رواية كما يحلو لها بتول طه - الفصل الأول النسخة العامية
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
رواية
كما يحلو لها
الفصل الأول
- ابقي
حاولي تتعالجي انتِ لأن اللي عملته فيكي يجنن بجد.. وفي يوم لو قدرتي تسامحيني
ابقي اعمليها مع إني مستاهلش.. افتكري إني كنت بحبك!
أغلق
عينيه لتصرخ به تمنعه عن فعلها بعفوية منها وقد نست تمامًا تزيفها عدم التحدث:
- استنى
يا عمر!
ولكنها
تأخرت للغاية فلقد استقرت الرصاصة بمنتصف صدره وتعلقت عينيها الباكيتين بها
فالتفتت نحو الباب وهرعت للخارج فهي تعرف أن هناك أطباء بهذا المنزل عالجوها لأكثر
من مرة ولكن ما فوجئت به هو تواجد والده خلف الباب، أخذ لمحة خاطفة تجاه جسد ابنه
المُلقى أرضًا ثم سلط نظرته عليها باتهام صريح!!
تلك
النظرة المُخيفة التي تتجلى بعينيه جعلتها ترتبك لوهلة ولكنها التفتت بعفوية وحالة
من الارتباك تجاه الأرضية خلفها وهي تراه مُلقى وتلك الدماء تسيل منه فتذكرت أن
عليها احضار المسعفون له، أو الأطباء، أو أيًا كان مسماهم هي لا تريد قتله، هي فقط
تريد أن تغادر من هنا للأبد بأي طريقة، واندفاع ذلك الادرينالين بدمائها من مفاجأة
قتله لنفسه أمام عينيها كان الأمر الوحيد الذي حال بينها وبين فقدان عقلها ووعيها!
حاولت
المغادرة للخارج ليُتابعها والده بعينيه ولم يمنعها وبمجرد خروجها هرع نحو
"عمر" المُلقى أرضًا يتألم بشدة وفي تلك الثوان القليلة بمجرد اقتراب
والده فقد وعيه بالفعل، بعد أيام من عدم تناول الطعام وحالة صحية متدهورة لم يستطع
الصمود أكثر أمام النزيف الذي سببه العيار الناري، وبالطبع السبب في كل هذا يعود
لنوبة الاكتئاب التي اجتاحته منذ أيام، ولم يكن ليفعلها سوى بتلك الميول بداخله
التي توسوس له بأن استمراره في هذه الحياة لم يعد له حاجة ولا معنى، ربما من وجهة
نظره الخاطئة أن الموت سيُريح الجميع بداية به ونهاية بوالده وزوجته التي يستحيل
أن تعود له في يوم من الأيام!!
دنا
أرضًا وهو يبتلع تلك الغصة بحلقه وخلع سترته ثم قام بالضغط قويًا على هذا النزيف
بمنتصف صد ره ومد أصابعه المرتجفة لعنقه ليرى النبض ما زال له وجود وتحامل على تلك
الدموع التي أرادت الفرار من بين عينيه الغائرتين بين تجاعيد عمره وبالطبع لم يسمح
لها بأن تشق طريقها على وجهه فمن وجهة نظره أن الرجل لا يبكي وناداه بصوت مهتز:
-
عمر
حاول
الانتصار على تلك الحالة من الصدمة والشتات ثم ناداه من جديد وهو يبتلع ضعفه الذي
يستحيل أن يظهر عليه بسهولة وهو يحارب تلك الضربات المتوالية بسرعة جنونية بقلبه:
-
انت سامعني، عمر!
حاول
أن يحصل منه على استجابة بينما لم ينجح نظرًا لفقدان وعيه واستسلام ملامحه بالكامل
فأزاد من قوة يده كي يوقف النزيف وأخرج هاتفه ليطالب بالمساعدة ولكن في نفس الوقت
قد بدأ ذلك الطاقم الطبي في الوصول بالفعل..
نظر
لأحدهم وهو جاثيًا أرضًا بجانب ابنه وقال بنبرة مترددة:
-
النزيف مش عايز يوقف، اتصرفو، اتصرفو بسرعة، لسه فيه نبض،
الحقو اتصرفو!
أومأ
له الرجل وقام بالضغط بدلًا منه وهو ينحيه بعيدًا وأخبره بنبرة جادة:
-
طيب بعد اذنك ممكن المكان بس عشان نحاول نوقف النزيف
أومأ
له ونهض وهو ينظر له بصدمة سرعان ما استطاع التغلب عليها ولكن تبقى ذلك الشعور
بداخله وكأن هناك يد خفية تعتصر قلبه وثقل يطبق على أنفاسه حيث أرجأت تنفسه
الطبيعي وكأنه سيموت اختناقًا بسبب كل ما يحدث..
التفت
حوله وهو يتفقد محتويات تلك الغرفة ليُصاب بذهول وهو يعقد حاجباه لتلك الأدوات
التي لا تخص سوى التعذيب وبإدراكه لتلك الفكرة بأن ابنه رجل سادي التفت ونظر له
والأطباء حوله يحاولون اسعافه وهم يتبادلون الكثير من الكلمات وايدي كل منهم تعمل
بسرعة شعر وكأنه أمام صدمة شديدة ولكن في ثواني كان قد تعامل معها بالفعل بإجهاضها
فورًا وهي يُفكر بمنطقية بعيدة عن المشاعر التي لم يتعود على الالتفات إليها قط..
هو
ليس بطفل صغير لا يعرف ما الذي تعنيه تلك الأدوات، وليس برجل فقير الخبرة ليعرف ما
الذي تعنيه السادية، هو فقط لم يكن يتوقع أنه ورط ابنه بيده في هذا منذ ما يزيد عن
عشرة أعوام، منذ أن بدأ بالعمل مع ذلك الرجل وهو من وضعه في طريقه بنفسه!
فرك
وجهه بيديه ثم تأهب واقترب من هؤلاء الأطباء وقبل أن يسأل عن حاله لمح ذلك السلاح
الخفيف فدنا أرضًا بعد أن أحضر قطعة قماشية كانت ترتمي بجانب الجدار وأدرك لاحقًا
أنه قميص ابنه الذي كان يرتديه وقام بتغطية السلاح وحمله بجيبه ثم سألهم:
-
هو عامل ايه، هنقدر نلحقه؟
رفع
أحد الأطباء وجهه له وأومأ بالإيجاب ثم أخبره:
-
ممكن لو لحقنا نوديه أقرب مستشفى بسرعة، كل اللي معانا
هنا مش هينفع، لازم تدخل جراحي وأوضة عمليات!
منذ دقائق قليلة مضت..
هرعت للأسفل حافية القدمين وثوبها ما زال ملطخ بالدماء وهي تحاول أن
تهدأ من ارتجاف جسدها وأخذت تبحث في هذا المنزل الغريب عن أي أحد يستطيع انقاذ
الموقف، وبعد ما يقارب دقيقتان نجحت في الوصول بالفعل لأحد الأشخاص لتهتف به
والكلمات تتوالى من لسانها في حالة من الهلع التام الذي اندلع على كيانها بأكمله
ملامحًا وبدنًا:
- أنت دكتور صح؟! أنت دكتور؟ ضرب نفسه
بالمسدس فوق!
ابتلعت برعب وهي تحاول أن تتحكم في وتيرة أنفاسها لتكون كلمة وأشارت
بسبابتها وهي على مشارف البُكاء لتحاول أن تشرح الأمر:
- المسدس، ضرب نفسه بالمسدس، الحقوه..
هيموت.. انتحر، عمر، هيموت!
نظر لها الرجل بتأهب ولهيئتها المُزرية ثم توجه سريعًا وهو يُنادي على
زملاءه فتابعتهم وهم يتحركون بسرعة ويعودون للطابق الأعلى وكادت أن تتبعهم ولكنها
توقفت، الأمر لا يستحق، هو لا يستحق، ووالده لا يستحق، عليها مغادرة هذه اللعنة
الآن!
حاولت التحكم في الارتجاف المستمر الذي يسيطر عليها ولم تكن تدري ذلك
واتجهت سريعًا بلهاث من شدة الخوف وتلك الأحداث التي لا ترأف بعقلها والهلع الذي
انتابها لا يتوقف ولكنها علمت أن عليها التصرف الآن قبل أن يحدث أمر آخر، فهي
حرفيًا أوشكت على ملاقاة حتفها منذ قليل!
وجدت بوابة ثم اتجهت تهرول نحوها ليعترض طريقها رجلين فنظرت لهما
بملامح مذعورة ليخبرها واحد منهما:
- آسف يا مدام، ممنوع الخروج!
ابتلعت وهي تحاول أن تُكون سبب منطقي وهي تتفقده بفزع وأعين اتسعت
رعبًا من القادم وخاصة بعد تذكرها ما حدث منذ قليل لتحدثه بتوسل وكلماتها آتت
مرتجفة:
- أرجوك سيبني امشي من هنا، أنا كنت
هموت بدل المرة مرات! أرجوك.. أنا حتى مش عارفة هروح فين، بس سيبني أخرج.. هديك كل
اللي أنت عايزه.. لو عايز اتنين مليون جنيه هديهوملك بس تسيبني امشي
انهمرت دموعها قهرًا من شدة هذا الذل وهي تتوسل لمجرد رجل أمن يحول
بينها وبين طريق الفرار الأبدي الذي أرادت أن تحصل عليه منذ البداية ليرمقها الرجل
ثم هز كتفاه وقال بلهجة معتذرة:
- آسف يا مدام بس مش عايز أذى من حد
نشجت وهي لا تقوى على التحكم فيما يجتاحها بعد كل ما وصلت له:
- اللي اداكو الأوامر دي كان هيقتلني،
وموت نفسه، مبقاش فيه حاجة تمنعني، أرجوك خليني امشي من هنا!
نظر لها الرجل بارتياب ليجد تفسير منطقي لذلك الصوت الذي استمع له منذ
قليل وشعر بالخوف فقد تؤول كل هذه الأحداث إلى قضية ما وجريمة قتل فأومأ لها بهوان
ومن جديد كرر اعتذاره:
- أنا آسف بس مـ..
- اخرس مش عايزة اسمع زفت منك تاني!
قاطعته بغضب بين بُكائها لتضح تلك الشخصية التي اعتادت أن تلقي
بأوامرها لطبقة أقل منها دائمًا وأبدًا، ربما المرء يتغير في كثير من الأشياء ولكن
يتبقى بداخله سمات لا تستطيع سنوات كاملة أن تنجح في تغييرها!
التفتت وهي تغمغم بكلماتٍ عدة بالكاد استمع اليها الرجل:
- طبعًا، هو حبس، سجن، من يوم ما
اتجوزته وأنا في سجن، بس لأ، مش المرادي!
أخذت تتفقد هذا المنزل مليًا ولا تدري أن بدنها لا يتوقف عن الارتجاف ولم
يعد هناك ما يوقف دموعها التي تنهمر دون إرادة منها وأنفاسها اللاهثة باتت مستمرة
بشكل عفوي لا تقدر أن تمنعه، ولكن العقل لديه الكثير من التصرفات ترغم الجـ ـسد أن
يتبعه!
تفقدت اتجاه المرأب، لابد من أن هناك سيارة ما في هذا المكان، ولابد
من أن هناك مكان للمفاتيح، إمّا بجيوب ملابسه، أو مُوضوعة بالمنزل، عليها أن تنتهي
سريعًا من الأمر!
استمعت لأصوات اقتربت من بوابة المنزل نفسه فشعرت وكأن الموت الحتمي
يقترب منها لتجري حتى تختفي بعيدًا وباتت حالتها المزرية على وشك أن تفقدها الوعي
من شدة الخوف الذي لا يرأف بها وبمجرد تحرك الباب وجدت هؤلاء الأطباء يتجهون نحو
الخارج وهم يحملوا جـ ـ ــسده وهناك قناع للتنفس على وجهه ووالده يلحق بهم
وملابسهم ملطخة بالدماء..
انتبهت لصوت محرك سيارة فأدركت أنهم سيقومون بنقله بعيدًا لتابعت
بعينيها من خلف سور شجري بالحديقة الصغيرة التابعة لهذا المنزل وساعدها ستار الليل
في عدم كشفها لتجد والده يجلس بالأمام بجانب مقعد السائق وطبيبين بالخلف وسرعان ما
تحركت السيارة وغادرت المنزل..
ابتلعت وترقبت إلى أن اختفت السيارة لتعود من جديد وهي تتخبط بجدران
المنزل على غير هدى وهي تحاول أن تتذكر أين كان اتجاه تلك الغرفة التي غادرتها
فأخذت تبحث بمحتويات الغرفة لتجد مفاتيح سيارة على المنضدة الجانبية للفراش ومن
جديد عادت لتبحث عن المرأب..
لقد تربت وترعرعت في الكثير من الأماكن المشابهة لذلك، بل والأفضل
منها، ولم يكن ليصعب عليها أن تخمن أين يقع المرأب، وبالفعل نجحت بالأمر وعن طريق
التحكم عن بعد كبست زر فتح السيارة لتجد واحدة من الثلاث سيارات قد استجابت فسرعان
ما جلست بكرسي السائق وقامت بارتداء حزام الأمان، وتوجهت لتغادر المرأب سريعًا ولم
يعد لديها سوى حل وحيد، ما أخذ بالقوة، لا يسترد إلا بالقوة.. هو من علمها ذلك على
كل حال!
اندفعت بالسيارة بسرعة جنونية نحو الباب وهي لا تدري أين هي ولا بأي
منطقة وكان كل ما يهم هو مغادرتها وبعدها ستهتم بكل شيء ليحاول الرجال في البداية الوقوف
امامها ولكن من شدة السرعة التي تتوجه بها نحوهم خشي جميعهم أن يصبحوا أسفل تلك
الإطارات ولم تعبأ بارتطامها الشديد بالبوابة الحديدية وانطلقت للخارج دون أن تبطئ
من سرعتها بل تصاعد منها..
حاول احدى الرجال أن يصيح بها ولكنها لم تتوقف ولم تستمع له حقًا
فسرعان ما أخرج هاتفه لأنه لابد من أن يبلغ عن ما حدث:
- يزيد بيه، المدام خرجت، وكانت سايقة
العربية بسرعة وكسرت بيها البواية وخرجت!
لم يأتِه الرد فورًا ولكنه استمع لصوته الآمر بمنتهى الهدوء:
- سيبها، أنا هعرف اجيبها كويس!
خرجت وهي تحاول أن تلتقط أنفاسها وعينيها
توجهت سريعًا للبحث حولها بهذا الطريق السريع لتدرك بعد أن مشت لما يقارب من خمس
دقائق أنها بمحافظة أخرى ولم يتبق سوى القليل لتصل لمدينة العالمين الجديدة!
تطايرت عينيها لعلامة الوقود فأدركت أنه
يستحيل أن يكفي للعودة إلى القاهرة فعادت إليها حالة من الهلع مرة أخرى وهي تتلفت
حولها يمينًا ويسارًا ثم لمحت وجهها بالمرآة الجانبية للسيارة لتجد امرأة تُشابهها
لم تعرفها قط ليزداد من تعالي تنفسها وهي لا تدري إلى أين تذهب بل وكيف وهي لا
تملك نقود ولا هاتف ولا حتى حذاء أو ثوب نظيف يسترها!
شعرت بأنها كادت أن تصاب بالاختناق وحاولت
بأعجوبة أن تفيق نفسها، لن يفيدها أي من هذا وهي على طريق بمفردها وسيارة لا تملك
لها أية أوراق ولا حتى رخصة قيادة.. الحل الوحيد الآن أن تُفكر، إلى أين عساها
تذهب؟ وكيف ستوقف تلك الحالة الغريبة التي كادت أن تجعلها تفلت عجلة القيادة من
شدة ارتجافها!
-
فين، اروح فين، فين!
وجدت نفسها تتمتم بالكلمات دون وعي منها ولا
إرادة وحاولت أن تهدأ من نفسها وهي لم تتوقف عن التحدث:
-
هو بعيد، مش معاكي، فكري بس هتروحي فين!
اشرأبت عينيها لليافطات أعلى الطريق وبدأت
أنفاسها تتخذ شكل طبيعي نوعًا ما بدلًا من تلك الحالة المُزرية التي كانت تُسيطر
عليها بالسابق ثم فجأة تحدثت بلهفة:
-
الشاليه، الشاليه القديم بتاع بابي، أكيد
أقرب من القاهرة.. أكيد الجنايني هناك! احنا بنبعتله فلوس كل شهر، أكيد هو هناك!
بس الـ access (التصريح) هجيبو ازاي..
عبثت يدها سريعًا في جهاز تحديد المواقع على
شاشة السيارة وقامت بكتابة أقرب ما تتذكره للعنوان وانطلقت تتبع الطريق المرسوم
وعقلها لا يتوقف عن إيجاد حلول لكيفية الوصول للداخل وما الذي ستفعله لو اوقتها
لجنة مرورية ولم تلحظ أنها لم تتوقف عن الارتعاش ولو لثانية واحدة منذ مغادرتها..
بعد مرور أكثر من ساعة بقليل..
اندفعت من السيارة تجري نحو الأمن ولم تكترث بعرقلة الطريق خلفها ولا
لهؤلاء الناظرين إليها بتعجب من هيئتها فهي امرأة بثوب ممـ زق، حافية القدمين،
تترجل من سيارة فارهة لا تتماشى مع مظهرها، في ساعات الصباح الأولى من الليل، جعلت
الجميع يريد معرفة من هي وما الذي يحدث لها، ولكن ربما هذا مجرد خطوة حقيقة أولى
الصدمات النفسية الشديدة التي تجبر المرء على استخدام الظروف المحيطة للتخلص من
الكثير من السلبيات.. سيكون درسًا قاسيًا لها بأن تتوقف عن الالتفات لما يظنه
ويراه الناس..
- أنا روان صادق، شنطتي مش معايا، كل حاجة
اتسرقت.. بس الشاليه بتاعنا 9B، والجنايني هناك هيعرفني..
أرجوكم أنا مقداميش حل تتأكدوا بيه غير ده، مش معايا أي حاجة من حاجتي.. حد
يبعتله، أو حد يديني موبايل وأنا اجيبلكم كل اللي انتو محتاجينه..
تفقد واحد من رجال الأمن مظهرها وتلك الحالة المريعة التي تبدو عليها
ثم لمح السيارة خلفها وأخبرها بقليل من الريبة:
- طيب بعد اذنك العربية بس نحركها على جنب
عشان طريق البوابة.. وهنكلمه حاضر..
لعنت بداخلها على حظها بينما الرجل يتابع تلك المرأة المرتجفة ليرى آثار
تلك الدماء على ظهرها وهو لا يستطيع التيقن بعد هل له أن يثق بهذا الارتياب بداخله
أم بكلماتها، ولكن من هيئتها تبدو وكأنها في حاجة ماسة للمساعدة!
سرعان ما أوقفت السيارة على احدى الجوانب ثم عادت له وأعينها تتوسل له
بأن تجد ضالتها ودخلت في نوبة من البكاء دون إرادة منها وما زالت تلك الحالة من
الهلع تسيطر عليها ثم هتفت به مترجية:
- أرجوك أنا معنديش حل غير ده، لو مساعدتنيش
معرفش هروح فين، أنا حتى مش فاكرة اسم الجنايني، ابعتوله لو سمحت، أو اديني موبايل
فيه انترنت وأنا هجيبلك صورة الـ Access وصورة من بطاقتي وكل اللي أنت
عايزه..
ارتاب الرجل بأمرها ولكنها ناولها هاتفه الشخصي وأخرجه من جيبه
فتناولته منه بيد مرتجفة وسرعان ما قامت بفتح واحدة من نوافذ التصفح المخفي، وقامت
بالدخول لواحد من حسابتها، فهي لطالما اعتادت أن تحتفظ بنسخ لكل أوراقها على حساب
تخزين مدفوع ومحمي ولأول مرة في حياتها تستخدمه لأمر هام كهذا!
مدت يدها المرتعشة للرجل ثم ارته التصريح اللازم لدخول القرية فحدق
بما يراه وركز في ملامحها ليبدأ بالتأكد بأنها هي وسألته بلهفة:
- ممكن اوريك البطاقة، والرخصة، والباسبور،
وأي حاجة تطلبها أنا معايا كل حاجتي اونلاين، بس شنطتي اتسرقت.. أرجوك سيبني ادخل!
جذبت الهاتف من يده وهي ما زالت في حالة من الهلع وقامت باختيار صورة أخرى
ليستغرب الرجل منها بينما همست له ببكاء:
- صدقني دي أنا.. أنا بنت صاحب الشاليه حتى
هو مات وانا من الورثة..
- خلاص يا مدام اهدي.. اتفضلي ادخلي، بس
ياريت الأصل يجيلنا في اقرب وقت لأنك هتحتاجيه كل ما تدخلي وتخرجي من هنا!
نظرت له بامتنان وملامحها لا تتوقف عن الارتجاف كما تبعها جـ سـ دها
وأخذت تحدثه قائلة:
- شكرًا، شكرًا.. متشكرة بجد..
أومأ لها الرجل ولكنه وجدها تتناول الهاتف منه من جديد دون استئذان
ليعقد حاجباه بضيق نحوها بينما قامت هي بالخروج من حسابها وأغلقت نافذة التصفح
المخفي واعادته له من جديد وهرعت سريعًا إلى السيارة..
حاولت أن تهدأ من أنفاسها وهي تخبر نفسها أنه لم يتبق سوى القليل بعد،
وبمجرد لمح هذا المنزل الصيفي الذي قضت به أيام كانت الأسعد على الاطلاق دخلت في
نوبة بُكاء لم تستطع منعها وانهارت كل ما لديها من قوة بالكامل وهي تستند على عجلة
السيارة التي أوقفتها بالمرأب المخصص التابع للمنزل ولكن لم تلبث سوى القليل من
الوقت عندما أفاقها صوت رجولي:
- سلام عليكم..
رفعت عينيها نحو الرجل وهي تحاول أن تتبين ملامحه من بين دموعها لتتوقف
وكأنها فازت باليانصيب، هي تتذكر هذا الرجل، هو من يهتم بالحديقة ودائمًا ما يحمل
نسخة من المفتاح للعناية به وهم بعيد طوال العام!
ترجلت للخارج وهي تحدثه قائلة:
- أنا روان، روان صادق، فاكرني؟
اقترب الرجل عاقدًا حاجباه وهو يتفقد ملامحها التي تدعو للريبة ولكن
تبدلت تعبيراته عندما تأكد من هي:
- وده سؤال، ازي حضرتك؟ خير أنتِ كويسة يا
آنسة؟
تردد قليلًا فهو لا يدري من حالتها تبدو في حالة غريبة أو متألمة، هل
عليه يرحب بها، أم ماذا عليه الفعل وهي تنظر له وكأنه ملاذ آمن أفضل من آلف رجل
مثل زوجها فوجدها تهتف به:
- كلم هدى، أو ماما، أو بسام.. أي حد معاك
رقمه أرجوك!
توسلت له وسرعان ما أخرج هاتفه وأخرج رقم هاتف "هدى" وناوله
لها:
- الست هدى بتابع معايا أول بأول.. اتفضلي
اهي اتصلتلك عليها!
وبمجرد استماعها لصوت تعرفه، وتطمئن له، انهارت بالكامل وهي تنشج
بكلمات غير مفهومة ثم اندفع نحيبها بدون توقف لمدة من الوقت..
❈-❈-❈
التاسعة صباحًا في نفس اليوم..
تفقد ابنه من خلف ذلك الزجاج، لم يخبروه سوى باستخراج العيار الناري
الذي خلف تمزق في جدار القلب، وكان من الممكن أن يؤدي الأمر إلى نزفٍ قاتلٍ لولا وجود
هؤلاء الأطباء، وكأنه كان يعد مشفى بأكمله، لم فعل ذلك؟
بالرغم من احتراق قلبه مرارًا كلما تملى بملامحه إلا أنه لا يتذكر سوى
ذلك الطبيب وهو يخبره بأنهم نجحوا في احتواء النزف عن طريق الغشاء المُحيط بالقلب،
ما الذي يعنيه هذا؟ هل سيستيقظ؟!
دوامة من المشاعر والأفكار اجتاحت عقله، يحاول أن يتعامل مع الأمر
بينه وبين نفسه، يضع آلاف من ماذا لو تأخر، ماذا لو أن تلك الفتاة هي السبب، صوت
العيار الناري واطلاقه، ماذا لو لم يستطع أن يحصل على معروف بإحضار طائرة مروحية
لتقل ابنه للمشفى، هذا السلاح الذي إلى الآن يستقر بجيبه، تلك الغرفة، كل ما
تحتويه، لم هربت، ملامحها وهيئتها، بكائها وتشتتها، الكثير من الأحداث تدور بعقله،
لابد من أن هناك سبب لكل هذا، "عمر الجندي" الرجل الذي رباه منذ أن كان
طفل صغير يستحيل أن تصل به الحالة لقتل نفسه.. لم يربه ليغدو بهذا الضعف.. لابد من
أن تلك الفتاة اللعينة التي حذره منها آلاف المرات قد قتلته ولذلك قامت بالهروب..
ولكنه سيأتي بها حتمًا!!
كان يُمكنه أن يتساءل ماذا لو كان وجدهم باكرًا، ماذا لو كان استمع
إلى "عدي" منذ البداية، أو ربما يتساءل كيف أن ابنه رجل لديه غرفة من التعذيب..
ولكن أمثاله لا يرون سوى أمرًا واحدًا فقط، أنهم محقون في كل شيء، وكذلك سيرى ابنه،
لبعض الوقت!
❈-❈-❈
لم تستطع التعامل مع المزيد سوى بانهيار تام واتاها إلى أن آتى السائق
وقلها من منزل عائلتها الصيفي، لا يُمكنها التحمل أكثر من هذا، لن تتيقن أنها بخير
وفي أمان سوى بعد أن تتواجد بصحبة والدتها وأخيها وهي محاطة بسور عازل من رجال
الأمن يحميها منه ومن كل ما عانته معه!!
أكثر ما في يؤلم المرء هو ليس قصة حب فاشلة، ولا الفشل في حد ذاته بأي
ناحية من نواحي الحياة، بل أن تشفق على نفسك، ترى تلك اللحظة التي كان بإمكانك أن
تفعل الكثير وتندم بشدة أنك لم تفعله، أن يؤلمك قلبك حسرةً على حالك هنا تكون وصلت
إلى القاع، حين تفشل بالكامل في فعل أبسط الأشياء التي اعتدت على فعلها بسهولة في
لمح البصر، الأمر يهشم روحك وقتها!
ولفتاة مثلها لم تكن تجد مجرد حذاء وسُترة تحتمي بها من الهواء
الخريفي من شدة ارتجافها وهي تتوسل الآخرون بأن يقدموا لها المساعدة، تضررت
نفسيتها بطريقة ستجعلها لاحقًا أسوأ امرأة على وجه الأرض حينما تؤهلها حالتها لتتعامل
مع الجميع..
أخذت تعانق نفسها ودموعها تنهمر في صمت وعينيها لا تريد سوى رؤية وجوه
تتطمأن لها وبها ليس إلا، لقد أوشك تماسكها على التلاشي بالكامل، وكل ما جعلها
تنجح في التحمل حتى الآن، هو معرفتها السابقة بما قد يدفعه عقله المختل لفعله!
ألهذه الدرجة؟ عقرب وثعبان ومحاولة اغراق وحبس انفرادي بأشكال تؤلم
العقل والجـ ـسد، هل عقله أوصله لتصديق
أنها خائنة ليرتكب بها كل هذه الجرائم ولم يتذكر ولو لحظة واحدة جيدة جمعتهما؟
تبًا له.. ولها!!
ارتجفت في خضم دوامة من البُكاء والشهقات ولم تكترث بكلمات السائق
الذي حاول أن يساعدها بها وارتقبت في صمت باكية إلى أن وصلت إلى منزل عائلتها الذي
قضت به أغلب سنوات عمرها وتأهبت بشدة إلى أن وقفت السيارة لتهرع منها مهرولة إلى
عناق جمعها بأخيها الذي ارتمت عليه وكأنها تلوذ لمفر من آلمها باحتضانه:
- بسام..
نادته وهي تتشبث به ولم يسعها التحمل للذهاب لكرسي والدتها المُتحرك
ولا حتى مربيتها الواقفة في خشية تامة وانفجرت في حالة من بكاء شديد جعل جـ ـ سدها
يرتج بشدة فحدثها قائلًا:
- روان، اهدي وفهميني فيه ايه، أنا مش فاهم
حاجة من كلامك!
رأت والدتها هذا المنظر وهي تتفقد مظهر ابنتها الذي جعل قلبها المتضرر يتأثر
بمعدل نبضاته وقبل أن تقوى على قول أي كلمة شعرت باعتصار شديد وآلم لا يحتمل بـ
ـصد رها لتتأوه بشدة وهي تحس بضيق هائل في تنفسها وشدة هذا الاعتصار تزداد فتأثر
ضغط دمائها لتتعرض لنوبة قلبية قاسية فانتبهت لها "هدى" وفي نفس اللحظة
انهارت "روان" بين ذراعي أخيها فاقدة لوعيها بالكامل..
❈-❈-❈
بعد مرور يومان..
جلست شاردة في الفراغ بجانب ذلك السرير بالمشفى وعقلها لم يستطع
مواكبة فكرة كل ما يحدث لها، هذا تمامًا ما كانت تخشاه، نوبة قلبية جديدة
لوالدتها، فلد دمرها الأمر عندما توفى والدها، والآن حدث كل ما كانت تتحاشاه.. لا
تدري كيف لوالدتها أن تكون هشة لهذه الدرجة، وكأنها ملاك آتى من السماء بالخطأ
ليعيش بين البشر على الأرض..
- ايه!
التفتت بمجرد يد أخيها على كتفها ونهضت في فزع بينما حاول أن يُهدئها
وهو ينظر لها بحزنٍ وهو يطمئنها:
- أنا بسام!
ابتلعت وهي ترمقه بارتباك ولم تقوى على الاعتذار منه، وكأن هناك ما
يمنعها من نطق هذه الكلمة فنظر لها بلوم وسألها مُعاتبًا:
- مش ناوية تحكيلي ايه اللي حصل؟
تفقدته وأعينها توسعت ذعرًا بشكل تلقائي وأومأت بالإنكار وكلما فكرت
في كل ما مر عليها شعرت بتثاقل لسانها وعدم استطاعتها أن تبوح بالكامل فهي تشعر لو
أنها نطقت وتكلمت ستنهار من جديد لدرجة ستفقد بها وعيها كما فقدته مرارًا، كيف لها
أن تتكلم عن عذاب تعرضت له لمدة قاربت شهر كامل بسهولة؟
- طيب مامي كده كده لازم تفضل في المستشفى
الكام يوم الجايين، مش هترجعي تنامي في البيت شوية وترتاحي؟ انتي ولا بتاكلي ولا
بتنامي من ساعة ما رجعتي!
غلف الذعر وجهها وهي تتذكر تلك المحاولة اليتيمة التي حاولت أن تحصل
خلالها على قسط من الراحة ولم تر سوى ذلك الكابوس المُرعب أمام عينيها!
ثعبان أسود يقوم بالاقتراب منها وهو يفق للأعلى وكل ما حولها لون أبيض
ولا ترى نفسها ولا يديها ولا حتى قدمها التي يقوم الثعبان بغرز أنيابها لتصرخ هي
ولكن صوتها ينعدم وفحيح هذا الثعبان أقوى من صوت صراخها!
- مش عايزة أنام.. مش عايزة، أنا هاقعد مع
مامي.. وأنت كمان خليك معايا.. متسبنيش عشان خاطري..
هز رأسه بالموافقة وبداخله قلبه يتألم لرؤية أخته على هذا الحال فحاول
أن يقترب منها بحذر لملاحظته أنها لم تكن تتعامل معه كما كانت تفعل بالسابق وبعد
ادراكه أنها تسمح له عانقها بقوة محاولًا أن يخفف من تلك الحالة الغريبة التي باتت
عليها لعلها تتحدث في النهاية عن ما حدث لها وجعلها تصبح هكذا ليجدها تتشبث به وهي
تبكي بمرارة وكأنها لن تتوقف أبدًا عن البكاء..
أحيانًا عناق يُشعرنا بالدفء والدعم يكون كل ما نحتاجه لنجتاز الكثير،
ربما يُصلح الارتباط بشخص بأي علاقة سليمة وتواجده بجانبنا القليل من الضرر، ولكنه
ليس الحل النهائي!!
❈-❈-❈
بعد
مرور أسبوع..
هشم
أسنانه من كثرة احتكاكاتها المتوالية وهو يتفقده بين تلك الأجهزة الطبية، لم يُصاب
بغيبوبة؟ لقد أنقذه الأطباء، ولقد قام بنقله بطائرة مروحية، ولقد آتى به لأفضل مشفى
استطاع أن يجدها، ولا يستطيع أحد أن يخطأ بشأنه وإلا سيقاضيهم، ما الذي ينتظره بعد
لكي يستيقظ؟!
لمح
هاتفه من جديد وهو يجد "عدي" يهاتفه دون توقف فأجابه بعد إلحاحه الذي لا
ينتهي وابتلع تلك الدموع ثم حمحم ليعدل من نبرة صوته التي لا يريد لأحد أن يستمع
لصوته الباكي فهو يختار الموت بدلًا من أن يرى أحد ضعفه حتى ولو كان ابنه هو
شخصيًا ومسح وجهه ثم اجابه:
- نعم يا عدي!
رد
الآخر عليه متسائلًا بلهفة:
- بابا هو ايه اللي حصل؟ لا أهل روان بيردوا
عليا، ولا أنت عايز ترد، فيه ايه؟
ابتلع
ثم غادر صـ ـدره زفرة حارقة وامتعضت ملامحه بعد أن استمع لاسم تلك الفتاة وقال
باقتضاب:
- عمر في غيبوبة، بقاله عشر أيام!
قال
الآخر معقبًا بصدمة شديدة:
- ايه؟ ازاي؟ ايه اللي حصله؟!
ذهب
عقله إلى كل ما رآه يومها وتكلم من بين أسنانه المُطبقة بغلٍ وهو ينهض من على المقعد
بجانب "عمر" وشعر بدمائه تحترق:
- البنت اللي اتجوزها دي هي السبب..
تعجب
"عدي" مما يستمع له ثم سأله باستغراب:
- هي السبب ازاي يعني؟ ايه اللي حصل أصلًا
خلاك تقول كده؟
اتجه
نحو الباب وهو يدير مقبضه ثم أخبره دون اكتراث:
- هاعرف دلوقتي حالًا، أنا رايحلها!
لم
ينتظر لسماع المزيد ولا يرى أمامه سوى بدن ابنه الهامد على هذا الفراش وكل الدلائل
التي وجدها لا تُشير سوى لحقيقة أن تلك الفتاة هي السبب في كل ما حدث لابنه، وإن
لم ينتقم منها قانونيًا هناك الآلاف من الطرق الأخرى التي ستدمر فتاة مُدللة
مثلها!