-->

الفصل الثلاثون والأخير - الجزء الثاني - كما يحلو لكِ



الفصل الثلاثون
النسخة الفصحى
الجزء الثاني والأخير

شكر خاص لـ سمر إبراهيم للقيام بتعديل 

الحوار للفصحي


 

فحميتين باهتتين، وصراع عقلي مرير لا يستطيع الصمود أمامه، وحقائق من سرقتها ومحاولة تهديده بما باتت تملكه بين يديها ثم خيانتها له مع رجل آخر أو حتى الاستعانة بها ليُساعدها بالهروب ومحاولتها أن تصوره كمجنون أمام الجميع، حتى "يُمنى" بكل ما ظن أنه عاناه معها نفسها لم تفعل به مثل فعلتها هي..

 

لطالما حذره والده منها، وكالعادة كان مُحقًا في كل كلماته عنها، لا يُصدق إلى الآن أنه كاد أن يُعاديه من أجلها، عشق النساء ما هو إلا عذاب والمغفل مثله من يُلقي بنفسه إلى التهلكة الأزلية!!

 

اتجه للخارج وهو يُمسك بالصندوق البلاستيكي ثم القاه بداخل الآخر الزجاجي وأحضر ترياق هذا العقرب السام واعطاه لها حاقنًا وريدها به وجلس على طرف هذا الفراش وتفقدها بتحديق طويل لم يُدرك لكم من الوقت، لا يعرف بعد أن مع قلة الطعام المُقدم إليها ودمار عقلها وجهازها العصبي قد تفقد الرغبة تمامًا في الاستيقاظ، وكأنما المتبقي بداخلها من عقل يُدافع عنها لكي لا تعود لهذه الحياة، فلقد ذاق وبالًا من العذاب لم يعرف أنه موجود ولو حتى بالخيال!

 

امتدت يده تلقائيًا لكي تزيح خصلة من خصلاتها ولكنه توقف بيد مرتجفة من شدة الغيظ بداخله، لقد أخذ على نفسه عهدًا بألا يلمسها.. ولكنه يرتدي قفازه، لن يكون تلامسًا فعليًا أليس كذلك؟!

 

نظر حوله ثم ذهب ليُغلق الباب وجلس بجانبها ولم يفعل سوى تفريق نظراته بينها وبين محتويات الغرفة، شعور يلتهم العقل، لم تمر سوى نصف ساعة وشعر بالوحشة وثقل غريب على صدره من تأثير هذا اللون عليه!

 

قرر أن ينظر لها بدلًا من هذا اللون لكي يتوقف عن اهلاك عقله – المتضرر بالفعل دون وعي منه ولا معرفة – هناك غضاضة تعتصر قلبه حُزنًا، لقد كانت حياته مثالية منذ عشرة أيام، كيف يُمكنها أن تقلب حياته رأسًا على عقب بهذه الطريقة؟!

 

-   لماذا منعت نفسك من لمسها؟  حزين؟   

 

 

ابتلع وهو يعقد حاجباه ولا يدري لماذا يستمع لصوته المفكر هذا الآن، واليوم، وتحديدًا بهذه اللحظة؟! لماذا يلازمه صوت أفكاره في أصعب الأوقات عليه على الاطلاق؟!

 

-      لا تستطيع لمسها لأنها خائنة، أم لأنها خدعتك، أم لأنك قد أحببتها بصدق ولم تكن تريد لها أن تصاب بالجنون.

 

 

حاول أن يتوقف عن التفكير بهذه الطريقة بينما لح عليه عقله – كما يعتقد ويظن ولكن حقيقة الأمر أن هذا الصوت هو هلوسات سمعية متأصلة بداخله – وظل يتفقدها ليتعالى صوته القاسي الذي لا يرأف به صارخًا:

-   لما لا تقتلها وتستريح؟ لماذا اعطيتها الترياق من الأساس؟ إنها لا تستحق.

 

صوت أفكاره مُحق، بينما تلك العضلة بقفصه الصدري تأبى تخيل البقاء دونها، ولكن هذا ما عليه فعله، هي زوجته وليست زميلته بالجامعة، هو رجل بالغ ذكي وليس فتى مراهق صغير، يحق له قتلها، ويحق له عذابها كما فعلت وهي تعذب عقله بحقيقة أنه كان مُغفل وساذج طوال المدة السابقة!

 

شعر بضجيج برأسه كطرق مستمر لا ينتهي حتى كاد أن يفصل رأسه عن جسده، لماذا يحدث له كل ذلك معها؟!

 

-      لو كنت استمعت لنصائح يزبد الجندي منذ البداية لكانت تعمل لك ألف حساب الآن.

 

تفقدها وتأثرت ملامحه ثم وجد دموعه تنهمر رغمًا عنه وهو ما زال ينظر لها وهو لم يشعر قط بمثل خيبة الأمل التي تحتل كيانه مثل الآن وما زالت هي الأخرى فاقدة لوعيها تمامًا بينما بدأ هو في نفس الوقت يفقد جزء من وعيه بشكل مختلف آخر يتناسب مع تهيئة عقله الفاسد!

 

اقترب منها والقى برأسه بمنتصف صدرها ثم انتحب بشدة، هل أخطأ بحق نفسه عندما ناقض كل ما عاهد نفسه عليه؟ لماذا لا تريد البقاء معه للأبد؟ لماذا فضلت عليه رجل آخر؟ ولماذا قامت باستغلاله؟ لو كانت طلبت كل ما يملكه ورؤية كل ما فعله يومًا لكان أعطاها كل ما تريده!

 

لم يكن يبدو عليها أنها امرأة مستغلة، ولا خائنة، وحياتها كانت خالية من العلاقات، لماذا لم يكن كافيًا لها بعد كل ما حاول أن يفعله من أجلها؟ لماذا لا يتقبله أحد ولم يتقبله أحد طوال حياته؟ كان مستعد أن يتخلى عن الحياة من أجلها، بل فعلها لشهور طويلة وأوقف دُنيته بأكملها عليها.. لم ارتكبت بحقه هذه الجرائم؟!

 

كيف يعمل عقل رجل مثله؟ تقلبات مزاجية شديدة، هوس، مزاج معتدل، سقوط في نوبة اكتئاب، تتراوح شدتها بين الخطورة وبين ما قد تتحمله النفس البشرية، بسبب وبدون، هناك في الأساس خلل في الموصلات العصبية بداخل عقله، تلك المواد الكيمائية التي تتفاعل مع بعضها البعض لتضمن لعقله القدرة على التفكير بصواب وفعل تصرفات منطقية نسبها نفسها غير متوازنة..

 

من حسن حظها أنه لم يرتاب بها بالسابق دون سبب أو دليل ملموس، عقله يعمل بهذه الكيفية، يغضب ويرتاب ويحزن ويفرح وينشط ويخمل دون سبب منطقي، ومن حسن حظه أن وجودها بجانبه ضمن له القليل من السلام العقلي الوقتي.. أحيانًا يكون العشق والدعم مُسكن، ولكنه لم يكن علاجه الذي سيُنجيه!

 

الأمر ليس خيانة امرأة ولا عشق، وليس استغلال، وليس إعادة القصة وتكرار الماضي، ولا الألم، ولا كل تلك الأفعال التي قد يواجهها المرء بحياته من أحداث قد يكون مُذنب وجاني بها وقد يكون ضحية، الأمو وما فيه هو أن العقول المريضة لا تصلح لتفهم ما يحدث حولها بتفكير سليم أو سوي، رأسهم لم تُصنع لهذا لو تركت دون وعي وفي الكثير من الخالات لابد من تدخل دوائي عاجل..

 

تشبث بها أكثر ونحيبه يتعالى بدون شعره، ألم بصدره لا ينتهي، يبكي عليها، من أجلها، أو يُرثي على ما يحدث له، وحالة من اللاوعي أخذته لشعور الحاجة في عناق طفل لأبيه، أو لأمه، أو لأي مخلوق يتقبله مثلما ظن أنها تفعل في يوم ما..

 

زجره صوته بسؤاله السخيف ليجيبه ببكاء ونبرة مسموعة:

-     أتعلم ما الذي سيقوله يزيد الجندي لو رآك الآن؟

  

-     ليقول ما يقوله، أنا لن أستطيع أن أعيش بدونها، أنا لم أكن أريد أن اقتلها أو اصيبها بالجنون، ولكنها هي من جعلتني أفعل ذلك بها.

 

 

تحدث ببكاء، وتشبث بها بتعلق مرضي وكل ما يُسكنه أنها لا تدري بأي مما يفعله، ولا تستمع له، لقد كان يحتاج لهذا أكثر من أي شيء، يريد أن يُعاتبها أو يلومها أو حتى يسألها لماذا فعلت به كل ذلك؟ هي لا ينقصها أموال، ولم يتوقف عن محاولة اظهار عشقه لها وجعلها أولوية قبل كل البشر في حياته بل والأشياء، ما الذي تريده أكثر من هذا؟ لماذا تريد أن تكون هذه نهايتهما؟! هو لم يكن يريد أن يعنيان ولا يفترقان، كيف حدث هذا بين يوم وليلة؟!


--

سخونة رهيبة وكأنها وقعت بقاع الجحيم تنتشر بجسدها، جفناها كأنهما جبلان يأبيان التزحزح من مكانيهما، وهناك ذلك الثقل الرهيب الذي تشعر به يطبق على جسدها!

 

وجوه كل من عرفتهم في حياتها تتحول لوجوه بيضاء بالكامل، منعدمة الملامح، وهناك مياه تأتي من كل مكان تبلل جسدها وتدفعها للأسفل، لابد من أنه قد ربط بدنها وثبت به صخرة ثم اغرقها بمياه ساخنة، لا تشعر بعد بأنه هو من يعانقها، ولا تعي أنها تُعاني من حمى شديدة بفعل لدغة ذاك العقرب لها، والهذيان الذي وقعت به أثر لكل ما حدث لا يخبرها بعد أنها تتعرق بشدة..

 

لقد كانت خائفة من أن يفعل المثل بوالدتها أو أخيها، هي تعرف أنه كان لينتقم، ولكنها كانت نصيحة "مريم" إليها، أن تقوم بالإبلاغ عنه والحصول على دليل ضده تجاهها هي وليس تجاه الآخرين في قضايا أغلقت منذ سنوات، وأن تقوم بطلب المساعدة من اقرباءه، وأن تبتعد بأسرع ما يكون، لقد كانت تعرف أنها ستتعرض لعذابه، ظنت أنه قد يلمها ويقسو عليها ولكن ليس بمثل هذه الطريقة..

 

تذكرت المزيد، في أي وقت يصعب عليها ما تتحمله عليها أن تتشبث بالحب، حب نفسها وهذه العلاقات السعيدة في حياتها، أن تقدرها، أن تتيقن أنها ستعود إليها يومًا ما وستمتلك الكثير من العلاقات الأخرى، أخيها، والدتها، نجاحها بعملها، ذكائها في تبين الكثير وصمودها أمامه ومعه طوال كي هذا الطريق، هي لم تكن سيئة بالكامل، لقد حاولت، الابتعاد عنه هو الصواب، لم يقتنع قط بشأن مرضه.. وحتى في اللحظات الأخيرة كان يُنكر الأمر باستخفاف منه..

 

والدها هو أكثر شخص تحتاج إليه الآن، تحاول أن تتشبث بالذكريات السعيدة معه، ابتسامته، الثناء عليها، ملاعبتها وهي طفلة، أول مرة قام بتعليمها القيادة على سيارته وهي بالصف الأول الجامعي، أول سيارة ابتاعها لها، ليته كان معها، أو ليتها ماتت بالفعل وبنهاية هذا النفق أبيض اللون ستجده.. هل تستمع لصوته يبكي من أجلها؟!

 

أطلقت أنين ببكاء وشعرت بأن صوتها يأبى المرور عبر حبالها الصوتية وهذا الثقل لا يبتعد عنها، وكأنه يحول بينها وبين وصولها لوالدها، لابد أن هذه سكرات الموت، أو هي تحلم، تتشبث بتلك الأوقات السعيدة مع والدها لعل الآلام تتوقف وتبارحها دون رجعة..

 

التفكير بمن تحبهم وتفعل كل هذا من أجلهم كان ما تتعلق به، لو ساءت الأمور هذا كان غايتها، أن تعود سالمة عندما يجدها أخيه أو ابن عمه وزوجته، وقتها سيستطيع الجميع رؤية ما يفعله، قد تكون مُعذبة أو يحتل جسدها الآلام، ولكن فليقنعه الآخرون، لقد كانت هذه نهاية محاولاتها معه، أن يره أحد منهم في وقت جنونه، وستعود هي لأخيها وتعانقه، وستخبر والدتها أنها بخير، تود بشدة عناق يجمعها بأي منهما، وفي وقت ما سينتهي هذا الكابوس، ولكن لماذا بعد كل تفكيرها بعائلتها وبنفسها تشعر به؟! هذه رائحته! هي تعرفها جيدًا، ليس هذا ما تريد أن تتشبث به، بل تريد تذكر من تُحبهم، ما الذي يفعله بها؟ هل يقوم بدفنها حية وهذا ثقل التراب فوقها؟ أم أنها ماتت وهذا هو شعور الموت؟

 

أطلقت أنين مصاحبًا لكلمات لم يفهمها وكأنما عُقد لسانها، نبهته من غفلته بإرادته أن يختفي هو نفسه من الوجود بين ذراعيها، واتكأ على يديه يرفع بدنه عنها ثم اقترب يحاول أن يستمع لما تقوله ليشعر بسخونة جسدها وازدياد تعرقها، هو لم يمسها، ولا يستطيع فعلها، ليس بعد أن قامت بمنح نفسها لرجل آخر، لقد حالت بينهما الملابس، واقتنع تمامًا بهذه الفكرة الساذجة..

 

نهض وهو يحاول السيطرة على بكائه وابتلع بقايا دموعه ثم مسح وجهه وتظاهر بالصلابة وناداها ببرودة حاول أن يُزيفها:

-       روان، استيقظي.

 

استمعت لصوته أو ما شابه صوته، فتصاعد أنينها وارتفعت ضربات قلبها تلقائيًا في خوف ثم ثبتت تمامًا استسلامًا لحالة من فقدان الوعي!

 

تفقدها بحسرة ثم حملها وهو مقتنع أنه لا يلمسها، يقنع نفسه بأنه سيستطيع الاستمرار، ويقنع نفسه أنه يمكنه مواصلة هذا، ولكن ما لا يعرفه أنه سيسقط بهوة اكتئاب عميقة ليس لها بداية من نهاية!

 

توجه ليبدل ملابسها لملابس غير مكشوفة، وما رآه منها حرك مشاعره نحوها برغبة ضئيلة، ليزجر عقله الأهوج بولعه بها الذي يستمر في اغرب الحالات، حتى وبعد خيانتها له بتلك الطريقة واستغلالها لعشقه، كيف يقبل على نفسه مثل تلك الخيبة؟!

 

نفض عقله من تلك الفكرة المقززة الدافعة للغثيان وقام باستدعاء الأطباء، الجميع ينظر له بهول من حالتها، ضربات قلبها غير المنتظمة وحالة الحمى الشديدة وموضع الحقن بذراعها وافتقارها للتغذية على ما يبدو لأيام..

 

قال أحدهم ومسعف آخر يقوم بوضع أنبوبة مغذية لوريدها مباشرة:

-       حالتها صعبة، جسدها ضعيف جدًا، ومن الواضح أنها مصابة بالتسمم

 

ابتلع الرجل من تلك الملامح الباردة التي غلفت وجهه ثم فاجئه برده المقتضب:

-       هي أخذت مضاد التسمم هذا، هل ستموت؟ أم مازالت ستكمل؟

 

تردد الرجل الذي لا يعرف من هي ولا ما الذي يفعله هذا الرجل بها وكيف سممها حتى وصلت لهذه المرحلة ثم قال بصوتٍ مهتز:

-       مع المحاليل والمسكن، ولو اعطيتها المضاد الصحيح ستصبح بخير، لقد أصيبت بالتسمم منذ فترة، سوف ت تاج عدة أيام لكي تشفى من هذه الحمى واثار السم.

 

رمقه باحتقار ومزيد من الخوف تجاه من يستطيع بمنتهى السهولة فعل ذلك بأحد بينما لم يكن منه سوى الرد عليه بنظرة محذرة قبل قوله المهدد:

-       لقد أتى بكم حسام إلى هنا لكي لا يتجرأ احد منكم ويفتح فمه، إن كنتم تريدون أن تدخلون  السجن، وتتركوا هذه المهنة نهائيًا، وتذهبوا أنتم وهو إلى الجحيم، قوموا بالإبلاغ عني، أو لا تفعلوا، القرار يعود إليكم.

 

حول عينيه نحوها وهو يحاول أن يدفن حزنه بداخله ثم أردف:

-       أخرجوا الآن!

 

نظر هؤلاء الرجال لبعضهم البعض وغادروا للخارج، وفي الحقيقة لم يكن أي منهم خالي من العيوب، فلقد اختار هذا الرجل له حفنة من حقراء تستروا عليه لسنوات من أجل الأموال والمناصب التي يغدق بها عليهم!

--


بعد مرور يومين..


هذيان بين الحين والآخر، تعرق، وكلمات غير مفهومة لابد من أنها بفعل الكوابيس، تستمر في تناول العلاج عبر تلك الأنبوبة المغذية لوريدها مباشرةً ولكن رأسها وعقلها مستسلم لحالة من التشبث بأشياء أخرى تمامًا، تأتي وتذهب وكأنها تخيلات، يرى أنه بدأ بالفعل في صُنع عقل مدمر باحترافية، بينما هي في عالم آخر اوشكت على الخروج منه!

 

تأملها وهو يتكئ برأسه فوق ساعده ممدًا جانبها على الفراش، الغضب، الحسرة على نفسه، هذا الحزن الذي يسيطر عليه، انعدام الرغبة في فعل أي شيء، يعلم أنها لو استيقظت بأي وقت قريب لن يقدر سوى على النظر إليها في صمت، لا يدري لماذا تؤثر عليه هكذا؟ حتى وهي أمامه وواثق تمام الثقة أنها خائنة ومُستغلة ولا تريده، ما زالت تعبث بعقله وقلبه على حد سواء!

 

الإرهاق الشديد يعتريه، وبداخله يفقد الرغبة في أن يراها تتألم، عقله لم يعد يريد التفكير بالمزيد، لا يرغب سوى في فقدان نفسه إلى حالة من السكون التام، ربما هذه آخر مرة يتشارك معها فراش واحد، لأنه لا يثق في أفعاله معها، الوحيدة التي تُحركه وتدفعه أن يرتكب جنون محض لم يخطر له على بال قط، مثل ما عشقها ومثل ما آلمها، ومثل ما سيفعل بها المزيد!

 

أغمض عينيه لما ظنه ساعة، أو أقل، بينما كان يوم بأكمله، لم يقلق نومه سوى ذلك الصوت الغريب الذي أزعجه فجرًا بيوم غد ففتح عينيه وشعر بعدم تواجدها ليجد أنها تفشل في محاولتها بالهروب عبر باب الغرفة التي تجمعهما!

--


صباحًا في نفس اليوم..


أقلقتني، أريدك ولا بد أن أراك، ماذا حدث؟

 

تسائل "أنس" الذي آتى لتوه من سفره من بلدتهم بعد القليل من المرح اللطيف بينه وبين ابن عمه الذي بالكاد رآه طوال حياته وانتظر جالسًا في مقابلة "عدي" الذي حاول انتقاء كلماته مليًا واجابه إجابة بعيدة كل البُعد عن ما يُناسب تساؤله فقال بتنهيدة:

- أنس، أرجوك ما ستسمعه مني الآن لا بد أن يظل بيننا، ولا يجب أن يعلم أبي شيئًا عن ذلك، لأنني حاولت أن اطلب مساعدته ورفض رفضًا قاطعًا، وأنا أعلم أنك من أفضل الشخصيات في هذه العائلة ودائمًا ما تتجنب المشاكل.

 


عقد "أنس" حاجبيه بتعجب وقد تمت إثارة حفيظته بالفعل لما استمع له فهو يعلم أن عمه ليس أفضل الرجال لكي يتم التعامل معه بسلاسة ويُسر فسأله بجدية:

لا تقلق بالطبع لن أفعل، أنت تعلم أنني لست مقرب من عمي يزيد، ولكن أفهمني أولًا ماذا هناك؟

 

تفقده الآخر باهتمام ثم أخبره بتلك الورطة التي فشل في معالجتها بمفرده:

منذ حوالي أسبوعين قامت روان زوجة اخي بمهاتفتي ولكني كنت مشغولًا بعض الشيء فلم أجيب على اتصالاتها وقولت سأهاتفها بعد قليل، ولكني نسيت الأمر وبعد ذلك وجدت الرسائل التي أرسلتها لي قد تم محوها، إلى أن هاتفتني مربيتها واخبرتني بأنها ذهبت مع عمر، وكانت تسجل كل شيء حدث بينهما، استطعت أن أصل لتسجيل الفيديو فوجدته قد قام بتخديرها وسحبها من شعرها ووضعها في حقيبة السيارة.

 

انفرج ثغره بذهول بعد ما سمع منه تلك الكلمات ليقول بتردد متسائلًا عدة أسئلة نابعة عن تشتته من الصدمة:

-       كيف حدث ذلك؟ لقد رأيتهما انا وزوجتي منذ فترة وكان كل شيء جيد بينهما، حسنًا ما الذي قاله لك عمي؟ هل أخبرته بما حدث؟ وكيف رفض مساعدتك؟ وأين هو تسجيل الفيديو؟ وهل علمت عائلتها ام ماذا؟

 

زفير مختلط بين اليأس ولمسة من الراحة غادر صد ره فهو الآن يجد من يكترث حقًا على غرار والده الذي لا يرى شيء في ذلك وأن من حق ابنه أن يفعل ما يحلو له مع زوجته فأجاب كل تلك الأسئلة بشرح مُفصل:

-       أبي يرى أنها زوجته وهو حر في عمل ما يحلو له معها، وقال لي أنه ليس له صلة بهذا الامر، أما عن عائلتها فأنا أحاول أن أجعلهم يصبرون قليلًا، فلقد أخبرتهم مربيتها أنها مشغولة وذهبت لحضور مؤتمر في الخارج يأخذ كل وقتها، ولكن من المؤكد أنهم لن يصمتوا مع مرور الوقت، أما عن تسجيل الفيديو فقصته قصة، المرأة التي تعمل معها تحتفظ به وتهدد بأنها ستذهب وتسلمه للشرطة وأنا أحاول طمأنتها وأخبرها بأنني سأصل إليهم، وها أنا احاول مراجعة أي كاميرا سجلت مرور السيارة أثناء سيرها، ولكن الأمر ليس بتلك السهولة، فكل ما وصلت إليه هو الطريق الذي اتخذه بعد أن خرج من المجمع السكني الذي به الفيلا الخاصة بهما، دون ذلك لا استطيع أن أصل لشيء، فالأمر يحتاج إلى تصاريح وشخص في الحكومة يستطيع أن يلج إلى الكاميرات الخاصة بهذه الطرق الرئيسية، والطريق نفسه به أكثر من ألف منطقة يمكنه الذهاب إليها، وكل هذا دون حدوث شوشرة، لأن أبي يعتقد بأن الفيديو معي أنا فقط، لأنني لم أستطع إيذاء المرأة التي تعمل معها، وأنت تعلم أبي جيدًا وتعلم ما الذي يمكنه فعله، ولو تم نشر شيء كهذا ستنقلب الدنيا عليه، وعلى أبي، وعلى جميع أفراد  العائلة.

 

خلل "أنس" شعره وهو يُريح ظهره بعد أن تلقى تلك الصدمة ثم فكر لبُرهة من الوقت وغمغم وهو يراجع تلك التفاصيل:

-       أتقول أنه قام بتخديرها وأخذها وذهب؟ لماذا فعل كل ذلك؟

 

تراقص كل بؤبؤ من مقلتيه يمنى ويسرى بتفكير وهو يُمرر يده على ذقنه مستغرقًا في تحليل ما استمع له ثم نظر له وقال مستفهمًا:

-       أنا لا أريد أن أفترض سوء النية، وما حدث ليس سهلًا، ولكن أليس من المحتمل أن يكون ما حدث بينهما مجرد مشاجرة كالتي تحدث بين أي رجل وزوجته وقاموا بحلها الآن؟ لقد رأيناهم أنا ورضوى بأعيننا وجلسنا معهم وكان علاقتهم جيدة جدًا، هذا حدث منذ ثلاثة أشهر تقريبا.

 

ابتلع "عُدي" وهو يُحدقه بجدية ثم قال زافرًا بحرقة ما جعله يُصاب بذهول تعدى كل ما سبق:

-       أنس، لقد رأيت عمر في الفيديو وهو ذاهب من المنزل، قام بإخراج مسدس من درج مكتبه، هل تعتقد الآن أنها مجرد مشاجرة حدثت بين زوجين وستحل بسهولة؟

 

 

--


في نفس اليوم ظهرًا..

 

تابعها بعينيه الغارقتين بالإرهاق الشديد وهو لا يدري لماذا لا يستطيع تحمل البقاء مستيقظًا وكأن كل طاقته انعدمت تمامًا بينما نظرت له بخشية شديدة لاهثة بعد أن أدركت أنه ليس هناك مفرٍ منه فلقد احكم الخناق عليها هذه المرة ببراعة..

 

حاولت مرة أخرى التحامل على تلك الآلام الجسدية والنفسية بعد أن أجبرها بإشارة من يده بعد الكثير من كلماتها التي لم تُفد بأن تعود للفراش ونادى ممرضة كي تقوم بتوصيل ذلك السائل المعلق بجانبه لوريدها من جديد ثم هتفت به بصوتٍ متعب وعينيها تذرف الدموع دون انقطاع:

-       أرجوك فكر ولو خمس دقائق فقط، ما الذي يجبرني لاعود من أجلك غير أني أحبك، وأعلم أن كل ما تفعله هذا خارج عن إرادتك، عمر أنت بالفعل تحتاج إلى مساعدة، فلقد كان يمكنني أن أظل في المنزل مع أمي وبسام والأمن بالخارج.

 

رمقها بأعين مُتعبة واندلع ذلك الصوت بداخل عقله وهو يزجره:

-       إياك وأن تصدقها، إنها كاذبة، مثلها مثل الأولى بالضبط، بل هي ألعن منها.

 

بقي على صمته الذي يداوم عليه منذ أيام معها وتعلقت عينيه بشرود بسقف الغرفة لتهتف به بنبرة بالكاد استطاعت أن تدفعها لخارج شفتيها من شدة الإرهاق والخوف مما سيفعله معها فهي تعلم أنه لن يتوقف عند هذا الحد:

-       لقد كنت باقية على كل شيء جميل جمعنا؛ لذلك فضلت مواجهتك بالحقيقة، أرجوك حاول أن تقتنع هذه المرة، أنا لا أكذب عليك صدقني، توقف عما تفعله بي، أنا لم أعد أتحمل ويوم أن تفهم الحقيقة ستندم على كل ذلك.

 

لم يستجب لها ورأسه مُهيئة تلقائيًا على عدم تصديق أي كلمة منها وكأن صوتها مجرد نغمة مُزعجة غير مندمجة لخلفية حياته البائسة وغاب تفكيره بتلك المُدة التي أخبره الأطباء بها، ثلاثة أيام وستبقى بحال أفضل كي تستعد للتالي، هناك الكثير يلوح بعقله، ولكنه لا يدري لماذا لا يستطيع النهوض من مكانه، يود أن يذهب للمرحاض بشدة ويشعر أن مثانته على وشك الانفجار بينما جسده يأبى الانصياع له، كيف سيؤهله هذا البدن لفعل ما يود أن يفعله بها؟!

 

عقله يستجيب لها، وقلبه بات ملك يديها، حتى أصواته المُفكرة لا تريد أن تؤذيها، إلى أي حد وصل تعلقه بها؟ اللعنة عليه، لتنهض وتقتله لكي تخلصه من هذا الشقاء الأبدي!

--


ظهرًا بعد مرور ثلاثة أيام..

 

وقف "أنس" يحدق بوجه ابن عمه المصدوم ثم استمع له يهمس بصدمة:

-       طريق الساحل الشمالي؟ ولكن أين بالضبط؟ ماذا قالوا لك؟

 

تنهد الآخر بمشقة وأخبره بصوت هادئ لأنه يعلم أن ما سيقوله لن يقبل رضائه:

-       أنظر، من أستطاع أن يجلب لي هذه المعلومات يعمل في شرطة المرور لم يصل الا لذلك الآن، أما باقي الطريق الذي اتخذه فأمامهم يومين بالضبط وصلوا إليه.

 

رفع حاجباه وسأله باستنكار متهكمًا:

-       يومين؟ أنس أتريد أن تخبرني أن عضو في البرلمان لا يستطيع بمعارفه أن يصل لخط سير سيارة؟!

 

تفقده بحرص ثم قال وهو يحاول أن يهدأ من ذلك الغضب الذي يلوح على وجهه قبل أن يتصاعد:

-       عدي لقد اتفقنا أن نفعل ذلك دون علم عمي، أنا احاول أن أصل لكل ذلك من أناس صغيرة وبطريقة غير قانونية، لو أحد من كبار الموظفين علم أو تم تقديم بلاغ رسمي وقتها من الممكن أن تصل الأخبار في ثانية إلى عمي ووقتها أنت تعلم جيدًا كيف يتصرف في مثل هذه الأشياء.

 

اكفهرت ملامحه بإحباط وهو يعرف أن كلماته صحيحة وصائبة ليتكلم بحزن:

-       أنا أعلم هذا، ولكن لم أعد أعلم هل هذه المرأة ستبلغ عنه بالفعل أم ماذا سيحدث، هذا غير عائلتها الذين يحدثونني باستمرار، الوضع أصبح صعب للغاية، واليوم أصبح عشرة أيام والأسبوع اقترب أن يصبح ثلاثة، ولا أعلم ما الذي يمكن أن يحدث، أنا حقيقةً لا أعلم كيف قام عمر بفعل كل ذلك وكيف أوصله تفكيره لهذا، لم أتوقع أبدً أن يقوم بفعل هذا في يوم ما ويضعنا جميعًا في هذا الموقف الصعب الذي نحن به

 

 

 

ربت على كتفه وحاول أن يُطمئنه في حين أنه لم يقتنع بكلماته هو نفسه:

-       سنصل إليهم بمشيئة المولى، يومين ثلاثة على الأكثر فقط وسنستطيع الوصول إليهم، ولو على المرأة هلم معي نذهب إليها الآن ، واترك عائلة روان لي انا سأتفاهم معهم.

 

--

 توسد الفراش، حدق بسقف الغرفة في شرود، ثم أغمض عينيه لبُرهة لم يكن يعرف أنها ثلاث ساعات، كل ما برأسه هو عملية استرجاع لتلك الذكريات فيما بينهما، منذ أن رآها، من يوم وقوع عينيه عليها، حالة من الشتات، وأفكار متلاطمة بشدة كالأمواج لا تصمد أيًا منهما للنهاية لتداخل بين بعضها البعض وتخلف رغوة بيضاء إثر اندفاعها خالية من أي نهاية متبوعة بجولة أخرى وهو كالبدن المفارق للحياة وسطها!

 

لمّ فعلت به كل ذلك؟ هو ليس برجل مجنون! لم يكن ولن يكون يومًا، كيف تتخيل أنه بهذا الجنون؟ هل العشق يُمثل لها جنون؟ ليكون مجنون بنظرها إذن للنهاية..

 

ضربته تلك النوبة الشديدة من الاكتئاب المحض، تراجع هائل في طاقة الجسم، فقدان شهية جلي للأعين، لا يعلم أنها أدركت كل ما يمر به، وبالطبع ترجمه هو حُزنًا على المرأة الخائنة التي عشقها.. لا يستطيع سوى أن يرى هذا، هو حزين من أجلها ليس إلا!

 

لا يستحم سوى كل ثلاثة أيام أو أربعة، لا يتكلم، لا يستخدم المرحاض إلا بعد ألم شديد قاسي على بدنه من شدة التحمل، نوم متصل يصل لما يفوق ثلاثة عشر ساعة، وخيالات شتى تهلك عقله المريض، يشعر بالذنب ليس لإيلامها ولكن لتألم نفسه ووصول علاقتهما إلي هذه المرحلة، ورغبة الانتقام تتلاشى، ثم تعود بصوت هلوساته السمعية، وهو كالتائه بين هذا وذاك ممزق بين تيارات اكتئاب بحتة تحتاج لتدخل دوائي سريع ومصحة ومتخصصين قبل أن يصل لحافة الانتحار، ولكن ليس هناك من يُساعده على الاطلاق، فهو يُدمر تلك المرأة التي عشقته وودت أن تمد له يد المساعدة من البداية، ولا يعلم هو ذلك قط..

 

-       انهض وأحضرها قبل أن تتجمد وتموت، لو ماتت لن تستطيع أن تصل لما تريد.

 

ذكره ذلك الصوت بوجودها بداخل تلك الغرفة التي هبطت درجة حرارتها تحت الصفر ليُجيبه هلوساته بصوت هامس:

-       لا أستطيع.

 

-       إن كنت تريدها أن تحبك هل تعتقد أن موتها سيساعدك؟

 

 

سؤال هذا الرجل الذي يُشابهه افاقه من حالة نُعاسه لينظر له جالسًا أمامه على الفراش ثم قلب شفتيه كدلالة على عدم المعرفة وهمس غادر شفتيه:

-       لا أعلم.

 

همهم له هذا الرجل الذي هو نفسه ثم سأله باستخفاف:

-       إن استطعت تهيئة عقلها جيدًا للدرجة التي تريد أن توصلها إليها، ستظل أسفل قدميك، وستنسى كل الذين عرفتهم في حياتها، انهض وأخرجها من الغرفة قبل أن تموت، جسدها لن يتحمل أكثر من هذا.

 

أغمض عينيه وتكلم بخفوت وصوته مشبع باليأس الساخر:

-       أليس من الممكن أن أموت أنا قبل أن أدخل إليها.

 

أطلق زفرة هاكمة وشعر بيد تربت على ذراعه ثم صوت سيطر على تفكيره:

-       انهض فقط وتناول بعض الطعام واشرب قهوة لتفيق قليلًا وادخل إليها، التي مثلها لا بد أن تتربى على ما فعلته بك، لا تستحق أن تموت من أجلها  

 

 

حالة بشعة من الهلوسات وحوار متبادل بينه وبين الفراغ الشاسع يصوره له تلك الموصلات العصبية المفتقرة للعمل بشكل طبيعي وكيمياء فاسدة عبثت بعقله، وبقدرته البدنية، وبها هي الأخرى، والوقت يمر وهي تقارب على فقدان أنفاسها الأخيرة إن لم ينتصر هذا الصوت في النهاية ستلاقي حتفها!

--

 

في نفس الوقت..


صوت اصطكاك أسنانها المتوالي يدفع الفزع بها وجسدها قارب على التجمد وهي متكومة على نفسها بهذا الثوب الذي لم تبدله منذ مغادرة تلك الغرفة معه ولم تعد تدرك ما مقدار تلك المدة التي قضتها هنا..

 

هي تقارب على الموت، تدرك أنها لا تستطيع التحرك، لا ترى سوى وجه والدها يعينها على التمسك بآخر ذرات السلامة العقلية، لم تعد تعرف ولا تكترث أين هي، ولا ما الذي يفعله، تتخبط بشدة بين المعافرة في هذا الخط الفاصل بين فقدان الوعي وبين التمسك بالحياة!

 

عقلها يدفع بها لواحدة من تلك الذكريات فيما بينهما منذ سنواتٍ كثيرة، كانت فخورة بنفسها للغاية، وتلك السعادة بعينيه كانت كل ما تبتغيه وهي تبتسم بفرحة حقيقية:

-       أبي، ما هي أخبار الإضافة الجديدة؟ ألن تقوم بتعليمي كيف يمكنني العمل عليها؟

 

ضيق عينيه نحوها وتنهد ثم حدثها قائلًا:

-       ألم نتفق أنه لا يوجد عمل في العطلة؟ ثم أننا اتفقنا أنني سأعلمك إياها عندما تنتهي من العام الدراسي الثاني.

 

همهمت له وهي تدفع بشاشة حاسوبها نحوه ثم قالت بنبرة مرحة تمتلئ بالانتصار:

- ولكننا لم نتفق أنك لن تعلمها لي عندما أحصل على امتياز وأكون الأولى على الدفعة وأحصل على حفل تكريم، أعتقد أن من حقي أن اطلب ما أريد ك هدية لتفوقي هذا.

 

نهض من مقعده ثم عانقها بفرحة شديدة لتبادله العناق الدافئ وهمس لها بمقلتين مستترتين خلف فخره بابنته ودموع الفرح:

- مبارك لكِ حبيبتي، سأفعل لكِ مت تريدين، هل أخبرتِ والدتك وبسام ليسعدوا بهذا الخبر أم لا؟

 

فرقت عناقهما ونظرت له بابتسامة ثم اخبرته بملامح سعيدة:

-  أنت تعلم أنني ابنتك المدللة لا أستطيع أن أخبر أحد قبلك.

 

قبل جبهتها وتوجه ليجذب هاتفه وهمس لها ببعض اللوم:

-       والدتك ستحزن عندما تعلم أنني علمت قبلها، لذلك ليس أمامنا حل سوى أن نخبرها أنني قد عرفت قبلك، وسنسافر سويًا لنحتفل بنجاحك هذا، وقتها ستمرئ الأمر، واتركي الهدية الكبيرة لي، ستسعدين بها للغاية أكثر من موضوع الإضافة هذا.

 

أومأت له بالموافقة وابتسامة واسعة وعانقته من جديد وهي تتعلق بعنقه ثم حدثته قائلة:

-       شكرًا لك أبي.

 

العشق لا يدوم بداخل المرء ليساعده في تلك الأوقات العصيبة، العقل دائمًا ما يتصرف تلقائيًا بما ترسخ بداخله في سنوات طفولته ومراهقته، وإن كان ينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه، إذن كان على عقلها أن يغيب بالكامل ويستسلم في دفئ عناق والدها لعله يُنجيها من هذا التجمد، بينما غاب عقله هو في تلك البرودة التي تغلف أجواء غرفة المشفى وهو طفل صغير يمكث بمفرده، مستيقظ فجرًا، بأولى ساعات صباح يوم دون وجود عناق دافئ يحتوي آلمه المنتهك لروحه!

--

بعد مرور يومان..

فتحت عينيها وهي تستكشف حولها تلك الغرفة الزجاجية ولا تدري متى آتت هنا، لابد أنه نقلها بنفسه، ما الذي حدث لها؟ بأي يوم تكون؟ هل ماتت وتبعث من جديد؟ هل هذا هو يوم الساعة؟ عقلها لا يستطيع استيعاب ذلك!

 

ذعر انتابها عندما تغلبت على النعاس ونهضت تتكأ على يديها وهي تجد جسدها دافئ، مفعم بدفء عناق جمعها مع والدها منذ سنوات، تتلفت حولها لترى زجاج من كل ناحية، طعام وضع بطبق بجانبها وكوب من المياه على الأرضية التي لا يفصل بينها وبين بدنها شيء سوى بنطال وصل بعد ركبتها بقليل وكنزة بأكمام طويلة تغطي ذراعيها بالكامل..

 

تفقدت يدها وهي تشعر بمكان يؤلمها بشدة به لترى لاصق للجروح وكأنها كانت تُزود بتلك السوائل كما كانت تُعاني من قبل من لدغة هذا العقرب، لتقارب على فقد وعيها.. ما الذي يفعله بها؟!

 

اقشعر جسدها ولم تجد بحبسها الانفرادي سوى ذلك الطعام الموضوع أمامها وبعد كل ذلك التجويع الذي مارسه عليها لم تُفكر سوى بالتهام كل ما أمامها في حالة من الهمجية الشديدة.. ولا تعرف بعد أنه جالس ببدن شابه جثة هامدة يتابعها باستمتاع ناقص، تلك اللذة الشديدة التي كان لابد له من الشعور بها غائبة في وسط نوبة اكتئابه الجارفة!

 

مسحت شفتاها عندما انتهت من ابتلاع هذا المقدار من الطعام الذي كان أكبر من أي مرة مضت وهي تتم معالجة لدغتها بتلك المحاليل المغذية أو جرعات المصل، هي حقًا لا تفهم شيء مما يحدث لها، ونهضت تحاول الوقوف أمام هذا الباب الذي لابد من أن يكون المؤدي للخارج، فهي لا تستطيع رؤية شيء سوى خيالها المنقول في هذا الزجاج العاكس!

 

أخذت تطرق بقوة والذعر يدفع ضربات قلبها للتصاعد في جنون وحاولت أن تتوسل له أن يخرجها:

-       عمر أرجوك، أرجوك أخرجني.. أنا لن أقول لك لا على شيء، ليس مهم الطلاق، ولكن أخرجني من هنا.

 

لا تعرف كيف تغادر هذه الكلمات فمها ولكن عقلها قد تضرر من تجارب عذاب عقلية بدأت بالفعل تعبث بعقلها، لم تعد تتصرف بدافع العقل، كلماتها الخارجة منها كانت بفعل عقلها الفاسد من شدة ذلك العذاب الذي خلفه تأثير الحبس الانفرادي مرة بصندوق معتم ضيق ذو نهايات مدببة، مرة بغرفة تعذيب بيضاء تمسح وتزيل العقل بالكامل، ومرة في غرفة مُظلمة بدرجة حرارة خمس درجات سلسيوس تحت الصفر!!

 

-       عمر هل تسمعني؟ لا تتركني هنا أرجوك.

 

تابعها باستمتاع وعلى ملامحها امارات فقدان العقل بينما جسده لم يساعده فحاول التهام آخر ما تبقى بكوب القهوة الرابع له هذا اليوم ولم يشعر بأي مقدرة بدنية على النهوض من هذا المقعد لفعل ما عليه فعله معها..

 

-       صدقني أنا لا أكذب في كلمة، ولن أكذب ثانية، لن أفعل أي شيء بدون علمك مرة أخري ولكن أخرجني أرجوك.

 

انتابها حالة من الفزع غير النهائية واخذت تطرق بكل ما اوتيت من قوة بعد راحة دامت ليومين في عناية طبية مُكثفة ولم تكترث لقوة بدنها التي ازدادت بشدة فهي لا تعرف ما مقدار المنشطات التي حُقنت بها لتحمل التالي ومقدار تلك المقويات التي نقلتها السوائل المغذية لوريدها، ولكنها بالفعل مرت بتجربة انعدام حسي، عقلها لم يعد واعي بشكل كامل بما تستطيع أن تفعله وما لا تستطيع الإقدام عليه، ببساطة عقلها أصبح مشتت.. ليس بكلمات، ولا بأفعال، ولا برسائل رومانسية ولا نظرات عاشقة، بل بفعل التخويف، التجويع، اختبار العُزلة، وانعدام حسي وجزء من تجربة مكررة للتعلق الرضوخي غير المُكتملة ليعبث بعقلها بنجاح!

 

صرخت بهلع شديد ولم تُلاحظ تلك الكدمات بيدها التي تطرق على الباب بشدة:

-       افتح لي الآن، الأوراق التي معي من المؤكد أن علا قد قدمت به بلاغات، العالم كله سيعرفك على حقيقتك.

 

هل هذه كذبة؟ هل هذا تهديد؟ يتبع خوفها الذي تجلى لعينيها منذ قليل، يا لهول ما لم بعقلها!!

 

-       حسنًا، افتح لي الباب ولن أجعلها تفعل شيء، أرجوك عمر لن أفعل شيء مما قولت عليه.

 

تلاحق لهاثها في خوف مرير وبدأت تطرق بساقها بشدة على الباب ويديها تتابع تخبط قدميها اليمنى تارة واليسرى تارة بينما ملامحها تختلف كل عدة دقائق بين الخوف، الحزن، النشاط، والهلع، ولم يعد هناك أي تفسير منطقي لما تفعله ويدل على عقل سليم بها!!

 

شاهدها لما يقارب ساعتان وبين صراخ وبكاء ثم تهديد وتوسل التمعت عينيه باستمتاع لتوصلها لهذه الحالة المزرية التي لحقت بها ولكنه تيقن أن عقلها قد بدأ بالفعل يُصبح غير سليم!

 

انتظر إلى أن هدأت وتكومت بركن من اركان الغرفة وهي تتلفت حولها يمينًا ويسارًا تضم ركبتيها إليها وابتسم بهوان وهو يتخيل أنها ترى كائن اسطوري حولها بمكان ما..

 

شعر بتوعك معدته بفعل هذه القهوة الكثيرة التي تناولها دون طعام ليندفع في حالة من القيئ شديدة لم تتوقف بسهولة ليندفع الادرينالين داخل دمائه لدقائق قليلة فرمقها بنظرة قاتلة خلف هذا الزجاج وهو لا يُفسر كل ما يحدث له سوى بسببها هي وبسبب كل ما أوصلتهما له!

 

 

كان هذا ما يلزم لجعله ينهض بقليل من القدرة العابرة وتوجه نحو الباب الذي نهضت لتطرق عليه وهي متأكدة أنها استمعت لصوت توعكه فعلمت أنه متواجد بجانبها فصرخت بذعر:

-       هل تسمعني؟ أخرجني من هنا، أخرجني وسأفعل ما يحلو لك، لا تتركني بمفردي أكثر من ذلك أرجوك.

 

دفع الباب بقوة وهو يرتدي قفازه وممسك بشيء مُغطى بقماش ثقيل كحاوية قماشية من اللون الأسود فنظرت إليها وتقهقرت إلى منتصف هذه الغرفة المربعة من الزجاج في خشية منه وبمشاعر اندفعت بامتزاج غير نهائي منها لم تعد تُميز ماهية تلك المشاعر ولم تعرف هل عليها الذهاب لتقبل قدميه لعله يعفو عنها ويتركها لتنعم ببعض الشفقة أم تبتعد عنه فهو من فعل بها كل ذلك وسيقتلها لا محالة!

-       لا تتركني بمفردي، لقد تعبت كثيرًا عمر، لا تتركني بمفردي، ابق معي أرجوك.

 

انهمرت دموعها وملامحها مذعورة بالكامل وكلماتها المترجية المرتجفة وعقلها غير المنضبط الذي لم يعد يعمل بكفاءة أثر كل هذا العذاب العقلي لم تعد تستطيع تمييز ما يجري لها..

 

تابعها بأعين اتضح عليها التعب الشديد لتتفقده وهي ترى ملامحه المشتتة، شعره الطويل المبعثر في عدم اهتمام، ولحيته التي نمت كثيرًا بالأيام الماضية، وملابسه التي تبدو متضررة باتساخ لترتعد شفـ تاها وهي تخبره في لحظة تفكير واعية:

-       أنت، أنت، أنا أعرف هيئتك هذه، أنت مصاب باكتئاب، اذهب واسأل طبيب، الذي تختاره لا يهم من هو، سيخبرك أنني  محقة.

 

هل تكترث مما يُعانيه؟ هل تفسر أن ما يحدث لها اكتئاب؟ لا بل هو موت بطيء بسبب عشق امرأة خائنة مستغلة مادية كاذبة مخادعة!! كان هذا هو تفسير عقله الذي يأبى فكرة مرضه، فلقد نشأ كما عوده أباه، هو رجل، قوي، ذكي.. والأفضل بين الجميع!!

 

هل هناك رجل بعقل متضرر سيفعل ما فعله ليمحي أي أثر لتتبعهما؟ لتُريه كيف سينقذها "عُدي" والمخنـ ث ابن خالتها بعد أن استطاع تضليل جيش كامل؟!

 

لتُريه من سيجدها وهي تفقد عقلها أمامه بتأني هائل بين الخوف والتجويع والعزل وانعدام الشعور بالوقت وحقيقة الجو ومرور الأيام!

 

ما زال عقله المتضرر يدفعه لفعل المزيد بينما عقلها الذي استجاب بالفعل لأول طريق الضرر كما يحدث للمعتقلين بسجون شتى في بقاع الأرض المختلفة حول العالم والتي قرأ عنها آلاف المرات فتبادلا النظرات ليقرأ الهلع بعينيها بينما هي لم تر سوى أنه في حالة من المرض شديدة للغاية قد تدفعه لفعل أمر مجنون قد يُذهب بحياتها للأبد..

 

تقهقرت للخلف أكثر وهي تلمحه ثم لمحت ما يحمله في هذا الكيس القماشي يتحرك لتستمع لاصطكاك أسنانها ببعضها البعض من شدة الخوف وهي تتلعثم سائلة:

-       ما هذا؟ ماذا ستفعل؟

 

توسعت عينيها في ذهول بينما تعبيراته استمرت كما هي لتندفع الدموع من بين عينيها وهي تعانق نفسها في ركن من هذه الغرفة وظلت عينيها مثبتتين على هذا الكيس وتخبطت أسنانها ببعضها البعض وهي تتوسل له:

-       لا أرجوك، صدقني لن اتنفس سوى بإذنك، ولكن لا تفعل بي شيء آخر.

 

لم تتذكر سوى تلك اللحظة التي لدغها بها هذا العقرب اللعين لتجده يترك هذا الكيس القماشي ليسقط ارضًا فرأت ما بداخله يتحرك لتفزع وهو يغادر ويتركها خلفه متوجه نحو الباب فذهبت تعدو خلفه وتمسكت بذراعه وهي تصيح برعب باكية:

-       لا تتركني ابقى معي، أو أخرجني من هنا، أقبل يديك عمر يكفي هذا.

 

ترجرج جسدها من شدة البكاء وهي تتوسل له فالتفت وهو ينظر إلى الكيس القماشي الذي لم تخرج منه تلك الأفعى الجائعة بعد فنظر إليها في صمت وبرود جليدي كاسح ومقلتين مرهقتين بشدة لتركع على ركبتيها وهي تناشد أي ذرة رحمة به بأعين ازهقها البكاء وملامح صادقة لم يرها عليها بمنتهى الوضوح سوى هذه المرة من شدة هلعها!

-       لا تتركني، لقد أصبحت أخاف أن أمكث بمفردي، أفعل أي شيء آخر ولكن لا تتركني.

 

لاحظ تلك التحركات بالكيس القماشي وعلى ما يبدو أن تلك الأفعى اوشكت على الخروج ثم نظر لها بفحميتين غائبتين في رغبته الكاسحة بالموت لينفض يدها بشدة عن يده المُغطاة بالكامل وحاول الذهاب فأمسكت بقدمه ونحيبها يستد واستمع لكلماتها المتضرعة في هول من شدة خشيتها:

-       أقبل قدميك لا تتركني، ابقى معي، لا تخرجني من هنا ولكن لم أعد أستطيع أن أبقى بمفردي.

 

التفت إليها ويدها المرتجفة تتشبث بنهاية قدمه ونظر لحالتها البائسة ثم دفع قدمه بقوة يركلها لينبطح بدنها أرضًا وغادر سريعًا مغلقًا الباب تاركًا إياها بمفردها وبكائها تحول لصراخ لا ينتهي، وليس هناك أسوأ من انعدام الأمان الذي باتت تشعر به وهو يحبط محاولة توسلها إياه بهذه القسوة الخالية من أقل ذرات الرحمة!

 

وقف يعقد ذراعيه بعد أن نهضت في فزع وهي تنظر لذلك الكيس القماشي الذي تحرك بعنف هائل وبدأت في الاستماع لفحيح غريب كاد أن يوقف قلبها عن العمل من شدة الخوف!

 

تمسكت بالباب خلفها وأخذ هو ينتظر تلك اللحظة التي آتى بها بهذه الأفعى التي تصنف سمومها على أنها من أبشع سموم العالم وإن لم يلحقها بعد لدغتها في خلال نصف ساعة قد تموت حقًا..

 

حدقت في هلع وهي تشعر بأن أنفاسها ستنعدم عندما رأت القماش يتحرك باضطراب شديد ثم سكن للحظة ومن فوهته اتضح هذا الكائن المخيف أسود اللون وهو يرتفع على مقدمته لتطلق صراخ هيستيري وهي لا تتحمل فكرة وجودها وحدها في مواجهة هذا الثعبان..

 

أخذت كلتا يديها وقدميها يتخبطان في ذعر على هذا الباب وهي تتكلم بكلمات غير مفهومة فبدأ الصل الأسود الجائع يستقبل تلك الترددات التي جعلتها تشعر بالهجوم ودفعتها في حالة تأهب ومواجهة عبر مستقبلاتها الحساسة للغاية للحركة فاستقامت أكثر وكادت الأخرى أن تفقد تنفسها خلال صراخها الشديد في حالة من روع لن تنتهي سوى إمّا بفقدان عقلها، وإمّا بتوقف قلبها من كثرة الرعب، وهذا ما حدث بالفعل عندما قفز الثعبان بفمه ملتفًا حول جزء من قدمها وهو يقوم بغرس أنيابه فسقطت هي في حالة من فقدان الوعي التام اثر الرعب، وليس اثرا للسمية الشديدة!

 

شعر بالراحة الشديدة وساد يته تطغى بالرضاء الهائل بالرغم من شدة ارهاقه وعدم مقدرته على بذل أي مجهود بدني، لقد كان اختيار صائب، لطالما فزعت من الحيوانات، فما بالها بعقرب يتبعه صل أسود قاتل!

 

--

بعد مرور ثلاثة أيام أخرى..


نظر كلاهما لبعضهما البعض في ذهول شديد عندما وجد كلاهما تلك السيارة التي كان يتتبعاها كل ذلك الوقت في ركن مرأب لمنزل من منازل لم يقف عليه سوى رجلين من رجال الحراسة وعلى ما يبدو أنه مُغلق وغير مأهول بأي شخص على الاطلاق!

 

ركل "عدي" الأرضية بقدمه وهو يضع يديه يستند بها على خصره ثم نظر إلى "أنس" وحدثه بغضب:

-       هل علمت الآن أن افضل حل مع شخص مثله أن يتم الإبلاغ عنه منذ البداية بدلًا مما نحن فيه الآن، وقتها كان يزيد الجندي سيتصرف ويجده، من أجل سمعته وسمعة ابنه، الذي لا يقبل عليهم شيء.

 

تفقده بجدية ورثاء على حاله فلقد بات دائم التوتر بالآونة الأخيرة وأخبره محاولًا أن يُهدأ من عصبيته واندفاعه في التفكير:

-       عدي، إهدأ لكي نستطيع التصرف، من المؤكد أنه توجد كاميرا أو شيء يظهر بها، ومن المؤكد أن هؤلاء الاثنين الذين بالخارج سيخبروننا ما هي نوع السيارة التي تحرك بها.

 

نفخ بضيق ثم صاح به:

-       ما هو ذنبنا فيما يحدث؟ ما لنا نحن حتى نظل نبحث عنه لمدة عشرون يومًا؟ شخص مجنون مثله يذهب ليخطف زوجته لمجرد أن طلبت منه الطلاق، ما ذنبنا نحن في ذلك؟ مازال أمامنا أن نبحث ونسأل ونفرغ تسجيلات، وكل هذا من أجل شخص يعتقد أنه لا يوجد من يقدر عليه.

 

 

 

تفقده بشفقة وهو يحاول أن ينظر حوله في كل مكان ثم اتجه لخارج المرأب وهو يقول:

-       هيا معي الآن، فلقد اقتربنا للغاية ومن المؤكد أننا لن تقف هنا.

 

 

 

اضطر أن يتبعه للخارج وظل الآخر ينظر إلى أن وجد كاميرا واحدة مُعلقة على نهاية هذه الفيلا المحاطة بسور حديدي متواضع وحديقة ليست بكبيرة الحجم فأشار له قائلًا:

-       يوجد كاميرا هنا، من المؤكد أنها أظهرت شيء.

 

رد الآخر بضيق وهو لم يعد يتحمل هذه الجولة من البحث اللانهائي:

-       لقد أتيت إلى هنا وأنا اعتقد أننا قد وصلنا إليه، أنا حتى لا أمتلك كومبيوتر محمول، والمطلوب منا الآن أن نفتح الكاميرا ونرى ما الذي قامت بتسجيله، وبهذه الأتربة التي تملأ المكان والحديقة الميتة هذه لا أعتقد أن شيء يعمل هنا من الأساس، أنا لم أعد أطيق ذلك، ولا أعلم لو شخص آخر من عائلتها حدثني ماذا أقول له.

 

وجد أن كلماته منطقية ففكر لوهلة وهو يحاول أن يوقف غضب الآخر الذي بات لا يُحتمل في الآونة الأخيرة:

-       سنجد حل بمشيئة المولى، هيا لنرى هؤلاء الناس الذين في الخارج، من الممكن أن يغيرون رأيهم كما فعلوا قبل ذلك عندما علموا من أكون.

 

زفر بحرقة وأشار له أن يتقدمه ففعل وتوجها للبوابة التي لم تبعد كثيرًا على كل حال، وانتبه الرجلان بمجرد اقترابه فأخرج حافظة نقوده وهو ينظر لهما بخبرة رجل اربعيني هادئ الطباع وحدثهما بتساؤل:

-       آخر سيارة مرت من هنا كيف كانت؟ لونها، نوعها، أي ماركة كانت؟

 

ارتبك واحد من الرجال ثم اجابه بهدوء نظرًا لطريقته غير المبالغ بها:

-       سيد أنس أنا أقدر منصب سيادتك، وأعلم أنك لن تأتي لافتعال المشكلات، وأنا ليس لدي مانع أن اسمح لك بالدخول مع إن ذلك من الممكن أن يؤذيني في عملي، ولكننا نعمل هنا منذ أسبوع فقط، ولم نشاهد احد دخل أو خرج، اقسم لك اننا لا نعرف ولم نرى اي شيء، نحن مجرد فردي حراسة من شركة أمن، وكما ترى لا نملك سوى كشك الأمن هذا ونتبادل عليه انا وزميلي كل اثنتي عشرة ساعة، اقسم لك بحياة أولادي أنني لا أكذب عليك، فانا منذ وصلت إلى هنا لم أرى أي شخص.

 

هز رأسه بتفهم وأخرج حفنة نقود قسمها على مبلغين ودسهما في يدي الرجلين وقال بهدوء:

-       حفظك الله لأولادك وأدعو الله أن تعود إليهم سالمًا، وشكرًا لك على مساعدتك لنا، أنت تبدو رجل طيب، ولا تخف فليس من أجل منصبي سوف أهد الدنيا، فبعض الأصوات الانتخابية يمكنها أن تخسف بي الأرض في لحظة، ولكن لي عندك طلب ولا يوجد غيرك من يستطيع أن يفيدني، فأنت تبدو رجل طيب،

 

-       إن كان في استطاعتي مساعدتك في شيء فلن أتأخر.

 

اطمئن لجواب الرجل وقبوله وبدأ يشعر بالراحة إليه فسأله بطريقة لائقة:

-       هل يمكنك أن ترسل لي رقم الشركة.

 

--

ومرت ثلاثة أيام أخرى..

 

شاهدها من على مسافة وهي نائمة على ذلك الفراش الذي لا يتواجد سواه بالغرفة، فهو لم يغفل عن محاولتها للانتحار عندما استيقظت من حالة فقدان الوعي بسبب تلك اللدغة البشعة التي تعرضت لها..

 

لقد كانت ملامحها تعبر عن امرأة شارفت على فقدان عقلها عانت من الألم العقلي من شدة ذعرها.. ربما هذا كافيًا لفعل ما يُريد فعله منذ البداية، لقد وصل لهذه اللحظة التي تمناها منذ البداية، لم تعد كما كانت قط!!

 

استلزمه الكثير من المجهود كي يجذبها من خصلات شعرها أرضًا لتستفيق من حالة التخدير التي تُعاني منها آخر يومين من كثرة تلك المهدئات التي تعبأ الدم الجاري بعروقها ثم شعرت ببدنها يرتطم أرضًا فاشرأبت بأعين أهلكتها قسوته وتابعته في حالة من الاستسلام الهائل بعد أن اقتنع عقلها أن أيًا ما كان سيفعله بها بتلك الحبال وهذا المجسم الخشبي حولها سيكون اهون آلاف المرات من بقائها بغرفة آلمت رأسها أو من كائن زاحف ذو لدغة مميتة!!

 

لقد حاولت قتل نفسها وهي تقوم بعقد شرشف الفراش في الثريا التي توسطت تلك الغرفة التي كانت بها منذ قليل، أو من أيام، هي لم تعد تدري ما الذي يحدث لها، وكم يوم مر عليها هُنا، ولماذا لم يستطع أحد حتى الآن التوصل لها لينقذها منه؟!

 

شعرت بذلك الملمس الجلدي لقفازه يلمس معصميها اليسار ثم اليمين وهو يعقد الحبال حولهما وهي كالجثة الهامدة بين يديه ثم اتجه ليجذب طرف الحبل الذي انعقد على يدها اليُمنى وقام بتثبيته في هذا المجسم وبعدها فعل المثل من يدها اليُسرى حتى بات جسدها مُعلق في الهواء لا يستقر على الأرضية ولم يكترث برؤيتها عا رية مثل ما كان يفعل بالسابق..

 

صمتت وأنفاسها بدأت تتعالى وهي تشعر بالألم الشديد بعد أن حُقنت لمرات ومرات بذراعيها ومع مرور الدقائق بدأت تستفيق بالكامل من حالة التخدير التي تسيطر على جسدها وتنقلت عينيها لمحتويات الغرفة لتصاب بمزيد من الخوف ولكنه كان أقل بكثير من رغبتها في الموت!

 

تبعته حتى غاب عن عينيها بركن بعيد لا تعرف ما الذي يفعله ولا ما يريد أن يقتلها به هذه المرة لترطب شفتيها من شدة العطش ونظرت من جديد حولها وعقلها بالكاد يُفسر ما يراه من محتويات قد يتوقف بفعلها قلبها لو أدركت بم تستخدم!

 

ضوء من النيران الخافت الذي انبعث للغرفة التي تحتوي على أغلال حديدية ثقيلة تتدلى من السقف وسياط تبدو وكأنها من عصر آخر مُعلقة على الجدران.. ستزهق روحها قريبًا لا محالة، يا ليتها لم تعرف من هو قبل أن تصل لحقيقة أن العشق لا يدفعنا لتحمل العذاب مع المختليين عقليًا!

 

هذا تمامًا ما يفعله الطرف السا دي في العلاقة، يؤلم ويؤلم ويؤلم، حتى يُشعر لطرف الآخر بالألم العقلي والنفسي قبل الجسدي وهو يُسيطر على الأفكار قبل البدن...  والآن لقد استطاع بكل ما فعله أن يصفع عقلها بحقيقة واحدة، ألا وهي، أنها أخطأت منذ البداية.. ليتها قتلت نفسها ولم يكن عليها تحمل ما تراه بأم عينيها! وكل ما تتمناه لو أنه يقتله بيديه ليُخلصها من كل هذا العذاب!

 

أمسك بسوط ذو يد معدنية، تدلى منه تسعة أطراف معدنية أخرى، وكل طرف يحتوي على معدن شائك ما لا يقل عن سبعة عقد بكل طرف.. مما يجعل الجلدة من هذا السوط لابد ومن أن تخلف جرح شديد مدمى بالدماء ولابد من نزع تلك العقد الشائكة من البشرة التي تعلقت به.. وكلما زادت قوة الجلدة كلما زاد الانغراس وشدة الجرح المُخلف..

 

ودون الخوض في تفاصيل شتى من صراخ، وارهاق بالكاد استطاع تحمله في نوبة اكتئابه الشديدة مما جعله يلهث لاستخدام هذا المقدار الهائل من المجهود البدني.. فقدت وعيها تمامًا باقترابه من الجلدة العشرين، وكل تلك الأحداث بين أول جلدة وبين الأخيرة، أقل كلمة قد توصفها بدقة هي القسوة!

--

دخل مكتب والده في منزله بعصبية بالغة ولم يعد يتحمل كل ما يلاقيه من جنون أخيه وابن عمه يتبعه في محاولة لمنعه والسيطرة عليه ليُحدثه بنفاذ صبر ونبرة تحذيريه:

-       أنا لن أصمت على ما يفعله عمر، فعائلتها تحادثني يوميًا وأصبحت أخاف منهم ولا أعلم ما الذي يمكن أن يفعلوه، لقد أخبرت أنس ليقوم بمساعدتي في إيجاد حضرة المحامي، لنعلم ماذا فعل في زوجته دون شوشرة، ولكنه مجرم وليس محامي، عمر هارب ولا أحد يعلم عنهما شيء، هل تعي ذلك؟ أم تنتظر لتذهب للدفاع عنه في قضية قتل، أم ستعطيها لمحامي أمهر منك؟

 

رفع والده عينيه له بهدوء وهو يتحدث بهذه الحمية ثم نظر لابن أخيه وأخبره بمنتهى البرود:

-       كيف حالك أنس؟

 

أومأ له باقتضاب ورد من باب الاحترام ليس إلا:

-       أحمد الله عمي!

 

تفقد ابنه ثم نهض من فوق مقعده واتجه ليجلس بمقعد آخر وحدثه بصوتٍ جليدي:

-       ألم أخبرك ألا تتدخل في هذا الأمر؟

 

عقب على كلماته بنفاذ صبر وعصبية لا تبارى:

-       لا أتدخل عندما تكف عائلتها عن مهاتفتي أنا وأنس كل برهة ويسألون عنها وهي غايبة عنهم لأكثر من عشرون يومًا بعد أن طلبت الطلاق من عمر وذهبت بهم لمنزلهم وأتت بحرس ليقوموا بحمايتهم منه، أتعلم أنه لولا مساعدة أنس لذهبت عائلتها للإبلاغ عنه منذ فترة، وقاموا بافتعال فضيحة على وسائل التواصل الاجتماعي وأقاموا الدنيا وأقعدوها، لولا أنهم عائلة محترمة وليس لديهم أحد يؤتي إليهم بحقوقهم مثل السيد عمر لكانوا أثاروا الفضيحة منذ فترة.

 

نظر له والغضب بات يسيطر عليه بطريقة غير مسبوقة إلى أن برزت عروقه بقوة:

-       أنا أريد أن أعلم لماذا لا تريد مساعدتي من البداية، حتى من أجل أن تطمئن عليه، أنت الوحيد الذي تعلم كل شيء عنه، لماذا تصمم على التصرف بهذه اللامبالاة.

 

تفقده مليًا وبعد بُرهة من التفكير حدثه قائلًا:

-       قم بالاتصال بوالدتها.

 

سرعان ما أخرج هاتفه ثم قام بالاتصال برقم مربيتها وترك هاتفه أمامه على المنضدة وظل ينظر له ليرى ما الذي سيفعله ليُمسك به بمنتهى الكبرياء والهدوء اللاذع ثم قام بالرد على تلك المرأة:

-       سيدة أميمة، ما أخبار صحتك الآن؟!

-       أنا، أنا هدى مربية روان، هل يمكنني معرفة من أنت سيدي؟

 

رمق ابنه بالقليل من الانزعاج ثم سرعان ما أجابها:

-       يزيد الجندي والد عمر معكِ، أريد أن أكلم السيدة أميمة إذا سمحتي.

-       أجل سيدي، ثانية واحدة..

 

لم ينتظر طويلًا حتى آتاه صوت والدتها الهاتف بقلق لا ينتهي:

-       سيد يزيد، طمئنني أرجوك، أين ذهب الأولاد، ولماذا جاءت بنا روان إلى هنا؟ وأين ذهبت؟ أنا لا أفهم شيء وسأموت من القلق عليها.

 

اعطى لابنه نظرة ذات مغزى ولكن بالطبع لن يتوقع منه أن يتعلم القليل من ادارته للمواقف الصعبة مثلما كان أخيه يفعل وحدثها بنبرة مُسترخية وثقة جعلت "عُدي" يحترق غضبًا حيث لا يعرف من أين له بها بل وابتسامة اضافها لتنعكس على صوته:

-       سيدة أميمة،  لا تقلقي، فهما معتادان على الغياب عنا بالشهر والشهرين  أنتِ تعلمين عادتهم جيدًا، بعض الدلال، والمشكلات التي تحدث لهذا الجيل، لازالوا صغارًا، مشكلة تكبر وتنتهي على لا شيء، منذ زواجهما وهما يغيبان كثيرًا، وفي النهاية نكتشف أنهم مسافران ويستمتعا بوقتهما، أليس كذلك؟

 

تريثت والدتها لبرهة وهي تفكر في كلماته، شيء بعقلها لم يتقبل كل ما حدث فأخبرته باستغراب ولكن بنبرة ليست متلهفة مثل سابقتها:

-       ولكنها لأول مرة يغيبان كل هذه المدة دون أن يهاتفونا ويطمئنونا عليهما، حتى الرسائل لا يجيب عليها أحد منهما، ولا تصل إليهما من الأساس، وموضوع رجال الأمن الذي صممت عليه يقلقني كثيرًا، أرجوك سيد يزيد حاول في أقرب فرصة أن تصل إليهما، أنا لن أطمئن سوى بالحديث معهما بنفسي، واطمئن عليهما.

 

سرعان ما عقب بثقة مبالغ فيها وهو يقول:

-       بالطبع سأفعل ذلك، لا تقلقي، أسبوع على الأكثر لأرى هل هما داخل مصر أم في الخارج، ومن المؤكد أننا سنطمئن عليهما جميعًا، ولا تقلقي هذا دلال شباب ليس أكثر، لقد كنا جميعًا هكذا في يوم من الأيام

 

عاملها بمنتهى اللباقة والذوقية المبالغ فيهما وكأنه لم يكن نفس ذلك الرجل الذي يُفكر في كسر رأس زوجة ابنه التي يهاتف والدتها عبر الهاتف، وبعدة كلمات مقنعة وضحكات واطمئنان على صحتها وثرثرة لا تُفيد استطاع ببراعة أن يُزيل قلقها، بل وكسبها إلي صفه مؤقتًا إلى أن يجدهما!

 

بالطبع لم يكن طفل صغير مثل "عدي" ولا حتى "أنس" وكلاهما لا يستطيعان إيجاده، هل لديهما أي فكرة عن كم من المنازل يملك؟ أو كم مقدار المال الذي يقوم يدفعه كضريبة عقارية أو كضريبة على كل ما يمتلكه؟ هل يعرفان كم من رجل يعمل في مقر شركته؟ كم قضية تولاها؟ كم قضية كان على وشك أن يخسرها بالكامل لولا مساعدته خلالها بطريقة غير مباشرة؟!

 

"عمر" ليس ابنًا بالنسبة له، هو مشروع شغوف به، يعشقه أكثر مما يعشق نفسه، لا يريد أن يكون نسخة منه وحسب، بل يريد أن يرى "يزيد الجندي" مُضاعفًا آلف ضعف، ولكي تنجح في مشروع عليك أن تُلم بكل جوانبه وتدرسه من جميع الجوانب بحرص مبالغ به حتى ينجح نجاح ساحق!

 

هناك الكثير مما يعرفه بالفعل، ولكن من كل ما يسمعه ويعرفه يبدو أن تلك الفتاة المدللة المتحكمة تريد الطلاق وهو يرفض هذا وبشدة وخصوصًا بعد تلك المكالمة التي سأله اثناءها عن مدير البنك، بعد كل كلماته له وبعد آخر لقاء بينهما وهو متبوع بنبرة ابنه التائهة عبر الهاتف، لابد من أنه يقوم بتعديل رأسها العنيد بكل هذه الفترة بعد تحذيراته المتتالية له، وسيعرف هذا بعد اثنان وسبعون ساعة كحد أقصى!!

 

--

بعدها بقليل..

يا له من دجال أرسل بأنفار شياطينه، ذاك الشبل من هذا الأسد عن حق، هو يتيقن الآن أنه لم يغادر البلاد، ولم يذهب للخارج، ولم يقم بعمل أي حجوزات عبر أي فنادق، لم يتبق سوى منازله وكل ما يمتلكه باسمه!

 

أرسل لصوصه في حملة تقصي لتواجده بكل منزل يملكه وجلس في انتظار الخبر الذي سيُنهي هذا القلق بداخله، هو لا يملك صديق، ولا يملك سوى ما اكتسبه وحده، ولذلك يشعر بالخوف لو أن هناك بهذا الرأس الذي رباه على يديه كما يحلو له خطة أخرى ومكان آخر قد يتواجد به، وقتها سيكون الحل أصعب!!

 

حافظ على هدوئه ولكن لم تسلم سجائره الضخمة ولا أجواء مكتبه من تلك الأدخنة الكثيفة التي كونت غمامة تُشابه ما يمر بعقله، وبمجرد استقبال أولى المكالمات أجاب فورًا دون التفوه بحرف ليأتيه ذلك الصوت المتكلم:

-       وجدناهما، يتوجدان في ... في الساحل الشمالي..

 

زفر براحة ولكن دون أن يستمع له الطرف الآخر واكتفى بإملاء تعليماته ببرود:

-       كما أخبرتكم، اذهبوا وكأن لا احدًا لا يعلم شيء، لا أريد أي ضجة نهائيًا.

 

-       حسنًا سيد يزيد!

 

أنهى المكالمة ووضع هاتفه أمامه على مكتبه وقرر أن يذهب له بنفسه صباحًا ليرى ما نهاية هذا الزواج الذي قلب حياة ابنه رأسًا على عقب، فهو يستطيع أن يتقبل أي من مصاعب الحياة، ولكنه لا يتقبل أبدًا أن يخسر ابنه ومشروع حياته من أجل امرأة؛ بل فتاة صغيرة تافهة..

 

فلقد استطاع أن يُخرج الأولى من حياته بمنتهى السهولة، أمّا هذه فهو لابد من أن يقوم بإبعادها عنه للأبد!!

 

لم يستطع سماع صوت عقله ولا الاستجابة لقراره، ونهض بعفوية شديدة والقلق يعتريه، وتوجه سريعًا ليبدل ملابسه ويذهب له، فكل الفترة الماضية كان يتظاهر بالبرود، ولكن يكفيه كل هذا الغياب، هذه المرة عليه أن يُمسك بزمام الأمور ليُنهي هذا الفشل الذريع الذي لم بابنه، وبقلب والد فاسد، تأثر لغيابه الطويل، كما الشيطان الخائف من عدم استجابة الأخيار لنفثه!

--

في مساء نفس الليلة..

نظر إلى بدنها الساقط على الأرضية وملابسها ينطبع عليها الدماء المُخلفة بفعل سوطه المعدني واكتفى بترك طبق يحتوي على بعض الطعام القليل وانتظر استيقاظها بمنتهى الإرهاق والمشقة، فهو لا يضمن ما الذي سيحدث لو تركها وحدها، لا يستبعد أن تقوم بإعادة محاولة انتحارها مرة أخرى وهذه الغرفة بكل ما تحتويه من أدوات تستطيع أن تنجح في الأمر بمنتهى السهولة!

 

نظر لتلك القطع النادرة التي أهداها له بعض رجال الأعمال، لابد أن تلك المزادات التي تُقام من أجلها من الصعب للغاية أن تنتسب لنوادٍ تطرحها، كقطعة حديدة لكامل الرأس والوجه مزودة بمشابك حديدة تضغط على الرأس، وذلك الكرسي المثلث الخشبي ذو السنون الحادة التي تُمزق جسد من تجلس عليه، وهذا المجسم الذي كان يُستخدم بحِقَب تاريخية سحيقة لمعاقبة أسرى الملك، أو ما صُنع من أدوات أخرى لتعذيب النساء المتصفات بالساحرات وما صُنع على غرارها من قطع يقع البعض في هوسها!!

 

لقد كان عاشقًا للتاريخ، ويُحب كل ما يُقربه منه، ولكن لم يخطر على باله قط أنه في يوم من الأيام سيحتاج لتلك القطع ليستخدمها معها!!

 

الخيالات الجامحة تأتي وتذهب بعقله الفاسد، يتمنى أن يُفسد المزيد منها، يتخيلها رهن نظرة من عينيه كما كان ساذجًا يحقق لها ما تحلم به، لابد أن تصبح في النهاية كما تحلو له، وربما بعد النهاية التي يبتغيها سيقوم بقتلها وقتل ذاك المخـ نث!

 

بالرغم من كل ذلك التفكير ولكن وطأة ارهاقه تزداد، بالكاد يستطيع أن ينهض من مقعده وهو يُشاهدها ما زالت فاقدة للوعي، لا يدري أن عقلها لا يود النهوض، لم يعد يرغب بالحياة، وكل ما تُفكر به بعد كل هذا العذاب المتوالي على رأسها ونفسها قبل بدنها أن تغادر العالم دون رجعة..

 

نهض بخطوات مترنحة ليقوم بتشغيل المياه بحوض الاستحمام وصنع القهوة بسرعة لعله يستيقظ من حالة الحُزن المهلك على ما آلت إليه الأوضاع، فستبقى الحقيقة بينة إليه، هو لم يُرد لكل ذلك أن يحدث فيما بينهما..

 

آتى بمياه مثلجة بها الكثير من قطع الثلج في دلو امتلئ حتى نهايته ثم عاد من جديد لنفس الغرفة، وارتشف من قهوته ثم وضعها هي والدلو جانبًا وذهب ليُغلق المياه بالمرحاض ثم عاد من جديد وتناول قهوته دفعة واحدة متحاملًا على تلك المرارة وتلك السخونة الشديدة وارتدى قفازه ليستطيع التعامل معها وفي النهاية أمسك بالدلو وقام بسكبه عليها بعد ساعات منذ أن فقدت وعيها..

 

شهيق طويل استمع إليه ليعلم أنها استيقظت بالفعل وظن أنها ستكون مرعوبة أو مذعورة، ولكن لقد وصل لنهاية ما يريده أولًا مع أولى جولات عذابها البدني، لقد استسلمت بالكامل وأصبحت كالجثة الهامدة، لا شيء يدل على كونها على قيد الحياة سوى نظرتها الشاردة وحركات صدرها البطيئة التي تدل على التنفس..

 

 لم يستنتج ذلك سوى بعد أن جذب خصلاتها وهو يحاول أن يُجلسها على الأرضية المبتلة بالمياه الباردة ولم يصدر منها أي تحركات على الاطلاق!

-       لماذا فعلتِ بي كل ذلك؟

 

سألها وهو جالس على مقعد خشبي أمامها بينما لم تتبدل نظرتها ولم تبادر بأي إجابة تُذكر ولقد آتى تحقيقه في الوقت الضائع ولم يتبدل وضعها وظلت كما هي بنفس تلك النظرات الباردة الفارغة من المشاعر..

 

خدعة أخيرة، إما فازت بحياتها وإما يقتلها، لم يعد لديها حل آخر سوى هذا لكي لا تتعرض للمزيد من العذاب، هذا هو الحل الوحيد معه، لا يكره سوى أن تُترك كلماته هباء دون رد أو إجابة منها، سواء في مناقشة، أو مجادلة، أو حتى علاقة حميمة!

 

-       هل ستنطقين؟ أم أجعلكِ تنطقين بطريقتي؟

 

 

سألها وهو يتابعها بفحميتين من قاع الجحيم الذي أُسس على الظلمة الحالكة بينما لم تهتز بها شعرة فنهض ليعبث خلفها بتلك السلسلة التي كانت تستمع لها وهي بداخل الصندوق المظلم الضيق الذي مكثت به لوقت طويل لا تستطيع تحديده بعد، وبالرغم من ذعرها تجاه الأمر إلا أنها تحملت بأقصى درجة يتحملها عقلها قبل أن يذهب حقًا بالكامل.. لقد تعلمت المكر منه، ولا ضير من أن يتفوق التلميذ على مُعلمه! ولو كان يظن أنه قوي بما علمه والده فهي أقوى بمراحل لا يتخيلها، كما صممت على امتلاك الأوراق واستيعابه أنه رجل مريض، ما زالت مصممة على نجاتها من هذا الزواج إما بالموت وإما بحصولها على ما تريده! هي لم ولن تعرف طريق للفشل كما عاهدت والدها منذ زمن سحيق!

 

اقترب منها ثم ناداها باسمها ليستدعي انتباهها وهو يلمحها أسفل قدميه:

-       روان!

 

التقت اهدابها لمدة قليلة من الثانية ولم تُعد كرتها وليفعل ما يحلو له، إما ميتة وإما مطلقة وهاربة من براثن هذا المرض بعد اقتناعه بما تراه، لن تخرج من هذا إلا كما يحلو لها! أهم ما تُفكر به هو التخلص منه، حية أم ميتة!

 

-       عظيم، أكملي تمثيل..

 

تصاعد رجيف قلبها الهالع لما قد يفعله بينما لم يختر عقله سوى الإيهام بالغرق فجذبها من خصلاتها جر حيث حوض الاستحمام وبدأ في دفع وجهها بداخل المياه كي يتسرب لعقلها أنها تموت بالفعل..

 

نسى تمامًا ما حدث منذ أيام قليلة تُعد على أصابع اليد الواحدة، هي بالفعل حاولت قتل نفسها، ولكن عقله الفاسد لم يتذكر ذلك!

 

بدأ يشعر بمدى هوان جسدها أسفل يده وهي مستسلمة بالكامل لا تقاوم أي من افعاله القاسية ليبدأ في جذب عنقها الممسك بها لأعلى ليستمع لشهقاتها الهادئة وكأنها لا تمانع الموت، هل ظنت أنه يكذب؟! ليُريها المزيد..

 

كرر الأمر مراتٍ ومراتٍ متتالية وبكل مرة يُزيد من قسوته وطول المُدة التي تُكتم بها أنفاسها أسفل المياه ولكنها لم تتظاهر سوى بالاستسلام واستطاعت أن تترك دموعها تنساب وهو يقوم بإيهامها بالغرق وكل ما تتشبث به هو ما ستفعله به لو خرجت من هنا حية تُرزق، أمّا لو اغرقها بالفعل ولاقت حتفها على يده فلن يفرق الأمر كثيرًا ستكون تخلصت منه كذلك..

 

كيف استطاعت فعلها؟!

 

فتاة مثلها لم يكن لديها حياة صعبة، والألم الذي ذاقته على يده كان بالتدريج، منذ أول ايامها معه بغرفته الجحيمية إلى تلك اللحظة التي يحاول أن يغرقها بها، لم تتعود قط على الخوف وهي طفلة، لم تعرف قط طريق للفشل ووالدها يدعمها ويشجعها وترى الفخر بعينيه وهو ينظر لها، لم تصبر على كل ذلك سوى بتذكره وهي ترى انعكاس وجهه في تلك المياه التي ابتلعت أنفاسها بالكامل حتى كادت أن تلفظها بأكملها، وبتشبثها بكل ما امتلكته يومًا في حياتها! ولعقلها وسلامته كان هذه أفضل مصادفة قد يولدها عقل.. فهي تمتاز بذكاء فطري، على عكس غباءه وفساد عقله.. ربما استجابتها بطيئة، ولكنها في النهاية تنجح بكل ما تريد!  

 

على الصعيد الآخر، هناك ذاك الطفل بداخله، ربما بعيد ودُفن في باطن سنوات مريرة، ولكن الطفل "عمر" يعلم أن قوة الرجل في أن يخيف غيره، يتذكر كل خطوة وكل فعل فعله كان لا يأتي سوى بإذن والده، يخيفها ويتوقع بكاء، صراخ، أو توسل، مثل ما كان يفعل ذاك الطفل، ولكنه نسى أنها طفلة وفتاة وامرأة حُرة لم ولن تقبل تلك الإهانة، إما الموت بما تبقى بها من كرامة، أو تراجعه هو.. أحيانًا لا يبقى سوى الأقوى.. وعقليًا هي أذكى بكثير منه! وبدنيًا كانت تتوقع كل هذا منه.. كل ما يتوجب عليها هو التحمل لقليل من الوقت بعد!

 

بُترت محاولاته المتتالية في أن يوهمها بالغرق ليخرجها في النهاية وهو لم يعد يتحمل هذا الاستسلام منها ولم يعد به مقدرة بدنية على إلحاق المزيد بها فنظر حوله بما قد يستخدمه لتستفيق بعد محاولة اغراقها بينما لم يجد عقله المُجهد سوى حل وحيد، وهي لم تجد سوى أن تتظاهر بالمزيد، فهي تعلم تلك التحركات منه عندما يكون مشتت، عليها أن تتلاعب على النوبة التي يمر بها، وإلا لن تنجو منه، وتضرعت بشدة بداخلها أن يفعل ما تستطيع أن تتحمله، فلو استطاع حقًا النظر بداخلها سيراها تصرخ هلعًا مما تمر به!

 

وفي عينيها، أن تكون مريضة بدلًا من أن تتحلم، كان أبشع النهايات على الاطلاق، فهي ترى أمامها مثال واضح جلي لأعينها، وبكل ما بداخلها لا تريد أن تصبح مريضة مثله!! 

 

--

 

جذبها من خصلاتها وهو يقوم بتقريب وجهها من انعكاس الصل الأسود المتواجدة على الزجاج في حالة سكون تام وهمس بصوت مقيت بأذنها:

-       أتعلمين إن لم تنطقي سأجعله يقتلك.

 

لم تحرك ساكنًا بينما بدأت في ذرف الدموع ولم تقل شيئًا سوى تظاهر بأنها تحاول التحدث ولكن الكلمات تأبى الخروج من فمها..

 

دفعها نحو باب الغرفة لتنهمر المزيد من دموعها وتعالى صوتها بمحاولة النطق وتظاهرت مرة ثانية أنها لا تستطيع فعلها ليحدثها متسائلًا بصياح أجفل قلبها:

-       هذه آخر مرة أسألك بها، لما قومتي بفعل ذلك؟

 

ادعت انعقاد لسانها مرة ثانية وهي تخشى من جولة عذاب أخرى ولكنها التفتت نحوه وعينيها باكيتين وحاولت النطق وهي تستجدي رحمته بنظرات متوسلة ثم هبطت من تلقاء نفسها غير عابئة بخصلاتها التي تمزقت بين يديه وأخذت تقبل قدمه وهي تزيف محاولة التحدث وكأنها لم تعد تملك القدرة على الكلام!

 

رمقها أسفل قدميه وهي في تلك الحالة التي لم يكن يظن أنها ستصل لها الآن، كان يتوقع في مرحلة ما أنها ستفقد القدرة على التكلم، ولكن كان هذا باكرًا.. ربما هناك حيلة أخرى متبقية!!

 

تخلص من تشبثها بقدمه لتتقهقر لخلف وهي تبكي واستكانت من فزعها وتفقدته لتجده يتجه نحو الخارج لتزفر بينها وبين نفسها وبقيت في الحفاظ على ملامحها لتضم قدميها لقفصها الصـ دري ولعنت حظها على خوفها الذي لا ينتهي من الحيوانات والزواحف وكل ما دب به الروح ولا يتصف بإنسان أو نبات!!

 

عليها فقط أن تبقى بهذه الحالة إلى أن يفقد هو مقدرته على المتابعة فهو مُكتئب بالفعل وعلى ما يبدو أنه ما زال مستيقظًا منذ مُدة ليست بقليلة، ولو استمر في هذا إما ستبدأ هلوساته وإما سيفقد اتزان عقله عما قريب.. فكما حاول هو أن يفقدها عقلها ستفعل هي الأخرى، والبادئ أظلم!

 

عاد من جديد فادعت الشرود في الفراغ وسلطت نظرها على الأرضية ومجريان من دموعها خلفا سبيلين، إما الفرار وإما الموت، لتستيقظ على صوت هذه الرصاصة الطائشة ليرتجف جسدها في حالة من الذعر وهي تنظر نحوه وكاد قلبها أن يتوقف من شدة الذعر ولكن آخر ذرة من ذرات عقلها أخبرتها أن الأمر مجرد مُزحة، أو محاولة لجعلها تستيقظ وتُحدثه، كما فعل منذ قليل بترهيبها بذاك الكائن الزاحف المخيف أسود اللون!

 

حللت الأمر بعقلها بمنتهى المنطقية وهي تتظاهر بتلعثمها، لو تركها لهذا السام، ستُصاب بجولة أخرى من السُمية والعلاج، وربما فقدان الوعي، لذا لم يُكمل الأمر، أما عن هذا السلاح الذي يتوجه به نحوها فلابد من أنه اختبار آخر لها! وليس عليها سوى الصمود!

 

-       انطقي، هذه آخر فرصة سأعطيها لكِ، لماذا فعلتي كل ذلك؟

 

ملامحه مُتأثرة ويتساءل بحرقة، لو كانت محقة بمعرفته لقالت إنه كان يبكي بشدة من أجلها بتلك الأيام الماضية، ما زال يظن أن العشق هو كل ما في الحياة من غايات، يا له من مريض ذو عقل واه!

 

ادعت محاولة الكلام ثم امسكت بثوبها الذي تعلق ببقايا الدماء اثر سوطه اللعين وكأنها تحاول التكلم وهي تجذبه بعصبية بالغة كدلالة على عدم استطاعتها الكلام وتوسلت بعسليتين مذعورتين فحدجها بكراهية من شدة مقته لأفعالها اللعينة الماكرة، ومن شدة عشقه الأهوج لامرأة لا تستحق!


-       لماذا أوصلتينا لكل هذا؟

 

صوب سلاحه نحوها ليتعالى ذعرها الزائف وهي حقًا أوشكت على النطق بينما التهمه اليأس من تلك الحالة التي وصلت إليها، بينما دار بداخله حرب حقيقة من شعورين لا يعلم لأي منهما يستجيب..

 

كرجل سا دي هو يعشق ألم من أمامه، وكرجل مصاب باضطراب ثنائي القطب يشعر بجلد الذات على ما توصلت له على يديه.. وبين هذا وذاك يشعر بالحزن من أجل ما وصل له معها، ففي كل الأحوال قد فقدها، إمّا لرجل آخر، وإمّا على ما فعله بها، وإما بمقتلها الذي لن يتراجع عنه هي وذاك المُخـ ـنث!

 

-       ألم أحبك بما فيه الكفاية؟

 

نظرت إليه وهي تذرف الدموع من بين عينيها وهي تصرخ بلسان منعقد مدعية المزيد من عدم مقدرتها على النطق ليُعيد كرته:

-      ألم أحاول أن أتغير من أجلك؟

 

بدأت كلماته تُحرك بها مشاعر ظنت أنها دُفنت للأبد بصحبة عينيه التي بدأت تتكوم عليها دموع قهره، ولكن لم تحرك بها سوى الشفقة على عقله غير المتزن، بينما لو كان حقًا واعيًا لكل ما فعله بها فتقسم على قبر والدها أنه ستنتقم منه أشد انتقام يتخيله هذا المختل!!

-       كل الذي عشناه سويًا لم يجعلك تحبينني؟

 

قالها بنبرة غلب عليها البكاء فأومأت بالإنكار وهي تدعي المزيد من محاولة الكلام واخذت تطرق بيديها على ساقيها من عجزها عن الكلام المفهوم واستمرت في ادعائها فلقد قاربت إما الموت وإما النجاة!!

 

غالبته دموعه بغتة لتنهمر دون إرادة منه ليجففها بقسوة وهو لا يتقبل ضعفه أمامها ليقارب على خدش وجهه ثم سألها من جديد وهي على نفس حالتها المزرية التي انطلت على عقله المشتت:

-       هل هناك امرأة تحب رجل وتفعل به هذا؟

 

صوته المختنق بأمواج متلاطمة من دموعه التي يحاول يقهرها بداخله أثر بها قليلًا شفقة به، وبنفسها، لا تريد أن تصبح مريضة مثله، لذا تشبثت أكثر بالقوة، وعلمت أن عقلها ما زال يستوعب كل ما يجري حولها!

 

-       بماذا فرقتي عنها؟ انطقي.

 

صرخ بها وهو يتمزق بداخله على بكائه أمامها ليطلق رصاصة أخرى طائشة بينما ادعت صعوبة النطق وهي تتحرك تحركات زيفتها ببراعة وأخذت تهز رأسها بالنفي وهي تبكي بشدة، فالبكاء من خشيتها منه حقيقي.. ولكن الكلمات التي لن تُفيد معه ليس منها طائل، لذا استمرت في محاولتها وتوسلت بداخلها لو فعلت أي شيء في حياتها جيد أن تفلح هذه المرة معه!

 

-       لماذا تجعليني أعيش نفس الجرح مرتان؟ لماذا فعلتي بي هذا؟ لماذا بنفس الطريقة؟

 

داومت على فعلها بينما كلماته بدأت تُصيبها بالصدمة، لماذا يُقارن بينها وبين "يُمنى"؟ لا، هي لم تقم بخيانته على الاطلاق! ورغمًا عنها توقفت حالة ذعرها لحالة من الذهول وعدم مقدرة على التحرك..

 

الرجل لا يبكي، هكذا أخبره والده يومًا ما، ولكن أمامها لا يستطيع فعل ذلك، كان بالسابق يقدر أن يقف أمام "يُمنى" لمدة عامين بأكملهما وهو يخدعها، أما تلك التي غرق في عشقها لا يستطيع أن يفعلها.. وإن لم تعشقه، فلقد فعل هو.. لقد فقد رجولته بالكامل بين يديها، ربما هذه هي الحقيقة التي كان يُنادي بها والده ولم يستمع لها قط بالسابق!

 

-       أتعتقدين أنني لم أعلم إلى أين وصلت قذارتك؟ الم تكتفي من هذا التمثيل؟

 

تحول بُكائه لشهقات فحاول السيطرة عليها وعقله يذهب لصورة هذا المخـ نث، فصرخ بها بحرقة الهبت صـ دره:

-       انطقي..

 

أومأت له بالإنكار وحافظت على صمتها وانطلق سيل من دموع من بين عينيها، ورأسها لا تتصور كيف يُمكنه أن يرتاب بهذا الشكل من جديد؟ يا لها من كارثة أن تقع في عشق رجل مجنون أو أن يقع في عشق امرأة.. يحول حياتها لجحيم مقيم لا ينتهي!

 

-       أتعتقدين أنني أمزح معك، حسنًا سأجعلك تتحدثين وأنتِ تشاهديه ميتًا أمامك.

 

توسعت عينيها بهلع وأخذت تومأ له بشهقات ادعتها بين بكائها ليتركها ويغادر للخارج وأحضر هاتفه ثم قام بتشغيله ووضعه جانبًا وبدأت تلك الاشعارات تصله دون انقطاع بينما خلع قميصه وتوجه ليُكمم فمها به جيدًا كي لا يصـ در منها صوت لو كانت تدعي كل ذلك وأمسك بهاتفه وقام بالاتصال بهذا الحقير وفعل مُكبر الصوت ليأتي صوته الناعس متكلمًا:

-       ألو.. من؟

 

رمقها باحتقار بينما سلط السلاح نحوها ممسكًا به بقفازه ثم حدثه بجدية شديدة:

-       أنا عمر الجندي!

 

انتبه على صوته وسرعان ما تنبه الآخر من نُعاسه وثرثر بكلماته المعتادة:

-       أخيرًا، الكل يسأل عنكم، أنت الوحيد الذي يمكنه ان يفيدنا في موضوع الخطبة هذا، أنا وعُدي نبحث عنك في كل مكان لأنك الوحيد الذي تستطيع إقناع والدك، أين أنت منذ مدة؟ أخيرًا قص عليك عدي الأمر، بالمناسبة لماذا روان لا تجيب علي؟

 

 

سكت من تلقاء نفسه ونسى تمامًا أنه تسرع مع هذا الغليظ بينما اندهش "عمر" مما يستمع إليه واهتزت يده وبعد دوام صمت طويل حاول "يونس" تدارك خطأه الفادح ليقول:

-       أنا.. أعتذر يبدو أنني قد تسرعت عندما أخبرتك بهذه الطريقة، ولكني في الحقيقة تحدثت مع عدي منذ فترة أنني أريد أن أتقدم لخطبة شقيقتكما، وهو وافق وهي وافقت أيضًا، وننتظرك لتقنع والدك حيث إنك أقرب شخص إليه.

 

حدقها بصدمة ثم حدق بهاتفه وانعقد لسانه ثم سأله بكلمات غير منمقة ودون دراسة أو تفكير آتت على هيئة صوت مغمغم:

-       وروان؟ روان، أنت كنت تحدثها، وهي كانت تذهب إليك، أنا رأيتها بعيني يومها.

 

عقد حاجباه في حالة من الذهول وهو ينظر لها ليأتيه صوت هذا الحقير مجيبًا:

-       أنا في البداية كنت أحاول أن أجعل روان تساعدني في موضوع عنود، وعندما امتنعت عن الرد علي اضطررت أن أتحدث مع عدي، ولم يكن هناك سوى هذه المرة التي خرجنا بها نحن الثلاثة، ويومها أنتكنت تبدوا متضايق بعض الشيء، ولكني اقسم لك لم أكن اقصد سوى التعرف عليها وأذهب لأتقدم إليها فورًا.

 

أنهى المكالمة وهو يحاول تذكر تلك الرسائل بينهما:

 -       لماذا لا تجيبين علي؟

-       ألا تنوين أن تحنّي علي قليلا؟

-       أنتِ لستِ جيدة بالمناسبة لأنكِ لا تريدين إنهاء هذا الأمر.

-       أنا من المستحيل أن أتحدث ال زوجك فيكفي ما حدث آخر مرة.

-       أنتِ يا سيدة الأعمال.

-       روان، كل ذلك ولا تجيبيني، هل هاجرتي أم ماذا؟

-       حسنًا ألن أراكِ قريبًا؟

-       هل تفعلين ذلك لأنك جميلة، أعرف فتيات جميلات أيضًا بالمناسبة.

-       أنا أنتظرك كل ذلك الوقت ولا أريد أن أتهور.

-       هذا آخر تحذير، لن أنتظر أكثر من ذلك لقد أمسيت شهورًا في ذلك العذاب.

-       انظري طالما أنتِ لم تستطيعين التصرف لقد تصرفت مع عدي وشرحت له كل شيء حدث وما يحدث، يحدث



لا، بل هناك المزيد، ذلك اليوم وتوتر "عنود" أمام عيناه بشدة، الآن الأمر يبدو منطقي:

      

-       نعم صدفة، أقسم لك أننا وجدناه قد أتى فجأة، وأنا، وأنا، وأنا أراه لأول مرة، أقصد بعد يوم عيد مولدي عندما كنا في الفندق وكان معه شقيقته، ووالدة روان، وأنت وعدي كنتوا معنا و...

 

ولكن لو كان هذا هو الأمر، لمن كانت تذهب وقتها؟ لابد أنهما يخدعاه، وكانا يتفقان مُسبقًا لو حدث مكالمة هاتفية سيقولان ذلك، هل "عدي" مشترك هو الآخر بالأمر؟ عقله لا يقبل التصديق، لقد رآها تذهب لمنزله لأكثر من مرة!! يستحيل أن يقوم بالتصديق بهذه السهولة، هل يمزح معه الجميع؟!

 

تشتت عقله وشعر أن رأسه أوشكت على الانفجار وبعد برهة نظر إليها وملامحها الباكية ما زالت كما هي وذاك الذعر بعينيها ما زال كما هو فتوجه نحوها وركع أمامها وحرر فمها وسألها متوسلًا:

-       أجيبيني، حاولي أن تتحدثي،  أنتِ كنتِ تذهبين للمبنى الذي به منزل يونس، لماذا؟

 

أنين مرتعد فضلت أن تكمله للنهاية بدلًا من انكشاف خدعتها الأخيرة ولمست به مصداقيته بملامحه المذهولة ليمسك بكتفيها يحاول أن يوقظها من هذا الصمت اللعين:

-       أجيبيني لمن كنتِ تذهبين هناك؟ أنا رأيتك بعيني تذهبين أكثر من مرة، هل كنتِ تكذبين علي وتدخلين أخوتي في لعبتك القذرة؟

 

أومأت له بالانكار وادعت الحديث لتضرب الأرضية بجانبها وكأنها لا تستطيع النطق وتعجز عنه فأشارت بيد مرتجفة لهاتفه وهي تخرج أنين من بينه لسان منعقد لا يقوى على الحديث ففهم ما تُرمي إليه فأتى بالهاتف ثم ناوله لها..

 

ذهبت لرسالة فارغة وبدأت في الكتابة بأيد مرتجفة وأعين منعتها الدموع عن الرؤية بوضوح:

-       استشارية علاقات زوجية، دكتور مريم عزيز، الدور الثامن.. شقة 160.. علمت منها ما هي حالتك.

 

حدق بها بغير تصديق بينما رمقته هي بخوف ليُمسك بهاتفه واتجه بلهفة على بريده الالكتروني وآتى بتلك القائمة اللعينة التي أرسلها له الرجل ليجد اسم هذه الطبيبة مُدرج كما قالت تمامًا ولكن جزء بعقله لم يتقبل الأمر فهاتف "عُدي" بسرعة الذي اجابه بغضب لاذع:

-       هل يمكنك أن تفهمني أين أنت؟ والدنيا كلها مقلوبة عليكما.

 

لم يكترث بما قاله بينما هتف به متوسلًا:

-       أرجوك عدي أخبرني، يونس حدثك وتقدم للزواج من عنود، هل هذا صحيح؟! وأخبرك أن روان كانت تعلم؟!

 

استمع لزفرته ليحدثه بنفاذ صبر:

-       نعم حدث وهي من كانت تحاول تقريبهم من بعض، ها أنت قد علمت، أخبرني أين أنت،  عائلتها لن يصمتون، أنطق، أين أنتما عمر.

 

انهى المكالمة ثم نظر لها وعقله يومض به الكثير من الصور والأحداث المتتالية وهي حبيسة بداخل ذاك القفص بالسابق وهي ترفض بشدة تلقيبها بالخائنة وكل ذلك كان مجرد شك منه لما عاناه بالسابق وتوقفت عينيه نحوها في حالة من الجنون الشديد وهو يهمس بما شابه كلمات وبالكاد سمعته يغمغم:

-       أنت كنت على حق منذ البداية.. هي ليست خائنة، هي ليست مثلها.

 

تفقدته بتوسع عينيها الباهتتين بحمرة قاسية من شدة بكائها ورأته يجذب سلاحه وينهض ثم أوقفها لترمقه بخشية فهي إلى الآن لا تُصدق أنه بات يقتنع بالحقيقة ثم تفقدها بأعين نادمة على كل ما فعله ولم يملك المقدرة على شرح ولا تفسير كل ما فعله كنتيجة لأفعالها التي لم يتفهمها ولكنه نظر لها بامتنان وهمس بأعين صادقة وذرفت دموع قهرت مقدرته على التحمل:

-       هل فعلتي كل ذلك فقط لكي تتطلقي وتقومي بإقناعي بأنني مجنون واحتاج إلى علاج؟

 

أومأت له ببكاء حقيقي وملامح مرتجفة ولكنها لم تخسر تماسكها للنهاية فهي أوشكت على المغادرة للأبد فتعالى بُكائه قهرًا على كل ما حدث وكل تلك الجرائم التي ارتكبتها يديه بحقها ليقترب منها وقبل جبهتها لتفقد المقدرة على التنفس لمجرد لمسته على جبينها وهمس بشفتين مرتجفتين:

-       أنا سأفعل كل ما يحلو لكِ كيفما تريدين، سأخلصك من كل هذا.

 

تقهقر للخلف وهو ينظر لها للمرة الأخيرة ثم همس بألم:

-       أنتِ طالق روان..

 

توقفت عن البكاء، النحيب، وكل المشاعر، بل كانت عينيها ثابتتين دون حركة تنظر له بصدمة شديدة، هل تضرر عقله؟ أم بدأ في العلاج وهذه هي أولى الخطوات! أم أن العشق يمكنه فعل ذلك؟! ذهول اعتراها تاركًا إياها لا تستوعب ما يحدث!

 

لو كان مجنون بعشقه وهوسه بها، ومجنون بما فعله لها وبها، ولو فعل اليوم بعد شهور أثقل بها كاهلها كل ما يحلو لها، ولو كانت هي مُحقة كما كان يظن طوال الوقت فلابد أنه مجنون حقًا ولم تكن تكذب.. لم يخبره أخيه ولا ابن خالتها بأي بلاغات، كانت تريد أن تتفاوض معه على حُريتها من رجل مجنون! هل نسى ما يقارب من شهر ونصف الشهر من حياته لأنه مجنون؟! ليكون مجنون حتى النهاية اذن ويتخلص من هذه الحياة البائسة، فهي لن تغفر له ولن يغفر لها لو فعلت، هو لا يستحق الغفران، وهو لن يقبل أن يمزق بين جلسات علاجية وأدوية وأفكار شتى ووالد لن يقتنع بأن المحامي الشهير مريض نفسي أو عقلي في حالته تلك، لقد كانت رحلة مُزرية على كل حال، ولم يكن بها ما يشجع على الاستمرار سواها هي، ولقد فقدها بالفعل!

 

أمسك بسلاحه وصوبه بمنتصف صـ دره العا ري وهو يبكي بشدة ثم حدثها قائلًا:

-       حاولي أن تتعالجين لأن ما فعلته بكِ يصيب بالجنون حقًا، وفي يوم ما إن استطعتِ أن تسامحيني افعلي ذلك مع أنني لا أستحق ذلك، تذكري أنني كنت أعشقك.

 

 

 

أغلق عينيه لتصرخ به تمنعه عن فعلها بعفوية منها وقد نست تمامًا تزيفها عدم التحدث:

-       انتظرعمر.

 

ولكنها تأخرت للغاية فلقد استقرت الرصاصة بمنتصف صدره وتعلقت عينيها الباكيتين بها فالتفتت نحو الباب وهرعت للخارج فهي تعرف أن هناك أطباء بهذا المنزل عالجوها لأكثر من مرة ولكن ما فوجئت به هو تواجد والده خلف الباب، أخذ لمحة خاطفة تجاه جسد ابنه المُلقى أرضًا ثم سلط نظرته عليها باتهام صريح!!


إلي اللقاء في الجزء الثالث

بعنوان

 

كما يحلو لها