رواية كما يحلو لها بتول طه - الفصل الخامس النسخة العامية
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
تعريف الرواية
تصنيف الرواية
روايات رومانسية، رومانسيه، حب، اجتماعية، دراما، قصة، قصص رومانسية، روايات للكبار، اجتماعية، عادات وتقاليد، قانونية، واقعية، قصص، حزن، نفسية، عاطفية، نفسي، اضطرابات نفسية
حوار الرواية
عاميه مصرية، عامي، مصريه
سرد الرواية
اللغة العربية الفصحى
❈-❈-❈
الفصل الخامس
النسخة العامية
رواية - كما يحلو لها
- متاكد إنك بقيت
كويس واقدر اسيبك للصبح
وهرجع الاقيك حتة واحدة على بعضك مش هتموت نفسك تاني، ولا اخليني معاك؟!
هز راسه بالموافقة وهو لا يدري كيف عليه ان يتعامل مع كل
هذا، كل ما تحدث بشأنه مع اخيه وكل ما عرفه عن حديثه مع روان أصبح لا يستطيع
التعامل بسهولة
مع حقيقة إنها كانت تريد مساعدته منذ البداية، كيف عليه ان يصلح كل ما
قد تدمر بالفعل، قد يلزمه عمر فوق عمره لفعلها، او حتى يكون واقعي، لو بلغ من
العمر مائة
عام لن يستطيع فعلها!
- ما خلاص يا عدي، هتفضل باصصلي كتير ولا ايه؟
قام بتوجيه سؤاله بنبرة متعبة وهو يحاول ان يرفع راسه
نحوه حيث أوشك الاخر على الذهاب وتركه بمفرده بناء على رغبته بينما لم يقتنع اخيه
بانه على ما يرام فغير مجرى الحديث وسأله:
- وهتروح بكرة لوحدك؟
اكتفى "عمر" بإيماءة ثم
أجابه قائلا:
- آه هروح بكرة لوحدي.
لم يقتنع عدي بكلماته وشعر بالقلق بعد رؤية
ملامحه التي تدعو للريبة فعقد حاجباه وأضاف باقتضاب متسائلا:
- متأكد؟
زفر متأففا ثم نهض من على مقعده المتواجد
بصالة استقبال منزله وأخبره بنفاذ صبر:
- أمشي يا عدي، أكيد وراك مليون حاجة تعملها
انزعج للغاية من رده السخيف طيب الذي لا يتناسب مع كل ما فعله من أجله وكاد أن يلح عليه من جديد فأوقفه رنين هاتفه ليجيبه بتلقائية:
- أيوة يا ماما
توقف عمر من
تلقاء نفسه عندما علم من الذي اتصل به ووقف لكي يستمع تفاصيل هذه المكالمة التي
أتت في وقت غير مناسب على الإطلاق:
- لأ خلاص اتعشي إنتي، لأ هقابل ناس أصحابي وهبقى أتعشى معاهم
سخر بشدة مما يستمع له، من جديد لا تكترث بشأنه، حتى بعد ما حدث
له، ألم تفكر ولو مرة واحدة كيف حاله؟ ألم تشعر بالحزن؟ ألم تأتي لزيارته ولو مرة
واحدة أثناء مرضه؟
ها هو اليوم مريض أكثر بكثير من مرض أخيه الصغير، وها هي حياته
تدمر بالكامل، يعاني من قتل نفسه، ولديه الكثير من المشاكل في حياته، فشل بعمله،
لا يذهب إليه، وكل ما تكترث هي به، تحضير العشاء والاطمئنان علي عدي!!
التفت إليه بعد أن أنهى مكالمته مع والدتهما وتحول تعبيراته إلى
التهكم الكامل واستنكر سائلا:
- يا ترى مدامها ماجتش زارتني ليه؟ إيه إللي كان مهم قوي عندها
لدرجة إنها متسألش على ابنها؟
تفقده أخيه بنظرات مماثلة لخاصته وتفوه مستنكرا مثله:
- لسة الموضوع ده مضايقك أوي؟
هز كتفيه كعلامة على عدم الاكتراث
ثم عقب وهو يحاول أن يدعي عدم الاهتمام:
- مين قال إني متضايق.. مجرد فضول مش أكتر!!
- ابتسم بسخرية وهو ينظر إليه ثم أخبره بمصداقية:
- أوعى تفتكر إنك لوحدك إللي بيتضايق من أسلوب مها الجندي،
أنا كمان بتضايق من أسلوب يزيد الجندي، وبعدين هي معروفة من زمان، عمر ابن أبوه
وعدي ابن أمه، مش كده!!
عقد عمر حاجباه وهو يتفقده بانزعاج واضح ولم يعقب على ما استمع له
فاستطرد الآخر:
- عمر الشاطر وعدي فاشل.. عمر الذكي وعدي الغبي..
توقف لبرهة عن الكلام وهو يشاهده من أعلى رأسه تمام لأخمص قدمه
وأردف:
- مقصدش إني أبقى شمتان فيك، بس شوف إنت فين وأنا فين، بعد كل
كلام يزيد الجندي ده إني فاشل وغبي وابن أمي وزي النسوان محاولتش اقتل نفسي، ولا
اتجوزت واحدة وطلبت مني الطلاق روحت خطفتها، وخلتها بتشوف كوابيس بسببي!! أنا نفسي
بس ياخد باله مرة ويبطل كلامه إللي مش دايما صح!! على الأقل ابن مها مش زي ابن
يزيد
لقاه بنظرة أخيرة وإمارات الغضب تتضح على ملامحه التي ما زالت
مرهقة وقرر أن ينهي هذا الحديث السخيف الذي لا طائل منه:
- ماما متعرفش حاجة عن إنك كنت في غيبوبة يا عمر، متسألنيش
ليه، أسأل يزيد الجندي إللي صمم إننا ما نعرفهاش!!
استكان من غضبه ومقلتي عينيه ينهمر منها الاستغراب تجاه ما استمع
له ولا يعلم لماذا أراد والده أن يفعل هذا؟ ما الضير في أن تعلم والدته بكل ما
حدث؟ لقد علم أنس وزوجته بالفعل، ولقد عرف عدي وعنود، لماذا لم يرد أن يخبرها عن
كل ما حدث له؟
- ماكنتش ناقص مشاكل أكتر من
إللي أنا كنت فيها أصلا، كنت هشوف روان، ولا يزيد الجندي، ولا أخويا إللي في
غيبوبة، ولا إللي عايز يتجوز أختي!!
امتعضت ملامحه على ذكر هذه السيرة مما جعله يتوقف عن حديثه بينما
الآخر كان يدور في عقله كثير من التخيلات ليفعلها بهذا المخنث!!
- هو أنا ليه كل ما أجيب لك سيرة يونس بتعمل كده، أنا مش فاهم
إنت بتكرهه قوي كده ليه، بعد كل ده لسة برضه بتشك فيه!!
لم يقم بإعطائه رد واضح على حقيقة شعوره تجاه يونس بعد كل ما تبين
له من تفاصيل تجمع على أنه كان مخطئ بحقه وحقها وحق الجميع!!
لوهلة عاد عقل من جديد ليفكر بالكثير من الافتراضات وسأله باقتضاب:
- ويونس بقى كان رد فعله إيه من كل ده؟
قطب جبينه وضحك بخفوت ثم أجابه بعفوية:
- ده في الطراوة أصلا، لما عرف إن روان تعبانة هي ومامتها
جبلهم شوكولاتة وورد وراح البيت، ومسألنيش أصلا غير مرة واحدة عن إللي حصل، ولما
مدتلوش إجابة مافكرش يسألني تاني.. من الواضح إن كل عيلة بتبقى شبه بعض، زي ما أنا
وإنت وأختك مبيفرقش معانا إللي بيحصل للتاني، هما كمان كعيلة ما بيفرقش معاهم غير
إللي هما عاوزينه بس.. وكل يوم والتاني يقول لي امتى امتى، وأنا كنت بتحجج إني
مشغول أو إن إحنا قلقانين عليك إنت ومراتك، ومرة تانية اقول له طب لما عمر يرجع
علشان يعرف يقنع بابا.. وهو بس كل إللي فارق معاه، إنه يخرج معاها ويشوفها وبس
كده!!
شعر عمر بغليان دمائه بداخل عروقه ثم هتف به غاضبًا:
- وإنت إزاي بتجاريه في الهبل بتاعه ده؟
رفع كتفيه ثم أخفضهما بعفوية وأجابه بهدوء يناقض ثورة أخيه:
- واحد بيحب واحدة وعايزها يا عمر، متخيله يتصرف ازاي؟ على
الأقل ده جه بمنتهى الصراحة واتكلم، وأنا شايفه إنسان كويس بش وحش، ولا تحب نقارنه
بواحد عجبته واحدة فراح عمل إيه عشانها؟
تفقده بنظرة ذات مغزى ليدرك الآخر أنه يقصد هو نفسه ويقصد ما حدث
بينه وبين روان ليزداد انزعاجه بشدة ونظر إليه باحتقار ثم تشدق:
- روح علشان تلحق العشا
تركه خلفه ثم صعد على الدرج الخاص بمنزله لعله يستجيب ويغادر دون
رجعة فهو لا يريد أكثر من التواجد بمفرده بصحبة الهدوء الذي يحتاجه وبشدة ليستمع
له يُملي بتعليماته باهتمام لم يتوقعه منه في حياته:
- خد دواك ونام عشان تقوم
كويس بكرة!
❈-❈-❈
دخل غرفته ثم تمدد بجسده على الفراش وهو لا
يبالغ حقا، الإرهاق الذي يشعر به لم يشعر بما يماثله قط في حياته.. وبعد كل هذا
الحديث طويل مع أخيه، لا يتمنى سوى الموت، أو حتى الموت لا يمكنه أن يتمناه وإلا
قد يتهمها والده بقتله.. ويا للسخرية!!
حدق بسقف الغرفة ورأسه ينهمر عليها تلك التفاصيل التي أخبره بها أخيه ولم يجد بداخل نفسه سوى شتات تام وتشويش شديد، لا يدري من أين عليه البدء، هل عليه أن يبحث عنها أولا، يذهب لأخيها ولولدتها، أم يذهب لوالده لكي يتأكد أنه لن يفعل بها شيء، يذهب
ليطلقها رسميا، يقتل هذا المخنث، يجلس بمفرده، يذهب لتلك الطبيبة، لا يعرف أي شيء!!
أغمض عينيه وسمح لعقله المعتل أن يذهب حيث كان منذ قليل، جالسًا على هذا المقعد وهو يستمع إلى صوتها الذي أصابه تلقائيا بتألم قلبه!! - أنا حاولت أسجل لها كل الكلام ده علشان لما تصحى تسمعه.. قلت يمكن يفرق معاك!!
جذب هاتف أخيه من بين يديه ثم قام بتشغيل هذا الملف الصوتي ونبض
قلبه يتسارع رغما عنه متلهفًا أن يستمع منها لأي حرف تنطقه:
- آلو..
- ايوة يا عدي.. هتفضل تكلمني لغاية امتى؟! أنا قولت كل اللي
عندي يوم ما جيتولي البيت!
- صدقيني أنا آسف، أسف إني بكلمك وحتى آسف إني بكلم بسام كل
شوية.. بس حاولي تفهمي إن مفيش حد غيرك هيقدر يفهمني إللي حصل إنت إللي كنتي معاه
وأنا مش قادر أفهم أي حاجة وبابا مقاليش ايه اللي حصل لما لقاكم!!
- أنت عايز تعرف إيه بالظبط؟!
- عايز أعرف إللي يوصل عمر إن هو يضرب نفسه بالنار وليه عمل
كل ده، عمر عمره ما كان الراجل إللي ممكن يعمل كده في نفسه أبدا!!
ارتفع الصمت لبرهة من الوقت، وتحرق هو أن يستمع للمزيد من صوتها،
أو حتى عليها أن تستمر بالتنفس وهو يشعر بصوت أنفاسها التي تعاني بسببه، كان عليها
أن تقول أي شيء!
تأثرت ملامحه وارتبك من كل هذا الوقت الذي اتخذته للمتابعة ليستمع
لصوت أخيه المنادي:
- روان انتي معايا؟!
استمع لزفرتها الطويلة وأنفاس تبدو وكأنها كانت تبكي ليتوسلها
أخيه:
- أرجوكي بلاش تقفلي من غير ما تفهميني حصل ايه!
من جديد تعالت أنفاسها وبعد فترة اجابته:
- مين قالك إنه مش هو الراجل إللي ممكن يعمل كده، مين فيكم
أصلا يعرفه!
استمر صمتها لمُدة ليسمع صوت أخيه المزعج:
- تقصدي ايه؟
- إللي اقصده إنه هو كده من زمان، سواء معايا أو مش معايا كان
ممكن يوصل للي هو عمله في نفسه ده، وعشان كده كان لازم أبعد عنه من زمان!!
شعر بضعفها بتلك الجملة الأخيرة التي قالتها ليشعر بأن قلبه كاد أن
يهشم ضلوعه من تسارع خفقاته ليجدها تتابع:
- انت عايز تعرف ايه إللي حصل، أنا طلبت منه الطلاق من ساعة
ما اكتشفت إني شبه يمنى، وافتكر إني حكيت لك عن الموضوع ده، بس هو رفض، وإللي
خلاني مصممة على الطلاق هو كل إللي حصل بعد اليوم ده!!
سكتت لوهلة عندما اشتد بُكائها ثم أردفت بصوت منتحب:
- أنا من يوم ما اتجوزت أخوك كنت بلاحظ إنه عمر فيه حاجة مش
مظبوطة وتصرفاته وحتى علاقته بباباه أو بمامته أو حتى بيك أنت وعنود، في الأول كنت
مستغرباه وماكنتش فاهماه، وافتكرت إن لما يعدي فترة علينا وإحنا متجوزين هفهمه، بس
ماحصلش، روحت بعد كده للدكتورة وفهمتني كويس هو بيعاني من إيه وأنا حاولت بدل
المرة مليون مرة اني اقنعه يروح لدكتور بس هو كل مرة كان بيرفض إن هو يروح وشايف
ان ده شغل مجانين وبعد طلبي للطلاق جاله حاجة اسمها نوبة هوس..
اشتد بكائها بحرقة وتابعت كلماتها بصوت مرتجف:
- أنا في الأيام دي كنت مرعوبة أصحى ألاقي نفسي ميتة، أو
ألاقيه هو موت نفسه.. إللي حصل ده ماكانش جديد عليه.. مرة كان هيحرقنا، ومرة كان
عايزنا ننط من الدور الأول!
شعر بالصدمة تجتاحه هذه المرة اشد من السابق لا يدري لماذا، هل
لسماع صوتها بعد فوات الأوان وهي تبكي أم لأنه ارتكب كل هذا بالفعل، لا يعرف ولا
يستطيع أن يحدد ما يشعر به، كل ما يعرفه أنها تضررت على يديه بشدة حتى يتحول صوتها
لتلك النبرة التي تتحدث بها وكأن قلبها المحترق يتضح بكل حرف تنطقه!
- طيب فهميني الدكتورة دي قالتلك ايه.. حاولي تساعديني يمكن
اعرف اقنع بابا إنك مالكيش ذنب في أي حاجة وان ده مثلًا حصل وهو مش في وعيه!
قبضة بصدره غريبة جعلته يشعر وكأن هناك ثقل غريب يدهسه عندما استمع
لشهقاتها ونبرتها المتألمة:
- عمر مريض، محتاج علاج وأدوية، وبعد اللي عمله مش بعيد يتحجز
في مصحة، بس ده ميدلوش العُذر، واللي باباك عمله، أنا مش هعدي كل اللي حصل ده
بالساهل.. يجيلي في بيتي ويهددني إني قتلته! أنا عمري ما هانسى أي حاجة، سواء منه
في وقت زي ده ولا من عمر!
شعر بتحول نبرتها في ثوانٍ عن تلك النبرة التي كانت تتحدث بها منذ
بداية هذه المكالمة بينهما ليجد "عدي" يحاول أن يفهم منها ما حدث:
- طيب ممكن تفهميني ايه اللي حصل بينك وبين عمر؟
استكانت لبرهة ثم استمع لنبرة لم يستمع لها منها بالسابق طوال
حياتهما معًا:
- اسألوه، أو أسأل باباك، مش هو برضو بيعرف يوصل لكل حاجة؟!
- روان ارجوكي انتي عارفة إن أنا وبابا مش قريبين، فهميني
يمكن اعرف اتصرف أنا أو أنس، وعلى فكرة عمر احتمال كبير ميفوقش، وقتها فعلًا محدش
فينا هيعرف يتصرف!
طال الصمت من جديد بمكالمتهما ليناديها:
- انتي معايا؟!
استمع لتنهيدة مطولة منها ثم قالت:
- لما يبقا يفوق يبقا يتصرف هو، هو السبب في كل ده!
- ولو حصل ومفاقش؟ انتي متعرفيش بجد بابا ممكن يعمل ايه،
حاولي تساعديني يا روان وفهميني اللي حصل!
وجد المكالمة تنتهي دون أن تقول المزيد ليستمر جالسًا كالصنم في
مكانه بينما شعر به يحاول أن ينتشله من صمته لكي لا يطنب بتفكيره:
- مرضتش اجرحها واقولها إني فاهم إنك شكيت فيها، روان بقا
شكلها مش طبيعي يا عمر، أنت عملت فيها ايه؟!
اراح رأسه للخلف واستمر صمته لبعض الوقت والكثير مما عايشه بالفعل
معها وخصوصًا بالفترة الأخيرة يترامى على رأسه بطريقة عشوائية غير نهائية، هو يشعر
بها، يفهمها من نظرة عين أو سماع كلمة واحدة منها، لم يعرف في حياته قط أحد مثل ما
عرفها ولم يصل إلى هذه الدرجة من الاقتراب والتناغم سوى منها ومعها، هو يفهم جيدًا
ما فعله، لقد استبدل روح نقية عشقته بروحٍ أخرى مزقها العذاب لتصبح شبح لامرأة لن
تكون كما اعتادت على الاطلاق..
- أنا كنت بموتها بالبطيء.. مكونتش مقتنع إن فيا حاجة غلط..
أنا عمري ما اتصورت إني اصدق إن فيه ست بتخوني وفي نفس الوقت كنت متأكد إني يا إما
هفضل معاها، يا إما هموتها بإيديا.. أنا كنت عايزها لغاية آخر لحظة ما بينا!
قالها بصوت غارق في الكثير من التفاصيل التي رفض آلاف المرات أن
يُصدقها ليسأله الآخر مرة أخرى بنبرة مُراعية لما يراه أمامه، فمظهره يدعو للريبة
الشديدة:
- عايزها ازاي وانت بتقول بتموتها؟ أنت سامع أنت بتقول ايه يا
عمر؟
أخفض بصره إليه وحاول أن يتغلب على تلك الغمامة من دموع عينيه التي
حالت بينه وبين رؤيته بشكل واضح واجابه بخفوت:
- مش عارف، أنا عمري ما حبيت حد قدها، وفكرة إني ابعد عنها
بالنسبالي كانت مستحيلة، أنا مش عارف أنا كنت بعمل ايه!
ابتلع ثم حدق بالأرضية ورأسه يعود لكل ما أراد فعله وقتها وهو
يُصدق تمامًا بأنها مخطئة وتفلتت الكلمات منه دون تحكم:
- أنا حتى معملتش اللي كنت عايز اعمله معاها، أنا كان في
دماغي اموتها هي والزفت ابن خالتها ده، كان فيه مليون طريقة اوجعها بيها، بس كل ما
كان الوقت بيعدي عليا وأنا شايفها قدامي كنت أنا اللي بتوجع! الوقت الأخير اللي قضيته
معاها كان حلو أوي، وفجأة لقيتها بتاخد مني كل حاجة ادتهاني وكمان بتقول إني
مجنون!!
تفقده "عدي" بعقدة حاجباه وهو لا يستطيع فهم ما يقوله
لذلك ظن أنه متأثر ليس إلا بما استمع له فسأله محاولًا أن ينتشله من هذه الأفكار:
- طيب وهتعمل ايه دلوقتي؟!
سلط نظرة جانبية بطرف عينيه نحوه وأجابه بتهكم:
- اللي بيحب حد بيعمله اللي يريحه! هروح اشوف الدكتورة دي
بكرة، لو اقتنعت هاكمل.. فيه حاجات كتيرة مش قادر افهمها، بالذات الفترة اللي كانت
بعد ما عرفت انها شبه يمنى، أنا مش فاكر أي تفاصيل من ساعة العشا اللي عزمتكم عليه
لغاية بعده بيجي شهر ونص أو اكتر، لغاية في يوم صحيت ولقيت نفسي كويس وفاكر كل
حاجة!
رفع حاجباه باندهاش مما أدى لتقطب جبينه واستفهم منه بتردد:
- هو ده اللي كانت تقصده لما قالتلك إنها اكتشفتك على حقيقتك
وكل الكلام اللي كان في الفيديو ده؟! أنا مسمعتش غير الكلام اللي جوا البيت، لما
طلعتو برا مكنش فيه صوت!
دلك جبينه متنهدًا بإرهاق وغرق بمقعده ثم أجاب ساخرًا:
- لا، ده كمان موضوع تاني!
حك لحيته بتفكير وفمه يلتوي في حيرة ليكرر استفهامه:
- طيب وازاي نسيت اكتر من شهر ونص في حياتك وفاكر إن الموضوع
عادي؟! وأصلًا حصلك ده قبل كده ولا لأ؟!
أومأ له بالرفض وحدق بسقف منزله وقال بمزيد من الحسرة على حاله:
- أنا لما بشرب مبحسش بنفسي، بس المرادي لقيتني عملت حاجات
كتيرة اوي مش مفهومة وعمري ما عملتها، ودماغي ودتني انها بتعمل كل ده عشان تبعد
عني وتبقى معاه!!
نهض زافرًا بعمق وهو يتفقد الوقت في ساعته ثم أخبره:
- أنت محتاج ترتاح وبكرة تروح للدكتورة دي وتفهم منها أنت عندك
ايه بالظبط!
أومأ له ولم يقل شيئًا ليتفقد بريبة وقال:
- متاكد إنك بقيت كويس وأقدر اسيبك للصبح وهرجع الاقيك
حتة واحدة على بعضك مش هتموت نفسك تاني، ولا اخليني معاك؟!
❈-❈-❈
كل ما يعايشه، معارك شتى منذ أن استيقظ من غيبوبته، لماذا يحدث له كل ذلك؟ ما الذي ارتكبه لتتحول حياته رأسًا على عقب من جديد؟ كلما ظن أنه أصبح بخير يحدث شيء ويفسد كل حياته!!
لم يعد به القدرة ليبدأ من جديد، لم يعد هناك بداخله المقدرة على المثابرة، من أجل ماذا؟ لو كان يظن بالفترة الماضية أنه يتغير من أجل العشق وأنه أخيرًا وجد ضالته المنشودة منذ أن كان فتى بأولى مراحله الجامعية وسيستقر وأخيرًا ستبتسم هذه الحياة البائسة له، عاد لنقطة البداية، أو ربما لما قبل البداية!
فتح عينيه ليجد نفسه يبكي، لم يعد هناك ما يستطيع فعله، لو كان الحل في بعض العقاقير لتسكن عقله أو توقفه عن العمل سيفعلها، ربما سيكون حله الوحيد إلى أن يموت وينتهي مما يُفسد عليه كل لحظة من سعادة يظن أنه امتلكها!
نهض جالسًا على طرف فراشه بعد أن أصبح بكائه يصيبه بالاختناق، عقله يحترق، وأنفاسه لا تستطيع المرور لصـ دره بشكل سلس كما كانت بالسابق، وكأن الهواء انعدم حوله!
جفف وجهه وهو يُحاول السيطرة على تلك الشهقات يكبحها بشراسة، يحاول النظر حوله وهو يرى وكأن كل تفاصيل حياته تتدمر، وكأنه كان يعيش بالسماء وفجأة ينتقم منه القدر بطرده إلى الأرض هو وحياته بكل تفاصيلها، لماذا يحدث له ذلك؟ أو هل هذا ما يظنه، الأمر ليس بمنطقي على الاطلاق! كل شيء يسقط للقاع!
لمح تلك الغرفة لينهض ويتجه نحوها عندما تذكر كلمات والده له، كل ما اختاره وكل ما يختاره يتحول للرماد عند مرحلة ما، يُمنى، روان، ميوله، عمله، هدوئه، قوته وسيطرته على أمور حياته، ما الذي يستمر كما هو؟! يريد أمر لعين وحيد أن يبقى كما يُريد.. يريد فقط أن يجد لنفسه هوية، تعريف، أو حتى شخصية واحدة تستمر معه للأبد!
لم يعد ذلك الطفل الخائف ولا الفتى القوي، لا يدري هل هو ابن أبيه عن حق أم لا، كيف نجح بكل تلك القضايا؟ وأين يمنى؟ وأين تلك النساء؟ وأين هؤلاء الرجال الذين اعتاد أن يتعامل معهم بعمله؟ وأين هي الآن وما الذي تفعله بعيدًا عنه؟ هو لا يملك رفاهية أن يختار شيء وحيد ويستمر معه للأبد! حتى أن يُنهي حياته بيده لم يفلح في ذلك!! كيف له الخلاص؟!
قام بفتح باب الغرفة ليجدها أصبحت غرفة مليئة بالكتب، مكتب، مكتب آخر، بالطبع، المحامي الشهير ابن المحامي الأعظم لابد من أن يكون مثله.. لم يُكفه المكتب بالدور الأرضي لذلك صنع له غرفة أكبر، حتى أن يمتلك عدة ذكريات معها سواء جيدة أم كريهة، لا يملك هذه الرفاهية، كل شيء يُسلب منه، حتى النظر لمكان جمعهما يومًا ما!
هرع للخارج، يبحث عن أي شيء تبقى منها، ربما قد ترك والده ملابسها كما هي، لقد كان يرتاب بأنه طلقها بالفعل، وبمجرد انبعاث الضوء بداخل غرفة ملابسهما وجد كل شيء كما هو!
استند على الجدار وشاهد كل متعلقات امتلكتها يومًا، وبكائه يزداد ليتحول لارتجاف يسيطر على جسده، البكاء للضعفاء، لا يصدق سوى هذا، ولكنه سيكون ضعيف دونها، لماذا هيئ له عقله الكريه أنها تقوم بخيانته؟! لابد من أن يحاول بقتل نفسه من جديد ولكن دون أن يؤذيها والده!! كيف له أن يمنع كل هذا؟!
اقترب أكثر ليستنشق رائحة عطرها الذي لم يتغير قط، وسرعان ما استرجعت رأسه رائحتها هي نفسها، وبمجرد أن أغمض عينيه وهو يشعر وكأنها كانت هنا في مكان ما بالقرب منه وصل لحالة من الانهيار الكامل، وبصحبة الإرهاق والاجهاد الذي لم يتغير بعد منذ أن غادر المشفى، سيطرت عليه نوبة بكاء اصابت رأسه بالاحتراق إلى أن انتشلته منها حالة من فقدان الوعي، أو السقوط في النوم.. لا يدري ما الذي حدث له، فقد الشعور بكل شيء حوله عدا أنها لم تعد متواجده معه.. لقد ذهبت للأبد ويستحيل أن تعود له!
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي..
صعد "عدي" على الدرج الداخلي لمنزله فلم يجده بأي من الغرف ولكنه تأكد من الأمن الخارجي لبوابة منزله أنه لم يغادر منذ ليلة أمس وأخذ يبحث في الكثير من الأماكن إلى أن اكتشفه نائمًا بغرفة الملابس أرضًا بالقرب من ملابسها ليتحسر على ما يراه، لو كان يعشقها إلى هذا الحد، لماذا فعل معها كل ما فعله؟ ما الأمر الذي يفسد عقله لدرجة أوصلتهما لكل هذا؟!
لا يُنكر أنه دائمًا كان يفعل تصرفات غبية، يرى أحيانًا أنه بطيء الاستيعاب، ولطالما دفع الجميع بعيد عنه وكأنه ليس بشر مثلهم، ولكنه لم يتوقع أنه قد وصل ليُصبح رجل سا دي بتفاصيل تلك الغرفة التي رآها، ويصبح بعقل اجرامي كما خدر زوجته وأبعدها عن العالم بأكمله لقرابة شهر كامل، ومن ثم يقتل نفسه!! ما نوع الجنون الذي يُسيطر عليه؟!
هز رأسه بإنكار مشفقًا على حاله ثم ناداه:
- عمر
لم يستجب له فورًا فكرر نداءه ولم يجد استجابة منه من جديد، فدنا منه وهو يلكز كتفه بهدوء ليفزع الآخر وفتح عينيه في حالة من الشتات لا يدري ما الذي يحدث له في حالة تلقائية من الانتقال من نعاسه إلى حالة من اليقظة التامة فطمأنه "عُدي" بعد أن رأى ملامحه الفازعة وقال:
- ده أنا يا عمر متقلقش!
فرك وجهه وهو يزفر ثم شعر بعظام جسده تؤلمه بعد تلك الليلة التي على ما يبدو قضاها نائمًا أرضًا، كيف تحملت هي تلك الأيام بداخل هذا القفص المغلق الذي تركها به لأيام؟!
- قوم غير هدومك المبهوقة عليك دي، أنت خسيت اوي.. وروح استحمى واحلق كده عشان نفطر وبعدين نروح للدكتورة اللي أنت عايز تروحلها!
اعتدل بوقفته ثم مد له يده كي يساعده على النهوض فلم يكترث بمساعدته له وحاول النهوض بمفرده وبمجرد وقوفه شعر بالدوار فاسنده "عدي" بعفوية ثم قال بانزعاج:
- كان ليه من الأول يا أخي.. بطل بقا غباءك ده شوية!
اخفض بصره له باستغراب ولكن لم ينتظر المزيد من تصرفاته الفظة وأردف متسائلًا بجدية:
- تحب اسندك اوديك الحمام ولا هتعرف تتعامل؟
رفع كلتا يديه باستسلام لكي يتركه ففعل وهو يتفقده بارتياب ثم أخبره بتنهيدة متعجبة من شدة رفضه له:
- ماشي، براحتك، هروح اشوف هنفطر ايه لو فيه أكل في بيتك أساسا وانجز عشان لو كده هنفطر برا!
يُتبع..