-->

رواية تعويذة العشق الأبدي - بقلم الكاتبة سمر إبراهيم- الفصل الثاني


رواية تعويذة العشق الأبدي 
بقلم الكاتبة سمر إبراهيم 




الفصل الثاني

رواية

تعويذة العشق الأبدي




"أنا صديقتك الأولى،

أنظر!، أنا كالبستان الذي زرعته زهورًا،

بكل أنواع العشب العطر الرقيق،

جميل هو المكان الذي أتنزه فيه عندما تكون يدك في يدي،

جسدي في غاية الراحة،

وقلبي مبتهج لأننا نمشي معا،

أنا أحيا بسماع صوتك،

وإذا نظرت إليك،

فكل نظرة بالنسبة لي أطيب من المأكل والمشرب"


"مقولة فرعونية"


❈-❈-❈




يقود سيارته مسرعًا يخشى أن يتأخر عن ذلك الوفد، وخاصة بعد أن علق في زحمة السير؛ فالمدينة على قدم وساق منذ الصباح الباكر؛ بسبب ذلك الكشف الأثري الذي يقولون عنه، وعندما نظر في ساعة يده وجدها السابعة والثلث، أي أنه لم يتبقى سوى نصف ساعة على وصول الطائرة.


زاد من سرعة السيارة حتى يصل في الموعد المحدد ليقطع تركيزه في القيادة رنين هاتفه برقم مروان ولكن أثناء انشغاله بالرد عليه ولِحَظٍه العَثِر ظهرت أمام السيارة فتاة شابة تحاول عبور الطريق.



حاول إيقاف السيارة بكل الطرق وضغط على المكابح بقوة ليتفادى الاصطدام بها ولكن كل ذلك كان بلا فائدة فلقد وقعت الحادثة وانتهى الأمر وسقطت الفتاة أمام السيارة وعندما خرج منها رآها غارقة في دمائها أمامه.



لا يعلم كيف يمكنه أن يتصرف في ذلك الموقف فهو واقع بين شقي الرحى، هل يحاول إسعافها ويذهب بها للمشفى؟ وبذلك يكون قد خسر كل شيء، و يضيع حلمه أدراج الرياح، أم يتركها لتلقى حتفها ويذهب وينقذ عمله.



في تلك اللحظة تجمهر الناس حول الفتاة ونادى أحدهم عليه ليطلب الإسعاف وهنا وصلت السيارتان اللتان بهما باقي رجاله لتلمع في رأسه تلك الفكرة التي سترضي ضميره وفي نفس الوقت سيستطيع أن يصل إلى المطار في الموعد المحدد.



تحدث إلى مساعده بحزم ولكن بصوت منخفض بعيدا عن التجمهر:



- عايزك تاخد البنت دي توديها المستشفى بس مش أي مستشفى وخلاص انت تكلم دكتور الفندق الأول وتخليه يسبقك على مستشفى تبعه ويظبط الدنيا هناك علشان محدش ياخد خبر عن وجودها هناك انا مش عايز حد يشم خبر عن الموضوع ويحصل شوشرة.


- انت المسؤول قدامي، لو الموضوع اتعرف مش هحاسب حد غيرك وساعتها تقدر تعتبر نفسك مرفود وتشوفلك شغل في مكان تاني.



أنهى حديثه دون أن ينتظر رد وصعد إلى سيارته وانطلق بها ليتعجب الرجل كثيرًا من تلك الطريقة الغريبة التي حدثه بها لأول مرة، فمنذ أن بدأ العمل معه وهو كان مثال للطيبة، ودماثة الخلق، ولكنه لم يطل التفكير كثيرًا وبدأ فورًا في تنفيذ ما كُلف به، وبالفعل دخلت عهد المشفى في سرية تامة، ولم يتم تسجيل دخولها في السجلات.



❈-❈-❈




وصل إلى المطار بالفعل في الموعد المحدد مع السيارة الأخرى التي بها سائقه الخاص وباقي العمال، واستقبل الوفد أحسن استقبال رغم تشتته الشديد بسبب ما حدث، فلقد ظل يفكر في تلك الحادثة التي تسبب بها لأول مرة في حياته، فمنذ أن تعلم القيادة وهو في الخامسة عشر من عمره لم يقع في ورطة كهذه، والتي أصبحت ضحيتها فتاة بريئة لا حول لها ولا قوة.


 ضميره لا يرأف به أبدًا فلقد كان يتمنى أن يذهب بها إلى المشفى بنفسه ليطمئن عليها ويشرف على علاجها، عل ذلك يخفف قليلا من تأنيب ضميره، ولكن ما حدث كان خارجًا عن إرادته فإما هي أو عمله  هو لن يستطيع التضحية بكل شيء من أجل فتاة لا يعرفها.



ذهب بهم إلى الفندق وعندما اقترح عليهم أن يذهبون لغرفهم ليقوموا بأخذ قسط من الراحة قبل حفل  الافتتاح التي ستقام مساءً رفضوا ذلك وطلبوا منه أن يأخذهم في جولة في الفندق أولًا لكي يريهم كل شيء به، ويتأكدوا بأنفسهم أنه تم بنائه على أعلى مستوى، وبالرغم من تعجبه الشديد من طلبهم هذا لأنه يعلم أنهم قادمون من سفر استغرق أكثر من عشرون ساعة إلا أنه لم يعترض على ذلك الطلب وأخذهم في تلك الجولة والتي تشمل كل أنحاء الفندق والذي أعجبهم كثيرًا وأيقنوا أنه لا فرق بينه وبين الفنادق العالمية إن لم يكن أفضل منهم.



بعد ذلك ذهب بهم ليريهم غرفهم ثم قام بذلك الاتصال الهاتفي ليرى آخر تطورات حالة تلك الفتاة والتي يتمنى ألا تكون قد لاقت حتفها.


أتاه الرد من مساعده الذي أخبره أنها قد دخلت في غيبوبة جراء إصابتها بارتجاج في المخ كما توجد بها بعد الكسور الأخرى والحالة إلى الآن لم تستقر بعد ولا يعلمون متى ستفيق من تلك الغيبوبة هذا إن كانت محظوظة و أفاقت منها. 



❈-❈-❈



في نفس اليوم مساءً



يجلسان في إحدى المقاهي الراقية ممسكان بأيدي بعضهما البعض يستخدم كافة أسلحته للإيقاع بها فإنه على ثقة أنه لم تخلق بعد من تستطيع مقاومته.


نظر إلى عينيها نظرة يشع منها الحب المزيف وأخذ يحرك أصابعه على كفها ببطئ شديد ليثير بداخلها مشاعر تكتشفها للمرة الأولى في حياتها ثم نظف حلقه وتحدث إليها ببحة صوته الجذابة والمميزة:



- متتخيليش فرحتي كانت عاملة إزاي لما وافقتي تقابليني أخيرًا، يعني لازم أفضل أتحايل عليكي علشان ترضي عني وتخليني أشوفك.


رأى علامات الخجل بادية على وجهها ليعلم أن حديثه قد بدأ يؤتي بثماره ليقرر أن يضرب على الحديد وهو ساخن فأكمل حديثه قائلًا:


- "وعد" أنا عايز أحس إني حاجه أساسية فى حياتك مش مجرد حد عرفتيه من على الفيسبوك وخلاص.


صمت قليلًا وظل ينظر إليها تلك النظرة التي لا تفشل أبدا في الإيقاع بالفتيات خاصة عديمي الخبرة أمثالها ثم حمحم قائلًا:


- بصي أنا عارف إن دى أول مقابلة بينا  وطبعا مش هتثقى فيا بسرعة كدا لأن الثقه دي شعور مكتسب بس كل اللى اقدر أقولهولك انك هتلاقينى جمبك فى أى تفصيلة في حياتك فى كل حاجه ، أنا عايزك تبقى مرتاحه دي أهم حاجة بالنسبالي.



قال كلماته تلك وانتظر ليرى ردة فعلها ولكنها كانت ملتزمة الصمت لا تعلم ماذا تقول فهذه أول مرة لها تتقابل  مع شاب بعد أن ألح عليها كثيرًا بهذا الموعد ولم تكن تعلم أنها قد وقعت بالفعل في براثن ذلك الحقير.



عندما رأى صمتها قرر استئناف حديثه ولازالت أصابعه تداعب خاصتها لكي يشتتها أكثر فأكثر:



- هتفضلي ساكتة كتير؟ أرجوكي اتكلمي محتاج أسمع صوتك متتخيليش انتي عملتي فيا إيه؟ أنا مكنتش أتخيل أبدا إني اتعلق بواحدة بالسرعة دي خصوصا بعد التجربة الصعبة اللي مريت بيها قبل كدا.



رسم على وجهه علامات الأسى ببراعة شديدة ثم أكمل حديثه وهو يتصنع اختناقه بالبكاء:


- انتي مش متخيلة أنا مريت بإيه، حقيقي قبل ما أعرفك كنت مقرر اني مش هحب تاني أبدًا، بس انتي قدرتي تثبتيلي إن مش كل البنات زي بعضها.


غلفت الدموع عيناه فمن يراه يقسم أنه قد عانى كثيرا ليطنب في حديثه بعد أن ضغط أكثر على يديها:


- أرجوكي أوعديني انك عمرك ما هتسيبيني انا مش حمل قصة حب فاشلة تاني انتي لو سيبتيني انا مش هستحمل المرادي الموت هيكون أهون كتير من اني أعيش بقلب مكسور.


أنهى كلامه وأنزل وجهه ومد يده يأخذ منديل من على الطاولة ليمسح تلك الدموع التي برع باستحضارها كممثل مخضرم يقف على خشبة المسرح منذ عشرات السنين.


لا تعلم ماذا يمكنها أن تقول ردا على تلك المشاعر الفياضة التي يغرقها بها فلقد تعلقت به كثيرا كما أنه أثبت صدق نواياه بذلك الحديث الخارج من قلبه فلقد تأثرت كثيرا بحديثه لدرجة أن نزلت دموعها هي الأخرى لتلك الحالة التي هو بها.



ربتت على يده ثم حدثته بصوت خرج مهزوزا من فرط تلك المشاعر التي أغرقها بها:


- أوعدك يا حبيبي اني عمري ما هسيبك أبدًا أنا بجد محظوظة اني عرفتك وحبيتك انا مش عارفة اللي جرحتك دي جالها قلب إزاي تعمل فيك كدا.



رفع رأسه ينظر إليها مبتسما تلك الابتسامة الساحرة وكاد أن يتحدث ليقاطعه رنين هاتفه لتنير شاشته بإسم شخص يدعى "كمال حسن" ارتبك قليلا ثم أنهى الاتصال سريعا ممتنًا لذكائه الذي جعله يغير اسم زوجته على الهاتف قبل أن يأتي، وقبل أن يدخل الشك لقلبها سارع وقال لها:



- واحد رغاي لو رديت عليه هيفضل يرغي سنتين قدام وأنا مش عايز حاجة تشغلني عنك طول ما احنا مع بعض.


أنهى حديثه رافعا يدها إلى فمه ليقبلها بكثير من الحب لتشعر وقتها وكأنها تحلق فوق السحاب فلطالما حلمت برجل مثله ولم تكن تتوقع أن تحظى به في الحقيقة.


ابتسامة حالمة ارتسمت على شفتيها وهي تستمع لغزله الصريح الذي أرضى غرورها وجعلها تحلق في عنان السماء ولم تشعر معه بمرور الوقت ولكنها أفاقت من تلك الحالة على رنين هاتفها لتجد والدتها هي التي تهاتفها فارتبكت كثيرًا وزاد ارتباكها عندما نظرت في ساعة يدها ووجدتها قد تعدت العاشرة فلم تعلم ماذا تفعل في تلك الورطة.



عندما علم هوية المتصل اقترح عليها أن تذهب إلى دورة المياة لكي تجيب على اتصال والدتها حتى لا تعلم أين هي وعقب مدعيا الاكتراث لأمرها:


- متخافيش يا حبيبتي اهدي كدا وكلميها وانتي واثقة من نفسك ولما تسألك اتأخرتي ليه قوليلها طلبوا مننا في الشغل نقعد ساعتين زيادة وخلاص.


أومأت له موافقة على حديثه وقامت لتهاتف والدتها فلقد انقطع الاتصال عندما تأخرت في الرد.



دخلت دورة المياه وهاتفت والدتها محاولة استحضار أقصى درجة من درجات الثبات الانفعالي حتى تقنعها بما قاله لها أحمد.



أتاها صوت والدتها الغاضب على الخط الآخر:


- انتي فين لحد دلوقتي يا زفته؟ ومبترديش على تليفونك ليه؟ أبوكي حالف يطين عيشتك لما يشوفك.


حدثت والدتها بنبرة صوت جاهدت أن تخرج مقنعة في محاولة منها لجعلها تصدق ما ستخبرها به:


- غصب عني يا ماما عندنا شغل كتير جدا والمدير طلب مننا كلنا نقعد ساعتين زيادة وهيبقى فيها أوفر تايم كنت عايزاني أعمل إيه يعني؟ مقدرتش أرفض، على العموم انا قدامي ١٠ دقايق وأخلص.



ردت عليها والدتها ولازال صوتها يحمل بعض الغضب:


- طب اخلصي يختي بدل ما تاخدي علقة من إياهم، انتي عارفة ابوكي لما بيطلع في شره.


ثم أطنبت في حديثها وظهر القلق على صوتها:


- هو انا هلاقيها منك ولا من اختك اللي مبتردش على تليفونها من الصبح أعمل فيكم ايه بس قال على رأي المثل "يا مخلفة البنات يا شايلة الهم للممات" انا مش عارفة مبتتجوزوش ليه  وتريحوني من همكم.




حاولت طمأنة والدتها حتى لا تقلق على شقيقتها:


- متقلقيش على عهد يا ماما هتلاقيها مشغولة ولا حاجة انتي مسمعتيش عن الاكتشاف الأثري اللي البعثة بتاعتها اكتشفته في الأقصر النهاردة الصبح أكيد مش فاضية تبص وراها حتى، انتي عارفة بنتك مجنونة آثار زمانها هتتجنن من كتر الفرحة دلوقتي.



- ربنا يجيب العواقب سليمة وترجع بالسلامة انا قلبي واكلني عليها أوي.


كان ذلك حديث والدتها قبل أن تنهي الاتصال بعد ان حثتها على سرعة العودة للمنزل ولا تتأخر أكثر من ذلك فهي لا تضمن رد فعل والدها.



❈-❈-❈



في نفس الوقت كان أحمد يهاتف زوجته فلقد تعمد أن يجعلها تذهب لدورة المياه حتى يتسنى له مهاتفتها ليرى ما الذي تريده ليتجنب مهاتفتها له مرة أخرى.


ردت ضحى على الهاتف وقبل أن ينطق بشيء وجدها تسبقه بالحديث بصوت حاد:



- ايه يا أحمد مبتردش على تليفونك ليه؟ ومتكذبش عليا وتقول انك في interview أكيد مفيش interview في وقت زي ده.


رد عليها بنفاذ صبر فهو يريد إنهاء المكالمة سريعا قبل أن تعود وعد:


- لا مش interview ولا حاجة انا مع جماعة أصحابي قاعدين في كافية خير كنتي عايزة إيه؟


تفاجئت من حديثه وعدم اكتراثه الذي اعتاد عليه لتقضم شفتيها بغيظ من تلك الطريقة التي يتحدث بها ثم حدثته قائلة:


- يعني أنا طالع عيني من الصبح ما بين شغل وبيت وأولاد وانت مقضيها كافيهات وخروج مع اصحابك يرضي مين دا بس يا ربي.


قلب عينيه بملل من حديثها المتكرر التي لا تكف عنه أبدًا ثم تحدث ينفاذ صبر:



- اخلصي يا ضحى انا مش فايق لك كنتي عايزة حاجة ولا  بتتصلي علشان تقولي  الكلمتين اللي مالهومش لازمة دول.


تحدثت بأسى على ما آلت إليه حياتها:


- كنت بكلمك من ساعة فاتت علشان تروح تجيب الولاد من عند ماما أنا هتأخر في الشغل شوية والجو برد وخايفة الولاد لو خرجوا في الجو ده يتعبوا وانا كمان مجهدة جدا ومش هقدر أفوت آخدهم.


نفخ خديه  وتحدث من بين أسنانه غير مكترثًا لكل ما قالته.


- بقولك إيه أنا ماليش دعوة بالحوار ده انتي حرة تجبيهم متجبيهومش ميلزمنيش دي مسؤوليتك يا هانم مش مسؤوليتي ولو شايفة انك مش قد المسؤولية دي اقعدي من الشغل واتفرغي لبيتك وأولادك ولو مش قادرة تروحي تجبيهم خليهم بايتين عند مامتك كدا كدا بكرة الجمعة ومفيش مدارس وياريت تروحي تباتي معاهم انتي كمان وتريحيني من زنك شوية.



قال ذلك ولمح وعد آتية من بعيد فأغلق الهاتف في وجه ضحى قبل أن يتسنى لها الرد على كلماته المسمومة.


لتنظر الى الهاتف بعد أن أغلق الخط في صدمة مما قاله لها فكيف يكون ذلك رده على كل ما تفعله من أجله هو وطفليهما لتهز رأسها في أسى ولما العجب فتلك طريقته دائمًا التي لم ولن تتغير.



لم تشعر بتلك الدموع التي أغرقت وجهها ندما على اختيارها وشفقة على حالها وما وصلت إليه معه لتحاول كتم شهقاتها حتى لا يشعر بها أحد من زملائها ثم جففت دموعها وعادت لعملها مرة أخرى.




❈-❈-❈




جلست بتوتر ظاهر على تقاسيم وجهها ليسألها عما حدث فأجابت عليه بأسف لأنها مضطرة لإنهاء هذا اللقاء الذي يشبه الحلم:


- لا أبدا مفيش بس أنا اتأخرت أوي ولازم أمشي دلوقتي علشان قلقانين عليا في البيت.


ربت على يدها مدعيا الاهتمام راسما ذلك الوجه المتفهم ببراعة على وجهه ثم عقب قائلا:


- ولا يهمك يا حبيبتي تعالي أوصلك علشان متتأخريش أكتر من كدا.


همت بحمل حقيبتها لتنهض ولكنه قام بإمساك يدها وحدثها وهو ينظر في عينيها:


- شوفتي الكلام خدنا ونسيت أديكي هديتك.


قربت ما بين حاجبيها وتحدثت بتعجب:


- هدية! هدية ايه؟


أخرج من جيب بنطاله تلك العلبة المخملية الصغيرة زرقاء اللون ثم قدمها إليها معقبًا مع تلك النظرات العاشقة التي ينظر بها إليها:


- دي هدية بسيطة حبيت أجيبهالك علشان تفتكري بيها أول  مقابلة بينا وتفضل محفورة جواكي زي ما هي محفورة في قلبي.



لم تستطع السيطرة على تلك المشاعر التي شعرت بها فدمعت عيناها ونظرت إليه نظرة مليئة بالعشق الخالص ثم أخذت منه العلبة بيد مرتعشة وعندما قامت بفتحها خرجت منها شهقة عالية نوعا ما ووضعت يدها على فمها لا تصدق ما تراه فلقد أحضر لها تلك القلادة الرائعة التي حلمت بامتلاكها يوما ما وهنا لم تستطع السيطرة على تلك الدموع التي ملأت عينيها ونزلت على وجهها ثم تحدثت بصوت كاد أن يخرج متقطعًا من فرط تلك المشاعر:


- دي ليا أنا؟ بجد مش عارفة أقولك إيه ربنا يخليك ليا يا أحمد  ويقدرني إني أسعدك.


ابتسم لها تلك الابتسامة الجذابة التي جعلتها تقع في حبه أكثر وأكثر ثم تحدث معقبا:


- دي أقل حاجة ممكن اقدمهالك مش هي دي السلسلة اللي كنتي مشيرة صورتها عالفيسبوك من فترة؟ علشان تعرفي بس إني واخد بالي من كل حاجة تخصك.


أعقب حديثه بغمزة من إحدى عينيه ليزداد خجلها ولم تستطع النطق بعد سماعها لحديثه ذلك كل ما استطاعت عمله هو أن نكست رأسها للأسفل فوضع يده أسفل ذقنها ليرفع وجهها وجعلها تنظر إلى عينيه وحدثها قائلا:



- إيه لازمة الكسوف ده دلوقتي احنا خلاص مابقاش في بينا كسوف واعملي حسابك إني مبحبش الست اللي بتتكسف.


ابتسمت إليه وقامت بهز رأسها لأعلى ولأسفل كعلامة على استجابتها لحديثه


قام بدفع فاتورة الحساب ونهضا سويًا ليوصلها إلى مكان قريب من منزلها فلقد رفضت أن يوصلها للمنزل مباشرة حتى لا يراها أحدهم ويتحدث عنها بسوء فهي تقطن في منطقة شعبية أسهل شيء بها هو القيل والقال.



 ❈-❈-❈




أغلقت الهاتف مع ابنتها ثم التفتت فزعة على ذلك الصوت الغاضب الذي لا تكره سواه:


- كنتي بتكلمي مين يا ولية؟


تلعثمت وهي تجيبه بخوف وترقب من ردة فعله:


- دي، دي وعد يا سي عادل كنت بشوفها اتأخرت ليه.



رأت شرارات الغضب تتطاير من عينيه ليعلو صوته وهو يتحدث لتتيقن أن جميع جيرانهم قد سمعوا صوته:


- والله عال الساعة عشرة وربع ومقصوفة الرقبة دي لسه مرجعتش، طبعًا مهي مالهاش ظابط ولا رابط 


وتحدث من بين أسنانه ليتوعد لها:


- تيجي بس وتقع بين ايديا وانا هوريها هي اظاهر وحشتها عُلَق زمان أفكرها بيها بقى أحسن ما عيارها يفلت أكتر وتعمل زي الصايعة التانية اللي محدش قادر يلمها وكل يوم نطالي في بلد شكل ويا عالم بتعمل إيه وهي هناك.



حاولت سميحة تهدئته بكل الطرق حتى لا يصب جام غضبه عليها وعلى ابنتها المسكينة لتربت على كتفه وهي تعقب قائلة:


- اهدى بس يا خويا علشان صحتك والبت معذورة غصب عنها اتأخرت في الشغل ومعرفتش تطلع الساعة ٨ زي كل يوم وخلوها تقعد ساعتين كمان بالعافية.


ولأنها تعلم مفاتيحه جيدا أكملت حديثها على النحو الذي يحبه هو:


- وهتاخد فلوس زيادة على التأخير ده وأهو احنا أولى بالقرشين الزيادة ولا انت رأيك ايه؟


كلامها الأخير أطرب أذنيه فهو لا يعشق في حياته أكثر من المال لتلين نبرته قليلا وهو يقول:



- فلوس زيادة؟ أما نشوف ولو إن الواحد مش شايف منكم ولا أبيض ولا أسود دفعت دم قلبي في تعليمهم وفي الآخر مستفدتش منهم بحاجة.


لم تصدق ما سمعته أذنيها لتفتح فمها وعينيها في بلاهة شديدة من هول ما قاله فأين هي النقود التي قام بدفعها لتعليم ابنتيه فلقد كان يريد إدخالهم مدرسة للتعليم الفني بعد أن حصلوا على الشهادة الإعدادية بحجة أنه لا يستطيع تحمل نفقات الثانوية العامة ولولا وقوف عهد أمامه وهي في ذلك السن الصغير وتصميمها على تكملة تعليمها ونزولها للعمل في متجر لبيع الملابس حتى تستطيع الإنفاق على تعليمها ومن ثم تعليم شقيقتها الصغرى لما استطاعتا دخول الجامعة أو حتى العبور من أمامها .



تنهدت بحزن وألم وهي تتذكر معاملته لها ولبناتها وكيف تحملوا قسوته عليهم وأخذه نقودهم عنوة.



- سرحانة في إيه يا ولية انتي؟ ما تقومي تفذي تعمليلي كوباية شاي بدل ما انتي قاعدة زي قلتك كدا.


أفاقت على صوته الصارخ بتلك الكلمات السامة فعلى ما يبدوا أنه كان يتحدث منذ مدة وهي لم تسمتع لشيء مما قاله.


قامت مسرعة وهي تتعثر في خطواتها وتقول بتلعثم:


- حاضر يا خويا دقيقة والشاي يكون قدامك.



دخلت المطبخ وهي تسبه في داخلها بكل أنواع السباب الذي لا تستطيع قوله أمامه فإن كانت تعجز عن سبه علانية فلتفعلها بينها وبين نفسها إذن علها تطفئ تلك النيران المشتعلة بداخلها والذي هو السبب بها.


أما هو فأخذ ينفث من دخان النارجيلة خاصته صانعًا سحابة سوداء تملأ المكان من حوله وتحدث إلى نفسه ساخطًا على كل من حوله:


-  عيلة هم انا عارف أنا مستحملكم على إيه السنين دي؟ كلها جاتكوا القرف.



❈-❈-❈




انتهى حفل الافتتاح الذي كان على النحو الذي يريده وأكثر وبعد انتهاؤه قرر الذهاب إلى المشفى للإطمئنان عليها فبالرغم من شعور الإرهاق الذي يطغى عليه إلا أنه لم يستطع النوم دون أن يرى حالتها بنفسه.



وصل إلى المشفى في وقت متأخر من الليل وكان مساعده في انتظاره حتى يوصله لمكانها، كانت راقدة في غرفة العناية الفائقة ولم يسمح له طبيبها المعالج بالدخول ولكنه استطاع أن يراها من خلف الزجاج.


 كانت ترقد على ذلك الفراش الجلدي وجسدها موصول بالأجهزة الطبية كما كانت توجد جبيرة حول ذراعها الأيمن وقدمها اليسرى وذلك الشاش الطبي يلتف فوق رأسها وجبهتها ليخفي الكثير من ملامحها.


وقف أمامها لا يعلم ماذا يفعل فالشعور بالذنب يتفاقم بداخله تجاهها ولا يدري ما الذي بيده ليفعله لكي يساعدها.


تنبه على تلك اليد التي كانت تربت على كتفه وعندما التفت وجد أنها يد مساعده فنظر إليه بأسف وحدسه بصوت يملأه الندم:


- أنا آسف يا فريد على الطريقة اللي كلمتك بيها الصبح بس كان غصب عني والله انت أكيد عارفني كويس وعارف إن دي مش طريقتي أبدًا في الكلام مع الموظفين بتوعي وخصوصًا انت بس انت كنت شايف اللي أنا كنت فيه واللي كان ممكن يحصل لو حد خد خبر بالحادثة، كانت سمعتي هتبقى على المحك.


رد عليه بابتسامة متفهما حالته التي كان عليها وعقب قائلا:


- ولا يهمك با يونس بيه أنا طبعا مقدر الحالة اللي حضرتك كنت فيها وربنا يعديها على خير.


قال ذلك وهو يوجه نظره لتلك الراقدة أمامهم.



ذهب ليتحدث مع الطبيب لكي يطلعه على حالتها ولكن كلامه لم يطمئنه أبدا.


- والله يا يونس بيه الحالة لسة مش مستقرة أبدا واحنا بنبذل كل اللي في وسعنا علشان تعدي مرحلة الخطر لو عدا عليها ال ٤٨ ساعة الجايين يبقى في أمل بنسبة كبيرة إنها تقوم بالسلامة احنا دلوقتي منملكش إلا الدعاء.



انصرف من المشفى منكسًا رأسه وبداخله شعور بالذنب يطغى على كيانه ولا يدري ماذا يمكنه أن يفعل ليتخلص من ذلك الإحساس.


❈-❈-❈



تساعدها الوصيفات في ارتداء ملابسها  فلقد كانت تشعر بسعادة غامرة تملأ روحها فاليوم هو عيد الإله "تحوت" والذي يحتفل فيه المصريون بقدوم العام الجديد وبداية فصل الفيضان "آخت" والذي يتزامن مع عيد وفاء النيل كما أن اليوم أيضا هو يوم ميلادها فلقد أتمت اليوم السادسة عشر من عمرها.



ارتدت ذلك الثوب الأبيض المصنوع من الكتان المطرز والمرصع بالأحجار الكريمة فلقد أصرت على ارتداء الزي التقليدي المصري وليس اليوناني كما قامت بعمل تسريحة شعر مصرية خالصة لتشبه إلى حد كبير الأميرات المصريات وليس اليونانيات وساعدها على ذلك تقارب ملامحها للملامح المصرية  فمن يراها الآن يعتقد أنها من هذه البلاد وليست من أصل يوناني.


خرجت من القصر مع بداية شروق الشمس ومعها بعض الوصيفات لتعبر النهر الخالد وتذهب للبر الغربي لحضور الحفل 



ها هي مظاهر الإحتفال في كل أنحاء طيبة،  والزوارق تملأ النهر، والأطفال يمرحون في كل مكان، وقرابين الآلهة جاهزة للتقديم، كما يوجد تلك الكميات الهائلة من الطعام والشراب.


 مواكب الآلهة جاهزة يحملها الكهنة حليقي الرأس حافيين الأقدام، الذين يلفون حول أجسادهم ذلك الرداء الطويل المصنوع من جلد الفهد؛ ليقوموا بعمل هذا العرض المهيب، وعند عبور الموكب يُرتل "الكاهن المُقرئ" القصائد ويرتل معه كل الكهنة المشاركين في الموكب.

"ها قد أشرقت الشمس، لقد أزاح الغيوم وطرد الظلمات، وقد صفت السماء، وتطهرت من كل شر..."


كانت إيزادورا سعيدة للغاية بمظاهر الإحتفال وكانت تنطلق هنا وهناك غير آبهة بشيء فعلى الرغم من كونها أميرة  ووالدها حاكم على مدينة أنتيوبوليس (المينيا حاليًا) إلا أنها كانت متواضعة للغاية ومحبة للحياة وتعشق الحضارة المصرية القديمة.



❈-❈-❈




كان يقف بين جنوده عندما رأته لأول مرة طويل القامة، أسمر البشرة يعطي أوامره للجنود بصرامة واضحة فيقوموا بتنفيذها دون قيد أو شرط.


انبهرت بشخصيته القوية وحضوره الطاغي لم تستطع أن تحيد بنظرها عنه مما جعله يلتفت إليها لتثير إعجابه منذ اللحظة الأولى فبادر وذهب ليتحدث معها دون أن يدري هويتها.


اقترب منها بتلك الخطوات الرزينة التي أهلكت جميع حواسها فارتبكت بشدة عندما وجدته يقف أمامها، يشملها بتلك النظرات التقييمية ثم انحنى لتحيتها و تحدث إليها بتلك البحة المميزة التي يمتلكها:


- هل تحتاجين مساعدة سيدتي؟ فلقد لاحظت أنكِ تنظرين إليّ فكيف يمكنني مساعدتك؟



لم تدري كيف يمكنها أن تجيب على أسئلته فلقد توقفت الكلمات في حلقها لتبتلع في وجل وبصعوبة شديدة أجابته بتلعثم:


- آسفة لم أقصد ذلك.


قالت جملتها وهرولت من أمامه ليتابعها بعينيه ومرتسم على وجهه ابتسامه تخبرنا أن للحديث بقية.



يتبع




" تحوت أو توت إله الحكمة عند الفراعنة، أحد أرباب ثامون الأشمونين الكوني، يعتبر من أهم الآلهة المصرية القديمة، يصور تحوت على جدران المعابد برأس أبو منجل، وكان ضريحه الأساسى فى أشمون حيث كان المعبود الأساسى هناك.


اعتبر قدماء المصريين أن الإله تحوت هو الذى علمهم الكتابة والحساب، وهو يصور دائما ماسكا بالقلم ولوح يكتب عليه، له دور أساسى فى محكمة الموتى حيث يؤتى بالميت بعد البعث لإجراء عملية وزن قلبه أمام ريشة الحق ماعت، ويقوم تحوت بتسجيل نتيجة الميزان، إذا كان قلب الميت أثقل من ريشة الحق فيكون من المخطئين العاصين، يلقى بقلبه إلى وحش مفترس فيلتهمه وتكون هذه هى النهاية الأبدية للميت، أما إذا كان القلب أخف من ريشة الحق ماعت فمعنى ذلك أن الميت كان صالحا فى الدنيا فيدخل الجنة يعيش فيها مع زوجته وأحبابه، بعد أن يستقبله أوزيريس.


ارتبطت معرفة المصريين للتقويم وأيام السنة والشهور بالإله تحوت حتى أن البعض يطلق على التقويم المصرى اسم التقويم التوتى كما أن أول شهور السنة المصرية هو شهر "توت" تحوت، توت، هى أسماء لرب الحكمة والحسابات والفلك عند قدماء المصريين"