-->

الفصل الرابع عشر - مشاعر مهشمة 2





 الفصل الرابع عشر



حافظ على تعبيرات وجهه هادئة، رغم الحزن الكائن في قلبه، إعلامه بوفاة والده، دون حتى أن يتسنى له التحدث إليه ولو لمرة واحدة، أو حتى عند وفاته يحضر عزائه كابن له، جعل الألم يستقر في أعماقه، أرجأ إخبار والدته بنبأ وفاة زوجها السابق لحين الذهاب إليها، ليس خشية عليها من وقع النبأ على سمعها عبر الهاتف، فهو يعلم أنه لن يشكل فارقا عندها، ولكن لرغبته في مجالستها، والتحدث إليها بما يجيش به صدره، ففي الأول والأخير من وافته المنية، هو والده، الذي لم يكن له والدا طوال سنوات عمره التسعة وعشرون عاما، بصوت بدا شاجنا أخبر والدته الجالسة جواره على الأريكة، في بيتها الصغير الذي تفوح منه رائحة الفقر:


-كمال الصباحي مات.


فغرت عينيه بصدمة واضحة، كأنما لم تكن تتوقع أن الموت سيأتيه يوما، مد "عز الدين" لها يده بورقة إعلام الوراثة، أخذتها منه وهي تطالعها بغرابة، وقرأت المدون بها بوجوم، سريعا ما تبدل إلى تعابير فاترة، ولسان حالها يردد بغير تأثر:


-ربنا يرحمه.


غامت قسماتها، التي جار عليها الزمن، وهي تتذكر ماضيها الذي لم يكن بالخير معه، بحيله الذكية استطاع أن يجعلها تقع في شباكه، وببعض عبارات الغزل المعسولة، أصبحت تهيم فيه عشقا، كان أول لقاء لهما في المشفى التي كانت تعمل بها ممرضة، وكان هو حينها مريضا وبقى في المشفى ما يقارب الأسبوع، اختارها الطبيب المختص بحالته، لتكون هي ممرضته الخاصة طوال هذا الأسبوع، وبالطبع قد كانت، لم يخفَ عنها منذ الوهلة الأولى نظرات الإعجاب التي كانت تنبعث من عينيه الزرقاوتين لها، حاولت إعدام إظهار ملاحظتها، وموارة إعجابها هي الأخرى بملامحه الساحرة، وجماله الذكوري الجذاب.


في حين تطور الأمر معه للمسة مقصود ليدها، وكلمات مغازلة رددها على مسامعها، كانت تفتقر لمثل ذلك النوع من الإهتمام، رغما عنها تأثرت، وتوردت، وتخدرت حواسها، بعدما كانت تحاول ارتداء قناع الجمود، تشكلت الابتسامات على ثغرها، وارتفع صوت ضحكاتها، وهذا ما جعله يتشجع في ليلة لجذبها إلى سريره وتقبيلها عنوة، لحظات وخارت قواها وأصبحت تبادله، ولكن عندما امتدت يده لملامسة أجزاء معينة في جسدها، ضرب حينها ناقوس الخطر في رأسها، وانتفضت مذعورة، وناظرته بصدمة مما كاد في لحظة هوجاء أن يقترفاه، فرت هاربة من أمامه، وبداخلها كان صوت قلبها يقرع كالطبول.


اختلقت عذرا لطبيبها لكي يسمح لها بالعودة إلى بيتها، وتستلم أخرى دوامها تلك الليلة، وعند عودتها إلى البيت وجدت خالتها المسنة، والوحيدة الباقية لها من عائلتها مشتدا عليها المرض، حاولت إسعافها قدر المستطاع، فالوقت كان متأخرا، ولا يسعها إحضار طبيبا لها في وقت كذاك، وكانت الفاجعة بالنسبة لها، أن المولى أراد استرداد أمانته، لتصبح بين ليلة وضحاها، وحيدة بلا أي أنيس لها، مر أسبوع ولم يتوقف خلاله بكائها على حالها، وفي يوم وجدت أحدا يطرق باب بيتها المعدم، وضعت حجابها فوق رأسها دون إحكامه، وتوجهت لتفتحه بخطوات هامدة، وحينها تفاجأت به أمامها، تلبكت، وتوترت، وارتبكت أوصالها، ولم تجد من الكلام ما يقال، خفق قلبها بقوة مع ابتسامته التي اتضح لها اشتياقها المحموم لها، والتي تبعها بعرضه الزواج بها.


خبت أمارات السعادة على وجهها قبل الظهور، عندما أخبرها بأنه سيكون زواجا رسميا في الخفاء، وقبل أن تثور في وجهه، بهمس كلماته المغرية، استمال قلبها قبل عقلها، وأعلمها بزواجه بأخرى، وأن لديه رضيعا منها، في تلك الأثناء كانت زوجته متواجدة في أحد البلدان الأوروبية، أوهمها بتركها له على الدوام، غير مهتمة بتلبية متطلباته كزوج، إلا أنه لن يستطيع الإنفصال، لأجل ابنه في المقام الأول، ولأن والدها يمول له أعماله، ولن يستطيع خسارته، ومع إظهار احتياجه لها، وهي بالأصل من كانت في حاجة لمن ينتشلها من وحدة قاتلة، خنعت لعرضه، وارتمت في أحضانه، بعد الزواج تفاجأت بوضعه شرطا لاستمرار زواجهما، إلا وهو عدم الإنجاب، تكدر وجهها، وانبعث الغم في وجدانها، إلا أنه اقنعها أن ذلك سيكون بشكل وقتي، حتى تستقر أوضاع عمله، ويستطيع آنذاك الإستغناء عن والد زوجته.


الأيام مرت لتصبح أسابيعا، والأسابيع أصبحت شهورا، حتى انقضى عامين على زواجها، وفي يوم تفاجأت عند إجراءها لاختبار حمل منزلي -بعدما غابت عنها دورتها الشهرية لشهرين متتاليين- أنها تحمل بأحشائها نطفته، صالت وجالت، وهاجت واهتاجت، وخارت أرضا تبكي بأنين صامت، خشية من ردة فعله، ورغم ذلك لم تستطع موارة الأمر عنه، فكلما مر الوقت دون علمه، كلما ازداد غضبه الذي لا تضمن تبعاته، قررت إبلاغه عند مجيئه إليها، والذي كان متوقعا أن يكون بعد يومين، كونه لا يأتيها غير مرتين أسبوعيا، والمبيت ليس أمرا ثابتا، وعند قدوم الليلة المنتظرة، أرجأت إبلاغه فيها عن الأمر إلى حين أخذ وطره منها، حتى يكون هادئ الأعصاب قليلا، وسهل المراس وهو يتلقى ذلك النبأ، ولكن خاب ظنها، وانتفض قلبها، عندما وجدته نهض عن الفراش بعصبية شديدة وصاح فيها في غضب جم:


-يعني إيه حامل، هو انا مش منبه عليكي؟


ارتعدت فرائصها، ووثبت عن نومتها، وهي ترد عليه في خوف جعل وجيب قلبها يشتد خاصة مع نظراته البارقة:


-معرفش حصل ازاي، والله كنت باخد الحبوب ومش بنسى يوم واحد حتى لو مش بتبقى معايا.


كز فوق أسنانه، وضرب الطاولة الجانبية المجاورة له، وهو يهدر فيها بانفعال:


-امال ده حصل ازاي؟


هزت رأسها بالسلب وهي تخبره بعدم علم غير مبتذل:


-معرفش.


كانت نظراته باعثة على الرهبة، ولكن ما جعل الرعب يدب في قلبها حقا، صوته الآجش وهو يقول في لهجة غير قابلة للنقاش:


-العيل ده ينزل.


توسعت عينيها مشدوهة وهي تردد في غير تصديق:


-إيه؟


حركته البطيئة نحوها جعلت حمى الإرتعاد تتفشى في كامل جسدها، وارتعش بصورة واضحة وهو يملي عليها أوامره المشددة:


-اللي سمعتيه، بكرا من الصبح تكوني جاهزة، هاخدك ونروح لدكتور اعرفه، وإياك اسمع منك كلمة اعتراض في الموضوع ده.


تهاوت عبرة من عينيها، وانتحب صوتها وهي تحاول استعطافه ليعدل عن قراره:


-حرام عليك يا كمال، ده ابنك، عايز تموته؟


التوى ثغره بنقم واضح وهو يدمدم في سخط:


-لأ اسيبه ونيره تعرف بيه وبجوازنا والدنيا تتهد فوق دماغي.


على حد علمها أن خشيته من معرفة زوجته لأمر زواجهما، لما كان سينجم عنه من فض والدها لشراكته معه، أرادت طمأنته حول ذلك الشأن، وهتفت في لهفة متوسلة:


-مش هتعرف حاجة صدقني، هفضل بعيدة زي مانا، بس عشان خاطري بلاش تخليني انزله.


دنا من وجهها وهو يحدجها بتلك النظرة التي تقدح شررا، ورفع سبابته أمام عينيها وهو يهسهس بفحيح:


-هي كلمة، ومش راجع فيها، العيل ده هينزل، ولو صممتي إنه يفضل هقتلك وهقتله، وانتي عارفة اني مبهددش وبنفذ.


انتابها الهلع من تهديد الصريح بزهق حياتها هي وجنينها إن كُتب لحملها الاكتمال وأتت روحه إلى الحياة، لم ترِد أن تتخلص منه، فهي منذ علمها بوجوده وقد تعلق قلبها به، رغبةً في جعله إنيسا لوحدتها، خاصة مع توقعها بترك الآخر لها في أية لحظة، إذا انتابه السأم منها، لمعرفتها التامة بطباعة القاسية، وعدم عبئه بغير نفسه، امسكت بكفه وانحنت عليه لتقبله وهي ترجوه ببكاء شديد:


-لأ يا كمال، أبوس ايدك..


جذب يده منها، وناظرها بنظرات يتطاير من نيران الغضب، وعدم التساهل وهو يحذرها قبلما يستدير صافقا باب الغرفة بقوة:


-لو كملتي في حملك فيه متلوميش إلا نفسك يا أمل.


جلست أرضا بعد تركه الغرفة، وانخرطت في نوبة بكاء مرير، أصبحت كالتائهة في محيطها، لا يوجد لها من تلجأ له، أو يتصدى لشرور زوجها، وفي خضم بكائها، قررت ألا ترضى بالأمر الواقع، توقفت عينيها عن ذرف الدموع، وقد عقدت العزم على الفرار من بين براثنه، لن تضحي بجنينها لأجل ارضائه، أو حماية نفسها من بطشه، وبالطبع نفذت ما نوت عليه بعدما رحل، جمعت ما استطاعت من متاعها، ودست بينهم أوراقها الشخصية بما يشمل قسيمة زواجها وصورة لبطاقة زوجها الشخصية كانت بين الأوراق في دولابها، وتركت له قبل رحيلها ورقة أخبرته فيها إنها ستجهض الجنين ولكنها ماعادت تريد العيش معه، لأنه من أجبرها على قتل جنينها، لذا سترحل عن المدينة بأسرها ولن تعود مجددا، سافرت ليلا قبيل الفجر، على متن قطار، أخذها إلى محافظة من محافظات الصعيد، حيث يقطن في إحدى قراها، أحد اقربائها لوالدتها، كان المكان بعيدا عن توقعاته، مما أصبح من الصعب أن يتسنى له إيجادها، مما ساعدها على إكمال حملها ووضع جنينها، وعند ولادته سجلته على اسمه بقسيمة الزواج وصورة بطاقته الشخصية التي قد أخذتهما بين متعلقاتها، وبعد ولادتها خرجت للعمل في أحد المحال التجارية، بعد أن شعرت أنها أثقلت الحمل على قريبتها، ولكي تتكفل كذلك بمصاريفها هي ووليدها. أغمضت عينيها، وانتفض جسدها، كأنما استمعت في أذنيها صوت صراخه، وجاء أمام مرمى بصرها هيئته الغاضبة، التي كانت لا تخشى في حياتها معه أكثر منها، فتحت عينيها بعد لحظات، عندما شعرت بيد ابنها فوق ذراعها، ينتشلها من ذكرى جالت في ذهنها كرها، يسألها في تفقد، ونظرات متفحصة لوجهها الشاحب وعينيها الساهمة:


-روحتي فين يا ماما؟


حانت منها التفاتة نحوه، عندما انتبهت إلى تحدثها إليها، وردت عليه بصوتها الهادئ الذي يحمل الدفء:


-معاك يا حبيبي، كنت بتقول إيه؟


ظهرت الحيرة جلية على وجهه، وما بعث القلق لقلبها رؤيتها لمعالم الحزن طاغية عليه، وصرخ بها صوته وهو يخبرها في ابتئاس:


-مش عارف، أنا مش عارف يا ماما انا حاسس بإيه، أنا مش قادر احدد أنا زعلان على موته، ولا زعلان على نفسي إني عشت طول حياتي يتيم وابويا عايش، ورفض إني يبقالي مكان في حياته.


لم تجد من الكلمات ما يهون عليه شعوره، أو يرأب صدع روحه، فكيف تزيل عن ذاكرته مشهدا ترسخ بها، رغم سنوات عمره الصغيرة آنذاك، حيث إنه لم يكن أتم بعد عامه الخامس، وكأي طفل في عمره معرض للإصابة بوعكة صحية، إلا أنه لضيق ذات اليد، تعذر على والدته جلب أدويته، وكانت تلجأ للمشروبات الساخنة المتاحة في بيتها، ولكنها لم تأتِ بنتاجها، وازدادت حالته سوءً مع مرور الأيام، حتى أصيب بالتهاب رئوي حاد، تطلب منها كشفا طبيا وأدوية مضاعفة، لتعمل على التحكم على مرضه وسرعة تعافيه، حتى لا تترك آثارا جانبية، تلحق الضرر بجهازه التنفسي، لم تجد حلا أمامها سوى اللجوء إلى زوجها السابق، رغم ريبتها من مواجهته بعد تلك السنوات، ولكنها جازفت لأجل طفلها، الذي لم يكن يكف عن السعال الممزوق لحلقه، أخذته وتوجهت بالقطار إلى القاهرة، حيث مقر شركته، كل ما بها كان يرتجف، فلم تكن تعلم حينها بتطليقه لها، بعد مضي سنة على اختفائها، ظل خلالها يبحث عنها في جميع أرجاء القاهرة وأجوارها، وعندما فقد الأمل في إيجادها، طلقها غيابيا، دلفت إلى مكتبه، بعدما أبلغته السكرتيرة بوجود سيدة تطالب برؤيته، وهو أخبرها بسماحه لها بالدخول، دلفت إليه بقدمين ترتجفان، وقلب يخفق بقوة، وعندما أبصر طيفها، نهض عن مقعده، وهو يهتف باسمها بمفاجأة عارمة:


-أمل!


خطت إلى الداخل تقدم قدم وتؤخر الأخرى، وعينيها منكستين خاشية من النظر في عينيه الثاقبتين، قبضت بكفيه على يد الصغير، لتستمد منه الدعم، وقالت بصوت خفيض:


-ازيك يا كمال؟


تقدم نحوها بتعبيرات غير مقروءة، ومع كل خطوة كان يتخذها صوبها إتلافا مضاعفا لأعصابها، توقف قبالتها ونظراته تتفحص هيئتها المذرية، وثيابها البالية، وسألها بجمود متجرد من المشاعر الإنسانية:


-عايزه إيه؟ انتي مش هربتي مني زمان، راجعة ليه دلوقتي؟


رفعت عينيها المنكسرتين له، في حين تابع هو عندما خفض نظراته إلى الصغير في يدها والواضح عليه الإعياء، مرددا بدون اكتراث لما يعتري نظراتها:


-وبعدين انتي شاكلك اتجوزتي اهو وخلفتي، إيه مزنوقة في قرشين، وجايالي افكلك زنقتك؟


تحاملت على نفسها إهانته المتعمدة لها، وهزت رأسها نافية ما جال بذهنه، قائلة في صوت معبأ بالتعب:


-انا متجوزتش يا كمال.


انزلت نظرها إلى الصغير، تقربه منه وهي تتابع في صوت مهزوز:


-ده ابنك، عز.


اربد وجهه بالصدمة المعبأة بالغضب، فهو قد ظن طوال السنوات الماضية أنها أجهضته، كما أخبرته في تلك الورقة التي تركتها في شقتها قبل رحيلها، توحشت نظراته على الأخير، وانعكس فيهما غضبا متصاعدا، وهجم عليه قابضا على ذراعها بقسوة، وهو يصيح فيها في استهجان ناقم:


-انتي هتستعبطي يا بت! فاكراني من اللي بيتختموا على قفاهم، رجعالي بعيل في ايدك بعد أكتر من خمس سنين وتقوليلي ابنك.


جأشت نفسها واضطربت للغاية، ولكنها تظاهرت بالشجاعة وهي تخبره بتصميم:


-انا مبستعبطش، دي الحقيقة، ده ابنك، انا منزلتوش يا كمال، انا هربت منك عشانه، عشان يعيش.


زاد من قوة قبضته على ذراعها وهو يهدر فيها بصوت مليء بالشراسة والخسة:


-وانتي راجعة دلوقتي عشان تقوليلي الكلمتين دول، فاكرة ان العبط ده هيأثر فيا، واخده في حضني واجري اربيه مع ابني!


نفض ذراعها بغل عن يده، تفلتت منها آنة متألمة، ولكنها تحاملت على وجعها، في سبيل إنقاذ ابنها، وردت عليه في ثبات منقطع النظير:


-لأ، انا مش عايزاك تاخده في حضنك ولا تربيه مع ابنك، انا عايزاك بس تساعدني، عز تعبان زي مانت شايف، محتاج علاج غالي اوي، وانا مش معايا تكلفته، ولو ماخدوش حالته هتسوء ومعرفش ممكن يجراله إيه، أنا ابني بيروح مني يا كمال، أنا ماليش في الدنيا غيره.


تساقطت العبرات من عينيها، وانتحب صوتها وهي تضيف بانكسار:


-انا حاولت على قد ماقدر ألمله تمن العلاج بس معرفتش، وماليش حد يساعدني، أبوس ايدك ساعده، متسيبوش يموت، ده ابنك يا كمال، من لحمك ودمك.


ثبت أنظاره عليه كأنما يفكر مليا فيما قالته، أخفض نظره نحو الطفل الذي لم يتوقف سعاله منذ وطأت قدميه الغرفة، لم تكن نظراته توضح أي تأثر اعتراه مما علمه، ويراه واضحا كوضوح الشمس على طفله، رمقها بنظرة ضائقة قبل أن يستدير متوجها نحو خزانته، أخرج منها حفنة من المال، وعاد إليها بعد أن أغلق الخزانة، وقذفها إليها وهو يقول بغلظة مطعمة بالإزدراء:


-خدي، ومش عايز اشوف وشك تاني لا انتي ولا هو، وزي ما مشيتي أمورك السنين اللي فاتت لواحدك مشيها السنين الجاية، وانا مش مسئول عن الطفل ده، وإياك في يوم أعرف إنك وصلتي لنيرا او لعاصم وحد فيهم عرف بوجوده ولا إني كنت متجوزك، انت عارفة كويس اوي اللي هيحصلك وقتها، ويلا برا.


بصعوبة تحكم "عز الدين" في تلك الغصة الخانقة لحلقه، من تذكره لأطياف ذلك اليوم، صوت والده البغيض كأنما تردد على سمعه، ليبعث الألم بين جنبات قلبه، أوصد عينيه للحظة التقط فيها نفسا مطولا، ثم فتحهما وهو يزفره على مهلٍ، مثبطا هياج مشاعره، وأردف بكسرة بالغة:


-أنا مكنتش عايز فلوسه، ولا حياته، انا كل اللي كنت عايزه وجوده معايا.


كانت والدته ترى أن في بعده رحمة له، ولكنها لم تعقب على ما قاله، فرغم مساوئه التي لا تحصى، لم ترِد أن تفسد صورته أمامه، يكفي تلك الذكرى التي حفرت في رأسه، بينما شعر "عز الدين" بالنفور تجاه ذلك الورث، فهو كان طوال سنوات عمره طريدا من حياة والده، لذا لا يريد أموالا منه الآن، كأنما يتعطف عليه بها بعد مماته، حتى وإن كانت حقه الشرعي به، اطنب بجدية وهو يحول نظره لوالدته:


-انا مش عايز الورث ده.


حملت نظرات والدته اعتراض على ما تفوه به، وأردفت تلومه بغير انفعال:


-ده حقك يا عز، انت ليك فيه اكتر من الورث ده، ليك تسعة وعشرين سنة قضيتهم من غير أب، عيشت حياتك كلها في فقر وفي شقة اوضة وصالة، وابنه كان عايش في غنى وفي فيلا شقتنا متجيش قد اوضة فيها، انت ليك كتير اوي يا عز، ليك كتير اوي.


شعر من نبرتها بالألم المستقر أعماقها، أمسك يديديها بين قبضتيه وهو يعلق عليها بصوت رخيم يحمل الرضا:


-الشقة الصغيرة دي انا اتربيت وكبرت فيها لحد ما بقيت الدكتور عز، والفقر ده اللي خلاني مجيش على فقير محتاج لكشف ومعهوش تمنه، انا مش زعلان على أي حاجة فاتت، لإن اللي فات هو اللي عملني، واللي فات انتي كنتي معايا فيه، ومسيبتينيش للحظة واحدة، وده كفاية عندي يا ماما.


قرب يديها من فمه وقبلهما على التوالي، ترقرقت الدموع في عينيها، وجذبته لحضنها وهي تقول بعاطفة أمومية ومحبة شديدة:


-ربنا مايحرمني منك يا حبيبي، انت الحاجة الوحيدة الحلوة اللي طلعت بيها من الدنيا، ولو الزمان اتعاد بيا مية مرة، هختار اني ابعد واسيب الناس كلها عشان أجيبك للدنيا.



❈-❈-❈



نظرة تحمل الاشتياق، طالعت بها "داليا" صديقتها، والتي هاتفتها واتفقت معها على مقابلتها في أحد المطاعم المجاورة لها حينها، عندما علمت برجوعها من شهر العسل، فقد استغلت "داليا" وجودها بالخارج، حيث كانت تحضر متابعتها الدورية عند دكتور التغذية، الذي يساعدها على نقصان وزنها، بحماس طفيف سألتها وهي جالسة جوارها:


-رجعتوا من الhoneymoon (شهر العسل) أمتى، وعاملين إيه مع بعض؟


ابتسم لها بإشراقة واضحة وهي تجيبها بنعومة صوتها:


-لسه راجعين من يومين، واحنا كويسين أوي مع بعض، وفرحانة أوي معاه.


ظهر الانزعاج على ملامح وجهها وهي تخبرها:


-كان نفسي اوي أحضر فرحكم.


كانت "رفيف" تلتمس لها العذر لتعذرها على المجيء، فقد كانت حديثة الولادة حينها، كما يصعب عليها التحرك برضيعين لم يتجاوز عمرهما البضعة أيام، مدت يدها وربتت على كفها برفق وهي تقول بنبرة طيبة:


-وأنا كمان كان نفسي، بس انا مقدرة إنك كنتي تعبانة، وعشان الولدين كمان، مكانش هينفع تسيبيهم او تاخديهم معاكي وهما كانوا لسه مولودين؟


زفرت "داليا" بقليل من الإرهاق، التي تعاني منه منذ ولادتها، وعلقت عليها بنبرة متعبة تتفق مع ما قالته:


-أنا مش بقدر فعلا أسيبهم خالص، النهارده بس كان لازم أخرج عشان كان عندي متابعة مع الدكتور بتاعي، وسيبت معاهم الnanny (المربية)، ولما لقيتك في النادي قولت آجي أقعد معاكي شوية بما إني مش بخرج كتير ولا بشوفك.


ران الصمت بينهما للحظات كانتا ترتشفان من مشروبيهما، قطعت ذلك الصمت "رفيف" عندما استطردت متسائلة بوجه خالي التعبيرات:


-عاملة إيه مع عاصم؟


لم يظهر أي معلم من معالم السعادة على وجهها وهي ترد عليها بنبرة عادية موجزة:


-كويسة.


زوت ما بين حاجبيها وهي تتفحص هيئتها الواجمة، متعجبة من وجازة ردها، شعرت بعدم الارتياح وأردفت بحيرة قلقة:


-حساكي مش مبسوطة، are you ok (هل أنتِ بخير)؟


زمت "داليا" شفتيها وهي تتنهد مطولا، ثم بدأت في التكلم بصوت خالٍ من الفرح:


-انا كنت فرحانة اوي بجوازنا، حسيت إني حلمي بوجوده جنبي ومعايا طول الوقت خلاص اتحقق، وشوفت إن حاجات كتير اتحلت بجوازنا، وأولها نسب الولدين، بس..


عندما توقفت عن المتابعة، حثتها "رفيف" لاستكمال المنقوص من كلماتها المستفيضة وهي تستفسر منها بتريث:


-بس إيه؟


بعد زفرة مطولة أكملت بأسى شديد:


-عاصم طباعه صعبة، وأوقات كتير أوي بتعب منها، وانا مش قادرة أعمل إي حاجة، ولا قادرة أقوله إن طريقته معايا بتجرحني.


انحنت "رفيف" في جلستها مقتربة من صديقتها، وهي تحدثها بضيق:


-ليه يا داليا؟ طالما في حاجة بتضايقك منه عرفيه، عشان الأقل ياخد باله منها وميعملهاش تاني.


رمقتها بنظرت يعتريها البؤس، وقالت بشجن جم:


-مش عاصم اللي أقدر اتكلم معاه في حاجة مضايقاني، وكمان يبطلها، تقريبا هو بيشوف إيه الحاجة اللي بتوجعني وبيعملها.


انفعلت أعصابها، واشتدت ملامح وجهها، وحاولت ألا يرتفع صوتها وهي تستنكر قبول الأخرى باستكمال حياتها معه وهو على تلك الأطباع:


-وانتي إيه اللي جبرك إنك تكملي حياتك معاه طالما بيوجعك؟ انتي خلاص ولادك اتنسبوا ليه، اطلبي الطلاق منه طالما مش مرتاحة.


رمشت بعينيها قائلة بصوت خفيض شجي:


-مقدرش.


قطبت جبيمها بغرابة، وتساءلت بحنق:


-ليه متقدريش؟


على فورها أجابتها بنفس الإجابة المستهلكة:


-عشان بحبه.


زمت "رفيف" شفتيها بانزعاج مضاعف من ذلك الرد الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وقبل أن تعلق، اطنبت "داليا" بمرارة ولوعة:


-بحبه ومش هقدر ابعد عنه، مش هتحمل يعدي عليا يوم وهو مش معايا، انا ماليش غيره يا داليا، ومن ساعة ماوعيت على الدنيا محبتش غيره، ومش قادرة اتخيل حياتي وهو مش فيها.


نظرات الأخرى لها كانت تحمل نوعا من الشفقة الممزوجة بالكراهية للأخر، خاصة عندما تابعت "داليا" في صوت متعب من كثرة أوجاعها المعنوية، المهشمة لقلبها، وصادعة لروحها:


-بس انا تعبت، ونفسي يتغير، نفسي يقدر حبي، وميهدمش حياتنا باللي بيعمله.



❈-❈-❈



بكل ما فيه من غطرسة وغرور، دلف إلى مكتب محاميه، حيث يتواجد بالداخل "عز الدين"، الذي أخبره المحامي صباح اليوم برغبة أخيه الأكبر في رؤيته، كان "عز الدين" بداخله يختلج بالإرتباك لتلك المواجهة، خشى للحظة أن يشكك في أخوته، أو يظن أنه طامع في أن يصبح له جانب من علو مكانته، حتى وإن كان هذا حقه الذي لا يوجد به جدل، ولكن من بين ما تطرق لفكره، أبى أن يظهر في صورة المغلوب على أمره، أو يكون متزعزع الثقة في نفسه في وجوده، فهو إن كان واحدا من أكبر رجال الأعمال، والمهندسين المعروفين، هو أيضا واحدا من الأطباء النابغين، وليس بأقل منه في المكانة، توجه "عاصم" للجلوس فوق المقعد المقابل له، تحت ترحيب من محاميه بحفاوة:

 

-اهلا عاصم باشا.


تجاهل الرد عليه، وأنظاره كانت تفحص هيئة الآخر مليا، في جلسته كان مقاربا له في الطول، وملامحه كانت متقاربة له إلى حد كبير، فعلى ما يبدو أن جذابيتهما ورثاه عن والدهما، فقد كان مهندم الثياب، وحسن المظهر على عكس ما توقع أن يكون، لعلمه بإنه لا يندرج إلى بيئة غنية، بل يسكن في أحد الأحياء الشعبية المعدمة، كانت نظرات "عز الدين" مسددة إليه هو الآخر، هيئته كانت باعثة على الارتياب، نظراته غير مريحة، وصمته يدفع الظنون لرأسه، قطع تمعنه به، صوت "عاصم" وهو يخاطبه في لهجة جامدة:


-أنا مش هسأل عن تفاصيل جواز أبويا من والدتك، ولا هسأل عن ازاي معرفتش بوجودك كل السنين اللي فاتت دي، لإن بصراحة مش فارق معايا، وكمان بابا مكانش يُستهان بيه والدليل إن محدش عرف بإي حاجة بخصوصك إلا بعد موته، ليه وعشان إيه بقى ميلزمنيش.


شعر "عز الدين" بالانزعاج من لهجته المليئة بالكبر، وضاقت نظراته وهو يستفسر منه في ضيق:


-امال جايبني هنا تكلمني في إيه؟


هز رأسه بالسلب وهو يخبره في فتور غامض:


-انا مش جايبك عشان أكلمك، أنا عايز أعمل معاك deal (صفقة).


ضم ما بين حاجبيه بغرابة، وراح يكرر ما قاله بنبرة متعجبة:


-عايز تعمل معايا deal!


رفع وجهه في عنجهية، وكأنما نظراته كانت تحمل بعض الاحتقارية ونوعا من التعطف وهو يستطرد على نفس الشاكلة الفاترة:


-أنا معنديش مانع في إنك تاخد ورثك، وهتاخد فوقه كمان مليون جنيه، قصاد إن يتشال اسم الصباحي اللي في اسمك، ويبقى اللي بينا تشابه اسماء مش أكتر، وخصوصا إن اسم الأم مختلف، فالموضوع مش هيبقى صعب، ها قولت إيه؟


تصاعد الغضب على وجهه وعند انتهائه هب واقفا، وصاح فيه باستهجان وهو يلوح بيده في وجهه:


-انت بتطلب مني إيه؟ انت مجنون؟


كز "عاصم" فوق أسنانه، واحتقنت عينيه وهو يخبره في صوت اخشوشن على الأخير:


-احفظ لسانك احسنلك، واعرف إنك بتكلم عاصم الصباحي.


استقام في وقفته، وبكل إباء وعزة نفس رد عليه:


-وأنا عز الدين الصباحي، سواء رديت أو مرديتش، أنا مش هتنازل عن حقي في نسبي لكمال بيه الصباحي، أنا مش ابن حرام، او الباشا كان متبنيني، أنا ابنه، من صلبه، وجاي من علاقة شرعية، ولو طول حياته كان رافض بنوتي، فأنا ماكنش فارق معايا أبوته، لكن نسبي ليه مش هتنازل عنه، انت فاهم.


عندئذ نهض الآخر عن مقعده، ووقف قبالته، وناظرة بتلك النظرة المليئة بالعدائية، وهو يدمدم فيه بما يشبه التهديد:


-يبقى انت كده بتعاديني، وانت متعرفنيش ولا تعرف عداوتي شكلها إيه.


لم يكترث لتهديده له، ولا لأي مما سيقدم على فعله، ولكنه لم يتحكم من بين ثباته؛ في الحزن الذي لاح فوق معالم وجهه وهو يرد عليه في تحسر:


-ياريتني بجد ماعرفتك، مكنتش اعرف إن يوم ما نتقابل هتبقى دي المعاملة، كنت فاكر إن اخويا هيفرح بوجودي، بس الظاهر هو كان عنده حق لما طلب من أمي إنها تبعد بيا ومتعرفكش عني حاجة، لإنك شبهه، زيه في قساوته وإنانيته.


لم يكن من "عاصم" سوى نظراته المسددة عليه، والذي جمعت ما بين العدائية والبغض لتشبيهه له بوالده، وبصفاته المقيتة التي لطالما كرهها، أغلق "عز الدين" أزرار سترته، وهو يتابع في شموخ وتصميم على موقفه، قبلما يغادر ويتركه في أوج غضبه:


-انا مش فارق معايا الورث، ولا المليون جنيه اللي بتساومني بيهم بنسبي، أنا ماخدتش من كمال بيه غير اسمه، وده اللي مش هتنازل عن حقي فيه.


يُتبع