-->

الفصل الثالث عشر - مشاعر مهشمة 2





الفصل الثالث عشر



الحياة الهادئة، هي السبب الرئيسي في خلق أسرة سوية، لما يغمر أفرادها من سيل من الحنان والدفء، الذي يغدق بهما الأبوين على أبنائهم، لينشأوا بطباع متجردة من الجفاء والقسوة، حينئذ يواجهون الحياة بقلوب نضرة صافية، لا يضنوا بما لديهم؛ من مخزون الحنان والود؛ على من تجمعهم معه صلة وطيدة، أو حتى حديث عابر، لربما ينمحق مع تتابع الحياة، فروحهم النقية، تدفعهم إلى التعامل بحسن طباعهم، ولين معاشرتهم مع أيا كان، حيث إن ارتياح النفس، ينبع من صفاء القلب، وطيب الكلام. بابتسامة صغيرة، انفرج بها وجهه الرجولي البهي، متوجها إلى غرفة المعيشة، وهو حامل صينية الفطور، الذي يعده منذ استيقاظه، ليتناوله رفقة زوجته وطفله الصغير ذي الثلاثة أعوام، الذي يجلس أرضا بالداخل يعبث بألعابه، شيعه بنظرته الحنون، وهو يضع الصينية على الطاولة، وعاد إليه ليحمله عن الأرض، وقام برفعه لأعلى، ليسقط في يديه، ويعاود الكرة معه، متشاركين الضحكات المرحة معا، بعدما تعب الصغير من الضحك، توقف والده عن رفعه، واستكان الصغير على كتفه، وهو يهتف من بين أنفاسه المتهدجة، بصوته الطفولي الضاحك:


-بابا.


قبل وجنته قبلة مطولة، وقال قبلما ينزله أرضا، بصوت هادئ لا يخلو من الحنان:


-روح بابا، استناني هنا شوية قد كده، هروح اصحي ماما ونييجي نفطر سوا.


هز له الصغير رأسه موافقا، قائلا بوداعة:


-ماشي.


عبث بأصابع يده في شعره الطوبل نسبيا، وهو ينهيه بلين:


-متعكش في الأكل يا يونس، أنا تعبت في تحضيره، خليك جود بوي لحد ما اصحي ماما.


أومأ له مجددا، بهزة واحدة من رأسه وهو ينظر إلى اللعبة في يده، خنوعه آثار شكوك والده نحوه، رمقه بنظرة مستريبة وهو يخاطبه في نبرة مرحة:


-والله شاكلك بتسنجني وهتقلبه على الأرض لما أخرج، الأدب ده مثير للشكوك وميطلعش منك.


لم يفهم الطفل مفهوم كلماته بشكل كامل، إلا أنه استشعر من ابتسامته أنه يلاغيه ويمازحه، ليضحك بملء شدقيه، مما جعل والده يضحك هو الآخر، تأثرا بضحكته الطفولية الآسرة لقلبه، قذف له قبلة في الهواء، قبلما يستدير متوجها إلى غرفته، حيث ما تزال زوجته نائمة بها، دلف إلى الغرفة ليجدها ناعسة، توجه نحو الستائر وأبعدها عن الشرفة، ليلج ضوء النهار، مضئيا كامل الغرفة، اهتز جفنيها تأثرا بالضوء الذي نفذ عبرهما إلى حدقتيها بغتة، انشق ثغره بابتسامة وهو يرى أمارات الإنزعاج بادية على وجهها، جلس جوارها على طرف الفراش، وداعب أرنبة أنفها بأصبعيه، حركت وجهها للجهة الأخرى في ضيق، اتسعت ابتسامته وهو يدنو منها مقبلا وجنتها، لتلتفت له بكامل وجهها، بعدما فتحت عينيها قليلا، وهي تمط جسدها، هامسة بصوت ناعس والابتسامة تزين شفتيها الرفيعتين:


-عز!


أعاد خصلاتها المشعثة -من تأثير النوم- إلى الخلف وهو يغمغم في صوت متريث:


-مش هتقومي بقى؟ احنا بقينا الضهر، بطلي كسل.


تصنعت البراءة في نظراتها، وهي تشكو له بدلال وغنج:


-أعملك إيه، ما ابنك اللي تاعبني اوي.


امتدت يده نحو بطنها الذي لم يظهر به أي بروز بعد، لحملها الذي لم يتخطَ شهره الثالث، وتساءل باهتمام:


-اللي جوا ولا اللي برا.


أجابته بعد زفرة مرهقة، بتبرم واضح:


-الاتنين.


رفع أحد حاجبيه في تسلية، وهو يعقب بثقة مقطوعة النظير:


- المهم ان ابنك الكبير محترم ومش بيتعبك خالص.


كان يشير بعبارته على نفسه، حدجته بنظرة مغتاظة، قبل أن ترد عليه بنبرة ساخرة ذات مغزى:


-خالص خالص، مش أكتر حد تاعبني فيهم لأ.


فهم ما تحاول أن ترمي إليه بردها، والذي يتضمن لقاءاته الحميمة معها، الذي يبث بها أشواقه لها، تظاهر بالحزن وهو يعلق بعبوس:


-أنا بتظلم كتير أوي.


صدح ضحكة منها مليئة بالإغراء، وباعثة على الإغواء، كان لها بالغ الأثر على كينونته الذكورية، وما كان منه إلا ان اقترب مطبقا على شفتيها بشفتيه، لاثما إياهما بنعومة، ثم ابتعد بعد لحظات، لئلا يترك العنان لرغبته أن تستميله وتستهويه، إلى الإنغناس في لقاء حميمي آخر، يجدد من خلاله مشاعره التي لا تنضب حيالها، ويتركا حينها الصغير بالخارج بمفرده بانتظار خروجهما لتناول الفطور، رمقها بنظرة دافئة، هامسا لها وهو يمسح بيده على طول ذراعها:


-يلا قومي فوقي كده، واغسلي وشك، وتعالي نفطر بقى انا حضرت الفطار.


رفعت حاجبيه وهي تنهض من نومتها، جالسة على الفراش، ورددت بتفاجؤ:


-بنفسك؟


أخبرها بوجه باسم، ممازحا إياها وهو يثب عن جلسته:


-افتكريها بس.


مدت رجليها لترتدي شِبشِب السرير خاصتها، وقالت له بابتسامة واسعة بدلع خالص:


-بسحب كلامي، انت مش بتتعبني خالص فعلا، ومحترم أصلا ومؤدب أوي.


حاوط خصرها بذراعه، وأكمل عنها مدحها به على شاكلة ممازحة:


-وهادي جدا ومش بعمل دوشة، وبغسل سناني قبل مانام.


حاوطت عنقه بذراعيها وهي تشاركه الضحك، لحظات وكانت مبتعدة عنه، وتعبيرات وجهها تنم على الغرابة، عندما استمعا لصوت جرس الباب الذي صدح بغتة، وسألته بهدوء متعجب:


-مين اللي جايلنا من الصبح اوي كده؟


لم يخلُ وجهه من الإستغراب، فقد كانت الساعة حوالي التاسعة صباحا، وليس بالعادة أن يأتي أحد لزيارتهم في مثل ذلك الوقت، مط شفتيها بعدم علم، وقال لها بتحفز وهو يشرع في التحرك صوب باب غرفتهما:


-روحي انتي الحمام، وانا هشوف مين.


فتح باب شقته، ليبصر رجلا يحمل حقيبة يد، يتضح من هيئته أنه موظف حكومي، حملت نظراته الترقب وهو يسأله بجدية:


-أيوه، يلزم خدمة؟


كانت نظرات الرجل منصبة نحو الدفتر المتواجد في يده، سأله وهو يقرأ منها الاسم المدون به:


-حضرتك المدعو عز الدين كمال السيد الصباحي؟


أومأ له بالتأكيد وهو يرد في هدوء يحمل بعض القلق:


-ايوه أنا؟


مد يده له بورقة وقلم، وأشار له تجاه موضع في الدفتر وهو يطلب منه بعملية:


-اتفضل امضيلي هنا.


أخذ "عز الدين" الورقة منه، والتقط بيده الأخرى القلم، وسأله قبلما يمضي، وهو يتفقد بعينيه ما تحتويه الورقة الذي أخذها منه:


-دي إيه؟


أجابه الرجل على الفور، وظهر على وجهه الضيق من مماطلته:


-ده إخطار من المحكمة.


لم يرِد "عز الدين" أن يطيل في استفسارته، خاصة بعدما قرأ العنوان في أعلى الورقة، مضى له في الدفتر، ثم أعطى له القلم، وأغلق الباب بعد رحيله، حينئذ أتت زوجته، وهي تتساءل ونظرها موجه نحو الورقة التي يقرأها زوجها:


-في إيه يا عز؟


ظهر الوجوم على محياه، وعبرت عينيه اللتين ارتفعتها عن الورقة عن بعض الحزن، وأجابها بعد تنهيدة تحمل الأسى:


-إعلام وراثة.



❈-❈-❈



الغيرة، تخلف احتراقا في الصدر، وزوبعة في الرأس، وتبعث الكمد والغم، خاصة في نفس الأنثى، ولا تخمد ثورتها المشتعلة بداخلها، إلا باختفاء ظل -من تحاول سلب رجلها منها- من الوجود، كانت تود "داليا" أن تتأكد من عدم وجود علاقة جامعة بين زوجها، وتلك الفتاة التي ذكر اسمها نزقا، ورغم علمها بالقليل حولها، وذلك عندما استرقت السمع لما يتحدث فيه زوجها إلى "مجد" يوم العزاء، وكان نابعا من خوفها من نشوب شجارا بينهما، إلا أنها تريد إجابة قاطعة، وناهية لكل ما يدور في رأسها، تقدمت نحوه وهو يعمل في غرفة مكتبه بالفيلا، وقد جلبت له كوب القهوة، الذي أبلغ العاملة بصنعها له، وضعتها أمامه على سطح المكتب، مد يده حاملا الكوب إلى فمه، متراءيا له نظر الأخرى المصوب نحوه، والذي استشف منه رغبتها في قول شيء ما، انزل الكوب بعدما ارتشف منه، ثم سألها بجمود يحمل بعض الغرابة:


-بتبصيلي كده ليه؟


اعتراها التردد للحظة في التكلم، خشية من انفعاله عليها، ولكنها سريعا ما ارتدت قناع الشجاعة، وسألته في استفسار مشبع بالغيرة:


-هو انت لسه على علاقة باللي اسمها مي دي؟


اعتلى وجهه علامات التعجب من ذكرها لاسمها، وتساؤلها حول استمراره في علاقته بها، فأنى لها بمعرفةٍ بها من الأساس؟ زوى ما بين حاجبيه، وهو يستطرد متسائلا بغرابة واضحة:


-وانتي إشعرفك بمي؟ وإشعرفك اني كنت على علاقة بيها أصلا عشان ابقى مستمر فيها ولا لأ؟


احترقت بنيران الغيرة عندما ردد اسمها أمامها بمنتهى التلقائية، وكأنما يتعمد إثارة غيظها، زفرت نفسا ضائقا وهي متحاشية النظر إليه، لئلا يرى تعبيرات الغضب التي تشكلت فوق قسماتها، وأجابته بنبرة عملت على أن تخرج هادئة:


-حكاية عرفتها منين، فانا معرفهاش شخصيا، بس سمعتك وانت بتكلم مجد عنها يوم وفاة باباك، إنما ليه بسألك دلوقتي فأنت أكيد عارف السبب.


مع نظرتها الموحية في قولها الأخير، حتى تذكر تلفظه باسمها من قبل معها، فقد تغافل عن الأمر، حيث إنه قد كان زلة لسان، عائدة إلى مجيئه على ذكرها قبلها مع "مجد"، ورؤيته لرسالتها المعزية له على حسابه الشخصي على إحدى وسائل التواصل الاجتاعي يوم العزاء، عاد بظهره للخلف، مستندا على ظهر مقعده، وقال لها بجمود غير آبها بنيران غيرتها التي تحترق على جمراتها:


-أنا مش مطالب إني ابررلك زلة لسان.


حينئذ تحفزت في وقفتها، واعترضت على عبارته بصوت ارتفع دون قصد:


-لأ مطالب بما إني مراتك وأم ولادك.


اهتاجت أعصابه من صوتها المرتفع، وعبارتها التي توحي بتحكمها بتصرفاته كونها أضحت زوجته ووالدة لابنيه، حدجها بنظرة حادة، ورد عليها في استهجان منفعل وهو يهب واقفا:


-وأنا قولتلك جوازي منك مش هيتحكم فيا، انتي مش هتلوي دراعي لا بيه ولا بولادك.


خفق قلبها في خوف من عصبيته، ولكن غيرتها تحكمت بها، وأردفت بريبة وهي تحملق فيه بعينين متوسعتين: 


-يعني معنى كده إنك فعلا على علاقة بيها!


تأفف في ضجر من لغوها الفارغ، فهو ليس بفكر خالٍ، يساعده على تحمل غيرتها العمياء، وغباءها المُستحكم من وجهة نظره، وهدر في عصبية بائنة وهو يتحرك من أمامها:


-يوووه، انا مش فايق للكلام الفاضي ده، أنا عندي مصيبة مش لاقيلها حل، أخ طلعلي من العدم، وهتبقى سيرتنا على كل لسان لو حد عرف بوجوده، وانتي جاية تتكلمي في كلام فارغ!


تنبهت مداركها من بين طوفان غيرتها إلى كلمة أخ الذي تفوه بها من بين ما قاله، وراحت تردد في تفاجؤ وهي قاطبة جبينها:


-أخ! انت طلع عندك أخ؟


استدار لها من فوره، حدجها بملامح مشدودة للغاية، وعج صوته وهو يجيبها بحنق وانفعالات جسدية واضحة:


-آه طلع عندي زفت، ومش فايق لأي اسئلة واستفسارات من بتوعك اللي ملهمش آخر، سيبيني أفكر في حل للداهية اللي انا فيها، واطلعي رضعي ولادك، بدل مانتي جاية توجعي دماغي بتفاهات أنا مفياش دماغ ليها.


أمارات الغرابة تشكلت فوق قسماتها من علمها بذلك النبأ، ولم تجد مجالا أمامها لمتابعة الحديث، خاصة مع الإنزعاج الغاضب المعتري وجهه المشدود، لذا قررت إرجاء تساؤلاتها لوقت آخر، وهزت رأسها له في رضوخ، قائلة قبلما تستدير لتغادر الغرفة:


-ماشي يا عاصم.


تابع خروجها بعينين ضاجرتين، نفخ أنفسا ضائقة وهو يجلس على الأريكة الجلدية الوثيرة، المقابلة لمكتبه، عاد برأسه للخلف، مستندا على عارضة الأريكة، أوصد عينيه بإرهاق متفشي من كامل كيانه، هل كل ما حدث الآونة الأخيرة كان ينقصه ظهور أخ من العدم! كأن مصيره متآمر عليه، فحتى الحبيبة التي هجرته، ودعست قلبه بقدميها، واختفت من حياته لسنوات، عادت لتظهر من جديد، لتعيد شعوره بتلك الجروح الغائرة، التي خلفتها برحيلها.


جال في ذهنه مجيئها إليه في ذلك اليوم، الذي تلى أيام العزاء، رغبة منها في تعزيته بنفسها كما تزعم، ولكن صدمته آنذاك شتت كامل تفكيره، فما بدر منه كان متناقضا مع ما عزم على فعله إن صادف وجمعهما لقاء، منذ علمه بعودتها من سفرها الذي استمر لأعوام في أحد البلاد الأوروبية، ولكن على ما يبدو إن هالتها المختالة، ومشيتها المتباهية -بما تمتلكه من مقومات جمالية، وحسن أخاذ- ما تزالا ذاتا تأثير عليه، فعينيه ظلت مأخوذة بالنظر إلى ما تمتلكه من أنوثة صارخة، ازدادت مع ازدياد سنوات عمرها، وتلك الملامح التي تمتزج في جمالها ما بين الجرأة والثقة، حتى خطواتها الخيلاء، ترغمه على متابعة سيرها نحوه، نهض عن مقعده بدون أن يشعر، ووجد نفسه يتقدم منها، توقفت أمامه، وابتسامة واسعة ارتسمت على شفتيها ذاتا الطلاء الأحمر القاني، تبعها معانقتها له المفاجئة، وتشددها على ضمته لها، قائلة باشتياق جم:


-وحشتني أوي يا عاصم.


تلجم في موضعه، لم يرفع ذراعيه ليبادلها العناق، أو حتى قام بإبعادها عنه، ظل ثابتا حتى فرقت هي العناق بعد عدة لحظات، وناظرته بتلك النظرة التي ما زالت تحمل سحرا من نوع خاص، وخاطبته في لطافة ونعومة لطالما اتسم صوتها بها:


-قولت بما إني رجعت مصر، يبقى لازم آجي اعزيك.


تدارك صمته الذي طال، ونظره الذي لم يحِد به عنها بعد، نكس رأسه لأسفل، وهو يتنحنح بخفة جاليا بصوته، وعاملا على ضبط نفسه، ومواراة تأثير حضورها المباغت عليه، ورد عليها في جمود استحثه بصعوبة:


-مكانش له لازمة تتعبي نفسك.


حركت رأسها في أعتراض على ما تفوه به، وأخبرته في استنكار هادئ:


-ازاي بس! وتعب إيه اللي بتتكلم فيه؟ متقولش كده.


مدت يدها لتمسك بكفه، ليغمض هو عينيه لحظيا من لمستها له، ثم قالت له بصوت دافئ يحمل المواساة:


-أكيد الموقف كان صعب عليك، البقاء لله، وربنا يصبرك.


رفع عينيه لها، ليبصر ابتسامتها الخلابة، وملامحها الجذابة، مرتخيةً لا تحمل أي شعور بالذنب، كأنما لم تتركه وترحل عنه لقرابة الخمسة عشر عاما، جمعت نظراته اللوم والأستفسار معا وهو يتساءل بهدوء:


-إيه اللي فكرك بيا بعد السنين دي كلها؟


شددت على مسكتها ليده، وهو تعقب نافية ما يظنه حيالها:


-انا منستكش أصلا يا عاصم.


التقت عيونهم في نظرة مليئة بكلمات وتساؤلات عدة حبيسة بداخلهما، فرق تلك النظرة تركها ليده، عندما التفتت برأسها، متحاشية النظر إليه، فهي لم ترِد ان يتخذ كلامهما منعطفا عاطفيا، سابقا لأوانه، أو حتى تتحول زيارتها له لعتاب أحبة، سيكون مهلك ومنهك لروحيهما، سحبت شهيقا طويلا لفظته دفعة واحدة، قبلما تخبره باستيضاح:


-انت عارف إن بابا صمم إني اسافر أخد الكلية برا، وبعدها بسنتين رتبلي جوازة من ابن صاحبه، رجل أعمال خليجي كان شريك في كزا شركة في البلد اللي كنت بدرس فيها، شافني هناك وعجبته، وطلبني من بابا، استقريت هناك بعد الجواز وحضرت دراسات عليا وبس، دي اللي حصل السنين اللي فاتت؟


انشق ثغره بشبح ابسامة ساخرة، فهل بعد كل تلك السنوات، آتية الآن لتخبره عن كيف تم زواجها المدبر! وتتحدث عن استقرارها الزوجي في بلد آخر! تظاهر بعدم الإكتراث لما قالته، رغم انزعاجه الدفين، وسألها وهو يلتفت إلى مكتبه:


-تشربي إيه؟


أوقفته عن التحرك ناهية إياه بنبرة يظهر عليها التعجل:


-لأ مش عايزه حاجة، أنا أصلا ماشية علطول، عشان عندي كام مشوار مهم ومش عايزه اتأخر.


زاغت عينيه نحو يدها اليسرى التي ارتفعت لإرجاع خصلاتها للخلف، لامحا إصبع البنصر فارغا من خاتم الزواج، انتبه من سرحانه الوقتي بشأن زواجها الذي ساوره الشك حيال استمراره، إلى صوتها وهي تخبره في غير حزن أو أسف، بما جعل شكه يقين:


-انفصلت من شهرين، ده سبب رجوعي مصر، وبصراحة مش بفكر اسيبها تاني.


اثلج صدره ذلك النبأ، الذي جهل تأثيره الفعلي عليه، فلم ينجم عنه فرحة أو حتى تفاجؤ، بل شعر فقط بزوال الاختناق الذي جثم على صدره منذ أتت على ذكر زواجها، وردد بغير فرحة أو تلهف:


-حمد الله على سلامتك.


ابتسمت له بمجاملة، فقد لاحظت اختلاف طريقته معها عن السابق، ولكنها خمنت أن السبب راجعا لتفاجؤه بها، أرادت أن تنهي تلك الزيارة عند ذلك الحد، مدت يدها لتصافحه وهي تقول برقة:


-ميرسي، هشوفك تاني أكيد.


هز رأسه لها في إيماءة بسيطة، تبعها اقترابها مرة أخرى لاحتضانه، كتوديع اعتادت عليه في السابق معه، ثم أردفت وهي تشرع في المغادرة:


-باي.


فتح عينيه وبداخله تخبط عارم، حول شعوره آنذاك، فقد ظن بمرور السنوات، أن ما بداخله لها قد مات، وانمحق أثره من وجدانه، إلا أن رؤيته لها ثانية، جعلت كل ما مضى بينهما يجول في ذهنه من جديد، حانت منه التفاتة تجاه باب الغرفة الذي دلفت منه "داليا" الذي يظهر عليه أمارات الذعر، استقام في جلسته، بينما عي تتوجه نحو وتهتف باستجداء:


-عاصم، الحقني.


من فوره نهض عن جلسته، ورمقها بنظرة مستفهمة تحمل القلق الذي صرح به صوته وهو يتساءل:


-في ايه؟


تقدمت نحوه بخطوات متعجلة وهي تستطرد بلهوجة وخوف جم:


-نائل سخن أوي، ومش بيبطل عياط، وانا مش عارفة اعمله حاجة.


جحظت عينيه صدمةً مما وقع على سمعه، ودب الخوف في قلبه، وبدون أن يطنب في الحديث هرع إلى خارج الغرفة، صاعدا على الغرفة المتواجد بها الرضيع، ليرى ما الذي حل عليه، تبعته "داليا" بخطوات متسارعة، ولسانها يتضرع المولى إلا يكون قد أصابه مكروه.



❈-❈-❈



عند تعرض أحد الصغار لوعكة صحية، يهرع قلب الوالدين، ويتشتت تفكيرهما، ولا يعم الاطمئنان والراحة وجدانهما، إلا عند رؤيته سليما، معافيا، دنا "عاصم" من "داليا" وهي تضع الرضيع في سريره -بتؤدة- بعدما غفى، وعطته قبلها أدويته الذي كتبها له الطبيب، الذي جلبه "عاصم" بعدما وجد حرارة الرضيع مرتفعة للغاية، مثلما أخبرته زوجته، أبلغه الطبيب أنها نزلة برد عادية، لربما أصيب بها من هواء النافذة ليلا، وأمر بفصله عن توأمه حتى لا تنتقل له العدوى، وضع راحته على جبين "نائل"، مستشعرا حرارته وهو يسأل زوجته باهتمام:


-السخونية نزلت؟


هزت له رأسها بتأكيد وهي تزفر نفسا مطولا، ثم أخبرته ببعض الراحة:


-آه الحمد لله ونام.


استقام بجذعه، وهو ما يزال ناظرا إليه، إلى الآن يشعر بوخزة قلبه، الذي شعر بها فور علمه بمرضه، ولكن خوفه قل قليلا بعدما طمأنه الطبيب، وأخبره بأنه لا يوجد به شيء يدعي للقلق، اقتربت "داليا" منه، وحاوطت خصره بذراعيها، واستندت برأسها على صدره وهي تتنهد، وأخبرته بخفوت:


-أنا كنت خايفة عليه أوي.


أرادت أن تتأكد مما رأته عليه من خوف بين، رفعت وجهها له وسألته بتوجس:


-خوفت عليه يا عاصم؟


أخفض نظره لها، وأجابها بدون تفكير بنبرة فاترة:


-أكيد خوفت عليه، هو مش ابني؟


ابتسمت له بسعادة تحمل الراحة، فقد طمأن قلبها بشأن ما يساورها من ظنون حيال تقبله للطفلين، ابتعدت عنه قليلا وتساءلت باطناب متزايد:


-انت بتحبهم مش كده؟


تصريحه بتلك المشاعر كان من الصعب عليه، ومع ذلك لا يستطيع نفيها، لذا اكتفى بهزة من رأسه مؤكدة، وكاد يتحرك من أمامها، إلا أنها حالت دون ذلك، عن طريق قبضها على ساعده، ضيق ما بين حاجبيه وهو يرمقها، وسألها ببعض الغرابة:


-عايزه إيه؟


دنت منه، حتى التصق جسدها به، ورفعت يدها عابثة بزرار قميصه، كنوع من الإغراء وهي تسأله بمنعومة:


-هو انا موحشتكش؟


بسهولة فطن إلى تلميحها المتواري، فلم يغب عنه ارتدائها لنوعية الثياب المفضلة إليه، والكاشفة لمفاتنها بسخاء تسيل له اللعاب، إلا أنه الفترة المنصرمة على غير المعتاد فقد رغبته في أي قرب حميمي، خمن أن السبب فيه المصائب المتوالية على كاهله، ابعد يدها بتريث عن صدره، وأجابها بجفاء:


-أنا مفياش دماغ لحاجة دلوقتي.


اكتسى وجهها تعابير مزعوجة من رفضه الصريح لها، وبصدمة تمكنت من كيانها سألته وهي تتفرس النظر إلى تعبيراته الفاترة:


-معقوله مش عايز تقرب مني؟ ده احنا بقالنا كتير اوي..


قاطع كلماتها المنزعجة، قائلا بجمود موضحا لها أسبابه:


-انا أعصابي مضغوطة اليومين دول، الفترة اللي فاتت مكانتش سهلة عليا، وانتي كمان كنتي لسه تعبانة.


اكفهرت قسامتها، وردت عليه بتوضيح بائس:


-أنا خفيت بقالي كتير.


كان لرفضه الإقتراب لها جرح غائر لكبريائها، شعرت بالإذلال كونها تتوسل قربه، وتحاول جعله يشتهي لمسها، همت للتحرك بكتفين متهدلين، عندما لم تجد منه تعقيبا أو ردا على الأخير من قولها، ولكن منعها من المغادرة، مسكته لذراعها، جذبها إليه ليرى سحابة من الدموع تلمع فوق حدقتيها الخضراوتين، حاولت جذب ذراعها منه، إلا أنه رفض إفلاتها، فقد شعر بالضيق من نفسه، لابتعاده الغير مبرر عنها، وهو الذي كان يشعر بالتأذي في فترة نفاسها، لعدم استطاعته الإقتراب لها، انحنى نحوها ملتقما شفتيها في نهم، ويديه امتدت إلى أزرار بلوزتها يفتحهم واحدا تلو الأخر، حينئذ رفعت يديها محاوطة وجهه، فقد شعرت بالرضا كونها ظفرت بمبتغاها، وراحت تبادله لمساته الشغوفة بأخرى أكثر شغفا، متغاضية عن عنفه الدائم معها، والذي يصل أحيانا إلى تركه لكدمات وآلام تظل تعاني منها لأيام، ولكنها ترضخ، وتخضع لكل ما يبدر منه -رغم ما تتعرض له في كثير من الأحيان إلى إيذاء بدني- بسبب عشقها البالغ له، الواصل حد الهوس، والقابل لكل شيء منه مهما بلغت ضراوته، في سبيل بقائه الدائم في حياتها.


رفعت رأسها لتستند على كتفها، بعدما غابا في لحظات حميمية، كانت تظن إنه أضحى ينفر من قضاءها معها، لازدياد وزنها قليلا عن ذي قبل، وبروز منحناياتها بشكل لافت، ولكن ظنونها حيال ذلك الأمر تبددت نهائيا، مع نيران رغبته فيها التي تأججت بشدة، رفعت عينيها له، لتراه ناظرا في سقفية الغرفة بشرود واضح، مدت يدها لتداعب صدره بأناملها وهي تسأله في خفوت:


-سرحان في ايه؟


بدون أن يشيح بنظره عن النقطة الوهمية، المسدد نظره عليها في الفراغ، أجابها بصوت فاتر:


-في المصيبة اللي انا فيها.


اتكأت بمرفقا على الفراش لترفع جسدها إليه، وسألته في اهتمام يحمل الفضول:


-هو uncle كمال مكانش جابلك سيرة خالص إن ليك أخ؟


هز وجهه الواجم لها بالسلب، صمتت لحظيا تفكر مليا، فظهور أخ له بشكل مفاجئ يدعو للغرابة، ولكنها أرادت أن تجعله يرى الأمور من المنظور آخر، علها تزيح ذلك الثقل عن كاهله، ابتسمت له وهي تقول بعفوية:


-طب وفيها إيه لما يكون ليك أخ؟ مش جايز يبقى كويس وتحبه ويكون ا...


تجهمت ملامحه وهو يقاطع هراءها باقتضاب عارم:


-ايه الهبل اللي بتقوليه ده؟ كويس إيه واحب مين؟ دي هتبقى فضيحة، سيرتنا هتبقى على كل لسان، واللي هيقول إنه من علاقة غير مشروعة، واللي هيقول كان ابوه راميه، ومش هنخلص لسنين قدام من الكلام والأفلام والحوارات اللي هتتعمل.


ألجم رده لسانها، ولم تستطع أن تتفوه بحرف متزايد في ذلك الأمر، فقد تراءى لها المصائب التي ستنجم عنه، وأنه ليس مقتصرا على رؤيتها الضئيلة له، فكل ما دار في خلدها بشأن ظهور أخ له هو كيفية معاملة كل منهما للآخر، وليس ما صرح به الماثل جوارها، يشعر باختناق يجثم كالحجر فوق صدره، اتسعت عينيها وهي تراه ينهض عن الفراش، امسكت ذراعه وهي تسأله بتلهف:


-رايح فين؟


التفت برأسه لها، وسألها بصوت حاد يخالطه الضيق:


-هو انا مش عملتلك اللي انتي عايزاه، عايزه إيه تاني؟


شعرت بالألم من عبارته المهينة لأنوثتها، والتي تشير إلى تعطفه عليها بما دار بينهما، تغاضت عن جفائه المعتاد الذي يخلف آلاما معنوية، فهي تريد استبقائه معها، والتنعم بدفء أحضانه تلك الليلة، وسريعا ما طلبت منه بنبرة متوسلة:


-عايزاك تفضل معايا، عايزه انام في حضنك.


لم يستحب لتوسلاتها، فهو قد ضاق ذراعا من تلك الكلمات المستهلكة، جذب ذراعه من يدها، واحتدمت نظراته وهو يرد عليها بصبر نافذ:


-داليا انا زهقت من الكلام الكتير، انا بتخنق بسرعة، مش هتفضلي طول الليل ماسكة فيا، انا بعمل الحاجة بمزاجي، طالما قمت سيبيني براحتي، ومش كل مرة نفس الكلام أنا مليت.


اعترى وجهها تعابير منكسرة، وتابعته بعينين يشعان حزنا وهو يتوجه نحو المرحاض، ويردد بصوت حانق:


-دي حاجة تقرف.


انسابت العبرات من عينيها في صمت، حتى أنه كان بكاءً بلا صوت، فهو لا يكف عن معاملته القاسية لها، مهما أحسنت إليه، ولا هي تكف عن مشاعرها التي تحملها له، مهما قسى عليها، فأنى لها تجد نهايةً لكل تلك الآلام، أو حتى تشعر باكتراثه لمشاعرها المخلصة له على مدار الأيام، والتي أصبحت تجزم أنها باتت -من صنيعه- مشاعر مهشمة.



❈-❈-❈



وقوع خبر وجود أخ له على مسامعه، كان كالصدمة التي هبطت كالصاعقة على رأسه، فلا تخمد نيرانها من تفكيره، ولا يخبو تأثيرها المنهك عن أعصابه، صال وجال، وهاج وماج، واعتصر ذهنه، عله يجد حلا ينهي به تلك الكارثة قبل حدوثها، إلا أنه كان كالسجين بين أفكاره، مكتوف الأيدي والأرجل، لا يسعه الحراك والقيام بفعل واحد، عن طريقه ينقذ سمعته، وسمعة والده الراحل، التي ستصبح كالعلكة بين ألسنة الجميع، فالأمر برمته لا يدخل عقلا، حتى يجد له حلا، فكيف بين ليلة وضحاه أصبح لديه أخ؟ والمثير للجنون أن عمره مقارب له، كيف لم يأتي والده على ذكره؟ كيف لم يعلم عن وجوده السنوات الماضية؟ استبعد من أفكاره احتمالية تزوير الآخر للأوراق التي تثبت نسبه لأبيه، فكما أخبره محاميه لم يحضر الجلسة، مما يعني أنه لم يكن على علم بها، وربما أيضا غير عالم بوفاة والده، كما أن المعلومات التي جمعها له المحامي عنه تأكد من صحتها بنفسه، لفظ دخان سيجارته مطولا، وهو يمد ذراعه، ليطفئها في المنفضة الموضوعة على مكتبه في شركته، وبجمود ضائق سأل المحامي الجالس أمامه، والذي قد استدعى حضوره مسبقا:


-مفيش أي أخبار عن اللي اسمه عز ده؟


هز له رأسه نافيا، وهي يجيبه على شاكلة هادئة:


-هو لحد دلوقتي مفيش جديد، بس أكيد اتبعتله إعلام من المحكمة بمعاد الجلسة الجاية.


عاد "عاصم" بظهره للخلف، وهو مثبت نظره عليه، وطلب منه في صوت جاد:


-انا عايزك تبعتله خبر إني عايزه أقابله، ظبط معاه معاد يكون قبل الجلسة، وهنتقابل في مكتبك.


على فوره أومأ له بالموافقة، ورد عليه في خنوع تام:


-تمام يا باشا، اعتبره حصل.


أشار له بسبابته، وأخبره بما يشبه الإلزام الذي يكلفه به:


-لازم الموضوع ده يخلص، انا مش هقبل بأي شوشرة تحصل بسبب الموضوع ده، ويتجاب فيها اسمي او اسم كمال الصباحي.


ضم المحامي شفتيه للحظة، مرتبا كلماته، ثم أردف في إيضاح حذر:


-المشكلة إن في إثباتات قوية إنه ابنه، صعب جدا يتشكك في صحتها، شهادة ميلادة متسجلة من تسعة وعشرين سنة، يعني من يوم ولادته تقريبا، مش شهادة لسه متسجلة قريب ممكن يتشكك فيها، ده غير عقد الجواز الرسمي، واللي متسجل في الشهر العقاري، من واحد وتلاتين سنة.


لم يعبأ بكل ما قاله، فكأنما كان يعيد على سمعه ما علمه مسبقا، ولكن ما استرعى اهتمامه هو استمرار زواج والده بالك السيدة المجهولة، رمقه بنظرة مستشفة وهو يتساءل بتوجس:


-يعني هي فضلت على ذمة بابا السنين اللي فاتت كلها؟


أومأ له بالسلب بهزة بسيطة من رأسه وهو يرد عليه في احترام:


-لأ، والد سعادتك طلقها، بعد ولادة الابن بخمس شهور.


نقر بسبابته لعدة مرات فوق سطح مكتبه، وهو ينظر أمامه بنظرة مبهمة، ثم حول نظره له وأعاد أمره على سمعه بنبرة أكثر صلابة:


-كلمهولي خليه ييجي في أقرب وقت، انا عايز أخلص من الموضوع ده قبل ماتوصل للصحافة.


ناظره المحامي بنظرة تساؤلية وهو يستفهم منه في صقل متزايد:


-حضرتك في مساعدة قانونية عايزها مني وقتها؟ ولا هتبقى قاعدة عرفية بينكم، توصلوا من خلالها لحل لمشكلة سعادتك.


رفع رأسه في عنجهية تحمل النقم وهو موجها نظره للفراغ بنظرة لا تنم على خير، قائلا له بغموض شديد:


-وقت ساعتها هنبقى نشوف.


يُتبع