-->

رواية كما يحلو لها بتول طه - الفصل الرابع - النسخة العامية

  رواية كما يحلو لها 

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه



تعريف

لا اكتب اليوم كما بات يحلو لي مؤخرًا، ولا لأنقل بكلماتي ما يحلو لي.. 

ولا اكتب مخاطبًا حبيبتي بعبارات الغرام والشوق الجارف بالرغم مما يعانيه قلبي دونها..

اكتب من أجل كل امرأة لا تعلم بعد أنها لابد من أن تفعل كل ما يحلو لها دون يأس أو استسلام..

ولكِ، على هامش السيرة اذكر أنكِ من جعلتني اكتب فلكِ كل الامتنان..

ولكل امرأة تستطيع تغير رجال، وحياة بأكملها بمجرد مشاعر صادقة منها..

للزوجة والأم والأخت والطفلة والحبيبة..


عمر يزيد أكمل الجندي ..

تصنيف الرواية

روايات رومانسية، رومانسيه، حب، اجتماعية، دراما، قصة، قصص رومانسية، روايات للكبار، اجتماعية، عادات وتقاليد، قانونية، واقعية، قصص، حزن، نفسية، عاطفية، نفسي، اضطرابات نفسية


حوار الرواية

عاميه مصرية، عامي، مصريه


❈-❈-❈


الفصل الرابع

النسخة العامية

رواية - كما يحلو لها



حدجه بنظراتٍ قاسية فهو كفتى صغير بالسابق لم يقبل قط أن يُفعل به المثل، ما باله برجل مثله يعاني بالفعل من أفكار شتى مغلوطة!! سيرد له الصاع.. ولكن بمنتهى الخبث الذي لن يتوقعه على حين غفلة منه!

 

-       قالتلك ايه لما كلمتك؟

 

سأله وكأنه لم يحدث له شيء ليعقد الآخر حاجباه وهو يتفقده، لم يكن ينتظر منه ردة الفعل هذه وبعد شعوره بذلك الإلحاح المتوالي منه في معرفة ما حدث بينه وبين "روان" في تلك المكالمة وهو يوشك على التوسل من أجل أن يعرف القليل عنها فأجابه بتسلط:

-       لما تبقى تروح تلحق بابا الأول وتفهمه إننا كان لازم ناخد القرار ونفوقك!

 

حك لحيته وهو يتطلعه بفحميتين تائهتين، بمنتهى البرود، وكأن كل حديثهما السابق لم يكن مهم على الاطلاق، ودام صمته كمن يُفكر فيما عليه فعله ثم فجأة مد إليه يده وهو يخبره:

-       طيب أنا هسوق، هنروح لبابا الأول وبعدين عايز عربيتك هاعمل بيها مشوار

 

ضيق "عدي" عيناه نحوه ولا يدري لماذا لا يثق بكلماته، ولمّ سيفعل؟ هو لم يُعط أي أحد سبب للوثوق به من الأساس.. ولكنه شعر بالراحة الشديدة لمجرد رؤيته وسماع منه ما يؤكد أن هذا الكابوس الذي يتعايش به أوشك على الانتهاء وأخيرًا سيتولى هو حل كل تلك المصائب!

 

هز رأسه بالموافقة وسأله بقليل من الاكتراث:

-       هتقدر تسوق ولا اسوق أنا؟

 

إيماءة من "عمر" بالموافقة كانت كفيلة بأن تقنعه كم تأهب بتحركات ليذهب لمقعد السائق لكي يشرع بالقيادة فتوجه "عدي" نحو المقعد الآخر وهو لا ينتبه لمكر أخيه الذي وضع بمنتهى السهولة قدمه يعوق بها خطواته ليسقط في النهاية أرضًا ثم ركله بجانب بطنه ليتأوه الآخر في آلم بينما تشفى أخيرًا لرد الصاع له وأخبره بتحذير:

-       اياك تمد ايدك عليا وبطل العادة الزفت اللي فيك دي من زمان

 

لم ينتظر الآخر وجذبه بقوة من قدمه ليتسطح "عمر" أرضًا على ظهره ليشعر بالآلام تعود له من جديد وتكلم "عُدي" سائلًا بسخرية:

-       أنا برضو اللي فيا العادة الزفت دي ولا أنت اللي من زمان محدش بيكلمك غير وتمسكه تضربه!

 

نهض "عدي" جالسًا بمكانه بينما نظر لهما كل من لاحظهما بتعجب واكتفى الآخر بعدة لحظات من السكون وهو مُلقى أرضًا وتفقد السماء بنظرات تأملية شاردة ورد مُعقبًا بصوت عميق هاكمًا على حاله:

-       ويا ريته نفع!

 

سلط نظراته نحوه لمدة والكثير من الذكريات السيئة توالت على رأسه دون تريث وتعجب منه مستغربًا:

-       أنت ليه دايمًا كنت بتعمل كده وبتبعد عن كل الناس؟

 

اتكأ على يديه وهو يحاول أن ينظر له واجابه وهو يرفع كتفيه ثم يخفضهما وأومأ بالإنكار:

-       كان هو ده الحل الوحيد قدامي!

 

لم يرد أن يغوص في الكثير من الأحداث التي لا يحبذ أن يتذكرها ونهض بسرعة ليلمحه "عدي" فنهض مثله ليخبره وهو يتجه نحو مقعد السائق:

-       أنت مالكش سواقة، طول عمرك بتتحرك بالسواقين بتوعك واحنا مش ناقصين حوادث اكتر من كده.. وأنا لسه عندي استعداد اعيشلي يومين كمان!

 

تابعه "عمر" بنظراته وعقد حاجباه متذكرًا ما فعله بنفسه، لا يدري كيف فعلها يومها، ولكن ما يعرفه جيدًا أن كل شيء حدث بسرعة ولقد آتى تصرفه بعفوية شديدة.. فما حدث بينه وبينها يُدرك أنه لا يمكن إصلاحه على الاطلاق!

--

-       افندم، عايز ايه؟

 

امتعضت ملامحه على ردها عليه ثم عقب بمرح:

-       الناس بتقول آلو، ازيك، عامل ايه، أي حاجة من بتاعت الناس الطبيعية دي! وأنا ارد اقولك وحشتيني اوي وهشوفك امـ..

 

قاطعته وهي تأبى برفض قاطع ترهاته التي تستمع لها:

-       ايه اللي وحشتيني وعامل ايه، هو أنا محتاجة كام مرة افهمك إني مبتكلمش ومبحبش الأسلوب ده!

 

ضرب جبينه بكف يده في حالة شديدة من اليأس وعقب ساخرًا:

-       هتعرف عليكي wireless، بالاسلكي.. أو في الحلم.. مش كده؟

 

استمع لتأففها الشديد على الطرف الآخر من المكالمة ثم سألته بجدية:

-       خير يا يونس، ايه سبب المكالمة؟!

 

تريث لبُرهة مُفكرًا في كلماته جيدًا ثم انتقاها وأجابها بهدوء:

-       اطمن عليكي، أعرف اخبارك، ولو فيه فرصة إني اشوفك ونخرج مع عُدي.. ده سبب المكالمة!

 

قلبت عينيها بنفاذ صبر ثم أخبرته بحدة:

-       قولتلك إني مشغولة ومش فاضية، ومفيش الخروج والكلام وكل الحاجات دي غير لما نبقا نكتب الكتاب وعليك خير.. واديك شايف ظروفنا، أخويا تعبان وفي غيبوبة ولسه مطلق مراته ومش ألطف حاجة اننا نعمل خطوبة أو أي ارتباط رسمي.. حظي وحظك زفت.. حابب تستنى أهلًا وسهلًا، مش حابب مع السلامة!

 

أنهت المكالمة لينظر لشاشة هاتفه بدهشة شديدة، هو يقدر ظروف الآخرين ولكن ما تفعله معه أكثر مما يستطيع تحمله، لقد صرح بما يُريده، ولقد تقابل معها مرتان بوجود أخيها بالفعل، ما الذي تريده أكثر من هذا ليثبت لها أنه لا يمزح بشأنها ولا يريد أن يعبر أي حدود معها؟ يا لحظه اللعين الذي لا يتركه يحظى بدقيقتين في سلام معها.. ليته لم يرها يومها!


❈-❈-❈


دام الصمت طوال الطريق فيما بينهما، لم يتبادل أي منهما كلمة مع الآخر، وبعد مرور أكثر من ثلاثين عام على عدم الود أو الأخوة المستمر بينهما لم يشعر واحدًا تجاه الآخر بأن عليه فعل المزيد..

 

بالنسبة لـ "عُدي" كان كل ما فعله معه أكثر مما قد يتوقعه هو نفسه، يمكنه أن يُفكر بمساعدة صديق، زميل، فتاة جميلة يعرفها، من الممكن أن يحاول مساعدة "عنود" بالرغم من جمودها ولكنه قد يفعلها، أمّا عن هذا الفظ الجالس بجانبه في صمته المستديم السرمدي، لم يكن يتخيل أنه من الممكن أن يساعده قط! ولكن تملكته الشفقة اللعينة تجاهه وتجاه زوجته التي لم تؤذه ولم ير منها سوى الخير!

-       عدي، أنت ليه عملت كل ده؟

 

التفت إليه باستغراب من سؤاله الغبي الذي قطع صمتهما وكلاهما يقاربان على الوصول من مقر عمل والدهما ثم عقب بتهكم:

-       ايه السؤال ده معلش؟!

 

عقد حاجباه وهو يسلط عينيه عليه بتفحص ووضح متسائلًا:

-       عمرنا ما كنا أصحاب ولا قريبين، وطول عمرك مبتحبنيش، ايه اللي خلاك تعمل كل ده عشاني؟

 

رفع حاجباه بتعجب من استفساره عن هذا ثم اجابه بسخرية:

-       كنت عايزني اتصرف ازاي والناس بتكلمني وبتقولي الحق ولقيت نفسي داخل في الموضوع، اقولهم أنا وأخويا مش أصحاب ومش قريبين؟!!

 

ضيق عينيه نحوه وهو يحاول أن يتبين مصداقيته من عدمها بينما أردف الآخر بتنهيدة واستطرد:

-       عمر أنا مش بكرهك ولا حكاية مش بحبك ولا عملت ده عشانك لوحدك، بس أنت اللي طول عمرك بتصد كل اللي حواليك واللي بابا بيقوله بتسمعه وبتعمله من غير ما تناقشه ولا تفكر في كلامه، لو عايز تسأل ليه مكناش قريبين وزي الاخوات ابقا اسأله هو مش أنا!

 

قام بصف السيارة أمام بوابة مقر عمل والده مباشرة وغير مجرى الحديث ثم أخبره:

-       انزل على ما اشوف ركنة وهتلاقيني وراك، أصلي محدش بيخليني اركن في الجراج!

 

تفقده باستغراب، لطالما كان الجميع يُرحب به لو آتى إلى هنا، لماذا لا يعامله العاملون بالمثل؟ هل لاختلاف وظيفة كل منهما أم لتلك العلاقة المتوترة منذ الأبد بينه وبين والده؟!

 

ترجل للخارج بعد أن هز رأسه له بالموافقة ودخل من البوابة وسرعان ما عرف الجميع من هو بالطبع، فمنذ أعوام كثيرة اعتاد أن يذهب لعمل والده ولوجود صيته بنفس المجال تعرف عليه الجميع بمنتهى السهولة! 


❈-❈-❈


دخل مكتب والده الذي صرف من كان معه فورًا، فليس هناك من لديه القليل من الفهم المنطقي إلا ويعرف كيف يهتم "يزيد الجندي" بوجود ابنه البكري، ولا يُنكر أي من العاملين معه تلك الطريقة الرائعة التي لطالما رحب والده به كلما رآه، ويعامله دائمًا وأبدًا وكأنه واحد من العملاء المهمين وكأن لديه قضية لن تحتمل الانتظار..

 

نهض من على مقعده وتلاقى كلاهما بالطريق ثم ربت على كتفه وامسك به بقبضة داعمة وعينيه يتضح بهما الفرحة ولكن دون مبالغة ثم أخبره:

-       حمد الله على سلامتك

 

هز رأسه له وعقب باقتضاب:

-       شكرًا!

 

تنهد والده وهو يتجه نحو أريكة مُلحقة بداخل مكتبه وسرعان ما بدأ هو لكي لا يسمح لعقله أن يطنب بالتفكير وقطع سيل أفكار ربما يلوح في عقله منذ استيقاظه:

-       أنا كنت قلقان اخد القرار ونحاول نفوقك ونكون اتسرعنا، بس كويس إن اخواتك وولاد عمك عملوا كده.. كل اللي كنت عايزه هو دكتور كبير من برا يأكدلي إنك هتكون كويس لو فصلنا الأجهزة عنك!

 

تنهد وأومأ بالموافقة بالرغم من عدم اقتناعه بتلك الكلمات، فما أخبره به "عدي" من أحداث شتى ما زال يلوح بعقله وكما الأسد يفعل الشبل دائمًا بمحاكاة والده فقطع عليه تلك المقدمات وسأله مباشرة:

-        قضية ايه اللي عايز ترفعها على روان؟!

 

بالطبع، الفاشل الذي أنجبه لم ينتظر ولو للحظة واحدة دون أن يخبره بهذا الأمر، لابد من أنه قد علم بطريقة ما، ما الذي فعلته تلك الفتاة حقًا بابنيه؟ واحد ربما قتل نفسه من أجلها والآخر يتخذ قرار بحياة أو موت أخيه فقط ليستيقظ وأول ما يفعله يسأل عنها؟!

أم ربما كان "أنس" من توصل لذلك؟ هل يظن أنه سيُفسد عليه مخططاته؟ أم بعد دعمه والوقوف بجانبه يريد أن يطيح بعمه "يزيد الجندي" ويصبح هو في الصدارة مُدعيًا أنه كبير العائلة الذي يستطيع أن يحل كل الأمور؟!

 

سيكون له حساب عسير معه هو ووالده، ولكن ليس الآن، فلديه اهتمام آخر تمامًا، وبالطبع كل هذا التفكير منه بالتخمينات والاحتمالات لم يأخذ سوى لحظة واحدة لحقها بمنتهى التلقائية بكلمات آتت هادئة متريثة:

-       كان لازم اطمن وانا مش عارف ابني ايه اللي حصله وواقع قدامي بين الحياة والموت!

 

فضوله الأبوي كان يحتدم بداخله لمعرفة تفاصيل ما حدث، ولكن ما رباه عليه سيتدخل الآن في الثواني القادمة بينهما، واستجاب له الآخر فعلًا ولكن من أجل أن ينهي هذا الأمر بأكمله وحدثه بجدية شديدة:

-       بابا أنا اللي ضربت نفسي بالنار، روان مالهاش ذنب في حاجة، وكده أظن اتطمنت، وعشان اطمنك اكتر أنا..

 

توقف من تلقاء نفسه عن حديثه بينما آلمه أن يعترف بهذا على مسامع أحد آخر وأردف بصوت خافت:

-       أنا طلقتها..

 

هز والده رأسه ثم قام بفتح ذلك الصندوق المرصوص به سيجاره الكوبي الثمين وتناول منه وأخرج قداحة واستنشق أنفاس ليست بقليلة من تبغه وهو يفكر في سؤاله التالي جيدًا فلابد أن يكون منطقي وابنه يخبره بهذه الأنباء:

-       طلقتها ليه؟

 

اختفى فمه بين لحيته وشاربه حتى أصبح خط مستقيم وحمحم وهو لا ينظر له مباشرةً وأخبره باقتضاب:

-       متفقناش!

 

همهم والده وهو يلاحق كلمته بزفرة لأدخنته ثم سأله:

-       وده كان قرارك ولا قرارها؟

 

أن تقوم بمعايشة الأمر شيء، وأن تتحدث عنه تجربة مختلفة تمامًا، ماذا عليه أن يقول؟ بم عليه أن يجيب؟ هل عليه اخباره بأن ما حدث بينهما كان ارادتها؟ أم أنه كان الحل الوحيد بعد كل ما حدث؟ كيف سيخبره أنه فقط أراد أن يقوم ولو بفعل شيء ضئيل كما يحلو لها وارادته طوال زواجهما!

-       احنا الاتنين!

 

كذب لأن هذا هو الحل الوحيد أمامه، ورأى الآخر كذبه الذي آتى بعد مُدة من التفكير، ولم يقتنع أبدًا بقوله ثم سأله هاكمًا:

-       وهو الطلاق يستاهل إنك تموت نفسك؟

 

أغمض عينيه وهو يزفر بإرهاق وقام بتخليل شعره الطويل الملتف حول بعضه البعض بعد تلك الأيام الطويلة التي لم يلمح نفسه بالمرآة خلالها ولم ينل هذا اعجاب والده بالطبع ثم نظر له بجدية ليقول:

-       أرجوك يا بابا، اللي حصل وقتها كان صعب علينا احنا الاتنين، فبلاش نتكلم فيه!

 

همهم له بتفهم وتريث لبرهة ثم أخبره قائلًا:

-       بلاش.. أهم حاجة إنك بخير، وخلاص، ما دام ده قراركم انتو الاتنين فوق بقا لشغلك وحياتك وهتلاقي كمان اللي أحسن منها!

 

نظر له نظرة جانبية وحاول أن يسيطر على تلك الرغبة في البكاء ونظر نحو الأرضية لكي لا يلمح طيف الدموع الذي توارت خلفه مُقلتيه خوفًا من الفكرة، لا بل ذعرًا شديدًا، هل هناك امرأة أفضل منها بعينيه؟ لا يظن هذا!!

 

استمر الصمت فيما بينهما لفترة فنهض والده وهو يسير بمكتبه وحدثه قائلًا:

-       أنت عارف إني كنت معترض على البنت دي من أول ما شوفتها، بس من وجهة نظري إنها مش هتسكت، وعارف أنت عملت فيها ايه كويس.. لازم تاخد بالك إنها هتعملك شوية مشاكل ويا ريت من الأول تكون مستعد للي هتعمله!

 

أطلق زفرة ساخرة وعقب على كلماته برفض قاطع وثقة ليست لها نهاية:

-       روان مش هاتعمل حاجة.. وحتى ولو عملت أنا هتصرف!

لمحه من على مسافة وتوقف وهو يغمغم في تكرار مشتقًا من كلماته ومط نطقه للحروف:

-       ولو عملت، ولو عملت!

 

التفت نحوه ناظرًا له بتفحص ثم أخبره:

-       أنا مفرضتش عليك تتجوز مين ومتتجوزش مين، مقولتلكش ازاي تطلقها ولازم ترجعلك ومدخلتش في أي تفاصيل، بس لو الموضوع ده حصل بسببه أي شوشرة أنا مش هاسكت.. وأنا وأنت عارفين إن أي حاجة بتطول واحد فينا التاني بيتأثر بيها!

 

اتجه لمقعد مكتبه ثم جلس عليه بزهو وابنه يتابعه بفحميتين متأنيتين ولا يريد سوى أكثر من أن يذهب ويغادره قبل أن يترك تعليق سخيف على مظهره أو ضرورة عودته لعمله ولكن عليه أن يتحمل أولًا خوفًا عليها، فهي لا تعلم ما إمكانيات رجل مثل والده إلى الآن وليست على دراية بما يُمكنه فعله!

 

-       عمر الجندي زي يزيد الجندي بالظبط، الشطارة، النجاح، معروفين انهم رجالة وكلمتهم واحدة.. عيلتنا كلها معروفة.. تفتكر لو أي حاجة اتقالت عن واحد فينا، أنا أو أنت أو حتى واحد من اعمامك ولا أنس ابن عمك الباقي مش هيتجر في الرجلين معاه!

 

زفر بإرهاق وسأله مستنكرًا بانزعاج وهو يشعر بأن صداع رأسه يأبى التوقف وعقله لا يريد مواكبة تحذيرات والده ولا يُصدق أنه سيستخدم تلك الحجج الواهية في محاولة إيقاف ارتيابه:

-       حاجة ايه اللي هتتقال يا بابا؟ إن واحد طلق مراته فده خلاص هيوقع العيلة كلها؟ ما احنا كل يوم بتجيلنا قضايا الخلع والطلاق.. كان ايه اللي حصل! الناس بتتطلق وبتعيش وسمعتها مبتتهدش يعني ولا بيجرالها حاجة!

 

التوى فمه بحركة جانبية ساخرة ثم تحول هدوئه وطريقة مجاراته في الحديث إلى نبرة جدية ولهجة آمرة صريحة تجاهه باطناب لن يترك له سوى الانصياع لما يقوله وفهم تحذيره جيدًا:

-       الناس تطلق وقضايا، ماشي، بس بلاش اقولك كلام زي عيلتنا مش كده وميصحش، مش أنا اللي هقولك تتصرف ازاي ومتتصرفش ازاي، أنت خلاص راجل كبير مع إني هافضل طول عمري أكبر منك ومحدش في الدنيا عايز مصلحتك قدي.. بس هقولك حاجة تانية، هكلمك بدماغ المحامي اللي أنا وأنت بقالنا سنين بنفكر بيها.. إيه اللي يخلي بنت زيها تاخد منك فلوسك، وتسجلك كلامك معاها، وتمسك عليك فيديو، ولما تشوفك واقع وبتنزف ميفرقش معاها غير انها تهرب وتبعد، سواء متطلقة منك أو لأ.. اللي تتصرف بالطريقة دي مع جوزها عمرها ما هتسكت.. والشوشرة جاية جاية!

 

زفر بإرهاق ورأسه لا تنفك تذهب لكل ما فعله بها إلى أن أوصلها إلى حالة من الفشل الذريع بعد محاولاتها لصوغ جملة واحدة ولم يحدث سوى بعد أن حاول قتل نفسه ليستمع لها تنطق بشيء لم يتبينه وقتها ولكنها تحدثت على ما يتذكر.. التشويش لا يتوقف، وكلمات والده تفاقم من صعوبة الأمر عليه!

 

نهض بتحفز ثم تحدث له بجدية:

-       عشان نخلص الكلام ومنقعدتش نتناقش لغاية بكرة الصبح، أنا هتصرف لو هي عملت حاجة.. وكل اللي أنت بتقوله ده ليه أسباب كتيرة أوي أنا وأنت في غنى عن تفاصيلها، واللي هي شافته على ايدي مكنش سهل.. فمن الآخر بلاش تدخل.. أنا هقدر وهاعرف اتصرف لو حاجة حصلت!

 

أومأ له بالموافقة وضيق عينيه نحوه بنفس نظرة التفحص التي تنعكس على كل من وجوههما عندما يريدان تبين صدق من أمامهما وأخبره مباغتًا سؤال جعل لسانه ينعقد:

-       تقصد اللي شافته في الأوض بتاعتك اللي موجودة في كذا بيت ليك؟!

 

كان يتوقع الكثير من التخمينات بصحبة والده، ولكن أن يحدثه عن هذا تحديدًا لم يكن من حساباته على الاطلاق، بل هو حتى لم يتوقع معرفة والده عن هذا الأمر في يوم من الأيام ووفر عليه والده تلك الصعوبة التي تلوح على وجهه واطنب من جديد:

-       اسمع يا عمر، البنت دي لو دورت وراك مش هتلاقي ولا اوضة من دول، كل الأوض دي اختفت.. وأنت حر اعمل اللي أنت عايزه بس اتعلم تاخد بالك، أنت راجل ومش صغير، مش هتعرف تثبت عليك أي حاجة حصلت.. هي معهاش غير الفيديو اللي سجلتهولك قبل ما تختفي معاها.. ولعلمك الفيديو ده وصلني وعرفت اسيطر إنه ميخرجش من ايدي، أنا مش صغير عشان حد يمسك حاجة يهددنا بيها.. اتصرف معاها أو متتصرفش، مراتك وحاجة ترجعلك، إنما لو حصل وأي كلمة سمعتها عننا معجبتنيش.. أنا، أو أنت، أو عيلتنا، بأي شكل ممكن يؤثر على سمعتنا ساعتها البنت دي أنا اللي هتصرف معاها ومش هستناك أنت تتصرف!

افتكر كلامي ده كويس يا عمر، أنا حذرتك قبل كده ومسمعتش كلامي، يا ريت المرة دي تبقى غير أي مرة وتبدأ تفهم إن واحدة زيها عمرها ما كانت سهلة!

 

--

توجه للخارج وعقله مرتبكًا بتحذيرات والده ولتلك الحقائق التي باتت مكشوفة أمام عينيه عنه هو نفسه والتشويش الذي يشعر به لم يعد يستطيع تحمله بصحبة الصداع والارهاق، ليتهم لم يوقظوه من تلك الغيبوبة، وليته استطاع أن يقتل نفسه يومها..

 

لاقى أخيه في طريقه إلى الخارج وهو يغادر متجها نحو المصعد ولكنه لم ينتبه له سوى عندما قام بمناداته متعجبًا:

-       استنى أنت رايح فين؟ وبعدين انت لحقت تخلص معاه كل حاجة؟

 

نظر له بملامح متأهبة، أو لصوغها بشكل أوضح كانت أقرب للفزع من التأهب، بينما لم يجد اخيه سوى أن يفسر ما يراه بالضياع التام وخصوصًا وجهه بالسابق كان يتضح عليه الاتعاب أما الان فهو يُشابه رجل في انتظار سماع النطق بحكم الاعدام عليه بأي لحظة قادمة فحاول أن يتفهم ما الذي جعله بملامح رجل ميت هكذا فقد يكون والدهما لديه خطة أخرى لا يعلم عنها أحد:

-       أنت كويس يا عمر؟ ايه اللي حصل مع بابا

 

حاول أن يبحث بداخل عقله عن إجابة ولا يدري ما الذي حدث ولا يدري ما الذي سيفعله والده بتهديده السابق ويبدو انه قد وصل إلى الحضيض في سقوط كامل اقنعته، فلقد بدأت هي بانتزاع أول قناع بيدها، وبعدها توالى كل ما احتمى خلفه لسنوات طويلة تباعا حتى يعود من جديد ويصبح هذا الطفل الخائف من كل شيء ومن شدة خوفه لا يمكنه اتخاذ خطوة دون أن يشعر بأن ما يوشك على فعله هو مجرد خطوة أخرى خاطئة!

-       أنا مش عارف!

 

عقد "عدي" حاجباه متعجبًا وحاول أن يُفسر كلماته:

-       مش عارف ايه؟ ولا مش عارف بابا ناوي يعمل ايه؟

 

تفقده في حالة من عدم التركيز ثم أتت نبرته متوسلة بكل تلقائية لم يستطع أن يتحكم بها ولكن دون قول هذا صراحة ‏بإقرار منه:

-       روان قالتلك ايه يا عدي؟ اتكلمت معاها فـ ايه؟ أنت ليه مش عايز تجاوب سؤالي؟

 

كلما حاول أن يجيبه انعقد لسانه بينما حالته أمامه لا تتغير ليخبره في النهاية:

-       هحكيلك بس مش هنا.. مش هنوقف نتكلم قدام الناس، تعالى اروحك بيتك وهحكيلك في الطريق..

--

مساءًا في نفس اليوم..

الصدمة ما هي إلا مجرد حدث يواجه المرء، قد يكون موقف، كلمة، مناقشة، أو الأكثر من هذا حتى نصل لدرجة الموت والعذاب والسجن أحيانًا.. وما يحدث للإنسان أن عقله يرفض هذه الأحداث، يرفض أن يصدقها أو يتقبلها أو يتعامل معها، وبعدها يبدأ في تكوين ردة فعل تجاه هذه الاحداث..

 

ولكن تعامل الإنسان مع الصدمات القاسية ليس واحد، هناك من يبكي، وهناك من ينتقم، ردود الأفعال مختلفة، البعض يقاوم، هناك من يهرب بكثير من التصرفات العديدة، والبعض الآخر يفعل ما اعتاد أن يفعله دائمًا كما عهد عن نفسه، النظرة نفسها لخلفيات البشر وكيف نشأ كل منهم هي من تحدد ردود أفعاله أمام أي أمر طارئ يحدث..

 

وكما اعتادت أن تفعل ما يحلو لها، وكما كانت ناجحة كثيرًا في حياتها منذ أن كانت فتاة صغيرة، وشعور الحُرية الذي افتقدته بشدة طوال العام الماضي، وخوفها من الفشل بأعين الجميع، حركتها كل دوافعها لتتصرف بناء عليها.. وأمّا عن صدمتها وما عايشته معه من أحداث تستحق المكوث بمصحة نفسية لشهور، تعاملت معها بنفس التجاهل الذي تعاملت به معه ببداية زواجهما عندما اكتشفت أن زوجها رجل سادي! ما زالت تحتاج الوقت الطويل لمعالجة الأمور بعقلها واستيعابها ثم التصرف فيما يحدث لها!

 

استيقظت جالسة تتلفت حولها يمينًا ويسارًا في حالة من الذعر التام والقت بتلك الأغطية أرضًا ثم لهثت وهي تحاول أن تهدأ من نفسها وتذكرت الآن أين هي وفهمت أنها تُعاني من تكرار هذا الكابوس مرة أخرى وبمجرد هدوئها في الظلام بدأت في الشعور بصداع رأس قاسي لا ينتهي بمجرد استيقاظها واتجهت يدها وهي غامضة الأعين نحو موضع المسكن الذي بات من الصعب الاستغناء عنه لتتناوله في الظلام الدامس وبعدها جذبت هاتفها لتتفقد الوقت لترى أنها لم تلبث سوى ساعتان من النوم، وكل عظامها تشعر بالألم بها..

 

حاولت النوم من جديد ولكن بالطبع هي ليست بالجنة لتحقق كل ما يخطر على بالها، لم تمت بعد، وهذا هو السبيل الوحيد لتحقيق كل ما باتت تتمناه مؤخرًا، النوم بصورة طبيعية كالبشر، دون اللجوء لمنومات ومسكنات وشراب كحولي حارق المذاق!

 

اغمضت عينيها تعتصرهما ثم مدت يدها لتقوم بإضاءة النور الجانبي لفراشها وبدأت بهدوء تفتح عينيها حيث أنها ستصاب بمزيد من الآلام لو لمحت أي أضواء وبعد هنيهة بدأت عسليتيها في التأقلم على الضوء ثم امسكت هاتفها وتفقدته ومنه إلى جدول اعمالها بالغد لتتفاجئ بأنها ليس لديها أي من الأعمال لمدة ثلاث أيام قادمة، وهي من كانت تمنع نفسها عن الاسراف في تناول المشروبات، متى ستستطيع التركيز بأي شيء سوى العمل؟!

 

اراحت رأسها للخلف لمدة وهي تغلق عينيها في انتظار أي من تلك العقاقير أن تبدأ في العمل بينما لم يتبدل وضعها فحاولت أن تتنفس بعمق وهي تغمض عينيها في حالة من الاسترخاء فلم يُفلح الأمر وسرعان ما اضطربت أنفاسها وهي تتذكر ما حدث قبل بداية رحلتها الطويلة بالكثير من البلاد الأوروبية ورغمًا عنها وجدت نفسها تجذب قدميها للأعلى لتعانقهما لصـ ـدرها..

-       عمر مريض، محتاج علاج وأدوية، وبعد اللي عمله مش بعيد يتحجز في مصحة، بس ده ميدلوش العُذر، واللي باباك عمله، أنا مش هعدي كل اللي حصل ده بالساهل.. يجيلي في بيتي ويهددني إني قتلته! أنا عمري ما هانسى أي حاجة، سواء منه في وقت زي ده ولا من عمر!

 

-       طيب ممكن تفهميني ايه اللي حصل بينك وبين عمر؟

 

 

-       اسألوه، أو أسأل باباك، مش هو برضو بيعرف يوصل لكل حاجة؟!

 

-       روان ارجوكي انتي عارفة إن أنا وبابا مش قريبين، فهميني يمكن اعرف اتصرف أنا أو أنس، وعلى فكرة عمر احتمال كبير ميفوقش، وقتها فعلًا محدش فينا هيعرف يتصرف!

 

 

يومها لم تستطع أن تُكمل هذه المكالمة، وكأنها هربت من كل محاولات اتصاله، هربت من رسائله كما فعل معها بذلك اليوم المشؤوم، والأسوأ أنها إلى الآن تود الهروب، مما حدث، ومما سيحدث، ومما ترتاب بحدوثه، هي ليست بقاتلة، ولا تريد بعد سنوات أن تحمل هذا الذنب على عاتقها وحدها!

 

منعت نفسها عن تذكر الأمر ونهضت بسرعة لتذهب إلى ركن المشروبات وأمسكت بزجاجة من الويسكي لتثمل ويذهب عقلها ولو قليلًا، فلقد بدأت في اعتياد الأمر، ولكن ربما بعد جرعة كبيرة ستنسى كل ما مرت به!

 

اتجهت لتقوم بتوصيل هاتفها بنظام الصوت وهي تريد أن تُسكت أفكارها بأي طريقة وتنتظر أن تفقد عقلها ولو لبعض الوقت اثناء احتسائها للمزيد من الرشفات وحاولت أن تستجيب إلى صوت الموسيقى وبعد اقترابها من تغيير ولو القليل من افكارها توقفت بمكانها وهي تتذكر المزيد:

- تحب ترقص؟

 

أكملت ارتشاف ما أمامها لتحصل منه على هزة نفي لتنهض في لمح البصر وهي تخبره بنبرة لا تدل سوى عن رفضه وعدم إرادتها سماع المزيد ولا حتى قضاء الوقت معه:

- أوك.. هاروح أنا!

 

ذهبت مسرعة فقد سبقته قبل أن يعطيها أوامر وأحكام واستفزاز قد يقتلها الآن وهي تريد أن تستمتع بوقتها، فلقد اكتفت من هذا الوغد غريب الأطوار بكل تصرفاته معها وغموضه المبالغ به لن يشفع له الآن في هذه اللحظة التي قررت أن تستمتع بها!

بدأت في الرقص ولم تكترث لما يظن بها أو رفضه من عدمه وأخذت ترقص وتتمايل على أنغام الموسيقى بجسدها الرشيق وبدأ أحد الرجال في الاقتراب والرقص معها فهي لم تمانع حقًا، لو كان يشاهدها فليفعل، على كلٍ لم يقم بشيء واحد يجعلها تكترث بغضبه أو عدم تقبله، هو ببساطة لا يملك رصيدًا تستند عليه كي تعطي له في المُقابل اهتمام!

ظلت مستمرة فيما تفعله ولم يفيقها إلا من جذبها بشدة لينهاها عما تقوم به فحاول الرجل الغريب أن يبعده عنها ويدعها وشأنها فما كان إلا أن أصابه بلكمه شديدة مُندفعة أوقعته أرضًا وجذبها وذهب لتتبعه مهرولة خلفه وأدركت خلال قيادته للسيارة أنهما عائدان للمنزل..

 

تفقدته بعينيها المُعترضتان ثم تسائلت بضيقٍ شديد:

- ايه اللي أنت عملته ده يا مجنون؟ ليه تضربه هو عملك ايه؟

 

لم ينظر لها ولو بطرف عينيه ليجيبها بجفاء ونبرة لا تعكس أي من المشاعر حتى الغضب الذي كانت تأمله لم تحصل عليه:

- بمنعك عن القذارة اللي كنتي بتعمليها!

قذارة!! يا ليته كان معها ليرى ما توشك على فعله الآن!!

 

احتست المزيد ثم توجهت لتتناول ثوب ذو أكمام طويلة يصل لمنتصف ساقيها ووضعت القليل من مستحضرات التجميل وهي ترتشف المزيد ثم ارتدت حذاء أنثوي يدعم قوامها وأخذت حقيبة صغيرة ثم توجهت للأسفل، لابد من أن هناك بعض المرح هنا بمكان ما!!

 

اتجهت نحو البار فورًا حيث تلك الموسيقى الصاخبة ونظرت للكثير من الناس لتجدهم يستمتعون بوقتهم، ولم يمر الكثير من الوقت لترى نفسها تستجيب، لا يمنعها الآن شيء ولا أحد لفعل كل ما يحلو لها!

 

وصلة من الرقص انهكت نفسها بها، شعرها الطويل يتمايل هنا وهناك، يرقص معها رجل أم امرأة، أصدقاء أم رجل وامرأة يدعيان العشق، هو أمر مبالغ به على كل حال، آمنت به لسنوات وفي النهاية لم يكن مثل ما تمنت!

 

ليته يراها الآن، هي تفعل كل ما يرفضه، يا لو رآها "يزيد الجندي" سيفقد عقله، قاتلة ابنه تحتفل بصخب بما فعلته، لقد دفعها عشق ابنه للجنون على ما يبدو، أو عذابه وما ارتكبه بها، لا يفرقان الكثير على كل حال!

 

الصخب يزداد، وعدم توقفها يزداد معه، وتتصاعد آلام جـ ـسدها الذي لا يلقى قسط وفير من الراحة، سفر، عمل، أرق، حديث متواصل، حقيبة تُعد وأخرى تُسلم ليد عامل الفندق ليوصلها للأسفل، سائق وطائرة، وشراب، الكثير من الشراب..

 

جولتها الثالثة لاحتساء الفودكا، سيكون يومًا لعينًا ستقضيه بالمرحاض من شدة توعكها وغثيانها بالإضافة إلى كل هذا الويسكي.. الرؤية باتت غير واضحة، وأصوات الموسيقى تبدو جيدة.. جيدة للغاية.. تريد أن تغرق بها حتى تموت.. لو استيقظ من غيبوبته تلك سيكون فخور للغاية بما وصلت له، على الأقل ستُعجبه الآن أكثر!

 

- بنت بريئة وشاطرة وسمعتها مفيش زيها وكل علاقتها بالرجالة شغل ومحاولة خطوبة فاشلة، ندمتي؟!

 

رمشت بأهدابها متعجبة وهو ينطق كلمته الأخيرة ظل رامقًا اياها ليبتلع بقايا ذلك المذاق بفمه مما ادى لتحرك بروز عنقه فحاولت أن تزجر نفسها عن التحديق بتفاصيله واجابته مستفهمة:

- على ايه؟

 

تنهد وتابع بنفاذ صبر موضحًا:

- على انك حياتك كانت مقفولة اوي وملحقتيش تعملي حاجات كتيرة!

 

هزت كتفيها كدلالة على النفي واجابت:

- انا عمري ما ندمت على حاجة في حياتي غير إني اتجوزت واحد معرفتوش كويس قبل جوازي.. 

 

لم يحرك ساكنًا واكتفى بتركيز نظراته الموزعة بالتساوي بين شفتيها الفاتنتين وترقوتها المنحوتة ولم يتأثر بكلماتها ليتناول المزيد من خمره ثم واصل حديثه لها بنبرة نافذة للصبر:

 

- انتي حياتك مملة اوي، دراسة شغل بابا ماما اخويا، مزهقتيش، محستيش مرة إنك عايزة تعملي حاجة مختلفة

 

قلبت عينيها وزفرت متأففة لتغمغم بصوت يكاد لا يسمع:

- حابسني هنا علشان شوية اسئلة وجودية..

 

- واحدة زيك اكيد عمرها ما اتبسطت

 

احتسى المزيد واغلق عينيه واعاد رأسه للخلف اكثر وكأنه لا يكترث بردة فعلها وتكلم متهكمًا:

- عمرها ما شربت، ولا قضت ليلة مجنونة ولا سافرت مع اصحابها.. مجرد ست مصرية مملة زيك زي غيرك

 

انزعجت من اهانته لها واحتقن وجهها بالغضب منه لتجده يتابع بنبرة مُسترخية:

- اظن لولا شكلك مكنش فيه حد ممكن يقرب منك، ممكن اي راجل يفكر يتجوزك مش اكتر لو كان شكلك مش حلو، ومن وراكي هيخونك

 

تعالت انفاسها وهي تحدجه بحقد ليستمع لحركات طفيفة بالماء تدل على عدم استرخاءها وانزعاجها الشديد من كلماته فأكمل:

- يمكن لو كنتي اتجوزتي واحد خام ولا مبيفهمش في الستات كنتي حتى هتكوني مملة معاه في السرير.. بس شكلك محظوظة مش اكتر..

 

عدل من رأسه ونظر إليها ثم حدثها بنبرة استفزازية

- مظنش واحدة زيك تعرف تتبسط، تشرب، تضحك وتهزر.. 

 

قلب شفتيه وهو يرمقها مضيقًا عينيه ثم واصل كلماته:

- أنا بشفق على نفسي ساعات اني اتجوزت شخصية زيك وحتى بعد ما عرفت انك مملة لسه مدلعك اوي.. احيانًا بفكر إن لو كنت قدرت اسامح يُمنى على اللي عملته معايا كانت هتبقى احسنلي بكتير.. 

هذه هي الجولة الرابعة اليوم، لا بل الليلة، تقصد منذ آتت إلى هنا، لو يشاهد الآن ما تفعله سيموت من شدة غضبه، فكل من عرفهن من نساء يشابهن الجماد، أو الحيوان الأليف، لا تتحدثن سوى بالسماع والطاعة لسلطانهن المغرور الحقير!

 

انطلقت ضحكة رنانة منها ولم ينبهها لذلك سوى هذا الرجل الذي جلس بجانبه وهو يصرخ بالقرب من اذنها لكي تستطيع سماعه:

-       على القول بأن ضحكتك أيضًا فاتنة، وليس رقصك فحسب!

 

ضحكت من جديد وهي تتجرع هذا الكأس الصغير دُفعة واحدة وأشارت للنادل بإحضار المزيد وحدثت هذا الغريب دون أن تكترث من هو ولا بم تخبره به فعقلها ليس واعي بالكامل:

-       عليك رؤيتي في الفراش، أنا رائعة، ولست مملة على الاطلاق!

 

كلماته تسيطر على عقلها، لا تُفكر سوى بها، ولا تتذكر سوى كل سوء بدر منه، ولم تكترث لهذا الفرنسي الذي اندهش من قولها فحتى كبداية حوار لا يصح لامرأة أن تقول هذا أبدًا، ولكنها ظنت أنها استمعت له يقول شيئًا:

-       ماذا قلت؟

 

سألته فأعاد سؤاله من جديد:

-       هل هناك ما يدعو للاحتفال؟ أم هذه مجرد ليلة مثل ليالٍ كثيرة؟!

 

رفعت يدها وهي تشير له باسطة اصبعيها كدلالة على الرقم اثنان بينما احتست المزيد فسألها مرة ثانية:

-       بم تحتفلين اذن؟!

 

اغمضت عينيها وهي تبتسم واجابته بالفرنسية:

-       حُريتي

-       وهل غادرتِ السجن مؤخرًا؟

 

نظر إليها نظرات مفتون بحسنها وهي ما زالت غامضة لعينيها وأومأت له بالموافقة وهي تهمهم ثم قال متغزلًا:

-       لم أكن أعلم أنهم يأسرون الفاتنات هذه الأيام!

 

اصابتها نوبة من الضحك الشديد ثم نظرت له وأخبرته:

-       عزيزي، هم لا يقوموا سوى بسجن الفاتنات، الناجحات، وكل امرأة لديها القدرة أن تفعل الكثير، أو على الأقل لقد كان يفعل هو، وكأنه لا يختار سوى النساء المتفوقات عليه دراسيًا، وعمليًا، وحتى أُسريًا

 

عقد حاجباه وهو يتعجب من حديثها ثم سألها من جديد:

-       من هذا؟!

 

ابتسمت له وهي تشرد بثمالة ثم اجابته:

-       حبيبي!

 

استغرب الرجل من كلماتها وغمغم:

-       هل أنتِ ثملة لهذه الدرجة؟

 

رفعت حاجبيها بتلاعب وأخبرته بدلال متسائلة بمرح:

-       وهل لدي حل آخر؟

 

هذه المرأة ثملة بشدة، ولكنها فاتنة، لابد من أن يحاول معها مرة أخيرة:

-       لدي أنا حل آخر.. ولكن اخبريني أولًا، ألا تريدين مغادرة هذا المكان والذهاب لمكان آخر يُمكننا أن نتحدث به بعيدًا عن هذا الصخب؟!

 

ضحكت من جديد وهي ثملة للغاية لتجيبه:

-       لقد طفح الكيل من الحديث والثرثرة!

 

نهضت من على مقعدها بخطواتٍ مترنحة فاسندها بتلقائية لتنظر له مليًا ثم أخبرته:

-       أنت حتى لا تبدو جذاب مثله ولن استمتع بالحديث معك، أنت لست هو، عذرًا عزيزي، لو رآني معك سيقتلنا سويًا، استمتع بليلتك، وداعًا..

 

قامت بالتوقيع على تلك الفاتورة وهي بالكاد ترى أمامها ومشت بخطوات مترنحة تستند على الجدران ومنها للمصعد حتى وصلت لغرفتها وألقت بنفسها على الفراش لتتناول هاتفها بصعوبة وحدقت به لتتفقد رسائلها بصعوبة بعد تشويش الثمالة الشديدة عليها وشعرت بالغثيان الشديد لتهرع نحو المرحاض بعد أن قرأت احدى الرسائل على هاتفها:

-       اطمني، عمر صحي وبقا كويس!

يُتبع..