-->

رواية كما يحلو لها بتول طه - الفصل الثاني النسخة العامية

 رواية كما يحلو لها 

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه




الفصل الثاني

النسخة العامية

جلست تعانق ركبتيها على الفراش الموضوع بمنتصف غرفتها في منزل والدها وهي تشعر بأنها لن يمكنها النوم مرة أخرى في حياتها طالما سرت الدماء بعروقها.

 

تلك الكوابيس بلون ذلك الثعبان الأسود اللامع والوجوه البيضاء التي لا ترى ملامحها ثم ملامحه الساكنة وكأنه لا يكترث بما تمر به، تفاصيل بأكملها لم تعد تترك لها ولو بصيص من أمل في النوم الهانئ، لا تستطيع النوم لساعتين متواصلتين، بل أصبح النوم مجرد محاولة للفزع فهي تستيقظ كل مرة وهي تشعر بحالة من الذعر الشديد ولا يمكنها مواجهة ما تمر به من صراخ واختناق وبكاء بمفردها.. الدقائق تمر حتى تستطيع أن تتوقف عن البكاء والصراخ والبحث لو أن هناك أي من الزواحف السامة التي ستؤذيها، تحتاج للكثير من الوقت حتى تعي أنها بعيد عن كل هذه التفاصيل الآن وأنها أصبحت في أمان بعيد عنه وبعيد عن كل ما واجهته..

 

لا تعرف ما الذي عليها فعله، ولا تدري ما الذي سيحدث لو غادر أخيها ولم يبق معها، ماذا لو كانت فقدت كل هؤلاء؟ مُربيتها ووالدتها وهذا المنزل! ما الذي كان سيحدث لو كان دمر هذا المنزل بمن فيه؟! إلى من كانت ستذهب وقتها؟

 

الدعم جيد بكل من حولنا، ولكنه في بعض الأزمات لا يكون كافيًا، هل ظنت أن ما مر عليها ستنساه مع الوقت وسيمر مرور الكرام؟ أم ظنت أن ما حدث لم يدفعها لبوادر الجنون الحقيقي؟ أم ربما خيل لها عقلها أن كل ما تحتاجه هو مجرد أيام لتصبح بخير؟!

 

لا ترى بعد حجم الضرر الذي أثر بها، لا تعي مخلفات ما واجهته بعد، تحتاج لوقت طويل ومجهود بالإضافة إلى الدعم حتى تستعيد ولو مجرد ملامح لامرأة تشابه المرأة التي كانت عليها يومًا ما، ولو بنسبة ضئيلة!!

 

استمعت لطرقات على باب غرفتها فتأهبت في خوف بات ملازم لها، عقلها لا يتوقع سوى حدوث الأسوأ، وأي تفاعل مع أي بشر بات يصيبها بالخشية الهائلة، لم تعد تستطيع التغلب على هذا الشعور!!

 

نهضت بارتباك ثم أجابت الطارق بصوت مهتز فلقد باتت أي علامة على التعامل مع البشر بمثابة اختبار قاسي لتحملها العقلي!

-       مين؟

 

فُتح الباب واتضحت مُربيتها "هدى" من خلفه فلم تترك لها الفرصة في أن تبلغها بما تريده وسألتها بنبرة خائفة:

-       مامي كويسة؟ جرالها حاجة تاني؟

 

أومأت لها بأن كل شيء على ما يُرام واجابتها بهدوء بينما الأخرى فهمت تلك النظرة المليئة بالشفقة بعينيها:

-       مدام أميمة كويسة الحمد لله وبتتحسن، هو بس..

 

توقفت من تلقاء نفسها ووجهت بصرها نحو الأرضية لتهتف الأخرى بها متعجبة بمزيد من الخوف:

-       بسام!! بسام حصله حاجة؟

 

أومأت لها بالإنكار وشعرت بالشفقة والخجل على ما وصلت له وهي لم تعد تسأل سوى نفس الأسئلة وهي في حالة من الخوف الشديد وإلى الآن لا يعلم أحد ما حدث لها ولا ما واجهته منذ عودتها وتمزق قلبها بالحزن عليها ثم أخبرتها بنبرة آسفة:

-       أستاذ يزيد تحت وعايز يشوفك، قولتله والله إنك تعبانة ومحتاجة ترتاحي بس مصمم ميمشيش غير لما يتكلم معاكي! 

❈-❈-❈


قامت بربط ذلك الرداء المنزلي الطويل فوق منامتها واتجهت بغضب امتزج بخشيتها من ذلك الرجل فهي لم تنس بعد تلك النظرة منه إليها وبالطبع لم تستطع اقناع مُربيتها بأنها لا تريد ملاقاته، على كل حال هي تعرف أنه لن يتوقف إلا لو علم أن كل ما بينها وبين ابنه قد انتهى بالفعل!

 

اتجهت حيث غرفة الاستقبال وهي تحاول التغلب على دمار جهازها العصبي وتلك الخيالات التي تواتيها بين الحين والآخر من قلة النوم وتفاقم الأرق الذي أصبح أكبر مشكلاتها الحقيقية بهذه الأثناء وبمجرد وصولها وجدته يجلس بمنتهى الأريحية وملامحه غير مقروءة على الإطلاق لتومض الكثير من الصور برأسها، بالطبع هي ستلتقي بالنسخة الأصل من طليقها!!

 

-       خير، ممكن أفهم إيه اللي مش ممكن يستنى على تعبي؟

 

لم ترحب به، ولن تفعل، ولن تكون تلك الفتاة الجيدة التي تلتفت إلى الذوق والاحترام بعد كل ما عايشته بسبب هذه العائلة بأكملها، هي في الحقيقة لا تريد رؤية أي وجه يُشابه وجهه أو يشاركه ولو بعض الملامح البسيطة، فلقد عانت الكثير بسببهم ولو كان هناك من يكترث منهم حقًا لها ولابنهم المختل لكان دعمه أي منهم وساعده على العلاج، أو على الأقل كان لاحظ والده العزيز هذا، ربما كان ليمنع أي منهم ذاك العذاب الذي تحملته على يديه لشهور!

 

أين هي أخته؟ أو أخيه؟ أو والدته؟ بالطبع لا يعلم عنه شيء، أخيه لا يكترث وكذلك يفعل والده وأخته قررت أن تقطع كامل العلاقات بها دون اكتراث لما ظنت أنها صداقة، وكالعادة والدته غائبة تفعل أي لعنة لا فائدة ولا طائل منها.. يا لها من عائلة كريهة بكل من فيها!

 

ظل يتفحصها دون أن يتحرك من مقعده ولاحظ اختلافها واختلاف ملامحها التي تغيرت كثيرًا، فلو كانت تبدو من أيام في حالة من الفزع فهي اليوم تبدو كمن فقد حياته، جيد للغاية، تبدو أنها مُهيئة لما يُريده وستساعده كثيرًا فيما آتى من أجله!

-       إيه اللي حصل بينك وبين عمر يومها؟

 

حافظت على المسافة بينهما وهزت كتفيها كدلالة على عدم المعرفة ثم أجابت سؤاله بما لم يُفده:

-       اسأله!

 

رفع احدى حاجباه وتفحصها بتوعد صريح ثم التوت شفتيه بابتسامة جانبية ازعجتها لتجده في النهاية يُخبرها باقتضاب:

-       مكونتش هاجي لغاية هنا لو مكنش في غيبوبة من يومها!

-       مش مُشكلتي!

 

قالتها بحزم وهي تريد أن توصل لها رسالة واحدة، ألا وهي؛ عدم ارادتها في التدخل بخصوص أي شيء يخص ذاك الرجل الذي كان زوجها في يوم من الأيام!

 

اقتضابها كان أقسى من اقتضابه وفي الحقيقة وفي هذه اللحظة تحديدًا لم تكترث، بل شعرت بالتشفي واستكانت لما يُشابه بُرهة قليلة، جيد ما يحدث له، فلقد فقدت وعيها بدل المرة مرات على يديه، ولم يكن ليكترث بها أحد، لا؛ بل لم يكن هناك أي من عائلتها يعلم بما يحدث لها بسبب هذا السجن الذي مكثت به لثلاثة أسابيع أو ما يزيد!

يا له من محظوظ بوجود أب يكترث لأجله! لا تشعر سوى بالحسد الصريح والامتعاض على ما يجده ولم تجده هي!

 

-       ازاي مش مشكلتك وانتِ الشاهد الوحيد اللي شاف وسمع كل حاجة؟! تفتكري كلامك مش هيبقا مهم؟!

 

سألها ليحصل على انتباهها بالكامل هذه المرة فنظرت له بذهول وتصاعدت أنفاسها متوجسة مما يُرمي إليه وحدثته برفض قاطع على كل ما يريد أن يصل إليه:

-       شاهد ايه؟ وكلام ايه؟ أنا ماليش دعوة بكل اللي حصل ده!!

 

تيقن أنها ترتاب بوجود خطر حتمي بشأن قضية وأقوال وشهود، ومحاولة قتل فعلية أدت لوضع ابنه في غيبوبة، هي جريمة قتل ببساطة لم تنجح إلى النهاية في تنفيذها، حسنًا، في هذه الحالة من الشتات الواضح عليها سيبدأ في الحصول على كل ما آتى من أجله!

 

تلك البراعة وتبييت النية والتفحص وقراءة معالم الغير، كل ما علمه لابنه، هو الأساس فيما شب عليه، وأمامه هي لا تملك المقدرة على أن تواجهه، وخصوصًا الآن بحالتها البائسة!

 

قرر أن يصاعد من مشاعرها لكي يسمعها تتفوه بالحقيقة وبدون أي مجهود يُذكر جعلها تحس بالذعر وهو يطنب قائلًا:

-       فيه مسدس، صوت ضرب نار، شهود على إنك انتِ الوحيدة اللي كانت معاه، وبحالته الصعبة اللي في المستشفى اللي مش عارفين هيفوق منها امتى يستحيل نسأله أو نستجوبه، تفتكري كل ده ميخليكيش الشاهد الوحيد في جريمة محاولة قتل ابني وهيحتاجوا اقوالك ساعة القضية؟ ازاي مالكيش دعوة بكل ده؟! ده لو أنتِ بس مجرد شاهد مش..

 

توقف من تلقاء نفسه ثم أضاف بتهكم ونبرة واثقة:

-       ولا بلاش من بدري كده اتهمك!

 

اتسعت عينيها في ذعر وعقلها لا يستطيع مواكبة تلك الكلمات ولا تفسيرها، هي لا تستوعب أي مما يحدث، هي يُشير إليها بأنها قاتلة؟ أو أنها من قامت بإطلاق النار عليه؟

 

شعرت بتشنجات شتى تسيطر على جسدها وتيبس سار في جميع أنحاءه وأصبح أنفاسها عبارة عن لهاث غاضب من هذه النوبة الشديدة من القلق لو أنه محق فيما يقوله ولكنها أبت بشدة تلك الكلمات التي لم يفسرها عقلها بالكامل بعد وهتفت به وهي تتمسك ببعض الأساس قبل أن تدمر شيء ما حولها أو تسقط أرضًا:

-       أنا مبقاش ليا دعوة بيه خلاص، عمر طلقني وهو اللي ضرب نفسه بالنار، ميخصنيش أي حاجة من اللي حصله ده ولا ليا ايد فيه، يمكن لو..

 

تصاعدت أنفاسها وتشنجاتها تزداد بقوة وآلاف من التخيلات السيئة بشأن ما استمعت له باتت تنهمر على رأسها وفجأة عج كل ما حولها باللون الأبيض ووجدت أحد يتجه نحوها ووجه أبيض بالكامل لا تعي هل هذه والدتها، مربيتها، أم هو أخيها؟!

 

فاق الأمر سيطرتها فلم تستطع التحكم في تلك المشاعر الغريبة التي تجتاحها من غضب امتزج بالقلق الهائل، نبضات قلبها تتسارع بجنون، وتنفسها شابه لهاث من يعدو لكيلو مترات، إلى الآن ليس هناك شيء فعلي يُساعد حالتها المتدهورة، لا عقاقير مهدئة أو منومة، لا أمان، والدعم بمفرده ليس كافيًا!

 

استطاع تمييز ما تمر به بمنتهى اليُسر وهو يتابعها بعينيه الخبيرتين التي سرعان ما ربطت مظهرها بكل تلك المشاهد من الغرفة التي وجدهما بها، تلك الأدوات وما تمر به الآن، هي تماثل تمامًا هؤلاء المضطربون بعد مغادرة الحبس الانفرادي، لابد أنها فقدت عقلها بعد تعذيب متواصل، الأدلة الآن تعني الكثير بصحبة ما يراه، لابد أن ما فعله "عمر" معها ليس بهين، وللمفاجأة بداخله كان في غاية الفخر بداخله!!

 

نهض ليغادر ولم يلتفت لمساعدتها أو لقول المزيد، واكتفى بالنظر إلى مُربيتها باستخفاف دفين لم يتضح عليه بسهولة لبراعته في إخفاء مشاعره، وكان كل ما يسيطر على تفكيره وهو يغادر هو ذاك السؤال، من منهما القاتل؟ هي أم هو؟ يستحيل أن ينتحر هذا الرجل القوي الذي رباه منذ ولادته على القوة وعدم الضعف، وأما هي فربما قتلته لتحصل على طلاقها منه!

 

على كل حال، إن لم تحصل على مستند قانوني يوثق هذا الطلاق بينها وبين زوجها، بالنسبة له، كل كلماتها لا تُفيد ولم يلتفت لها!

--

تشبثت بعناق أخيها وهو يُربت على كتفها بعد أن استطاع هو ومُربيتها أن يحضراها لغرفتها بعد تلك التشنجات التي دامت لدقائق قليلة تُعد على أصابع اليد الواحدة ولكنها كانت كفيلة بأن تصيب كل من حولها بالحزن والشفقة على ما يرونه..

 

جاهد بأعجوبة أن يبث بها بعد الطمأنينة وهو لم يعد يفهم ما الذي حدث حتى يدفعها لتصبح بهذه الحالة، وفي نفس الوقت كلما حاول أن يسألها أو يفهم ما حدث بتلك الأيام التي غابت بها تحولت لتصبح في حالة من الخوف غريبة للغاية لم يعهدها عليها قط.. بل هي بكل ما فيها أصبحت امرأة لم يعرفها قبلًا وكأنها باتت غريبة عنه، لولا هذا العناق الذي يجمعهما لكان ارتاب بكونها فاقدة لذاكرتها ولا تستطيع التعرف عليه!

 

-       هو عمو يزيد كان عايز ايه؟ هو ضايقك بحاجة؟

 

صمتت ولم تُجبه، هي لا تدري هل ما استمعت له اغضبها، أزعجها، أم جعلها تشعر بالمزيد من الذعر تجاه كل ما تعايشه بالآونة الأخيرة!

 

هزت رأسها بالنفي وشعر هو بإيماءتها تنعـكـ ـس بين عناقهما فتنهد بيأس وهو لا يعلم كيف يتصرف معها، فلا هو واجه ذلك من قبل ولا فعلت هي الأخرى، ولكنه حاول يُفكر ليحدثها مقترحًا بصوت غالبه البكاء حُزنًا على حالها:

-       طيب ايه رأيك في دكتور مامي، يمكن تعرفي تحكيله ما دام مش عايزة، أو ممكن يديكي دوا يخليكي تنامي، أنا مش عايز اشوفك كده يا روري!

آلمها كثيرًا تلك النبرة التي تستمع لها منه، فمهما كان هو ما زال أخيها الصغير وطفلها، لم تكن لتتوقع أبدًا أن مجرد عناق معه سيمثل لها كل هذا الشعور بالأمان والاطمئنان فهمست في النهاية بخفوت من أجله فقط:

-       حاضر، كلمه واحجزلي!

 

اشتدت يدها في التشبث به أكتر ليضمها في عناق أخوي وبعد قليل من الدقائق سقطت في النوم دون وعي منها بعد حالة من الاجهاد الشديدة وأرقها المستمر بينما تركها هو ليتجه للخارج وقلبه يتمزق على تلك الحالة التي تعاني منها أخته، ووالدته، وهو لا يدري ما الأسباب التي أدت لقلب حياتهم رأسًا على عقب!


❈-❈-❈

ضغط على هاتفه في انتظار أن يقيم الطرف الآخر بالرد وبمجرد أن فعل حدثه بغضب شديد وقلب يعج بالحسرة على ما يعايشه خلال تلك الأيام الماضية:

-       عدي أنا بسام أخو روان، ممكن أفهم منك فيه ايه اللي حصل؟ أنا أختي من ساعة ما رجعت وهي تعبانة ومش بتنام ومش بتتكلم ولا حتى عايزة تاكل ولما ماما شافتها منهارة جالها أزمة ونقلناها المستشفى، وكمان باباك لسه كان هنا وتعبت جدًا بسببه.. ممكن تعرفني فيه ايه؟

 

تردد "عدي" في الإجابة على ما يستمع له، فهو حقًا لا يعرف ما الذي حدث بين أخيه وبين زوجته فحدثه بنبرة تتلاءم مع تلك الأخبار المُفجعة:

-       ألف سلامة على مامتك وعلى روان، أنا فعلًا معرفش فيه ايه، آسف يا بسام، بس هجاول أتكلم مع بابا وافهم فيه ايه!

 

انفجر الآخر به وتصاعد غضبه وهو لم يعد يأخذ أي من تلك الاعذار الواهية ولم يعد عقله يتقبل عدم معرفة ما يحدث:

-       يعني ايه متعرفوش، هي مش كانت مع عمر؟ وهو فين أصلًا من يوم ما روان رجعت؟!

 

تريث لبرهة ليزفر بحيرة هائلة وحاول انتقاء كلماته بعناية ثم استطاع أن يجيب واحدًا من أسئلته:

-       عمر في غيبوبة بقاله عشر أيام بسبب انه اتضرب بمسدس ولغاية دلوقتي مش عارفين ده حصل ازاي!

 

دخل الآخر في حالة من الذهول، رأسه تتمزق من ترجمة وتفسير كل ما يراه ويستمع له، أخته التي اختفت لأيام، وزوجها الذي كان يعامله كأخيه الأكبر، ثم عودتها بهذه الطريقة، وزيارة والد زوجها، والآن يعرف أنه مصاب بطلق ناري ويعاني من غيبوبة، ما الذي حدث لكل هذا؟!

 

--

لم ينتظر للمزيد ليحدث بل توجه للمشفى مباشرة وأصاب بحالة من الذهول بعد أن أدرك أن بقاء أخيه على قيد الحياة هو بفعل تلك الأجهزة الطبية الموصولة إليه ولا يدري أحد هل سيستجيب جسده وسيقدر على الاستمرار دونها أم لا!

 

جلس على مقعد أمامه وهو ينظر له، لا يعرف كيف يصوغ ما يشعر به، هل هي الشفقة تجاهه، الحزن، الغضب الشديد أم حالة من اللامبالاة تعتريه!!

 

لم يكن أي منهما قريبًا للآخر قط، يقسم أنه قد حاول ولكنه لطالما دفعه بعيدًا، سواء بالكلمات أم بالأفعال، دائمًا ما كان يعامله بقسوة، لا يدري ما ذنبه في كل ذلك، ولا حتى يعرف ما الذي حدث وأوصله لهذه الدرجة التي قارب خلالها على فقدان حياته للأبد!

 

حك لحيته بتفكير وهو ينظر له وتذكر حديثه مع "بسام" ثم نظر للآخر ليجد "يونس" يتحدث له ليلعن بداخله على هذا اللحوح الذي لا يتوقف عن مهاتفته فأجابه وهو يحاول أن يكبح لسانه لكي لا يتفوه بشيء خاطئ:

-       ازيك يا يونس؟

 

رد عليه بنبرته المرحة وكأنه يعيش بين الملائكة دون مشاكل على الاطلاق:

-       كله تمام، أنت اللي فينك مش باين؟ أنت طلعت أي كلام ومش قد كلامك على فكرة!

 

عقد قبضته وهو ينظر لهذا المُلقى أمامه وسط العديد من الأجهزة الطبية، بالطبع، الآخر لا يعاني أخيه من غيبوبة قد يفقد على أثرها حياته ليخبره بكلمات بأكملها تقع بالمنطقة الرمادية تجاه كل شيء:

-       مشغول معلش، بس أكيد هنتقابل، أنا عارف الموضوع بتاعك أنت وعنود طول، وكمان مخبيش عليك عندنا شوية ظروف كده في البيت بس هتعدي إن شاء الله!

 

تعجب الآخر ثم سأله باهتمام:

-       ظروف ايه؟ خير؟!

 

زفر وهو لا يدري هل عليه اخباره أم لا، ربما لو أخبره سيتوقف عن مكالماته التي لا تنتهي ليستسلم أمام اقتناعه بهذا ثم اجابه:

-       عمر في غيبوبة بقاله عشر أيام وطبعًا في الظروف دي مش هنقدر نعمل أي حاجة تخصك أنت وعنود!

 

تمتم الآخر في صدمة ولم يقتنع بتلك الكلمات:

-       غيبوبة! ومن عشر أيام! ازاي ده!! هو أصلًا رجع هو وروان؟!

 

تنهد "عدي" بآسف ثم قال بحيرة:

-       زي ما سمعت، منعرفش حتى ده حصل ازاي!

 

لم يُرد اخباره بأنه تعرض لطلق ناري واكتفى بهذا بينما لم يقتنع الآخر وحدثه بمصداقية وتلقائية شديدة منه:

-       أنا عمر مكلمني من كام يوم، أنا أصلًا بصيت في الـ log (سجل المكالمات) لما قولتلي، ورديت عليه وبصراحة قولتله على موضوع عنود وإني اتقدمتلها وفجأة لقيته قفل!

 

أنعشت تلك الكلمات ذاكرته تجاه نفس المكالمة التي استقبلها من أخيه هو نفسه وبدأ في ربط اتصاله الهاتفي منذ أيام بما يستمع له من "يونس" وبما حدث منذ البداية وحاول البحث في ذاكرته:

"أرجوك يا عدي تقولي، يونس كلمك واتقدم لعنود بجد؟! وقالك إن روان كانت تعرف؟!"

 

لم يخبره سوى بهذه الكلمات، ولم يجب أي من اسئلته، بل وأنهى المكالمة فورًا، وقتها كان صوته متوسلًا بطريقة لم يعهده عليها قط، ما الذي حدث حقًا؟!

 

-       آلو، عدي أنت معايا؟!

 

افاقته تلك الكلمات من حالة التردد والتفكير التي غرق بها بينما سأله بجدية:

-       يونس هو عمر لما كلمك ايه اللي حصل بالظبط؟

 

سأله وانتظر إجابته على سؤاله ليجيبه الآخر بعفوية:

-       مفيش، يادوب أول ما كلمني قولتله إني قولتلك واتقدمت لعنود وإن باباكم مش هيوافق إلا لو هو كلمه، وساعتها سألني إن روان كانت بتجيلي وانه شافها جايالي وقولتله إنها كانت بتحاول تمهد الدنيا شوية مع عنود بس بعدها روحت وقولتلك.. أنا أصلًا عمر ما روان جاتلي غير يوم ما اتقابلنا برا، هو أنت اخوك بيغير أوي كده؟! مش فاهم ليه فاهم كل حاجة غلط!

 

خلل شعره الفحمي بعصبية وبدأت الرؤية تتضح له، رسائلها المحذوفة، تخديرها على يد أخيه، ذلك الفيديو الذي رآه، الغرفة التي تخصه، غيابهما لأيام، كلمات ابن خالتها وسؤاله له يومها، غيرة؟! هل فعل كل ذلك من أجل الغيرة فقط؟! هل هو مجنون؟!!

 

-       طيب سلام يا يونس وهنتكلم تاني!

 

أغلق هاتفه بينما حدق أخيه بنظرات غاضبة بشدة لا يدري هل يذهب ليقتله وهو قد فقد حياته بالفعل أم ماذا عليه أن يفعل! لابد من أنه اتهمها بشيء ما يخص ابن خالتها وإلا لما كان سأله هذا السؤال! وأمّا عن الآخر الذي شعر بالاستغراب من كل هذا، جعله الأمر شغوف بمعرفة المزيد!

 

فُتح الباب والتفت ليرى من الذي آتى فوجد أنه والده فتفقده بتساؤل وفورًا دون تبادل أي كلمات معه استفهم منه:

-       روان قالتلك ايه؟

 

صـ ـدر له لمحة بطرف عينيه وبالطبع لن يخبره بكل ما حدث ثم نظر نحو جـ ـسد "عمر" الذي يبدو كما هو لو يتغير واجابه بما لم يُفده:

-       البنت دي عملت حاجة مش مظبوطة، بس هاعرفها كويس!

 

امتعضت ملامحه ثم كلمه بانزعاج والكلمات تتناثر من فمه باندفاع:

-       بنت إيه اللي عملت حاجة مش مظبوطة، ده هو اللي كان حابسها لأيام، أنا بقولك شوفته بيخدرها وأخوها قالي انها من ساعة ما رجعت لا بتنام ولا بتاكل ومامتها بسببها اتنقلت المستشفى.. أنت هتفضل طول عمرك شايف إنك أنت وهو صح مبتغلطوش دايمًا؟!

 

التوى ثغره بسخرية على غباءه الشديد ثم حدثه قائلًا:

-       هتفضل طول عمرك غبي، وهو اللي يعمل في مراته كده يبقا أكيد هي عملت حاجة توصله لده!

 

رفع حاجباه وهو يتفقده بذهول، بالطبع "عمر الجندي" ابنه سيكون رجل مثالي بكل ما تحمله الكلمة من معان، هو لم يره بالسابق كيف كان يتصرف بمدرسته وأثناء الجامعة وبالطبع لا يعرف ما الذي اتهم به زوجته، أو ما يرتاب أنه اتهمه بها، وسيكون غبي حقًا لو أخبره أي شيء عن الأمر لأنه مثله سيتهمها!

 

وزع نظراته بينهما، هذا المجنون فاقد الوعي من نفس المنبع الذي استخلص جنونه منه وهو يقف أمامه، لا يدري كيف أن كلاهما محاميان يدفعان عن حقوق الناس، ولا يدري ما الذنب الذي ارتكبه ليكون فردًا من هذه الأسرة اللعينة..

 

جعله يستشيط غضبًا لدرجة هائلة ولم يستطع حتى أن يسأله عن وضعه الصحي وعن ذلك القرار الذي لابد من اتخاذه عاجلًا أم آجلًا وسرعان ما توجه نحو باب الغرفة ثم غادر كلاهما لعل والده يستطيع أن يفيقه مما هو به!

 

غمغم وهو يستمع لإغلاقه للباب خلفه:

-       فاشل وغبي!

 

جلس على واحدًا من المقاعد بغرفته ثم أخرج هاتفه مُلقيًا بأوامره وقال:

-       كل العناوين اللي بعتهالك، هتروحهم بيت بيت.. تقولي ايه اللي لقيته بالظبط وساعتها هقولك تعمل ايه.. وتجهز عمال ومهندس الديكور اللي هبعتلك رقمه عشان حابب اعمل شوية تعديلات في كام بيت منهم!

 

كان لابد له من إخفاء أي أدلة تجعل ابنه يبدو مُخطئًا قبل الشروع في أي اجراء قانوني، وهذا بالطبع سيأخذ وقتًا، تغيير المنازل والبحث بكل منزل يملكه عن غرف مثل تلك الغرفة التي رآها، وكل الأمن والشهود الذين قاموا برؤيتهما سويًا والأطباء، ولكنه يستحيل أن يضعه في محل تساؤل، لم يتبق له فقط سوى هذا الفيديو الذي يثرثر عنه هذا الغبي "عدي" ووقتها لن تستطيع أن تُثبت أنه قام بأي نوع من أنواع الأذى لها، حتى ولو تواجدت بالفعل بهذه الغرفة وقتها لن يكون هناك ما يُثبت أن تلك الغرفة أو أي من منازله التي تحتوي على غرف مشابهة تحتوي على ما يعـ ذب به النساء!

--

أنهى مكالمته مع "أنس" الذي أخبره بأنه سيلاقيه هو وزوجته "رضوى" بمنزل عائلة "روان" بعد قليل، يشعر بأن عقله سيتدمر من كثرة التفكير ومن تواجده بهذا الموقف، ولكن ربما لن تتحدث زوجة أخيه لابنة عمه، سيكون الموقف أصعب، هل وجود "عنود" سيُشكل فارقًا؟

 

هو يتذكر أن علاقتهما كانت جيدة فيما سبق وخاصة ذاك اليوم الذي صممت به أن تقوم بالاحتفال بيوم مولدها، قد تريد التحدث معها وترفض الحديث معه، ليته كان قام بتفقد تلك الرسائل وقتها!

 

-       عنود، بقولك أنا جايلك في الطريق، هعدي عليكي واخدك ونروح لروان!

 

حدثها مباشرة دون أن يخبرها بأي مقدمات لتتعجب الأخرى على الطرف الآخر من الهاتف لتتعجب الأخرى وسألته:

-       روان! اشمعنى يعني عايزنا نروحلها؟ وبعدين هي رجعت هي وعمر امتى؟ مش كانوا مسافرين تقريبًا؟!

 

زفر بضيق وهو ليس مستعد ليشرح لها أي مما حدث ثم اجابها بنفاذ صبر:

-       مش وقته، الموضوع كبير وهبقا اشرحلك في الطريق، ادخلي بس غيري هدومك وهفهمك كل حاجة بعدين

 

ردت عليه وهي تخبره على مضض:

-       ماشي يا عدي، ربع ساعة وابقا جاهزة!

 

أنهى المكالمة بينهما وهو يتمنى بداخله أنه فعل الأمر الصائب، فهو لا يريد أن يُفسد الأمر، وجود طبيبتان معه ورجل متفهم مثل "أنس" والتكلم بهدوء معها، ربما سيستطيع أن يفهم ما الذي حدث أو على الأقل يغلق هذا الباب مع عائلتها وهم لا يتوقفوا عن التساؤل بآلاف الأسئلة التي لا يملك الإجابة عليها!

--

بعد مرور ساعة..

وقف جميهم أمام البوابة و "عنود" بداخلها تريد التراجع عن حضورها والهروب من هذا، فهي تعلم أن التدخل فيما لا يعنيها سيصيبها بما لا يرضيها، فمنذ هذا الاستجواب القصير بصحبة أخيها فاقد الوعي وهي قررت مُسبقًا ألا تقترب من أي منهما، ولكن بعد تلك التفاصيل التي استمعت لها كان من المفترض أن تقوم برد القليل من الجميل إليها وخاصةً أنها لم تر منها سوى كل خير..

 

-       ايه ده، كلكم هنا ولا ايه، ازيكم؟

 

التفت الجميع لتلعن "عنود" بداخلها واحتدمت ملامح "عُدي" بالغضب ولكنه صافح يده وسرعان ما اتجه ليصافح "أنس" وعرف نفسه بلباقة:

-       يونس، ابن خالة بسام وروان!

 

ابتسم له "أنس" ابتسامة تلائم الموقف لا تفتقر الود ولكن في نفس الوقت بطريقة لبقة غير مبالغ بها:

-       أنس ابن عم عمر، ودي دكتور رضوى مراتي

 

أومأ لها باقتضاب وحياها بابتسامة لبقة بينما التفت لتلك التي تشغل باله ليلًا ونهارًا ثم مد يده ليصافحها وابتسم لها وعينيه معلقتين بملامحها التي بالكاد يراها ولا يسمح له القدر سوى بتذكرها من رأسه المسكين وذاكرته التي لا تحمل سواها:

-       ازيك يا عنود؟

 

رمقته بانزعاج اختلط بطيف ارتباك قليل ثم اجابته بجمود:

-       مبسلمش قولتلك!

 

قبض أصابعه ببعضها البعض وهو يتلقى تلك الجرعة من الاحراج الزائد أمام الجميع بينما اتجهت نظراتها نحو الأرضية لتتبادل "رضوى" وزوجها النظرات فيما بينهما فهناك ما يدور بين هؤلاء الاثنان ليتدخل صوت "عدي" السائل فهو لا يريد أن ينمو لعلمه المزيد من مصائب أخيه:

-       انت جايلهم زيارة ولا ايه؟

 

أومأ له بالإيجاب ورد على سؤاله بعفوية:

-       آه، كلمت بسام، وقالي إن روان تعبانة شوية وطنط جالها أزمة فجيت اطمن عشان كنت قريب ويارا كمان هتيجي كمان شوية، كمان بيقول إن فيه حاجة عايز يكلمني فيها بس بصراحة قلقني، فجيت اشوف فيه ايه!

 

الآن الفضيحة باتت متكاملة الأركان لأخيه الذي اختطف زوجته وقام بالذهاب لمكان لا يعلمه إلا الله ووالده وهو نفسه، وباتت كل عائلتها تعلم أن "عمر الجندي" رجل مجنون!!

 

دلف جميعهم لباحة الاستقبال بعد أن قامت واحدة من موظفات المنزل بفتح الباب ليلاقيهم "بسام" بملامح مختلطة وهو ينظر لمن يعرفهم منهم بنظرات متسائلة، أما عن تلك المرأة والرجل الذي يقف بجانبها فهو لم يلاقيهما قط وقبل أن يتبادل أي منهما كلمة واحدة استمع الجميع لصوت صراخ شديد لينظر الجميع نحو مصدر الصوت الذي كان من الطابق الأعلى!

--

بعد القليل من الدقائق..

جلست تتفقد كلًا من "رضوى" و "عنود" الجالستان أمامها بتوجس وانزعاج من كل من رآها أو سمع صراخها وأخيها يُربت على كتفها في دعمٍ شديد بعد أن حاول أن يُهدئها من تلك الحالة التي تصيبها كلما سقطت في النوم لتتحدث "رضوى" في النهاية باستئذان ونبرة مُراعية للموقف:

-       ممكن يا بسام تسيبنا شوية مع روان وتنزل تقعد مع عدي وأنس تحت؟

 

أخفض بصره نحو أخته التي يشعر بجـ ـسدها المتشنج وحدثها بحنان مستفهمًا:

-       تحبي اعمل ايه وأنا اعمله؟

 

أخذت وقت طويل تحاول أن تستوعب به ما يحدث، "عدي"، "أنس"، زوجته، و"عنود" وبالصباح آتى والده لزيارتها متهمًا إياها بمحاولة قتل ابنه، هي ليست غبية، هي متعبة وبشدة، وعلى ما يبدو لن تتوقف هذه العائلة بتسبيب المصائب لها.. لقد اكتفت من هذه العائلة، بداية به ونهايةً بأقاربه..

 

نهضت ولم تكترث سوى لحذائها المنزلي الذي ارتدته بقدمها، فلقد بات مجرد لمـ ـس الأرضية بقدمها يُصيبها بالفزع الشديد واتجهت للخارج وهي تخبر ثلاثتهم:

-       تعالوا معايا..

 

نظر الجميع لبعضهم البعض وهم يتفقدون حالتها المتأهبة وهي تتجه للأسفل لترى أن ابن خالتها متواجد بالفعل هو الآخر، جيد، لقد آتى هذا الرجل الذي بالكاد تراه وطليقها قام بالفعل باتهامها بأنها كان بينها وبينه علاقة.. جميع الأطراف في هذه الكارثة قد اجتمعوا!

 

ابن عمه وزوجته وأخيه الذين ظنت أنهم سوف يساعدونها بالفرار من هذا المختل، وأخيها هنا ليتعلم الدرس القاسي حتى لا يصبح بمثل سذاجتها التي كانت عليها في الماضي، وأين والدتها؟! أين تلك المرأة التي رفضت طلاقها بالسابق؟!

 

-       حد يقول لمامي أننا كلنا متجمعين هنا عشان نخلص!

 

التفت الجميع لبعضهم البعض باستغراب فلم تترك لهم الفرصة وشعرت بتشنجاتها تزداد والغضب يسيطر على كامل دمائها وهي تتنفس أنفاس متسارعة وصرخت بالجميع:

-       هدى ساعدي مامي وهاتيها هنا قولت!

 

حاولت "رضوى" أن تهدئها قليلًا فملامحها الشاحبة وجـ ـسدها الذي يتشنج بعنف ونظراتها القاسية لا ينبأ أي منها بالخير فحاولت أن تكلمها بهدوء:

-       طيب اقعدي واهدي شوية وهنعمل كل اللي أنتِ عايزاه حاضر!

 

رمقتها بغيظٍ شديد ولم تكترث لكون أن ابنة عمه ليس لها ذنب بكل ما يحدث وهتفت بها:

-       مالكيش دعوة بيا!

 

نظرت في وجوه الجميع وهي تتأكد أنها ترى وجوههم الحقيقية وليست مجرد وجوه بيضاء بالكامل وهتفت بهم بلهاث:

-       ما حدش فيكم ليه دعوة بيا!

 

استغرب كل من يراها وبالكاد آتت والدتها التي ساعدتها "هدى" بجلوسها على كرسيها المتحرك وبمجرد تواجدها صاحت بالجميع:

-       عمر الجندي طلقني.. كان جوزي وطلقني.. علاقتي بيكم كلها انتهت ساعة ما طلقني، هو اللي انتحر وموت نفسه عشان هو مريض وعقله مش فيه! خلاص كده معاكم كل الاجابات؟! أنا مبقتش اقربلكم حاجة، مش عايزة اشوف وش أي حد فيكم.. ومحدش يجي البيت ده هنا تاني!

 

كلماتها القاسية جعلتهم يشعرون بالإهانة التي غادرت شـ ـفتاها وتوجهت إليهم بدون وعي منها واشتدت نوبة القلق التي تسيطر عليها لتصيح بالجميع وهي تبكي:

-       اخرجوا برا أنا مش عايزة اشوف حد.. كفاية اللي انتو عملتوه فينا، وبلغوا باباه إني مقتلتوش ولا عملتله أي حاجة!

 

حدقت بالأرضية ليقترب منها أخيها خوفًا من أن تنهار وتفقد وعيها أو يحدث لها شيء آخر بينما توقف "أنس" و "عدي" وهما ينظران لبعضهما البعض بذهول شديد بعد ما سامعاه منها، هل حقًا يتهمها بما حدث له؟!

 

-       أنا كنت عايزاه يبقا كويس.. كان نفسي يبقى كويس..

 

أجهشت بالبكاء ولم يستمع لهمسها سوى أخيها الذي عانقها ودعم وزنها كي لا تقع أرضًا وابنة عمه بينما تسارعت أنفاس والدتها على ما يحدث لابنتها فدفعتها "هدى" بعيدًا لغرفتها كي تساعدها بقناع التنفس اللازم كما تلقت التعليمات من الأطباء ووقف "يونس" وهو ينظر لها بذهول لا يدري هل عليه المغادرة أم البقاء بمنزل خالته الذي لأول مرة يشهد به مثل تلك الأحداث!!

--

بعد مرور ثلاث أسابيع..

جلست بنظرات جليدية موجهة مُقلتيها بلمعان ذلك السطح الرخامي وأخيها يجلس بجانبها بينما ما زالت هي لم تخبر أي أحد عما حدث، تفهم مليًا صدمتها وما تمر به، ولكنها لا تستطيع التحدث بعد أو الإقرار بتلك التفاصيل، يكفي أنها تُذكرها بكل ما مر عليها معه، والمخطئ بكل هذا كانت هي منذ البداية.. لُعن العشق، والزواج، والنجاح ونظرات الناس وكل ما كانت تُفكر به وقتها!

 

-       مدام روان.. اتفضلي..

 

رفعت عسليتيها بجمود نحوها وهي تشعر بالغضب بداخلها يملؤها، طاقة من الغضب لا تنتهي تزداد وتزداد بداخلها، تتألم بقسوة من شدة هذا الغضب المداوم لها ليلًا ونهارًا وخصوصًا بعد نجاحها في النوم يوميًا لمدة تقارب من الأربع ساعات.. أحيانًا متقطعة، وأحيانًا متواصلة ولكنها نجحت.. ما لا تستطيع التغلب عليه هو تلك الكوابيس اللعينة، الثعبان بلونه الأسود اللامع، الوجوه البيضاء، ووجهه هو نفسه بلحيته الطويلة وملامحه المُفزعة!

 

انتقلت بخطوات متزنة نحو باب الطبيب الذي حياها بابتسامة ثم سألها سؤاله الذي بات رتيب في آخر جلستان:

-       ازيك يا روان، عاملة ايه النهاردة؟

 

أومأت له وهي تجلس أمامه ولاحظ التغيير على ملامحها ثم اجابته بتهكم:

-       بقيت بنام، وباخد الدوا، فيه تحسن!

 

رد بنبرة إيجابية ولم يُرد أن يخوض معها نفس الحديث الذي دفعها للغضب بالسابق:

-       طيب كويس جدًا..

 

نظرت له مليًا وهي تشتق من كلمات نفسها منذ حوالي عام بأكمله وحدثته بغضب امتزج بثقتها:

-       أنا مش عايزة اضيع وقتي ولا وقتك.. أنا مش قادرة أتكلم عن اللي حصل ومش هاتكلم والأدوية بقت بتخليني أنام شوية واهدى لما بيجلي نوبة، نوبات القلق كلها قلت معايا أو بتقل نوعًا ما، من شهر مش زي النهاردة!

 

انتبه لها باهتمام وترك لها الفرصة لكي تُكمل حديثها:

-       أنا عايزاك تساعدني في حاجة واحدة بس.. ايه اللي بيخلي الانسان كويس بعد فترة صعبة عدت عليه؟!

أن يواجه المرء صدمة تختلف اختلاف شاسع عن مجرد إنسان يؤمن بضرورة العلاج ولكنه لا يستطيع أن يبدأ به! وكلاهما يختلفان عن من يؤمن بأن كل هذه ترهات لا أساس لها!

وبذلك الغضب بداخلها، وكل ما تعرضت له، كل هدفها هو أن تغدو ولو شبح امرأة طبيعية لكي تستطيع النجاح بالقادم!

--

بعد مرور أسبوعين..

ليس بالضرورة أن تكون النهاية متوقعة، كما أن القدر له رأي آخر، قصتهما بكل ما فيها لم تكتمل كما يحلو له، ولكنها اكتملت كما يحلو لها هي.. إلى الآن قد تكون هذه هي النهاية لقصص تشابهت، رجل وامرأة خائنة بعد عشق دام لسنوات، ونفس الرجل وامرأة أخرى بعد عشق دام لما يقارب سنة واحدة.. لا بل كانت أقل!

 

وكما يحلو لها، دفع بها في هذا الطريق الذي اختارته، غادرته كما شاءت منذ البداية، كل محاولاتها نجحت، بالرغم من الخسائر ولكنها فعلتها، وها هو يقف كالذليل الذي لا يملك بيده سوى سلاح وهاتف، هو يتذكر تلك اللحظة جيدًا، ما زال يعيش بها بعد مرور أكثر من شهرين.. ولم تترك له سوى الرغبة بقــ ــ ــتل نفسه!

 

هل هناك المزيد بعد كما يحلو للقدر، أو كما يحلو للواقع، كما يحلو للحقيقة المجردة، لم يعد هناك الكثير من التخمينات التي لن تفيد وهي أمامه تنزف دمائها بعد أيام من عذابٍ مقيم ظن كلاهما أنه لن ينتهي طوال الحياة.. الصورة لا تأبى التزحزح من رأسه وتستمر في الوميض أمامه بمنتهى القـ ــ ــسوة، أين هو؟! تلك الرائحة كريهة، هو يعرفها جيدًا!!

 

 

مشاعره العا هرة أدت به لتغيير كل ما في حياته لأجلها، والعشق دفعه لكل ما لا يؤمن به، وخصوصًا أنه على يقين من أنه كاد ليستمر معها في زواج واحد حتى ولو كانت خائنة حقًا، والأبشع أنه قام بالقتـ ــ ـل في النهاية لتُصبح يديه مختلطتين بدمائه هو نفسه، هل حقًا فعلها؟! أو كاد أن يفعلها؟ لماذا لم يمت وينتهي من كل هذا؟ بم يوصف هذا العشق الذي يدفعه لفعل ذلك؟! السؤال الهام، أين هو؟ ولماذا تزداد تلك الرائحة التي يكرهها؟!

 

لقد مات، ولابد من أن تكون سعيدة بكل ما حدث، وهو الآن يعاني من عذاب الجحيم، بالطبع سيذهب للجحيم بعد هذه الحياة المُشينة، وليست جحيم فحسب، بل جحيم برائحة المشفى الكريهة!!

 

فتح عينيه ونظر لذلك السقف الأبيض بهذا الضوء المُزعج، هناك آلم بكامل جسده لا يتوقف، وهذه أجهزة طبية بصوتها الرتيب، هو بالمشفى، يا للعنته ولحظه الخائب!! لماذا لم يمت وينتهي من كل ذلك؟! هل فشل حتى في قتل نفسه؟!! ولكم من الوقت مكث بالمشفى هذه المرة؟ ثلاثة شهور أخرى تضاف لتاريخه الحافل؟! تبًا لهذه الحياة بأكملها!

 

اخفض بصره ثم وجد ابن عمه، زوجته، وكلًا من أخيه وأخته، ينظران له بنظرات متأهبة وهو لا يفهم ما الذي يحدث.. يا لصداع رأسه اللعين، لماذا كل هؤلاء هُنا؟! من الذي آتى بهم؟ أين "روان"؟ هل ماتت أم فقدت النطق؟ رأسه ستتهشم لو استمر هذا الألم! عليه أن يغادر هذه اللعنة فورًا، يستحيل أن يبقى بمشفى مجددًا!

 

-       عمر أنت كويس؟

 

سأله أخيه بينما غادرت أخته الغرفة ولم يفهم لماذا، رأسه تؤلمه، يريد أن يغادر، لا يكره أكثر من المشفى.. نهض وهو يحاول أن يتخلص من هذا الشيء المتصل بوريده، يستحيل أن يبقى هُنا ولو ثانية واحدة بعد الآن!! ولماذا آتى أخيه؟؟ كيف عرف ما حدث؟ كان عليه أن يقتل نفسه باحترافية لكي لا يرى كل هذه الوجوه!

--

في نفس الوقت.. تحديدًا بفرنسا..

أمسكت بتلك الكأس الطويلة التي تحتوي على مشروب الشامبانيا وهي تلمح رغوتها البيضاء ليبتسم لها ذلك الرجل أمامها الذي فعل المثل بكأسه ورفعاه سويًا برسمية شديدة ثم حدثته بلغة فرنسية متقنة:

-       نخبك!

-       ونخبك!

ارتشفت القليل منه بابتسامة مقتضبة ثم وضعته جانبًا وامتدت يدها لتتناول ذلك العقد الذي قام رجل الأعمال الذي تعرفت عليه بالأسبوع الماضي بتوقيعه لترمقه بعسليتين حيويتين وقالت له:

-       اعدك أنك لن تندم على هذا..

 

ابتسم لها وارتشف القليل بعد وأخبرها قائلًا:

-       اثق بكِ روان.. جميعنا نثق بكِ، لقد اذهلتِ عقول الجميع منذ ذلك الاجتماع!

 

ابتسمت له ولم يأت على رأسها سوى ذكرى كريهة منذ زمن بعيد جعلتها تشرد تمامًا:

"أنتِ حتى فاشلة كسيدة أعمال، لكن شاطرة بس تلحقي المصايب، عارفة، أنتِ هوايتك التصليح، بتحبي أوي تشتغلي بإيدك، تعملي نظام كامل، تحطيله قواعد وخطوات، وبتبذلي كل جهدك إن النظام ده ميحصلش فيه خلل أو مشكلة، بتحبي التحكم أوي، إنما لو جينا لوقت الجد والقرارات والكلام والاتفاقيات زي اللي بجد بيتقال عليهم سيدات أعمال، أنتِ ولا حاجة!! مش ده شُغلك بردو؟ شوية أكواد وعشان شاطرة فيها عرفتي تحافظي على الكام شركة، إنما مسألتيش نفسك مرة واحدة، ليه الشركات دي مبقتش أكتر، معملتيش فرع جديد مثلًا أو ضميتي لنشاطكم حاجة.."

 

-       روان، هل أنتِ بخير؟

 

أيقظها صوته من غفلتها ثم وجدت جسدها يتشنج بأكمله لتنهض سريعًا وهي تُمسك بالعقد وتجمع اشيائها ثم أخبرته بلباقة:

-       عذرًا دايفيد، تذكرت أن لدي موعد هام.. سأهاتفك لاحقًا.. وداعًا!

 


يُتبع..