يقترب منها بنظراته القاتلة ثم يعقد يده حول عنقها ليقوم بدفع جسدها بالكامل أسفل المياه!

--

-       لا إله إلا الله!! يعني انتي من يومها قفلتي في وش الراجل عشان بيقولك كل حاجة بمنتهى الصراحة وبقالك خمس أيام لا بتردي عليه ولا علينا وقاعدة في قوقعتك كل ده وسايبانا كُلنا يتحرق دمنا؟!

 

تحدثت "بسمة" صديقتها بنبرة نافذة للصبر لتجيبها "عنود" بمنتهى الهدوء:

-       أنا مقصدش احرق دمكم، بس إنسان زي ده عرف بنات مصر كلها ميلزمنيش!!

 

استمعت لتلك الزفرة منها لتسمعها تغمغم بالاستغفار ثم أخبرتها قائلة كمحاولة للإقناع:

-       يعني هو اعترفلك إنه حاول يرتبط ببنت ويكمل معاها بس دايمًا كان بيحصله حوارات وميكملش، وحكالك عن شغله وعن الدبلومة اللي عملها وبعدين رجع يعرف بنات تاني ومحصلش نصيب مع ولا واحدة فيهم، ودي حاجة مضايقاكي؟

 

عقبت على كلماتها بنبرة اعتراضية قليلًا:

-       آه، ومن حسن حظي إنك بقيتي عارفة القصة اهو كلها فمش محتاجة أعيد الكلام اللي سمعته تاني، واحد مبيكملش مع مليون بنت تانية، هيكمل معايا أنا ليه؟ ايه اللي هيخليه المرة دي مختلف؟ مش يمكن بعد شهرين يجي يقول لأ مرتحتش زي باقي البنات؟

 

حاولت التماسك كي لا تفقد اعصابها على هذه الغبية التي لا ترى الأمر سوى من منظور واحد ثم حدثتها قائلة:

-       يا بنتي اعقلي، البنت مننا صعب أوي تلاقي انسان محترم، اديكي شايفة أختي اهى، اتجوزت واحد عملها البحر طحينة وخبى عليها كل حاجة وبعد الجواز لقته بتاع نسوان ومبيبطلش قذارة من الماسنجر للواتساب وماشية بس بتبوس ايده يصرف عليها هي وولادها بعد ما قعدها من شغلها.. ما تجربي يا عنود وتشوفي فعلًا كلامه صح ولا لأ، مش بقولك موتي في دباديبه من أول مكالمة ولا اول مرة تخرجوا سوا، بس على الأقل اديه فُرصة!

 

تريثت وهي تحاول أن تهدأ من غضبها وأخذت تهز ساقها بشدة ثم همست:

-       طيب.. بصي..

 

ابتلعت وهي تُفكر في الكلمات التي ستخبرها بها فهي على علم أنه لن يتوقف وسيهاتف صديقتها من جديد:

-       وياريت الكلام ده ميوصلوش لأني متأكدة إنه هيكلمك تاني بس!

 

تناولت نفسًا مطولًا وحاولت أن تمنع نفسها من البُكاء ثم قالت:

-       تعالي نقول إني اتكلمت معاه واتفقنا وأعجبت بيه وحسيت إن تمام وأنا موافقة وحسبتها إنه صريح مش بتاع تسلية، ده يعني لو حصل، فكرتي هاعمل ايه مع بابا اللي بيخرجني بحساب وبطلوع الروح؟ فكرتي اصلًا ممكن عُدي يقول ايه ده لو كان فاضي ومعندوش لا أصحاب ولا شغل ولا ماما ولا واحدة بيخرج معاها؟ فكرتي ازاي بابا ممكن يرفضه لأنه أصلًا مش بيحب مرات أخويا فالطبيعي إنه مش هيطيق ابن خالتها ولا العيلة كلها؟ فكرتي على ما أوصل لمرحلة إني اقنع عدي واخليه يروح يقول لبابا وهو اصلًا وبابا فيه ما بينهم مشاكل من يوم ما أنا ما اتولدت، هاكون أنا اتعلقت بيه قد ايه وهابقى حاطة طموح واحلام إني هرتبط بواحد زيه وفي الآخر يجي بابا يبوظلي كل حاجة؟

 

هنا لم تستطع المحاربة أكثر وبدأت في البُكاء ثم أكملت:

-       أنا مش عايزة ده دلوقتي، إذا كنت مش عارفة أعيش زي باقي البنات في سني بسبب بابا، تفتكري موضوع الارتباط ده هيمشي بسهولة، وبالذات هيكون عارف إني عايزاه وإن أنا اللي اخترته، انتي نسيتي إنه رفض اختياري زمان لما كان نفسي ادخل هندسة ودخلني طب بالغصب، حتى كُليتي يا ربي بعد كل مذاكرتي دي مكانش ليا الحق إني اختارها، واديني بس مستحملة عشان في يوم أقدر اعتمد على نفسي بعيد عنه؟! ازاي خطوبة وارتباط في بيت لا الأب فيه كويس ولا اخواتي يعرفوني أصلًا وكل واحد مننا في وادي، وماما اول ما تتكلم بتضرب وبيتزعقلها ومبتقدرش تقول كلمة، وأنا مش عايزة أبدًا أكون نسخة منها واتكلم ويبقالي صوت عشان يمد ايده عليا!

 

حاولت تنظيم أنفاسها بين بُكائها ثم هتفت:

-       أنا مش هاقدر اوعده بحاجة، ولا نصيبي أب متفهم وبيحبني وعنده استعداد يشوفني سعيدة، الموضوع ده مش هاينفع بأي طريقة من الطُرق، خلوني بقا ماشية في حياتي كده لغاية ما اتخرج واشتغل وساعتها ابقا اعرف اخد قراراتي بنفسي بعيد عنه، لو عايز يستناني سنين يبقى يستنى، إنما دلوقتي أنا مقدرش احب واتعلق بواحد، الحمد لله اوي إني بحاول اتقي ربنا ولولا إن ربنا كرمنا بالقرآن اللي حفظناه والدين اللي فهمناه بسبب دراستنا كنت انتحرت زي أي بنت أهلها مطلعين عينيها.. ولا كنت عملت أي حاجة غلط كنوع من أنواع التمرد وكنت علقت شماعة غلطي على إن أهلي العيشة معاهم لا تُحتمل، بس اديني أهو بصبر نفسي إن في يوم كل المشاكل دي هتخلص وهبعد عنهم!

 

تأثرت صديقتها بكلماتها ثم جففت "عنود" وجهها الباكي وأخبرتها بنبرة حزينة:

-       لما يكلمك قوليله إني رفضت، وقوليله إني شايفاه إنسان كويس ومحترم وألف بنت تتمناه بس الوقت مش مناسب لينا.. وأرجوكي يا بسمة بلاش كلام في الموضوع ده تاني إن كان ليا خاطر عندك، ولو نوران سألتك ابقي قوليلها إني قفلت الموضوع وياريت تقوليله ميكلمنيش تاني وميحاولش يوصلي بأي طريقة..

 

أنهت المكالمة لتجد نفسها تبكي من جديد وهي لم تعد تتحمل مجرد فكرة أن أمر كهذا وهي تتصرف بمنتهى العقلانية والمنطقية وتحاول حتى أن تبتعد عن كل ما حرم الله، وبعد كل هذا هي لا تستطيع أن تفعل ما يحق للفتيات بعمرها، لأنها وببساطة لو فعلت، ستُقابل بالرفض من والدها كما قابلها بالرفض تجاه كل ما تريده في حياتها حتى ولو ابسط الاختيارات من حقها لآلاف المرات!

--

 شهقت بعنفٍ شديد وهو تخرج من المياه بينما وجدت مُقلتيه المتفحمتين متسلطتين بشراسة نحوها وأخيرًا استمعت لنبرته الغاضبة الساكنة كاللهيب المغلي أسفل فوهة البركان التي ستنفجر عما قريب بعد خمود ظنت أنه لن ينتهي حتى قيام الساعة:

-       كام مرة محتاج اربيكي من أول وجديد؟

 

دفعها مرة أخرى أسفل المياه ولا تزال يده معقودة على عنقها وعندما شعر بتحركات جسدها المتوالية وهي تحاول الخروج بأي طريقة ولكنه يمنعها بقوة حتى تتعذب بفعل انعدام أنفاسها وشعور الغرق يُداهمها لترى الموت وشيكًا ولتعلم أنه لا يمزح هذه المرة فهو ليس بمخنـ ث حتى يتقبل لمس أنثاه أمام عينيه من وغد مثله ويمر الأمر مرور الكرام، وبعد مدة، حينما شعر أن هذا المقدار من العذاب كافي قبل أن تختنق بالمياه أخرجها من جديد ثم حدق بها بغضب ازدادت قسوته ونبرته أصبحت اهدئ من سابقتها لتصيبها بالخوف المقصود من طرفه:

-       عرفتي إن انتِ مينفعش معاكي غير أسلوبي القديم والتفاهم ده مش للي زيك؟

 

حاولت التقاط أكبر قدر من الهواء وهي تسعل المياه التي تسربت لحلقها بفعل ما فعله ولكنه من جديد دفعها للأسفل مرة أخرى وهو يُثبت يده على عنقها وأصبحت يده أقسى ويده الأخرى تدفعها من ملتقى كتفها وعنقها للأسفل بشدة حتى يصيبها الرعب بتصميمه على فعلته وأعاد الكرة منتظرًا أن تتفهم هذه المرة أنه لا يمزح وليس هناك مُتعة بالأمر ولا أي اشتهاء جنسي، بل عقاب صريح لا يحتمل نقاشه وبمجرد أن جذبها للأعلى وجدها تعاني من اختناقها أسفل المياه بحالة أسوأ من سابقتها فحدق بعينيها مليًا ووجها يتضح عليه امارات الاختناق فقوى من يده حول عنقها وهمس بفحيح ذكرها بكيف كان ببداية زواجهما:

-       فاكرة العقد اللي اتريقتي عليه، اهو كان زمانه نفعك دلوقتي.. لو كنا مشينا على كلامي مكنش ده حصلك.. بس بسيطة!!

 

مرة أخيرة قام بدفعها أسفل المياه ولكنه لم يبالغ بالانتظار هذه المرة فلابد أن رئتيها الآن أصبحت حساسة وقابلة لعدم العمل بشكل مُناسب هذه المرة وقد تتوقف عن احتمال انعدام الهواء وهو ليس بمزاجٍ مناسبٍ للذهاب للمشفى والاتصال بالإسعاف أو القيادة بنفسه، هو فقط يُريد أن يُلقنها درس لن تنساه طوال عمرها حتى لا تقوم بتكرار أخطائها معه فرفعها من جديد ثم دفعها لحافة المسبح وهي تُعاني بالتقاط أكبر قدر من الهواء للتنفس بشكل صحيح ونظر لها بصلابة دون شفقة لتتأكد أنه لم يعد يكترث بأسطورة العشق الذي تمنى هو نفسه أن يعيش بها معها ثم هتف بها صارخًا:

-       آخر مرة، بعد كده أي حاجة مش هتعجبني أو لو اكتشفت أي حاجة مخبياها عليا هتكون بموتك، سامعة ولا أقول تاني؟

 

انتفض جسدها أسفل يده بفعل صوته الصارخ فأومأت له بالموافقة وهي تنظر له نظرات اختلطت بين ثقتها بأنها لن ترى منه الأسوأ بعد رؤيتها ما رأته بالسابق وبين خوفها من طريقته التي لا تطمئنها هذه المرة ليُدرك أنها ما زالت تُفكر أنها مجرد زوبعة وستمر ليهمس بسؤاله الذي سبب لها خوف حقيقي هذه المرة بملامح لأول مرة تراها على وجهه لتجده يتحول لرجل لم تتعامل معه قط:

-       هنستعبط ولا هتتعدلي عشان أيامك الجاية تعدي على خير وتردي باحترام عليا؟

 

هزت رأسها بالإيجاب ثم اجابت سؤاله السابق واخبرته:

-       سامعة..

 

حدق بعينيها ليرى نظرتها، لا شيء يتغير بهذه المرأة حتى لو برهن له أنه يعشقها وسيفقد عقله دونها، اللعنة على عشقه وعلى تلك العضلة الحقيرة اللينة التي تنبض لتوقعه في غرام امرأة مثلها، سيقتلعها من بين ضلوعه في النهاية لو فشل معها هذه المرة ليجد نفسه يُزيد من حدة عقدة يده حول عنقها ليرى تأثير فعلته بملامحها ثم همس لها:

-       طيب وريني مكانك فين واستني لغاية ما اجيلك!

 

دفعها للخلف ليتضرر ظهرها بشدة وهي ترمقه بحقدٍ اختلط بيأسها من عقله الذي لا يتغير به شيء ولكن وفي النهاية اوشكت على الوصول لما تريده، ستصل لتلك الغرفة الملعونة في النهاية وستحصل على كل ما تريده!

--

أن تسير على أربع كما الحيوانات حتى صعودها لتتوقف أمام هذه الغرفة اللعينة، عا رية كما ولدتها أمها، تتجرع الذل والإهانة، التاريخ يعيد نفسه، والقصة تتكرر، ولكن هذه المرة قد سقطت جميع الأقنعة، وأصبح لديهم تاريخ حافل بالفعل، ولكن الأمر الوحيد الذي لن يتكرر هو سذاجتها وثقتها بما تشعر به نحوه، والتعاطف الشديد معه..

 

لقد بات لديها هدف وحيد، أن تصبح هذه الغرفة متاحة لها ويذهب هو لأي لعنة حتى تستطيع أن تأخذ ما بهذه الخزينة، عليها فقط أن تهاتف "علا" بعد أن تقوم بتحضير خطة محكمة كي تجد من يساعدها في الولوج للداخل، أو قد يكون هو مُحقًا بكل مشاعره نحوها وقد يكون هذا المفتاح الذي أعطاه إياها بيومٍ من الأيام بصحبة خطابه الأخير هو مفتاحها بالفعل!

 

حتى ولو أنه كان صادقًا معها في كل ما قاله، ولو كان يعشقها عشق سيُصيبه بالموت لو فقده، لم يعد لديها الاستعداد أن تكمل زواجها من رجل مريض يرفض كل اقتراح لعلاجه، ويرفض التفاهم، ويصمم على أن يعدو خلف أوهامه التي يبعثها عقله السقيم ليتبعها كالأعمى!

 

عليها التحمل القليل بعد، اظهار خوفها، واتباع ما يُنادي به من ترهات والتحكم في كل ما لا تقبله وتصنع أنها لا تمانع الإهانة والعنف فقط لتنتهي من زوجها الملعون الذي فقط لو كان يعاني فقط من السا دية وحده، أو اضطراب ثنائي القطب بمفرده، لكانت تحملت وحاولت أن تُقنعه دون كلل أو ملل، ولكن الاثنان سويًا أكثر مما قد يمكنها الصمود أمامه، بالإضافة لرجل كوالده لا يفشل في تلقينه كيف يصبح الأسوأ بين الجميع، هذا بأكمله أكثر مما يمكن امرأة واحدة تتحمله، حتى ولو كانت واحدة من الآلهة الإغريقية الأسطورية اللاتي يدسهن بسطور عشقه، لن تستطيع اصلاح عقله المسموم..

 

ساعة كاملة مرت في انتظاره إلي أن بدأت ركبتيها في التضرر بفعل ثقل جسدها، كعادته يخبرها بأنه من يملك زمام الأمور وكأنها لا تملك اختيار، فهي لا ترتقي لتُصبح إنسان بل حيوان ينتظر عودة مالكه ليمُن عليه ببعض الوقت، حسنًا، أن تمثل وتتصنع كونها مخلوق آخر يدب به الحياة لقليل من الأيام أفضل من أن تموت على يد هذا المخبول، ستتحمل القليل بعد ولقد أوشكت أن تحقق هدفها!

 

وأخيرًا آتى، بعد كثير من الوقت الذي تركها به، صامت، لا يتحدث، ولا تستطيع هي رؤية ملامحه بسبب جلستها تلك، ولكن ذكرت نفسها أنه يتبقى القليل بعد..

 

أطلق اصبعه ليسمح بفتح هذا الباب لهذه الغرفة اللعينة، وفي لمح البصر كانت يده تجذب شعرها لتدفعها للداخل بينما انساقت هي بتلقائية حتى لا تؤلمها رأسها أكثر من هذا..

 

لقد ظنت أن ما أرادته سيتحقق، ولكنها نست، وأمنت مكره، وهذا كان خاطئ للغاية، فهي لا تعرف ما الذي يخفيه لها بعد!

 

-       متتحركيش!

 

كلمة واحدة آمرة منه أوقفتها، وحدقت بالأرضية، غير مكترثة بما سيفعله، وهذا أيضًا خطأ، كان عليها ألا تثق به هذه الثقة العمياء..

 

ابتعد فاستمرت بعدم اكتراثها، هي فقط تُفكر بكيف ستتحمل ما سيفعله من عقاب وتكبيل وصراخ واغتصا ب صريح، ولكن لتهدأ قليلًا، سيتبقى لها الكثير من الوقت لتُفكر لاحقًا، عشرة أيامٍ كاملة، حبيسة، بقفص لا يليق سوى بحيوان متوسط الحجم، وهذا ما دفعها للاندهاش عندما استمعت لصوته الآمر يُناديها من جديد:

-       زي ما انتِ تيجي وتدخلي هنا!

 

ترددت لجزء من الثانية ولكن عليها التحمل، هي تظن أن الأمر سيكون لبعض الوقت، لا تعرف بعد ما يخطط له بشأن هذا القفص المعدني ولا لكم يوم ستبقى حبيسة بداخله، فانصاعت لقوله، واتجهت حيث هو، وقامت بإلقاء نفسها في هذا الجحيم.. الذي استمر لعشرة أيام كاملة، سجينة بداخل قفص بمنزل رجل ظنت أنه الرجل المناسب لتُكمل معه بقية حياتها..

يُتبع..