-->

رواية تعويذة العشق الأبدي - بقلم الكاتبة سمر إبراهيم - الفصل الثالث


رواية تعويذة العشق الأبدي 

بقلم الكاتبة سمر إبراهيم 




الفصل الثالث

رواية

تعويذة العشق الأبدي




"لقد أثار حبيبي قلبي بصوته،


 وتركني فريسة لقلقى وتلهفي،


 إنه يسكن قريبًا من بيت والدتي،


 ومع ذلك فلا أعرف كيف أذهب نحوه،


 ربما تستطيع أمي أن تتصرف حيال ذلك،


 ويجب أن أتحدث معها وأبوح لها،


 إنه لا يعلم برغبتي في أن آخذه بين أحضاني،


 ولا يعرف بما دفعني للإفصاح بسري لأمي،


 إن قلبي يسرع في دقاته عندما أفكر في حبي،


 إنه ينتفض في مكانه،


 لقد أصبحت لا أعرف كيف أرتدي ملابسي،


 ولا أضع المساحيق حول عيني 


ولا أتعطر أبدًا بالروائح الذكية"


"شعر فرعوني"


❈-❈-❈



وصل منزله يترنح في الثالثة صباحًا، دخل غرفته فوجدها تغط في نوم عميق من إرهاق اليوم، فنظر إلى هيئتها الغير مغرية بالنسبة إليه بامتعاض شديد، فقام بتبديل ملابسه بصعوبة شديدة نظرًا لحالة السُكْر التي يعاني منها، وحاول أن يوقظها أكثر من مرة ولكنها لم تستجب له فقام بلكزها في كتفها بقوة نوعا ما فاستيقظت مفزوعة لا تدري أين هي، وأخذت تهذي بكلمات غير مفهومة وكأنها لازالت نائمة:



- إيه؟ فين؟ الدوا ناقص فيه البديل.


 قلب عينيه بملل على حالتها هذه وتحدث بنفاذ صبر وهو ينظر إليها بتقزز من أعلى إلى أسفل:


- إيه ساعة علشان تصحي؟ وإيه القرف اللي انتي لابساه ده؟ في واحدة تنام جمب جوزها بالمنظر ده؟


حاولت استيعاب حديثه ولكنها فشلت في ذلك فهي لازالت لم تستيقظ بشكل كامل، فعادت للنوم مرة أخرى وقالت وهي تضع الغطاء على وجهها:


- طيب ماشي.


استشاط غضبا من طريقتها هذه وقام بكشف الغطاء عنها وتحدث بغضب وصوت عالٍ يظهر عليه علامات السُكْر:



: لا بقولك إيه اصحي كده وفوقيلي مش كل ماجي ألاقيكي نايمة دي مبقتش عيشة دي.



استيقظت على صوته الجهوري وجلست على الفراش ثم قامت بالمسح على وجهها أكثر من مرة وفركت عينيها علها تستطيع التركيز لتعلم ما الذي يريده في ذلك الوقت المتأخر وتحدثت وعينيها نصف مغلقة لا تقوى على فتحهما بشكل كامل:



- خير يا أحمد في إيه؟ بتصحيني في الوقت ده ليه؟ حرام عليك يا أخي دنا لسة نايمة مكملتش ساعتين بعد ما طلع عيني طول النهار وما صدقت أروح في النوم.



جلس جوارها وقام بتحريك إصبعه ببطء على ذراعها صعودا وهبوطا وتحدث بصوت منخفض وعينيه تملؤها الرغبة:


- اصحي يا دودو بقى متبوظيش اليوم دا حتى النهاردة الخميس.



أعقب قوله بغمزة من إحدى عينيه ثم أكمل حديثه وهو يحاول فك أزرار منامتها:


- قومي يلا البسي البيبي دول اللي بحبه وحطي أي مكياج وبرفان ريحته حلوة كده وتعالي علشان عايزك.


جحظت عيناها وذهب النعاس الذي كانت تشعر به فالتفتت تنظر إليه بتأهب وقامت بالإمساك بيديه لتوقفه عما يفعل ثم تحدثت من بين أسنانها:


- بذمتك انت عندك دم جاي سكران و بتطوح وعايز تصحيني من النوم  علشان مزاجك مش مكفيك تعب اليوم ما بين الشغل والبيت والولاد وانت جاي من برا عايز تعدل مزاجك وخلاص.



ثم تذكرت ما حدث في آخر مكالمة هاتفية بينهما فاعتدلت لتكون مقابلة له وتحدثت بغضب وصوت عالٍ نسبيًا:


- وبعدين تعالى هنا انت نسيت إنك قفلت السكة في وشي بعد ما سمعتني كلام زي الزفت وتقولي لو مش عاجبك اقعدي من الشغل هو انا بشتغل علشان مين؟ مش ليك انت ولأولادك، منا لو كنت لقيتك بتشتغل و متحمل مسؤلية البيت مكنتش اضطريت اشتغل صبح وليل علشان أكفي طلبات ولادك وما نمدش إدينا لأهلك أكتر من كدا كفاية انهم شايلين مصاريف المدارس وفي الآخر تقولي مش مسؤوليتي اني أجيب الولاد أمال مسؤولية مين؟ 


امتلأت عيناها بالدموع وهي تتحدث بأسف على ما وصل إليه الحال بينهما:


- على العموم دا العادي بتاعك إيه الجديد طول عمرك مبتقدرش أي حاجة بعملها لو سمحت اطفي النور عشان عايزة انام.


لم يصدق ما تفوهت به فهو اعتاد على صمتها وتنفيذ ما يريد دون قيد أو شرط ولكن فيما يبدوا أنه قد تهاون معها أكثر من اللازم فسمحت لنفسها أن تتحدث معه بتلك الطريقة وكأن الأدوار قد قلبت وأصبحت هي الرجل لا هو لمجرد أنه لا يعمل وهنا لم يتمالك نفسه وقام بصفعها بقوة لدرجة أن تساقطت قطرات الدماء من فمها وصرخ بها بصوته الجهوري:


- انتي ازاي تسمحي لنفسك تكلميني بالطريقة دي؟ الظاهر اني دلعتك زياده عن اللزوم بس خلاص من هنا ورايح المعاملة هتتغير خالص علشان تتعلمي تكلميني إزاي.


أشار إليها من اعلى إلى أسفل في تقزز واضح:


- جاتك القرف في شكلك هو دا منظر يتبصله أصلًا انتي تحمدي ربنا إني كنت عايزك بمنظرك اللي يسد النفس ده لكن هقول إيه ست فقر مالهاش في الطيب نصيب.




قال تلك الكلمات وخرج من الغرفة صافعا الباب خلفه بقوة وهو يكيل لها الإهانات ويسبها بابشع الألفاظ  فأغمضت عيناها ووضعت يدها على وجهها مكان صفعته ثم أخذت تبكي في صمت وحمدت ربها أن طفليها ليسا في المنزل ولم يسمعوا إهانتها كالعادة.



❈-❈-❈




ذهب لغرفة أطفاله مستغلًا عدم وجودهما في المنزل وكان في قمة غضبه يدور حول نفسه تارة ويسبها تارة أخرى وعندما هدأ قليلًا قام بمهاتفة وعد على أمل أن تكون لازالت مستيقظة حتى تطفئ تلك النيران المشتعلة في جسده.


وكأنها كانت تنتظر تلك المكالمة جاءه الرد سريعا ولكن صوتها كان مختنق بالبكاء:


- أيوة يا أحمد كويس انك كلمتني كنت عايزة أكلمك من مدة بس خوفت تكون نمت.



تعجب كثيرا من طريقتها تلك ولكنه تصنع الاهتمام ورد عليها بلهفة قائلا:


- مالك يا حبيبتي؟ انتي معيطة ولا إيه؟ في حاجة حصلت؟ طمنيني في حد زعلك علشان اتأخرتي؟



تحدثت وهي تهز رأسها يمينًا ويسارا وكأنه يراها لتنفي ذلك الاعتقاد لديه وعقبت قائلة:


- لا يا حبيبي متقلقش محدش زعلني ولا حاجة بس عهد أختي من الصبح مش عارفين نوصلها ومبتردش على موبايلها، كان الأول بيدي جرس  ومحدش بيرد وبعد كدا اتقفل واحنا منعرفش حد من زمايلها نسأله عنها ومش عارفين نعمل إيه.



قالت تلك الكلمات وأخذت تبكي قلقًا على شقيقتها وأكملت من بين شهقاتها:


- أنا قلبي مقبوض وقلقانة عليها أوي وخايفة يكون جرالها حاجة.



أحس بالكثير من الإحباط من حديثها هذا وأخذ يتمتم في نفسه:


-  ما هي كانت ناقصة نكدك انتي كمان يختي شكل الليلة هتبوظ ولا إيه؟



حاول تهدئتها قليلًا لكي يستطيع أن يصل لما يريد فلو ظلت على تلك الحالة ستضيع الليلة سدى.


- اهدي بس يا قلبي متخافيش إن شاء الله تكون بخير  ومفيش حاجة حصلت لها يمكن انشغلت أو الموبايل حصله حاجة انتي مش بتقولي أن البعثة بتاعتها اكتشفوا مقبرة جديدة النهاردة.


ردت عليه من بين شهقاتها:


- أيوة كل القنوات عمالة بتذيع الخبر من الصبح بس برضه بيقولوا كلام عن تعب رئيس البعثة ودخوله المستشفى وان الشغل وقف في المقبرة ومن ساعتها عهد مختفية ومش عارفين إيه اللي حصل.



- لا متقلقيش هي أكيد مش فاضية وبتعمل ١٠٠ حاجة خصوصًا بعد اللي حصل ده وممكن الموبايل فصل شحن وهي مخدتش بالها روقي كدا واهدي وانتوا الصبح هتلاقوها بتكلمكم بنفسها.


هدأت قليلا بعد كلماته تلك التي كانت بمثابة المسكن لجميع شكوكها فأقنعت نفسها أنه على حق ومن المؤكد أن شقيقتها قد انشغلت بذلك الكشف الأثري ولم تستطع مهاتفتهم.


عندما استشعر هدوءها حاول تغيير الموضوع لكي يستطيع الوصول لهدفه:


- سيبك من كل ده بس انتي كنتي قمر النهاردة أنا مسكت نفسي بالعافية علشان كنا قدام الناس امتى يجي اليوم اللي نبقى فيه لوحدنا وربنا ما هسيبك ساعتها أبدًا.



أدرك شعورها بالخجل عندما لم تنطق بكلمة فابتسم بخبث على تأثيره عليها واستطاعته تشكيلها كيفما يشاء ثم أكمل حديثه قائلا:


- لا بقولك إيه هنتكسف بقى ونقلب طمطماية وخدودنا تحمر أنا مش هستحمل كدا أنا على أخري أصلًا وماسك نفسي بالعافية  وبعدين احنا مش اتفقنا نبطل كسوف.


لا تعلم كيف يمكنها الرد على تلك الكلمات التي تدغدغ أنوثتها وتجعلها تحلق في عنان السماء لا تصدق أنها أخيرًا قد وجدت فتى أحلامها الذي سينتشلها من تلك الحياة البائسة التي تعيشها.



تحدثت إليه بتلك النبرة الخافتة التي تثيره للغاية دون أن تدري:


- انا بحبك أوي يا أحمد بجد مكنتش متخيلة اني أتعلق بيك بالسرعة دي انت بقيت الهوا اللي بتنفسه.



ابتسامة خبيثة لم تلامس عيناه وارتسمت على ملامحه علامات الظفر عند سماعه لحديثها فلقد قارب على الوصول لهدفه دون أدنى مجهود منه  فعقب بتلقائية وكأنه لم يخطط لذلك من بداية المكالمة:


- أنا كمان مش عارف حبيتك بالسرعة دي واتعلقت بيكي إزاي؟ انتي يا وعد عوضتيني عن كل اللي فات مش عارف من غير وجودك في حياتي كان هيبقى حالي عامل ازاي انتي مش متخيلة أنا محتاجلك قد إيه خصوصا دلوقتي.


لم تصدق ما تسمعه أذنيها فكلماته جعلتها تحلق في السماء السابعة فتحدثت بما تشعر به دون أن تعي ما تقول:


- وانا كمان يا أحمد محتجالك جمبي ونفسي نكون مع بعض النهاردة قبل بكرة.


ها هو قد وصل لما يريد وهنا أخفض صوته وتحدث بتلك النبرة المثيرة التي يبرع في استحضارها:


- طب ما تفتحي الكاميرا يلا أنا على آخري ومش قادر استحمل اكتر من كدا بجد محتاجلك اوي وانتي وحشاني جدًا.



صدمت عندما طلب منها ذلك هي بالفعل أقامت معه تلك العلاقة المحرمة عن طريق الهاتف أكثر من مرة ولكنه في كل مرة يعدها أنها ستكون المرة الأخيرة بعد أن يتآكلها الذنب وتبكي بعدما ينتهون من ذلك الفعل المشين.


ضيق ما بين حاجبيه عندما طال صمتها ثم حدثها ليحثها على تنفيذ ما طلبه منها:


- ساكتة ليه؟مكسوفة؟ ولا مش عايزانا نبقى مع بعض ولا إيه؟


حمحمت قبل أن تجيبه ليخرج صوتها مرتعشًا فلا تدري كيف يمكنها الهرب من طلبه ذلك:


- لا مش مكسوفة ولا حاجة بس انت وعدتني آخر مرة اننا مش هنعمل كدا تاني.


ثم خطرت على ذهنها تلك الفكرة لتتهرب من ذلك دون أن يغضب:


- وبعدين أنا في إيه ولا في إيه بس يا أحمد؟ انا مش في مود رومانسية أبدا ودماغي مشتتة علشان قلقي على عهد لما نتطمن عليها إن شاء الله هبقى أعملك اللي انت عايزه.



علم جيدا أنها تريد الهرب ولكن تلك الطريقة لا تفلح معه أبدا فهو ملك الألاعيب بلا منازع ولذلك قرر أن يستعمل معها طريقة أخرى يعلم أنها ستفلح معها لا محالة ولذلك تصنع الحزن وحدثها مقتضبا:


- صح انتي معاكي حق دا مش وقته فعلًا آسف لو كنت أزعجتك سلام.


قال ذلك ثم أغلق الهاتف دون أن ينتظر ردها لينظر إلى هاتفه وعلى وجهه تلك الابتسامة الخبيثة التي اتسعت عندما رأى الهاتف ينير باسمها قبل حتى أن يكمل العد ل ثلاثة.


لم يجب عليها من أول مرة ولكنه انتظر حتى انتهى رنين الهاتف وأعادت الإتصال مرة أخرى فأجابها باقتضاب:


- نعم.


ردت عليه بصوت حزين مختنق بالبكاء:


- مبتردش عليا ليه يا أحمد انت زعلت مني؟



استطاع أن يتصنع الحزن ببراعة يحسد عليها قبل أن يجيبها:


- أبدا وهزعل منك ليه دا حقك انك ترفضي انا اللي اظاهر أديت لنفسي حق مش حقي لما افتكرت اننا بقينا واحد.



ردت عليه بلهفة لتنفي ما يقول فهي تريد مصالحته بأي ثمن


-  لا طبعا احنا واحد يا حبيبي أرجوك متزعلش مني حقك عليا وانا هعمل اللي انت عايزة.


كان على يقين من استجابتها له فمن هي التي تستطيع مقاومته ولكنه أراد أن يعطيها ذلك الدرس حتى لا تفكر في معارضته مرة أخرى فحدثها بلا مبالاة مصطنعة أتقنها جيدًا:


- لا خلاص مش عايز حاجة أنا هنام دلوقتي عايزة حاجة؟


كادت أن تبكي عندما قال لها ذلك وقبل أن ينهي المكالمة كالسابق تحدثت بذلك الضعف المحبب إلى قلبه:


- علشان خاطري متقفلش أنا مقدرش على زعلك ويلا افتح الكاميرا علشان أصالحك بطريقتي.


بالفعل استطاع أن يجعلها تفعل كل ما يريد لاغية عقلها تجري لاهثة وراء تلك المشاعر الخادعة على أمل الوصول إلى قلبه أكثر فأكثر ولكنها لا تعلم أنها بذلك قد ألقت بنفسها في بئر عميق يصعب الخروج منه.



❈-❈-❈



لم تستطع النوم رغم إرهاقها الشديد وظلت تبكي الى أن أشرقت الشمس، كانت في حالة انهيار شديدة تتحسر على حالها وما وصلت إليه، فلقد تحملت الكثير من الإهانات، ضرب، وسب، ومعاملة غير آدمية وكل ذلك من أجل أن يتربى أبنائها بين والديهم ولكنها لم تكن تعلم أنها بذلك تجني عليهم بتنشئتهم في تلك البيئة الغير سوية لتربية أطفال.



ضاقت بها السبل ولم تدري ما الذي عليها فعله هل تطلب الطلاق وتعود لبيت أهلها مرة أخرى وتعرض نفسها للقيل والقال في مجتمع يحتقر المرأة المطلقة ويجردها من جميع حقوقها فتصبح مطمع للقاصي والداني أم تتحمل وتصبر على تلك الحياة المهينة وتتقبل اختيارها للنهاية.



قاربت رأسها على الانفجار من كثرة التفكير فلقد طفح بها الكيل وضاقت بها السبل فعزمت أمرها على ترك المنزل والذهاب لبيت والدتها حتى تجد لها حل مع ذلك المستهتر الذي لا يريد أن يتحمل المسؤولية هي لن تتركه نهائيًا فقط ستبتعد عنه قليلًا حتى يعلم قيمتها ويغير من الطريقة التي يعاملها بها ويترك تلك الأفعال الطائشة وينتبه لها ولبيته وأطفاله.


نعم ذلك هو الحل الأمثل الذي اهتدى إليه تفكيرها وفي تمام السابعة صباحا قامت بارتداء ملابسها وأخذت حقيبة صغيرة بها بعض الملابس لها ولأطفالها ومتعلقاتهم الشخصية التي تكفيهم لبضعة أيام ثم خرجت قاصدة بيت والدها.



❈-❈-❈



طرقات على الباب في هذا الوقت المبكر جعلتها تستيقظ فزعة لترى من الذي جاء في مثل ذلك الوقت ولكنها تعجبت عندما رأت ابنتها  في مثل تلك الحالة المزرية  شعرها مبعثر وملابسها غير مهندمة وعندما خلعت نظارتها الشمسية وجدت عيونها حمراء كالدم فمن الواضح أنها كانت تبكي طوال الليل وبتدقيق النظر إليها وجدت كدمة زرقاء على وجنتها لم تستطع مساحيق التجميل أن تخفي أثرها بالكامل.



علمت هدى ما الذي حدث لابنتها فهي ليست المرة الأولى التي تأتي إليها بمثل تلك الحالة ليؤلمها قلبها لما تعانيه فلذة كبدها ولكن ليس بيدها حيلة.



جلست على أقرب مقعد قابلها متهدلة الأكتاف تنظر للأرض ولم تنطق بحرف فجلست والدتها بجوارها وحاولت معرفة ماحدث.


ربتت على كتفها وحدثتها باهتمام حقيقي ينعكس على نبرة صوتها:


- مالك يا حبيبتي؟ إيه اللي حصل علشان تيجي الصبح بدري  أوي كدا وانتي في الحالة دي؟ 



وضعت يدها على وجهها تتفحصه ثم عقدت حاجبيها وتحدثت وهي تشير إلى تلك الكدمة الزرقاء:


- مين اللي عمل فيكي كده؟ انتي اتخانقتي مع أحمد تاني ولا إيه؟



لم تتمالك نفسها ودخلت في نوبة بكاء شديدة فحاولت والدتها أن تهدئها بكل الطرق ولكن بلا فائدة فلقد كانت ليلة أمس هي القشة التي قصمت ظهر البعير فلقد تحملت فوق طاقتها وفي النهاية يكون ذلك جزاؤها.


 ذكرتها والدتها بأطفالها النيام وأنه يجب ألا يرونها وهي في تلك الحالة وهنا هدأت قليلا وأخذت تقص عليها ما حدث من البداية ولكنها صدمت عندما جاءها رد والدتها معاكس لجميع توقعاتها:



- طب ما انتي غلطانة برضو يا ضحى انتي متعرفيش ان حرام الواحدة تمنع نفسها عن جوزها لما يطلبها انتي كدا خليتي الملايكة تلعنك طول الليل بصراحة الراجل معذور في اللي عمله.



نظرت لها لها بدهشة شديدة وفتحت فمها ولم تصدق ما تفوهت به والدتها فكيف يكون ذلك ردها على كل ما سمعته وهنا تحدثت بغضب شديد وكأنها كانت تنتظر فرصة لإخراج ما بداخلها:


- حقه! حقه إيه؟ وأنا فين حقوقي؟ يعني أنا أبات تلعني الملايكة وهو هياخد جايزة على اللي بيعمله فيا.


وقفت وأخذت تدور حول نفسها كمن فقد عقله ثم أكملت قائلة:


- هو ربنا قال إني اشتغل صبح وليل وأربي وأكبر وأودي مدارس ونوادي وأذاكر للولاد وهو يا نايم يا بيتسرمح مع أصحابه وآخر الليل يجي يلاقيني جاهزة زي العروسة الحلاوة فين شرع ربنا في اللي بيحصلي ده؟ أنا مش مصدقاكي بجد.


لم تعلم بماذا ترد عليها فهذا ما تعلمته وما تربت واعتادت عليه مع زوجها فحاولت أن تتحدث معها بعقلانية علها تستطيع أن تحافظ على زوجها وبيتها:


- يا بنتي انا عايزة مصلحتك الراجل عامل زي الطفل الصغير والحاجة دي عند معظم الرجالة شيء أساسي ولا يهمهم بقى انتي تعبانة ولا سليمة هما عايزين مزاجهم وخلاص.


لا تعلم أن بحديثها هذا قد سكبت الوقود على النادر أكثر وأكثر فلم تستطع ضحى أن تتحمل طريقة تفكيرها تلك فعلى صوتها، ونفرت عروقها وهي تتحدث فلقد طفح الكيل:


- يعني ايه؟ الست بهيمة  معندهاش إحساس ولا صفيحة زبالة يفضي فيها الراجل قرفه ويقوم.


قالت ذلك ونظرت لها بعينان يملؤها الدموع وخيبة الأمل وتحدثت بصوت يحمل الكثير من الأسى:


- مش عارفة أقولك ايه والله يا أمي؟ لما دا رأيك انتي أمال رأي الرجالة إيه. 


 حاولت التخفيف من وطاة حديثها فردت عليها بنبرة حنونة فهي في النهاية لا تريد إلا سعادتها.


- يا بنتي انا خايفة عليكي وعلى مصلحتك انتي دلوقتي لو سيبتي البيت مين هيدفعلك مصاريف مدرسة ولادك اللي بمبلغ وقدره هو صحيح مبيشتغلش بس أهله شايلين عنك كتير من غير مساعدتهم مش هتقدري تسدي لواحدك على مصاريف ولادك.



أخذت تربت على ظهرها وتحثها على الجلوس مرة أخرى وعندما وجدت استجابتها لحديثها أكملت قائلة:


- اهدي يا حبيبتي واخزي الشيطان وارجعي بيتك متشمتيش حد فيكي. 


ثم نظرت لها نظرة تعلم مغذاها جيدا وأكملت وهي تلوي شفتيها:



 - وبعدين مش هو ده أحمد اللي وقفتي قدام الكل علشانه وخليتي أبوكي الله يرحمه يوافق عليه غصب عنه محنا ياما قولنالك بلاش ومينفعكيش جاية دلوقتي تقولي ياريتني.



لم تعلم كيف يمكنها أن ترد عليها فهي دائما ما تسمعها تلك الكلمات كلما جاءتها شاكية من تصرفاته الطائشة وكأنها قد حكم عليها أن تقضي الباقي من عمرها تدفع ثمن سوء اختيارها.



بعد بضع ساعات وجدت هاتفها يعلن عن اتصال من والدة زوجها أو ليلى هانم كما تطلق عليها بينها وبين نفسها.


أجابت على الهاتف وقبل أن تنطق بحرف وجدت الأخرى تهاجمها دون أن تترك لها فرصة للرد:


- إيه يا ضحى حمادة بيشتكي منك ليه؟ لو مش مقدرة النعمة اللي في إيدك يا حبيبتي ألف غيرك تتمنى تبقى مكانك ومن الصبح أجوزه واحدة تقدره وتشيله في عنيها.



قلبت عينيها بملل من حديث تلك المرأة المتعجرفة فهو ليس بجديد عليها بالمرة فلقد اعتادت عليه بعد كل خلاف يذهب هو ليشتكي لها وهي بدورها تهاتفها لتسمعها تلك الكلمات التي باتت محفوظة.


حاولت أن تتمالك أعصابها قدر المستطاع وتستعمل معها سلاح البرود فهي لا تملك سواه في الوقت الحاضر فردت عليها بأكثر نبرة هادئة تملكها:



- أنا برضو اللي زعلته يا طنط ولا هو اللي زعلني ومد ايده عليا يعني أنا لو بنتك كنتي رضيتي يحصل معايا كدا.



جحظت عيناها عندما جاءها رد الأخرى المثير للغثيان:


- ويكسر دماغك كمان طالما مش مكفياه ومبتسمعيش كلامه، اعملي حسابك لو فضل يشتكي منك كدا كتير أنا هجوزه ست ستك هو مش متجوز علشان يتنكد عليه كل يوم والتاني ولو على الشغل هو مش محتاج احنا بنبعتلكم اللي يكفيكم وزيادة كل شهر ولو حبيبي طلب أكتر مفيش مشكلة المهم يبقى مرتاح ومبسوط اعقلي كدا وخدي بالك من جوزك وإلا رد فعلي مش هبعجبك.


قالت تلك الكلمات وقامت بإغلاق الخط دون انتظار ردها لينفرج فمها في ذهول من جبروت تلك المرأة وظلت ممسكة بالهاتف تنظر إليه في صمت فتعجبت والدتها من حالتها تلك وعندما قصت عليها ما قالته لها ليلى مصمصت شفتيها وهزت رأسها  علامة على اعتراضها وحدثتها بلهجة  أم تخشى على ابنتها:


- مش قولتلك واديكي شوفتي أولها أهه اسمعي كلامي وارجعي بيتك واصبري واحتسبي واديكي كنتي بتشوفي أبوكي الله يرحمه كان بيعاملني إزاي وماكونتش بفتح بوقي كلهم كدا متفتكريش لو سيبتيه هتاخدي أحسن منه بالعكس مفيش واحد هيرضى ياخد واحدة بعيالها ارضي بنصيبك يا بنتي كله مقدر ومكتوب.


لم تعرف بماذا تجيب على حديث والدتها التي اقتصرت دور المرأة في كونها زوجة فقط مفعول به لا فاعل فإن فشلت في زواجها لا يصبح لديها خيار سوى الزواج بآخر وكأن دورها في الحياة يقتصر على أن تكون خاضعة لرغبات الرجل ليس إلا.


 عقلها يرفض ذلك الحديث شكلًا وموضوعًا ولكنها الآن لا تملك سوى أن تنفذ ما قالته والدتها وتعود لمنزلها فليس بيديها شيء غير ذلك.





❈-❈-❈




مر يومان ولم يظهر لها أثر ولم يستطيع زملائها الوصول إليها فلقد بحثوا عنها في كل مكان يمكن أن تكون قد ذهبت إليه بما في ذلك المشافي وأقسام الشرطة ولكن بلا فائدة لذلك اضطروا أن يقوموا بإبلاغ الشرطة لتتكفل بالبحث عنها وبذلك يكونون قد أخلوا مسؤوليتهم عن ذلك الأمر كما أن أعمال التنقيب قد توقفت في الموقع لحين شفاء دكتور وليام ولذلك عاد أفراد البعثة لمساكنهم إلى أن يتم استدعاؤهم مرة أخرى.


بحثت الشرطة عنها في كل مكان ولكنهم لم يجدوا أي معلومة تدل عن مكان اختفائها  وبعد مرور اسبوع تم حفظ البلاغ إلى أن يأتي إشعار آخر.



كانت والدتها وشقيقتها في حالة يرثى لها كذلك رهف صديقتها الوحيدة التي سافرت للأقصر بنفسها للبحث عنها ولكنها لم تصل لشيء، آخر مكان شوهدت به كان أمام المقبرة يوم افتتاحها ومن يومها لم يلمحها أحد ولم تعد للفندق التي كانت تمكث به.


عادت وعد من عملها لتجد والدتها تبكي بانهيار كالعادة فمنذ اختفاء عهد وهي لا تراها إلا وهي باكية.



جلست بجوارها وقامت باحتضانها ليدخلا في نوبة بكاء شديدة لم يقطعها سوى سؤال سميحة لها من بين شهقاتها:


- لسة مفيش أخبار عن أختك يا وعد؟


هزت رأسها يمينا ويسارًا علامة على النفي وتحدثت بحروف متقطعة من كثرة البكاء:


- مفيش يا ماما حتى رهف بقالها كام يوم بتدور عليها هناك وبرضو مالهاش أي أثر.


لم تتمالك أعصابها فجلست أرضًا وأخذت تضرب خديها وفخذيها تارة وتضرب على صدرها تارةً أخرى وهي تصرخ وتهذي من بين صراخها:


- يعني خلاص اختك ضاعت ومعنتش هشوفها تاني راحت في لحظة من غير لا حس ولا خبر طب انا كده هعيش لمين؟ وهعيش ازاي من غيرها؟ آه يا حرقة قلبي عليكي يا بنتي.


قالت ذلك ورفعت رأسها للأعلى تتضرع للمولى عز وجل عله يستجيب دعائها:


- يارب رجعهالي يارب، يارب انا ماليش غيرها هي واختها متورينيش فيها حاجة وحشة، يارب خد روحي بس هي ترجع سليمة.


لم تتحمل وعد رؤية والدتها في تلك الحالة فجلست بجوارها تحاول تهدئتها حتى لا يحدث لها مكروه وتفقدها هي الأخرى:


- اهدي يا ماما أبوس إيدك إن شاء الله هترجع وهتبقى كويسة متعمليش في نفسك كدا انا مش حمل اني أخسرك انتي كمان.


قالت ذلك وقامت بتقبيل يديها ورأسها وضمتها إلى صدرها ولكنها وجدت جسدها يرتخي فجأة وفقدت وعيها وهنا زاد انهيارها وقامت تصرخ وتطلب المساعدة من الجيران علهم يستطيعون إسعافها قبل أن تفقدها هي الأخرى.




❈-❈-❈



لم يستطيع النوم منذ ذلك اليوم المشؤوم فكلما أغمض عينيه يراها في أحلامه ترتدي ملابس فرعونية وتقف أمامه مبتسمة وتتحدث بلغة غريبة عليه والأغرب أنه كان يفهمها بل ويتحدث معها بتلك اللغة أيضًا.



لقد علم من هي عندما أبلغه مساعده أن الشرطة تبحث عن واحدة من بعثة الآثار المصرية تحمل نفس مواصفاتها ليحمد الله فلولا حرصهم على عدم تسجيل دخولها في سجلات المشفى لكان حدث له مالا يحمد عقباه.



ها هي ترقد في ثبات تام منذ أكثر من إسبوعين وبعد استقرار حالتها قرر نقلها لإحدى غرف الفندق بعد أن جهزها بالمعدات الطبية اللازمة وجلب ممرضتان لتقيما معها بالتبادل تحت إشراف طبيب الفندق فهو لا يريد المخاطرة فوجودها في المشفى ممكن أن ينكشف في أي وقت.


وها هو العمل يزدهر في الفندق فمنذ ليلة الإفتتاح والحال في أفضل ما يكون ونسبة الإشغالات تكاد تكون مكتملة ولكن سعادته بهذا الإنجاز غير مكتملة فشعوره بالذنب يطغى على أي شعور آخر.



دخل عليه مروان حجرة المكتب بعد أن طرق الباب عدة مرات ولم يتلقى رد ليجده شاردًا ينظر للفراغ بعين خاوية ووجه خالي من أي تعبير.


تعجب كثيرًا من حال صديقه فمن المفترض أن يكون في أحسن حالاته بعد تحقيق حلمه ونجاح المشروع هذا النجاح الباهر فحمحم عله ينتبه لوجوده ولكن دون فائدة ليعقد حاجبيه ويقوم بلمس كتفه ليفيقه من تلك الحالة الغريبة.


نظر إليه بتيه ثم ضيق عينيه وكأنه لا يراه أو يحاول التعرف عليه إلى أن أدرك أنه يقف أمامه بالفعل.



ابتسامة سعيدة ملأت وجهه وقام باحتضانه وكأنه قد وجد طوق النجاة ليحدثه بنبرة صادقة تحمل الكثير من المشاعر:


- كويس انك جيت يا مروان متتصورش انا محتاجلك قد إيه. 



أبعده عنه قليلا وضيق عيناه ناظرًا إليه بتركيز عله يعلم سببًا لتلك الحالة الغريبة التي أصبح عليها مؤخرُا فليس هذا يونس صديقه ابدًا  ثم عقب باهتمام حقيقي ليعلم ما الذي حدث وجعله يتغير ويصبح هكذا:



- مالك يا يونس؟ فيك إيه؟ وإيه حالة التوهان اللي بقيت فيها دي؟ انت المفروض تكون في أسعد أوقاتك بعد حلم حياتك ما اتحقق تقدر تقولي ليه مش فرحان؟ وديما ساكت ومبتردش على الموبايل.



تنهيدة حارة خرجت من صدره والحزن يشع من عينيه فلم يعرف من أين يبدأ وكيف يخبره عما حدث فنكس رأسه وأخذه وجلسا سويًا على تلك الأريكة الجلدية التي تقع في ركن من أركان الغرفة ولم يقوى أن ينظر لعينيه فظل ناظرًا للأرض وأخذ يقص عليه ما حدث عله يجد الراحة والسكينة عند إزالة ذلك الحجر الذي يقبع على صدره.



اندهش كثيرا مما استمع إليه فهو لم يكن على علم بكل ذلك فتحدث بلهجة يشوبها بعض الغضب لإخفاء مثل ذلك الأمر عليه:


- امتى حصل ده؟ وإزاي متقوليش؟ هو احنا مش اخوات و في مركب واحدة ولا ايه؟ 


نظر إليه وتحدث وعلامات الخزي واحساس الذنب يملآن وجهه:


- يوم الافتتاح الصبح وانا رايح المطار انت عارف كنا بنسابق الوقت إزاي، ظهرت قدامي فجأة وانا كنت سايق على سرعة عالية مقدرتش أفرمل في الوقت المناسب وحصل اللي حصل.


أكمل حديثه بتلك النبرة الصادقة المليئة بالأسى:


- مقدرتش أقولك وقتها كان لازم كل حاجة تخلص زي ما احنا عاوزين مكانش ينفع نخسر كل حاجة في لحظة والحمد لله الزيارة والحفلة عدوا على خير بس البنت لسة في غيبوبة وهو ده اللي تاعبني حاسس بالذنب ناحيتها ومش عارف أعمل إيه؟ أبلغ أهلها والبوليس وأضيع مستقبلي ولا أستنى لما تفوق واحكيلها اللي حصل يمكن تسامحني والموضوع ينتهي من غير خساير.



لم يستطع إخباره عن تلك الرؤى التي يراها في أحلامه فهو على يقين أنها من تأثير إحساسه بالذنب ليس أكثر.



وقع في حيرة من أمره ولم يدري ماذا يقول له فهو بين خيارين أحلاهما مُر ولكن هذا الأمر لو افتضح الآن سيخسرون الكثير وسيصبحون علكة في أفواه الناس وعلى صفحات الجرائد وأخذ يتخيل عناوين الصحف وصفحات التواصل الاجتماعي وهي تتحدث عما حدث وجميعها تحمل عنوان "انظروا فضيحة رجل الأعمال الشاب "يونس الأسيوطي" صاحب الفندق الشهير في الأقصر وهو يقتل ولا يبالي فأين القصاص العادل"



أفاق من تلك التخيلات المرعبة بالنسبة له وقد حسم أمره فالحل الأمثل  هو الإنتظار حتى تفيق الفتاة وسوف يفعلون لها ما تريد حتى لا تثير أي شوشرة تضر بسمعتهم في سوق الأعمال.




❈-❈-❈




غيمة من الحزن تحيط بهما طوال الأسبوعين المنصرمين فلا توجد أخبار عنها وما زاد الطين بلة تلك الأخبار التي انتشرت في الجرائد وعلى صفحات التواصل الإجتماعي والتي تربط اختفائها بلعنة الفراعنة وأنها تم تقديمها ك قربان لفتح المقبرة.


صراخ وعويل هو كل ما يسمع في المنزل طوال تلك المدة أما عن وعد فلقد تركت عملها واعتكفت في غرفتها مغلقة هاتفها لا تريد التواصل مع أحد.


فزعت بشدة عندما وجدت والدها يقتحم غرفتها في الصباح الباكر وهو يصيح كعادته وملامح وجهه لا تبشر بالخير أبدًا.


-  الله، الله، هي الهانم هتفضل قاعدالنا في البيت كدا كتير؟ قومي يختي فذي وورينا جمال خطوتك وروحي شغلك ولا عايزانا ناكل طوب بعد المحروسة التانية ما غارت ومش عارفين عنها حاجة غوره تاخدك انتي وأمك وتريحني منكم انتوا كمان.


لم تستطيع استيعاب ما تفوه به، هي تعلم مدى غلظة قلبه وقسوته، ولكن أن يصل لتلك الدرجة هذا ما لم تكن تتوقعه أو تتحمله فصرخت به لأول مرة في حياتها:


-  حرام عليك بقى يا أخي سيبنا في حالنا مش مكفيك اللي احنا فيه دا بدل ما تزعل على اللي حصل لعهد وتسافر تدور عليها جاي تقول الكلام ده وتدعي علينا كمان ارحمنا بقى انت إيه مفيش في قلبك رحمة.


أصابته الصدمة عندما استمع لحديثها فهو لم يعتاد منها على التمرد وأن ترفع صوتها عليه هكذا ولكنه لن يقبل بذلك أبدًا، يكفيه ما تحمله من عهد ووقوفها أمامه وتحديها له في كل شيء لن يسمح للأخرى أيضًا أن تفعل مثلها فهجم عليها جاذبًا شعرها في يديه حتى كاد يقتلعه  وتحدث من بين أسنانه وهو ينهال على وجهها صفعًا بيده الأخرى:


-  انتي اتهبلتي يا بت انتي ولا إيه؟ بتعلي صوتك عليا خلاص فاكرة نفسك علشان بتدفعي فلوس في البيت يبقى هتعملي زي اختك وتكلميني بقلة أدب لا دنا أدفنك مكانك ومالكيش دية عندي.


انهمرت الدموع من عينيها من شدة الألم الذي شعرت به وحاولت تخليص شعرها من بين يديه ولكن بلا فائدة فلقد كان ممسكًا به بشدة فصرخت من شدة الألم وتحدثت من بين صراخها وهي تمسك برأسها تحاول أن تخفف من جذبه لشعرها:


-  آه سيبني حرام عليك شعري هيطلع في إيدك.


أخذ يشد شعرها أكثر فأكثر وهو يحرك رأسها يمينًا ويسارًا حتى اقتلع جزء من شعرها بالفعل وتحدث بوعيد:


-  حُرمت عليكي عيشتك يختي وديني وما أعبد لو منزلتيش الشغل وجيبتي فلوس لهطين عيشتك.


جاءت  سميحة مهرولة عندما استمعت لصرخات ابنتها وصياح زوجها لتتفاجأ بما يحدث فحاولت أن تخلص شعر ابنتها من بين يديه وهي تتحدث بتعجب:


-  فيه إيه يا سي عادل؟ ماسك البت كدا ليه؟ سيبها شعرها طلع في إيدك.


لم يستجيب لها وتحدث وهو يجذب شعرها أكثر:


-  بنت ال… بتعلي صوتها عليا فاكراني هسكتلها.


حدثته باستعطاف علها تستطيع أن تخلص ابنتها منه:


-  حقك عليا أنا يا خويا دي متقصدش،هي بس زعلانة على اللى حصل لأختها سيبها علشان خاطري.


طرحها أرضًا فوقعت على ظهرها لتتألم بشدة من ألم رأسها وظهرها على حد سواء فجلست والدتها بجوارها لتطمئن عليها وهي تربت على ظهرها وتمسح دموعها المنهمرة بلا توقف ليستمعا لصوته الهادر وهو يصيح ويشير الي وعد:


-  أنا هغور دلوقتي من وشكم العكر بس لو جيت ولقيتك منزلتيش الشغل مش هيحصلك كويس.


قال ذلك ثم أولاهم ظهره وخرج صافعًا الباب بقوة لينتفضا بشدة ويقعا في نوبة بكاء مريرة فلقد ذهبت من كانت تدافع عنهما وتقف أمام بطشه بل وتوقفه عند حده أيضًا.





❈-❈-❈




لم تغب عن تفكيره منذ أن رآها لأول مرة في ذلك العيد المقدس ظل يفكر بها كثيرًا وما أرق نومه أكثر هو ما علمه عن هويتها فهي بعيدة عنه بعد السماء للأرض لن يستطيع الوصول إليها مهما حاول.



لا يصدق عيناه أنه يراها أمامه الآن للمرة الثانية بعد أيام قليلة من اللقاء الأول، جميلة، ومتوهجة كالشمس في وسط النهار تنير الكون ولا أحد يستطيع الوصول إليها.



دون أن يدري وجد قدميه تسير خلفها ليعلم أين تذهب فوجدها تدخل معبد الكرنك وذهبت لتقدم القرابين للإله الأعظم آمون رع وتتلوا إليه الصلوات.



ظل واقف ورائها دون حراك إلى أن انتهت من صلاتها وعندما همت بالرحيل رأته وهو لا يحيد بنظره عنها فارتبكت كثيرًا واحمر وجهها ونظرت للأرض وهمت بالرحيل مع وصيفتها ولكنها تسمرت مكانها عندما وجدت صوته يناديها وهو يقترب منها بخطوات رزينة.


- كيف حالك يا مولاتي؟


قال ذلك وهو ينحني أمامها احترامًا فلم تدري بماذا تجيب وكأنها نسيت كيف تتكلم.


حاولت استجماع قواها لترد عليه ولكن خرجت كلماتها مهزوزة و متلعثمة:



- بخير شكرًا لك.



حاولت الذهاب ولكنه وقف أمامها وحال دون ذهابها وحدثها بتلك البحة المميزة التي لم تسمعها من أحد سواه:


- أعتذر منكِ إن كنت قد أزعجتك ولكني كنت أريد فقط أن ألقي عليكِ التحية ألا تتذكريني؟


سألها ذلك السؤال وضيق عينيه وهو ينظر إليها بنظرات متفحصة ليرى هل تتذكره حقا أم لا؟ وعندما استشعر خجلها وعدم توجيه نظرها إليه علم الإجابة دون أن تجيب وقبل أن يكمل حديثه معها جاءت وصيفتها وأخذتها وذهبت ليتبعها بعينيه إلى أن اختفت من أمامه.


هي أيضا ظلت تنظر خلفها وهي تسير إلى أن ابتعدت عنه وقلبها يدق بصخب لدرجة أن وصلت دقاته إلى مسامعها فلا تصدق أنها قد رأته مرة أخرى وليس ذلك فقط بل جاء ليتحدث معها أيضا فلقد حلمت كثيرا بذلك اللقاء في الأيام الماضية ولكن الحقيقة كانت أفضل من الحلم بكثير.



❈-❈-❈





ها هو العمل يُستأنف اليوم بعد توقف دام لأسبوعين فلقد تحسنت أخيرًا  صحة البروفيسور ويليام وها هو موجود وسط الموقع مع باقي البعثات لا ينقصهم سوى عهد التي تم استبدالها بأخرى.


بدأ العمل مع شروق الشمس وقام البروفيسور باختيار ثلاثة آخرين للدخول الى المقبرة فلن يجازف ويدخل بنفسه مرة أخرى.


تحدث إلى مساعده في جدية شديدة لطالما اتصف بها أثناء عمله:


- سوف تدخل المقبرة مع مايكل وجوزفين.


 أشار للاثنين الآخرين ثم أكمل حديثه:


- يجب أن تأخذوا كافة الاحتياطات أثناء دخولكم وإن أحسستم بأي خطر أخرجوا فورًا ولو لم تستطيعوا الخروج أطلقوا إشارات الإستغاثة التي اتفقنا عليها.


أومأ إليه موافقًا على حديثه ثم أردف باحترام شديد:


- حسنًا بروفيسور سوف أفعل ما أمرت به لا تقلق.


استعد الثلاثة للدخول وأخذوا كافة المعدات اللازمة كما قاموا بارتداء تلك السترة والقناع الواقيتان من الأبخرة السامة لتفادي أي خطر من الممكن أي يلحق بهم.


دخلوا إلى المقبرة ولم يمر سوى بضع دقائق إلا ورأوا ذلك الضوء الأحمر الذي يدل على إطلاق إشارة الاستغاثة وعندما هموا بالدخول لإنقاذهم وجدوا ثلاثتهم فاقدون للوعي أمام باب المقبرة فأخرجوهم فورًا ولحسن حظهم أن سيارة الإسعاف كانت موجودة مسبقًا تحسبًا لذلك فأخذهم المسعفون إلى المشفى فورًا بعد فشلهم في إفاقتهم ليتوقف العمل للمرة الثانية ولا أحد يعلم إلى الآن ما السر وراء ذلك ولكن على ما يبدو أن جسمان الكاهن كان له اختيارًا آخر فيمن يستطيع الإقتراب منه.





يتبع