الفصل الثلاثون - الجزء الأول - كما يحلو لكِ - النسخة العامية
الفصل الثلاثون
الجزء الأول
النسخة العامية
ليس هناك أسوأ من افتراق محتوم عندما يقر به الطرفان وهما يشعران بمثل المشاعر بعد العديد من المحاولات، والكثير من الغفران، وفيض من التعلق غير المفهوم لأي منهما، ولكن ما بُني على باطل لطالما سيظل وسيبقى باطلًا حتى النهاية..
بعد تجارب شتى في مُثابرة من كلا الطرفان بإنجاح علاقة أساسها مهتز، لا تحتوي سوى على عشق حافل باضطرابات، وانجذاب جسدي لم يخل من الإهانة والعنف وعدم الرضاء، وتفاهم طفيف وكلمات حافلة بمحاولة خلق قصة مُعينة يتشبث كل طرف بتفاصيلها كما تصور ويريد تحقيقها كما يحلو له ولا يقبل سوى أن تكون كما أراد، لن تستطيع النهاية سوى أن تكون واحدة..
وقع العشق وتحول لهيام، الانجذاب الحميمي بلغ أقاصي الأرض وعنان السماء، تحسُن ملحوظ بالتفاهم الظاهري، وهنا تكمن المُشكلة، العقل أولًا وبعدها يتبعه القلب والانجذاب وأي من مصاعب الحياة في حالة من التلقائية الخارجة عن الايدي.. وعقلان كعقليهما لا يستطيعان الاتفاق ومريضان بالتصميم، يستحيل لأي منهما أن يصلان لنقطة تلاقي إلى أن تقوم الساعة لأنهما وببساطة من منظور أو آخر يتشابهان تمامًا مثل الطريقان المتوازيان!
بأعماق عقليهما تجري نفس المُعادلة، خدعها وخدعته، كذبت عليه وفعل المثل، غفرَ لها وغفرت له، تعامل آلاف المرات بخبث ولكن فعلتها هي مرة واحدة من أجل فرار حتمي.. وكلاهما من شدة صدماته بالآخر لا يُريد سوى ما يحلو له، وبأعماق كلاهما تحديدًا هي تريد الفرار، وهو لا يستطيع سوى رؤية الانتقام..
من يخدع من؟ هل تظن أنها فعلت ونجحت بالأمر؟ لن تحلم بأسوأ كوابيسها بما ينتظرها!! يا تُرى؛ هل رأت تلك الفتاة التي تضررت على يديه؟ سيكون كل ما حدث لها مجرد ذرة من قطرة في محيط مما سيحدث لها!
أم يظن هو أنها لم تتعلم الدرس مليًا؟ هل تظن أن رؤيته يدعي تزييف ملامحه وهدوئه وبراعته في أن يكون ساكنًا كالتبن الذي سكن على المياه سيُفلح بمكره؟ لم يعد بداخلها ما قد يدفعها لهذا!
تذكرت كل نصائح "مريم" لها، وتحاملت على ذعرها، لا تريد أن ترى أخيها صريع حادثة سير، ولا تتمنى رؤية والدتها في غيبوبة قاسية كما تعرضت لواحدة بالفعل عند موت والدها، هي فقط أطمئنت أنهما غادرا هذا المنزل البارد الخالي من الحياة كصاحبه تمامًا.. ولو كانت محظوظة ستلحق بهما!
- دادة اسمعيني كويس..
همست لمُربيتها التي عاونتها في أن تقنع والدتها وأخيها بالعودة إلى منزلهم لكي يكونان بسلام بعيد عن هذا المنزل الذي تقشعر من مجرد فكرة التواجد به! على كل حال هي لا تريد سوى أن تخرجهما أولًا من هذه الدائرة التي لا ذنب لهما بها وبعدها تنجو بنفسها، فهي تتذكر كلماته، هو يستطيع بمنتهى السهولة أن يقوم بإيذاء أيًا منهما في غمضة عين!
- أنا دلوقتي احتمال اخرج معاه، ومش عارفة هرجع امتى، انتي لازم تسيبي البيت حالا وتمشي والسواق برا مستنيكي.. أنا بعتلك رقم أخوه عشان يمكن ده الوحيد اللي يعرف يتصرف لو فيه حاجة، وبلاش خالص يونس ويارا وجوزها يتدخلوا في الموضوع.. كل اللي هتعمليه إنك تخلي اخوه يسمع الرسايل اللي بعتهاله، أنا بسجله كل حاجة بتحصل ما بينا ووقتها ممكن نمسك التسجيل ده عليه صوت وصورة، عايزاكي لو اتأخرت تقولي لعلا تيجي تاخده وهي فاهمة كويس هتعمل ايه، أهم حاجة مامي وبسام ميخرجوش من البيت من غير الأمن اللي علا بعتته.. لو عرفت اطمنك عليا هطمنك بس ارجوكي بلاش حد يعرف حاجة خالص دلوقتي، انتِ بنفسك شوفتي مامي جرالها ايه لما بابي مات.. مش هاستحمل يجرالها حاجة بسببي.. ولو اتأخرت يومين تلاتة قوليلها إني في مؤتمر وراجعة وعمر مشغول وعنده قضايا.. يومين بالظبط لو مكلمتكيش عرفي اخوه!
همست لها على عجل وودعتها والأخرى تنظر لحالة الذعر التي تتواجد بها فهتفت بها بلهفة:
- طيب استني يا حبيبتي، مش يمكن لو كلمتي والده يقدر يتدخل ويحل المشاكل ما بينكم، أنا مش هاينفع امشي واسيبك كده لوحدك!
أومأت لها بالإنكار وهي تتذكر كلمات "مريم" عن والده الذي خلق بيديه شخصية هذا الرجل الفاسد الذي تزوجته كما تذكرت كلمات "رضوى" ابنة أخيه هو نفسه عنه وابتلعت في خشية ثم تذكرت شيئًا ما لتقول بأعين توسعت بفكرة جيدة:
- اه اسمعي، عُدي خليه يوصل لابن عمه أنس ومراته رضوى، ممكن يقدروا يلاقوني بسهولة لو حاجة حصلت والمشاكل ما بينا كبرت.. مش هوصيكي يا دادة على مامي وخدي بالك منها!
عانقتها بوداع ولم تستطع منع تلك الدموع التي فرت منها وتوجهت للأسفل حيث رأته ينتظرها، هي لم تكن تفعل أي شيء سوى أن تطمئن على عائلتها أولًا.. فلقد تعلمت أن ما تقرره وحدها عليها أن تتحمل عاقبته وحدها.. وإلا ستكون مثله تمامًا مريضة وستتمادى بمرضها وهي تُسنده إلى الواقع المرير الذي ليس هو وحده من يتوقف عليه أفعال المرء.. هي من تزوجته بتوقيع بكامل ارادتها على عقد زواج بمنزله بعيد عن أعين الجميع فلم تكن والدتها هناك ولم يكن أخيها حاضرًا وعليها أن تتخلص من الأمر بمفردها تمامًا..
كانت فقط تكسب بعض الوقت ليس إلا بما أعدته له كي تستطيع أن تُثبت لو اذاها بشيء ولقد أخبرت "علا" بما عليها فعله، لم تضع وقتها هي الأخرى مثلما فعل هو، فلقد تعلمت منه على كل حال!!
هي لم تفقد عقلها بعد لتوافق على الذهاب معه لأي لعنة، تريد أن تطمئن أن هناك من سيساعدها ولو بأي شكل من الأشكال فهي لا تضمن ما الذي سيسوله له عقله المريض بصحبتها لو أصبحا بمفرديهما.. ولا تتصور ما قد يحدث وهي بين أخيها ووالدتها!
هل تبكي حقًا؟ لمَّ؟ لأنها خائنة؟ أم لأنها كاذبة وخبيثة؟ ربما تبكي لأنها خائفة؟ وأين هذا الرجل الذي لاذت بالفرار إليه حتى يحميها من بطش رجل متلاعب؟ لا هي ولا هو ولا البشر بأكملهم يستطيعون منعه عما يُريد الحاقه بها!
توجه نحوها وهي تهبط من على الدرج الداخلي للمنزل برعبٍ شديد قرأه بعينيها ولكنه يرى كذلك التصميم بعسليتيها الباهتتين من شدة البُكاء، ما الذي حدث؟ هل هذا المخـ نث أخبرها أنه لن يُصبح لها سوى بعد طلاقها منه؟! أم هو يعمل بالفعل على ما وجداه؟!
- أنا يستحيل اروح معاك أي حتة، ومفيش حد في البيت وممكن تتكلم براحتك!!
أخبرته بقوة ظاهرية حاولت التمسك بها بصعوبة شديدة ليدعي الصدمة ثم سألها:
- خلاص خلينا نتكلم، ممكن أفهم فيه ايه يا روان؟ انفصال ايه اللي بتتكلمي عنه؟ احنا كنا كويسين!!
يريد تحقيق أمر وحيد فقط، أن يقنعها لمرة أخيرة بمصداقيته بالرغم مما يضمره بداخله لها، فقلبه المحترق قد بات رماده يخنقه وعقله الذي يأبى كل شيء سوى الانتقام لا يُريد سوى أن يحقق ما يحلو له!
ارتجفت ملامحها وهي تخشى النظر له بعد أن رأت ما رأته بصحبة تلك الفتاة ثم حدثته بصوت مهتز:
- أنا مش هقول كلام كتير مالوش لازمة.. أنا عارفة إنك عرفت وتمثيلك عليا مش هصدقه المرادي، وحتى لو معرفتش فأنا بعرفك، أنا بقا معايا حاجات كتير لو طلعت قدام الناس مش هتبقى نفس المحامي بنفس سُمعته، غير أدلة كتير متأكدة إن ليها علاقة بقضايا مهمة.. فأرجوك لآخر مرة بقولك طلقني من غير مشاكل!
نظر لها بتأثر شديد وهز كتفيه ثم تسائل بذهول وكأن ما فعله أمر عفوي للغاية بينما في الحقيقة هو مجرد رجل مزور مُلفق ومخادع:
- ما انتي كل اللي لاقتيه أنا صارحتك بيه! ايه المشكلة إن يبقى معاكي كل حاجة عني؟!
اقترب منها ففزعت وهي تنكمش على نفسها بينما ترجم هو كل ما يحدث بأنها لا تطيق لمسته عليها من أجل رجل آخر فتوقف عن حركته التي كانت مجرد اختبار لها وحدقها بحزن مزيف وأخبرها بشجن وهو يرمقها بجدية وانحنى كتفاه وكأنه يستسلم لموت وشيك:
- بس لو ده اللي انتِ عايزاه يبقى تمام.. هطلقك.. بس عشان كل اللي معاكي ده ميهمنيش، عشان ارضيكي في الآخر..
تعالت أنفاسها ارتباكًا ثم أخبرته بنبرة مترددة اهتزت بذعرٍ عندما تذكرت ما رأته يحدث لتلك الفتاة:
- اللي معايا أنا مدورتش عليه عشان بس اساومك عليه، اللي معايا خلاني اشوف حاجات كتيرة على حقيقتها، وأنا مش هاقدر أكمل مع إنسان يقدر ينام كل يوم وهو بيتعامل مع كل الظلم اللي ظلمه للناس في حياته كأنه حاجة عادية.. ومش بعيد في يوم يعاملني زيهم! ده لو هنعتبر إنك مكونتش ناوي تعاملني بنفس الطريقة من البداية!
انهمرت دموعها وملامحها ترتج بشدة بين الخوف وبين تلك الأحداث التي عايشتها معه ولم تغفل عن عقلها المصمم على تذكر كل ما رأته صباح اليوم بينما لم تهتز به شعرة، ولم يتأثر ببكائها الزائف..
هل تريد أن تُلهي عقله بهذه الحِجة الواهية، يا لجنس النساء، يستطعن ببراعة إلقاء اللوم بتصويب أناملهن على الرجال وهن في غاية الضعف وكأنهن ملائكة، لم يرتكبن ولو خطأ واحد!
وكأنها لم تقم باستغلاله، وكأنها لم تقم بخيانته، بل وتريد أن تنفي كل شكوكه وتُنسيه إياها، بعد تعلقها الغريب بابن خالتها، بداية بمكالمة ثم تلامس رآه بأم عينيه واختار أن يُكذبه ثم بعدها لقاء لم تظن أنه سيعلم عنه شيء، والكثير والكثير من الذهاب له بمنزله خاصة البعيد عن منزل عائلته، هل تظن أنه لم يعلم ما فعلته أثناء تلك الفترة التي لا يستطيع تذكرها؟ والآن هو المُخطئ.. يا له من جنس عجيب!! الكلب لن يفعل هذا بصاحبه، على الأقل لديه صفة الوفاء التي لا تتصف هي بها!
تأتي هي تُمثل البراءة بل وتلقي باللوم عليه وكأن كل ما فعلته لم تخطئ به، هل حقًا تظن أنه مغفل وساذج لهذه الدرجة؟! ليُريها سذاجته إذن، هل ظنت أنها تستطيع فعل كل ما يحلو لها لأنه يعشقها؟! العشق لطالما كان خطأ، ولكن سيتحمل كل عواقب خطأه!
مجرد أن يرى هدوئها عاد من جديد سيتوقف، لا يريد فقط سوى أن يخدعها، أن يحقق تلك الغاية الدفينة بداخل نفسه أنه يستطيع فعل أي شيء وكل شيء وهو يقنع من أمامه بأمر زائف، لن يتوقف حتى يحصل على تلك المرأة التي ظن أنه عرفها حق المعرفة يومًا ما ولو بحيلة صغيرة، يُريد أن يثبت لنفسه أنه يستطيع فعلها فقط لبعض اللحظات الأخيرة بينهما!
أخرج هاتفه ثم هاتف نفس سائقه الذي لتوه صرفه صباح اليوم وأخبره أنه بإجازة مفتوحة بينما ابتلعت وهي ترتعب من قراراته الفُجائية وظل يحدقها بأعين لائمة واتخذ خطوة للخلف مبتعدًا عنها وبدأ في الحديث أمام عسليتيها المفزوعتين:
- محمود، هاتلي مأذون وتعالى على البيت في القطامية!
لن تصدق أفعاله حتى تحصل على فرارها منه، حتى ولو ينظر لها بهذه الطريقة، وحتى لو كان المأذون على بُعد دقيقة واحدة منها، ولو اتضح أنه سيفعلها بدون كل ما ظنت أنه سيقوم بفعله عندما يعلم أنها طوال تلك المدة كانت تخدعه!
أغلق هاتفه ثم حدقها من جديد من أعلى رأسها لأخمص قدميها وابتسم لها بحسرة مزيفة وأخبرها بمنتهى الهدوء وكأنه لا يحترق بداخله:
- أنا هاستنى برا لغاية ما المأذون يجي..
لمحته بصدمة وعينيها لا تصدق أنه التفت وغادرها لتجده يتوقف في منتصف الطريق والتفت لينظر إليها ثم ألقى بكلماته بعدم اكتراث حقيقي:
- وعلى الفكرة كل اللي معاكي هيوفر عليا كتير أوي مع يزيد الجندي، يا إما هيتشغل بعيد عني عشان يطلع ابنه براءة، أو أخيرًا هيقبل حقيقة إني سبت البلد كلها وهربت، وعلى ما القانون بقا ياخد اجراءاته ويتحكم عليا في كل حاجة أكون عشت حياة حلوة اوي بعيد عن حياة مختارتهاش!
لمحها باستخفاف وصدر لها تلك النظرة التي لم تكن سوى حقيقية، هو صادق في كل ما قاله بالإضافة إلى تأكيده التالي:
- ده يعني لو يزيد الجندي بمعارفه وقرايبه مقدروش يلم الموضوع كله في غمضة عين!
ضحك بخفوت ساخرًا ليجد لديه رغبة حقيقية في الضحك دون ادعاء ثم أخبرها بين ضحكاته:
- عارفة، أحيانًا الحاجة الوحيدة اللي بتصبرني عليه إحساس إني مسنود، من زمان أوي، من أيام ما كنت في المدرسة! بس اقولك، جربي كده تقدمي الورق ده في أي مكان وخدي اجراءاتك وشوفي إيه اللي هيحصل!
قال جملته الأخيرة بعدم اهتمام حقيقي ثم تركها وغادر للخارج وتركها تعاني بعقلها بين تهديده الخفي لتتنعم بآخر لحظات الهدوء الذي يسبق عاصفته التي لن يقبل سوى أن تُنسيها اسمها!
❈-❈-❈
هناك عدة قواعد للتعامل مع مثل هذا النوع من النساء، لا مواجهة، لا تلامس، وليدعها تظن لبعض الوقت أنها أحرزت هدفًا بالفوز، في المباريات الصعبة ضد الخصم يكون من الذكاء تركه يظن أنه أوشك على الفوز، وهذه هي مباراة حياته، ضد زوجته وليس مجرد فتاة ارتبط بها، ومصيبته أنه عشقها عشق لم يُخيل له أنه سيصل له مع امرأة.. وعلى مقدار العشق يكون الانتقام.. معجمه لا يقبل سوى هذا!
لو خدع "يُمنى" عامان كاملان، ما الذي سيفعله معها؟ هل يكتفي بأن تنسى كل شيء عداه هو؟ يُمكنه أن يُنسيها اسمها حرفيًا.. وتلك المرأة التي كانت مستمتعة أسفله بممارسة العلاقة الحميمة وهي تتحمل العـ نف الشديد لن يكون معها الضرر الجسدي التصرف الأمثل، هو يُدرك جيدًا ما الذي يؤثر بها.. يا لها من كارثة أن تخطأ مع رجل مثله يعلم مليًا ما يؤثر بنفس من أمامه!
كان يُراهن نفسه بشدة على ملاحقتها له، امرأة مثلها لن تذهب دون اغلاق لهذه الخديعة باحترافية منها لتخرج من هذه العلاقة وكأنها مثالية لم تخطأ بشيء!
أخرج هاتفه ثم أرسل إلى سائقه بأن يلغي حضوره هو والمأذون واستعد تمامًا لتلك اللحظة التي ستظن أنها قد أوشكت على الانتصار عليه، ذهب لسيارته وأخرج منها قفاز جلدي فهو يستحيل أن يلمسها ولو مرة واحدة بعد كل ما عرفه عنها فلقد باتت مُلوثة مُتسخة لا ترقى للمسته..
أخرج قطعة قماشية ثم سكب من هذا المخدر بغزارة وهو يحاول أن يمنع نفسه عن استنشاقه فلقد استطاع أن يتناوله من طاقم طبي كامل مُهيئ أسفل تصرفه واعطوه كامل الارشادات الطبية لاستخدامه وانتظر قدومها الذي يعلم أنه وشيك للغاية ثم ادخلها بجيب بنطاله وتمنى أن تكون فعالة عندما تأتي، ربما عليه أن يحتفظ بالزجاجة في جيبه الآخر، فتناولها واستعد لما يقدم عليه وانتظر بهدوء!!
لقد أعد كل ما سيحتاج له في ساعة واحدة، وكل ما يستطيع فعله كان بمجرد مفاوضة بعض العملاء على قضية قد تودي بحياتهم للأبد وكل ما يريدونه هو البقاء بسمعة جيدة ومواصلة أعمالهم، غريب للغاية تشبث هؤلاء التافهون بحياة سيئة!!
لوهلة أثنى على ما فعله.. وعلى ما يحدث بهذه الأثناء، فهناك جيش بأكمله يجهز لها ما لا تتصوره، لم يتبق فقط سوى وضع لمساته الأخيرة، وبعدها سيحاول أن يُرتب كل الأدلة أمام عينيه ليرى كيف سيقتلها بيديه كعقاب على خيانتها له التي يبدو أنها اعدت لها منذ مدة لا بأس بها وكان هو هائمًا بسذاجة في عشقها وثقته بها!
تفقد الوقت وحدد نصف ساعة بساعة يده، مراهنة أخيرة بينه وبين نفسه أنها ستأتي في النهاية، وكما فعلت هي وقامت بصرف كل من في المنزل لتبقى بمفردها معه، صرف هو الآخر كل العاملين والحراس والسائقين.. يا للسخرية، لو يعلم كلاهما كم هما متشابهان لتوقفا عن أفعالهما!
❈-❈-❈
لم تصدق ردة فعله، لا تثق به اطلاقًا، أم هي الصدمة تجاه كل ما يحدث لها؟ لا تعرف كيف تصف ما تشعر به، ربما هي تقارب على فقد عقلها للأبد بسبب واهي تافه، رجل جذاب ناجح عرض عليها الزواج وقد قبلت هي به، والآن تشعر بالذعر بعد أقل من عام، كيف للحياة أن تتحول لتصبح هكذا؟!
بدأت الدقائق تمر، وهي لا تدري هل ما تفعله هو غباء أم ذكاء، بعد ما رأته سيكون من الغباء أن تقوم بتهديده، هو قادر على فعل الكثير بالفعل، لابد من أن الكثير من القضايا التي حصل بها على تبرئة موكليه قد لاقى الكثير من التهديدات أثناءها.. لقد كانت "مريم" مُحقة بذلك..
عقلها سيغادر رأسها التي قاربت على التوقف، ربما القليل من المحاولة بعد ستُنجيها منه.. أخرجت هاتفها ثم أرسلت رسالة أخرى إلى "عُدي" ولم تكترث بكل تلك الرسائل الأخرى التي وردت لها وطبعت بسرعة:
- عُدي أرجوك اسمع اللي بعته، الموضوع مفيهوش هزار.. أنا بجد مش عارفة هاعمل ايه ولازم تلحق عمر!
زفرت وهي تحاول أن تتحمل ورمقت ساعتها لتجد أن الوقت يمر بتباطؤ وكأنه لا يريد أن ينتهي فحملت هاتفها ثم اتجهت للخارج، ربما ستستطيع الصراخ وأحد سيُنقذها منه أو يكون شاهدًا لو فعل بها أي شيء هذا إن لم يقم بابتزازه وتزوير شهادته، على كل حال لقد كانت مخاطرة منذ البداية بأن تتزوج بهذه الطريقة وهي تغفل عن كل الإشارات بمنتهى الغباء، ولكنها ستتحمل حتى النهاية!
نظرت بالحديقة التي وجدتها فارغة بالكامل ثم لمحت البوابة الخارجية فلم تجد حتى حارس البوابة فاتجهت للمرأب لتجده مستندًا على نهاية سيارته ولم يكن هناك سواه وهو عاقدًا لذراعيه وتفقدها بملامح لم تستطع قراءتها بينما بداخله قد فاز بالرهان في خلال عشرين دقيقة ليس إلا..
- عمر أنا عايزة اقولك حاجة أخيرة!
تفقدته ولم تُصدق أنه بهذا السكون الشديد وحافظت على مسافة جيدة بينها وبينه ورغمًا عنها امتلأت عينيها بالدموع لا تدري هل من خوفها أم من أجل مشاعرها أم بسبب ما أوشكت على قوله وانهمرت دون تحكم منها وهي تنظر له وهو لا يُحرك ساكنًا:
- أنا حبيتك اوي، فوق ما تتصور، عملت حاجات كتيرة اوي عشان جوازنا ده يكمل، بس أنت مسبتليش حل غير ده، كان لازم اشوف بعيني حقيقتك لأن كل كلمة منك كنت بلاقيني بصدقها من غير تفكير، وأنت اللي علمتني كل اللي عملته لغاية ما وصلت للورق اللي بين ايدي وكل حاجة كانت في الأوضة دي!
أومأ لها ببرود شديد وقرأت على ملامحه عدم الاكتراث والبرود التام فلم تكترث سوى بما تود قوله وتوقفت عن محاولة فهمه فلقد حاولت آلاف المرات وفشلت كثيرًا لتجهش بالبكاء وأكملت كلماتها بحرقة:
- أرجوك بعد ما نتطلق، لو حبتني زي ما قولت فكر في مرة واحدة بس تروح لأخصائي نفسي، مش عشان السادية اللي أنت مقتنع انها مش مرض أصلًا بس أنا طول الفترة اللي فاتت دي كنت عارفة إن عندك اضطراب ثنائي القطب، bipolar لو تسمع عنه!
وجدت لسانها يتثاقل بينما لمحها وهو يستخف بداخله مما تقوله، الآن تود أن تصوره كمختل عقلي، يا لها من غبية، هل تظن أنه سيُصدق؟!
ظل ناظرًا لها ولم تتغير نظرته بينما تابعت وهي تتحدث له بمصداقية وعقلها مشوش لا تعرف من أين تبدأ فهي لم تتوقع هدوئه هذا وموافقته على انفصالهما بهذه السهولة:
- أنا مستعدة اساعدك، ويمكن لو فهمت كل اللي مريت بيه من نوبات اكتئاب وهوس في حياتك هتقدر تفهم أنا ليه مقدرتش استحمل.. يمكن بعدها نرجع لبعض تاني بس صدقني أنا بقيت خايفة من كل يوم معاك
ارتجف جسدها بشدة وهي لا تسيطر على تلك الحالة التي تتحكم بجسدها بسبب البُكاء ثم تابعت وهي بالكاد تتنفس بين بُكائها:
- أنت كل شوية بحال، واظن أنت فاكر الفترة اللي قبل ما نسافر المكسيك، ساعتها جاتلك نوبة هوس شديدة اوي، ده سبب إنك نسيت كل حاجة، مش عارفة أقولك ايه ولا اشرحلك ازاي الموضوع محتاج حد يفهمك ازاي حصلك ده، بس أنت مفوقتش منها في الآخر غير بعد ما كنت بحطلك ادوية في الأكل.. عمر أنت كنت بتغتصبني كل يوم مرة واتنين وتلاتة، بتولع في البيت، وعايز تنط من البلكونة، مكونتش بتنام، كنت بتاكل بطريقة مش طبيعية وبتشرب كتير اوي وبتصرف فلوس بشكل مش طبيعي وفاكر كل الناس ضدك.. واتحايلت عليك مليون مرة نروح لدكتور وأنت رفضت!
حاولت التنفس بين شهقاتها ليقترب منها بخطوة واحدة وادعى الاندهاش والصدمة:
- انتي بتتكلمي بجد؟ ازاي أنا عملت كل ده؟ أنتي تقصدي إن كل اللي حصل وقتها أنا مكونتش واعي للي بعمله؟ ازاي؟!
ليس هناك أفضل من ادعاء تصديق من أمامك وموافقته بشدة، حسنًا، هو رجل مجنون، فليُصدق هذا ظاهريًا، بينما حقيقة أنها تحاول أن تُثبت أنه رجل مجنون بمرض عقلي كفاقدي الأهلية الذين يُعطى لهم أحكام مخففة بسبب اضطراباتهم بقضاياه، لن تُفلح هذه الحيلة معه، فلقد احتال بها على العديد من المستشارين والقضاة وهو يفر بموكله بعيدًا عن حكم الإعدام.. أمّا هي فلن تستطيع إقناعه بتخفيف حكمه النهائي عليها! فبعد ما فعلته لقد أصبحت ميتة بالنسبة له بالفعل!
أومأت له بالموافقة ولم تستطع أن تتوقف عن البكاء وملامحها ترتجف بشدة ثم اجابته بإطناب وهي تحاول أن تقنعه للمرة الأخيرة بكل ما تعرفه عن حالته:
- أنا عارفة إن مالكش ذنب في حاجات كتيرة، وعارفة إنه كان غصب عنك، بس الموضوع هتقدر تعديه، والناس كلها بتقدر تسيطر على النوبات بالأدوية، بس لازم تفهم وأنا هحاول اساعدك على قد ما اقدر.. مش معنى اننا هننفصل يبقى خلاص ممكن منرجعش لبعض تاني.. بس أنا مش هاقدر يا عمر استحمل أعيش وانت مش واعي لنفسك ولتصرفاتك.. أنت كنت هتموتني وتموت نفسك عشان بس مش عايز تروح لدكتور! يمكن لو حاولت محاولة أخيرة كل حاجة في حياتك تبقى احسن، ويمكن نرجع لبعض، بس طول ما أنت مصمم إنك تستمر كده من غير ما تفهم اللي بتعاني منه عمري ما هاقدر أعيش ساعتها مع راجل هيكون أبو اولادي في يوم ونصحى في لحظة نلاقي حياتنا اتدمرت بسبب نوبة هوس أو نلاقيك موت نفسك في نوبة اكتئاب ونخسرك!
ابتلع بصدمة وأخذ خطوة أخرى نحوها لترمقه بتردد وهي تلمح على وجهه عدم مقدرته على تكوين جُملة واحدة ورأت كيف انحنى كتفيه وكأنما لسانه انعقد بالكامل لتهتف به بمصداقية ولم تستطع التوقف عن بُكائها:
- صدقني هتقدر تعدي كل ده، وهتكون احسن راجل في الدنيا، مش معنى اننا هنسيب بعض يبقا حياتك هتبقا وحشة، وممكن وقتها نرجع لبعض.. أنا بس محتاجة وقت، وأنت كمان محتاج وقت لنفسك قبل أي حاجة في حياتك، لا باباك ولا دراستك ولا يمنى ولا شغلك ولا حتى أنا..
حدق بها بصدمة ثم تلعثم قائلًا بملامح مذهولة:
- عشان كده أنا مش لاقي إجابات على أسئلة كتيرة.. صح.. انتي صح!
انهمر المزيد من دموعها وبالكاد تنفست بين نحيبها ليُردف:
- اوعدك إني هروح لدكتور..
هل صدقها؟! هل فعل؟! لا تعرف.. ولكن لقد أرضت آخر ذرة اكتراث من أجله بداخلها، ربما ستُشكل كلماتها فارقًا في يوم من الأيام!
ادعى نظره بالأرضية وكأنه شارد مُفكرًا بكلماتها بينما بداخله كان يقهقه على تلك الحيلة التي تظن أنها ستحتال بها عليه وهمس مخبرًا إياها:
- ادخلي استني المأذون جوا وسيبيني لواحدي!
استكانت قليلًا وهي لا تُصدق أنه اقتنع حقًا ولكنها ابتعدت سريعًا كما أخبرها ليلتفت وهو يخرج الزجاجة وسكب منها على القطعة القماشية من جديد لكي لا تراه ثم امسك بها يُخفيها بيده وتبعها مهرولًا ثم ناداها:
- روان.. ثواني.. أنا عايز افهم حاجة..
التفتت له بتردد لتجد يديه موضوعتين خلفه ليبتسم لها بحسرة ثم أخبرها لكي يُطمئنها ظاهريًا:
- متخافيش مش هلمسك ولا هافكر اقرب منك ما دام انتي عايزة ده.. بس هسألك حاجة وعايزك تجاوبيني عليها!
ابتلعت وهي تتفقده بخوف لم يغادرها فهي تعلم أن ذلك الرجل الذي رأته بصحبة تلك الفتاة لابد من أنه يتواجد بداخله بمكان ما بينما أخذ خطوة نحوها وهو يسألها:
- انتي تعرفي الكلام ده من امتى؟
لم تصدق أنه استجاب لكلماتها وحاولت أن تتذكر متى أخبرتها "مريم" بهذا الأمر ثم اجابته بتردد:
- يمكن بعد ما اتجوزنا بشهر ونص تقريبًا
أومأ لها بصدمة ثم اقترب نحوها من جديد بعد أن سألها:
- وانتي ازاي قدرتي تستحملي الفترة دي كلها معايا وأنا كده؟ ليه مقولتيش بدري؟
اجابته دون تفكير وهي تهتف بحرقة وقد نجح بالفعل في التسلل لعقلها:
- لأنك كنت رافض أي علاج نفسي وبعدين أنا استحملت يا عمر عشان أنا حبيتك بجد وكل اللي كان نفسي فيه إني أكمل حياتي معاك..
وجدت الدموع تفر من عينيها من جديد بينما لأول مرة تؤثر به كلماتها لتمتلئ عينيه بمسحه خفيفة من دموع خلفها الحريق المتأجج بداخله وهي تتفانى في أن يُصدق أنه مجنون بالفعل وأنها لم تكن خائنة طوال كل هذا الوقت ولمصيبتها أنها تحتال عليه بحقيقة عشقها الزائف له!
ادعى صعوبة التكلم ثم تحدث بصوت مهتز:
- أنا.. أنا مش عارف الكلام ده حصل ازاي، بس أكيد كنت هاحس لو اني مريض بجد.. يعني استحالة حد يبقا مريض بين يوم وليلة
اتسعت عينيها الباكيتين ثم أخبرته باندفاع واكتراث حقيقي بعد أن صدقت أنه تقبل الأمر:
- يا عمر انت طول الوقت مُكتئب يا إما بتفكر في اللي حصلك زمان، ونوبة الهوس اللي نسيت فيها كل حاجة دي مكنتش مبرر كفاية بالنسبالك.. أنا فاهمة إن صعب تقبل حقيقة إنك مريض بس مبقاش فيه حاجة الطب بيوقف قدامها.. الواحد مبيحسش هو بيعمل ايه غير لما بيشوف نهاية أفعاله وتصرفاته.. أنا دورت بنفسي وكنت بروح لـ..
وهذه كانت كلمتها الأخيرة قبل أن يقترب في لمح البصر وبنفس اللحظة وضع تلك القطعة القماشية على وجهها وفمها وبعد محاولة فرارها من بين يد اعقدها على خصلاتها والأخرى التي تكمم نصف وجهها بها وهي ترمقه بذعر والدموع تنهمر من عينيها دون توقف لم تفلح في الفرار كما أنها لم تفلح في الاستسلام لهذا المُخدر القوي الذي جعلها تقع أمامه كالجثة الهامدة!
وقع هاتفها بجانبها فوضع القطعة القماشية بجيبه ثم تناول هاتفها ووضعه أمام وجهها ليستطيع المرور بداخله وسرعان ما توجه لتطبيق رسائل شهير يعرف أنها تستخدمه وكل ما وجده به لم يزده سوى تأكيدًا على أنها خائنة، وكاذبة، ولا تريد فقط سوى الاحتيال عليه لتتخلص منه من أجل رجل آخر!
أخيه هو آخر من راسلته، وهناك الكثير من الرسائل الواردة
من ابن خالتها، ثم مساعدتها الشخصية، وأسفلهم "بسام" أخيها يُصرح أنه
اشتاق لها ومن ثم إدارات عدة مكتظة بالرسائل غير المقروءة وأسفل كل هؤلاء أخته ثم
ابنة خالتها!!
سرعان ما توجه لتلك الرسائل التي لم يمر عليها سوى نصف
ساعة فقط ثم بدأ في استماع ما تقوله بأولى رسائلها الصوتية لأخيه الذي لم يقم
بالرد عليها:
-
عُدي أرجوك اسمعني، أنا كنت بحاول اوصلك طول اليوم عشان
فيه حاجة ضروري مش هتقدر تستنى، أنا اكتشفت في عمر تصرفات غريبة، في الأول كنت
فاكرة الموضوع عادي بس بعد كده اضطريت اتابع مع دكتورة، هو بيعاني اوي من حاجات
كتيرة، محتاج حد يقنعه بتدخل اخصائي لأن كده مش هاينفع يستحمل نفسه أو حتى غيره
ومعندكش فكرة الموضوع ممكن يوصل لأنه بيبقى عايز يرمي نفسه من دور عالي أو يصرف كل
فلوسه من غير ما يفهم هو بيعمل ايه، عرضت عليه كتير بس مقتنعش.. أرجوك تساعده يا
عُدي، وكمان أنا طلبت الانفصال وموافقش فاضطريت أوصل لأوراق وحاجات مهمة يمكن
ساعتها اقدر اتفاوض معاه على الطلاق.. أنا بسجل كل حاجة ما بينا وهتقدر تلاقيها في
الـ security system بكل التسجيلات وساعتها لو حصل حاجة هتقدر
تعرف احنا روحنا فين أو ايه اللي حصل ما بينا.. وياريت لو سمعت الفويس نوت دي تيجي
في اقرب وقت.. أنا اضطريت ابعد مامي وبسام عن الموضوع كله.. صدقني الكلام ده مش
هزار وأنا مش ضامنة عمر ممكن يعمل ايه!
لقد كانت هذه الرسالة الصوتية منذ ثلاث ساعات كما قرأ
كذلك تلك الرسالة منها التي أرسلتها له:
-
عُدي أرجوك اسمع اللي بعته، الموضوع مفيهوش هزار.. أنا
بجد مش عارفة هاعمل ايه ولازم تلحق عمر!
بالطبع هذا المُدلل لم يُجبها، ليس لديه الوقت لأنه أنجح
رجل بالعالم ولديه اليوم بأكمله لا يكفي لمشاريعه العملاقة، يا له من خائب شبيه
النساء هذا!!
سرعان ما توجه لتلك الرسائل من ابن خالتها وظل يقرأ:
-
انتي مش بتردي ليه بقا؟
-
مش ناوية تحني عليا طيب؟!!
-
انتي مش جدعة على فكرة عشان مش عايزة تخلصي الموضوع ده!!
-
بقولك ايه أنا استحيل اكلم جوزك أنا مش ناقص كفاية آخر
مرة
-
انتي يا سيدة الاعمال
-
روان، كل ده مبترديش، هاجرتي ولا ايه؟
-
طيب مش هشوفك قريب؟
-
هو عشان حلوة يعني بتتقلي عليا، اعرف بنات حلوين بردو
على فكرة..
-
انا كل ده مستنيكي على فكرة ومش عايز اتهور!!
-
اخر تحذير، مش هاستنى أنا بقالي شهور في العذاب ده
-
بصي بقا، ما دام انتي مقدرتيش تتصرفي أنا كلمت عُدي وفهمته
كل حاجة حصلت واللي يحصل يحصل!
أيام متتالية هذا المخـ نث يُراسلها بينما هي لا تقوم
بالرد، أو ربما قامت بالرد بالفعل وقامت بمسح الرسائل، وربما ذهبت له بالفعل بعد
أن رأت كل هذا منه، أيًا كان ما بينهما فكلاهما في عداد الموتى!!
قام بجذبها من خصلاتها ولم يكترث بجسدها خائر القوى الذي
لامس الأرضية وهي تتمرمغ غير واعية بما يحدث لها حتى قام بوضعه بصندوق السيارة
الخلفي ثم قام بمسح تلك الرسائل المُرسلة إلى أخيه واتجه سريعًا كي يقوم بمسح
تسجيل كاميرات المراقبة ولكنه كانت بالفعل قامت بتغير نظامه فلم يستطع أن يلج لأي
تسجيلات كي يقوم بمسحها ليشعر بالغضب الشديد يتآكله وبالطبع ليس لديه وقت كي يُدمر
هذه التسجيلات أو يستطيع الوصول إليها!!
لم يكترث وأعرض عن الفكرة واتجه لمكتبه وأخرج سلاح ناري
خفيف لطالما احتفظ به في الخفاء لم يستخدمه قط قبلًا ولكنه لم يكن يمثل له سوى
مقتنى من مقتنيات عديدة، وعلى ما يبدو لقد حان الوقت لاستخدامه لأول مرة، ستكون
واحدة من الأحداث الملحمية بحياته.. كانت الفكرة كفيلة لجعله يتشبث بظنونه الخاطئة
واتجه من جديد للخارج حتى يختفيان للأبد!
ابتسم بزهو وكأن هذه التفاهات ستساعدها على الإفلات من بخطتها
الساذجة التي خطتها كما تخط العنكبوتِ منزلها الهش وفكر كم هي غبية لتتلاعب به
أثناء طريقه للخارج، ولا يريد سوى رؤية وجهها المذعور وهي تظن أن أي من المخنـ ثين
سيساعدانها، أخيه، أو ابن خالتها، على كل حال مهما فعل الجميع لن يستطيع أحد أن
يجد مكانهما ولو بحثوا عنهما لسنوات..
❈-❈-❈
في نفس الوقت..
زفرت بضيق شديد وهي ترمقه بغضب ولم تفهم لماذا يُريد
التحدث معها وهو منذ أن قام باستدعائها من غرفتها وهو منشغل بالكثير من المكالمات
التي لا تنتهي وبم سيُريد التحدث على كل حال، فجأة هكذا تذكر أن لديه أخت صغيرة..
-
عُدي بقولك إيه، أنا ماشية ولما تفضا ابقا عرفني..
اتجهت بالفعل لتغادره وهي تغمغم بهمس غير مسموع:
-
أو متعرفنيش، مش ناقصة قرف!
سرعان ما أغلق المكالمة مستأذنًا من الطرف الآخر الذي
يُحدثه وتبعها كي يلحق بها قبل أن تعود لداخل المنزل قائلًا:
-
يا بنتي الرحمة بقا، اتشغلت شوية يعني متجراش حاجة..
رمقته باستخفاف بعد أن التفتت له وأخبرته هاكمة:
-
على أساسا معنديش مثلًا حاجة اعملها، وبعدين شغل ايه ده
اللي بيتكلمو فيه والضحكة من الودن دي للودن دي، لو مشغول أنت حر بس متجبنيش
تذنبني جانبك ساعة وعمال من مكالمة لمكالمة لإيميل!
زفر بإرهاق ثم أخرج هاتفه وهو يُفعل وضع الطائرة ثم
حدثها باستفزاز ليقول:
-
وادي Airplane
mode كويس كده!!
رمقته بجدية وهي تعقد ذراعيها ثم سألته ساخرة:
-
عايز ايه يا عدي مني؟ ماما معملتلكش العشا وعايزني
اعملهولك؟!
ابتسم لها بسخافة وقال مطبقًا أسنانه:
-
لا وانتي الصادقة واحد غير أخوكي نفسه تعمليله العشا!
تبدلت ملامحها وصاحت به:
-
انت اتجننت!! واحد مين ده!! ما تتكلم كويس يا عدي
نظر بالمنزل خلفه ثم جذبها من يدها وهو يقول بنبرة
مُتعبة من تلك العنيدة:
-
اهدي ومتعليش صوتك، مش انتِ اللي اتسحبتي من لسانك روحتي
قولتيله إن بابا مش هيوافق عليه، اهو دبسني وجه واتقدملك وطلبك مني!
حدقت به بصدمة شديدة وانعقد لسانها وابتلعت وهي تحاول أن
تُكون جملة مفيدة بينما تابع هو بدلًا منها بسخرية:
-
ايه، سكتي دلوقتي فجأة كده!
أجلت حلقها وهي تدعي الجدية الشديدة ثم قالت بحدة:
-
أنا الانسان ده كلمني مرة واحدة وأنا قولتله إنه مرفوض
وإني مبفكرش في الكلام ده دلوقتي بعد ما وصل لرقمي بطريقة غير مباشرة ومشوفتوش غير
مع عمر وروان وماليش دعوة بيه!
قال وكأنما تذكر شيئًا هامًا بتعجب:
-
صحيح انتي متعرفيش عنهم حاجة؟ روان مكلمتكيش قريب؟ أصلها
كلمتني كتير النهاردة وبصراحة مكنتش فاضي لوجع الدماغ بتاع اخوكي ده
هزت كتفيها ثم اجابته:
-
وهو اخويا أنا لواحدي، ولا مبكلمهاش عشان مش ناقصة مشاكل
مع حد!
تعجب من كلماتها وسألها باكتراث متعجبًا:
-
مشاكل ايه اللي هتجيبهالك روان ولا عمر نفسه؟
ذهب عقلها للمرة الأخيرة التي رأته بها وتحاملت على تلك
الغضاضة التي انفجرت بداخلها ولم تستطع أن تخبر الآخر بما حدث بينها وبين
"عمر" عندما قام بلطمها بقوة آخر مرة بداخل منزله وفي الحقيقة لم تود أن
تُثير مُشكلات فقد ينمو ما فعله "عمر" إلى والدها والآن
"عُدي" يحدثها عن "يونس" فهي لا تريد أن تصعب الأمر أكثر على
نفسها فقالت وهي تحاول أن تنهي هذا الحديث:
-
تنزل بمواعيد وتخرج بمواعيد وعمر خنيق اصلًا فمش طالبة
قرف بصراحة، مش هيجرالي حاجة يعني لو متكلمناش.. هي اتصلت النهاردة الصبح بس انا
مردتش
كلماتها اثارت ريبته بالتأكيد، محاولات "روان"
في مهاتفته وتلك الرسائل التي تحاشى رؤيتها منها، لابد أن كل هذه الأحداث ليست
بمصادفة أن تقوم بالاتصال به وبأخته بنفس اليوم، هو فقط لم يُرد أن يكابد المزيد
من المشقة مع "عمر" فلقد أخذ على نفسه عهدًا بعد تلك المرة الأخيرة
بينهما بذاك الفندق ألا يحادثه من جديد، ولو حتى التقى به صُدفة سيتركه وكأنه لا
يعرفه!
نفخ بتأفف ثم حدث "عنود" بنفاذ صبر ليسألها:
-
طيب آخر كلام أقول إيه ليونس؟ رفضاه فعلًا؟ وليه قولتيله
بابا هيرفض؟
قلبت عينيها باستنكار شديد لسؤاله الغبي ثم هتفت بحرقة
مجيبة:
-
اذا مكنش خلاني اختار كُليتي، هيخليني اختار اللي هرتبط
بيه!! وبعدين أنت عارف بابا مبيطقش روان، تفتكر هيوافق على ابن خالتها لو جه
اتقدملي! ثم إن من امتى بيفرق معاك حاجة تخصني؟!
أشاح لها بيده بدون اكتراث ثم أجاب تساؤلها باستنكار:
-
أنا غلطان إني سألت فيكي، لما يبقى يتصل تاني عشان يعرف
ردك هبقا أقوله إنك مش موافقة وخلاص مع إن يعني..
تريث لبرهة بمكر ثم رمقها بادعائه صرف نظره عن الأمر
برُمته:
-
شكله عايزك وعنده استعداد يتقدم ويعملك اللي انتِ عايزاه
واهو فُرصة تهربي من السجن اللي انتِ عايشة فيه ده.. ويونس رجل اعمال شاطر وذكي ومن
وجهة نظري شايف توافقي.. بدل ما يزيد الجندي يخترعلك ابن عم ولا ابن خال من البلد مسمعتيش
عنه في حياتك ويدبسك فيه!
مجرد الفكرة اثارت رعبها لتنظر له بغضب شديد وهو يتفوه
بتلك الكلمات وقبل أن تتفوه بشيء أكمل ببعض الخبث:
-
بس انتِ حرة في الآخر، القرار قرارك بردو.. أنا كنت ناوي
أكلم بابا ولو مضطر هجبله عمر يتفاهم معاه عشان بيعرف يقنعه والموضوع يمشي، بس ما
دام ده اختيارك براحتك!
تشتت لوهلة بفعل كلماته وتراجعت بينها وبين نفسها عن
التشبث بفكرة الرفض وشردت لعدة لحظات وهي تُفكر ولكنها لم تستطع كبح تلك الحمية
التي بداخلها وحدثته باستخفاف متعجبة:
-
وأنت من امتى عامل فيها أخويا الحنين أوي وفجأة كده
افتكرت إن ليك أخت وعايز كمان تجوزها؟!
قلب عينيه وزفر بإرهاق من سؤالها ثم اجابها:
-
واحد وشايفه كويس وجه كلمني وأنا عارف إنك زيك زيي عايشة
في نفس البيت الزفت ده، والراجل معملش حاجة غلط ولا عيب، وشكلك كده أصلًا مش عارفة
ترسي على قرار وانتي بتقلبي الترابيزة عليا زي ابوكي واخوكي، روحي فكري وقرري
وابقي تعالي عرفيني، أسبوع كده وابقي ردي عليا!
ابتعد وتركها وبداخله يرى أنه من الذكاء أن توافق على
رجل مثله، بدلًا من ذلك المنزل الذي لا يريد أكثر من أن يفر منه للأبد ولتجنب النزاع
مع والده ولعدم احزان والدته هو ما زال يعيش به، كما أنه؛ وبدون وعي منه، هناك
بداخله دائمًا تلك الشخصية التي ربتها والدته عليها، "عدي" يستطيع فعل
كل شيء، وأي شيء، وهو أفضل رجل بالحياة وكل ما يراه ويشعر به صواب!
وبعد تلك التفرقة بين رجلين وفتاة جمعتهم دماء واحدة، لن
تجد أبدًا معنى للأخوة الحقيقة سوى بمعجزة حتمية!
أخرج هاتفه من جديد وألغى وضع الطائرة الذي فعله منذ
قليل ثم وصل لتلك المحادثة بينه وبين زوجة أخيه ليجد أن الرسائل قد حُذفت بالكامل
بينهما ليستغرب لوهلة بينه وبين نفسه ولكن تلك الغضاضة تجاه "عمر" وبعد
آخر لقاءان بينهما جعل تلك الغضاضة موجهة تجاه "روان" نفسها فهي في
النهاية زوجته وليس له شأن فيما بينهما..
اتجه سريعًا لواحدة من المحادثات بينه وبين الفتيات،
وجلس يحدثها حتى ساعات الصباح الأولى دون كلل أو ملل، فهي محظوظة باختياره لها
الليلة، هو يعلم كم أنه رجل تتمناه الكثيرات من الفتيات.. ولسذاجته لا يعرف بعد أن
هذا هو تأثير والدته المغلوط على أفكار عقله الذي لم يخل من الاضطراب هو الآخر!!
هذه العائلة مزقها بأكملها مزقها الكثير من الخطأ ونما كل منهم وترعرع عليه حتى
بات أسلوب حياتهم، من كبيرهم لصغيرتهم!
❈-❈-❈
قاد ذلك الطريق الطويل وهو يُفكر في كيف استطاعت أن تعد
كل هذا خلف ظهره ودون درايته، وهل لديها الشجاعة لتخبره بوجهه أنه رجل مجنون؟ هل
هذه هي خدعتها الآن التي تريد أن تقنعه بها؟! هل تظن أنه فقد عقله كوالدتها أم
ماذا؟! يا لها من غبية!
ولكن حسنًا، هو مجنون، سيريها من هو المجنون، وكيف يتصرف
المجنون، وما غاية المجنون سوى جعل كل المحيطين به مجانين مثله لكي يساعدوه في
جنونه ويستجيبوا لأفكاره المجنونة!
لن يتوقف عن عذابها حتى يراها تفقد عقلها شيء فشيء،
بمنتهى البطء المميت حتى تقارب على قتل نفسها مرة واثنان وثلاثة إلى أن تنتهي من
عذابه!
حاول أن يُرتب أفكاره بأكملها بشأن كل ما حدث بينهما منذ
البداية، لقد كان الأمر واضحًا بينما أراد أن يرفضه، ورفضه وفعل إلى أن ترك لها
المقدرة على استغلال رأسه، لا تقبل أي امرأة رجل عاشق، مهما ثرثرن بكلمات كثيرة،
في النهاية العشق ليس غايتهن، بل دائمًا وأبدًا يبحثن عن آلاف الأشياء الأخرى..
لقد طلبت الانفصال منه بدلًا من المرة أكثر من مرة، وإما
كانت تريد أن تذهب به للعلاج النفسي كما تدعي أنه لم يستطع التخلص من صدماته،
وبالطبع كانت ستختار طبيب من اختيارها بالاتفاق المُسبق معه لتُثبت أنه رجل مجنون
وتستحيل الحياة معه! ولكنه لم يقتنع بالفكرة ورفضها رفضًا تامًا.. لذا كان عليها
التصرف..
ذهبت لواحدًا من اعداءه بمنتهى الخسة وقامت برفع قضية
الخلع، ولأنه كان يخطط لمنعها عن الجميع وبالطبع كان بإمكانه أن تخسر القضية
بمنتهى السهولة وعلى ما يبدو أنها توصلت لهذه الحقيقة.. وقتها بدأ كل ما لا يتذكر
منه سوى قشور..
سرقتها لأمواله وهي توكله بإدارة شركاتها في نفس اليوم،
كيف ذهب عقله وقتها هكذا؟ وكيف استطاعت أن تُنسيه ما وجده عنها وهي تفر من باب خلفي
آخر ملحق بمكتبها وتذهب لهذا الخسيس؟! كيف استطاعت أن تنسيه أكثر من شهر ونصف
الشهر من حياته؟ يا لها من عا هرة هل حقًا كانت تدس له شيء بطعامه أو شرابه وتريد
أن تقنعه أن هذا هو ما عالجه؟ هل تظن أنه غبي لهذه الدرجة الشديدة؟!
وهذا اللعين الذي يعاونها على فعل كل ذلك به، يقسم أنه
سيمثل بجسده، ولكن بعد أن يفرغ من أمرها حتى يشعر بالإشباع الشديد ورؤيتها تفقد
عقلها كما فقده هو لها يومًا ما بثقة لم تكن بمحلها!
كل النساء عندما تتملكن الرجال لا يأتي من خلف ذلك
خيرًا، لقد أخبره والده بذلك واختار عدم تصديقه واللهاث خلف عشق زائف.. يا له من
غبي، لم يتعلم من كلماته أبدًا وسيظل كل مرة في النهاية يجد أن والده محقًا!
انتفض جسده بشدة من الغضب وعقله مشتت بين كل ما اكتشفه
عنها بداية من طلبها المستمر بالطلاق والعلاج النفسي ونهاية بتلك الأوراق التي
استولت عليها في لحظة من ثقة أعطاها لها لتطعنه بظهره.. ولكنه لن يتوقف عن عذابه
لها إلى أن تفقد عقلها بالكامل حتى تفتقر لعقلها وسيستمر إلى أن يفتقر للقدرة بالتفكير
بأن تدافع عن جسدها أمام ذبابة..
❈-❈-❈
أوقف السيارة بذلك المرأب أسفل الأرض الذي علته فيلا
كبيرة بمكان ناءٍ لم يقم بزيارته سوى أربع أو خمس مرات على الأكثر في حياته، مرة
عند رؤيته، مرة عند تسلمه من صاحبه كأتعاب في قضية كانت ستنتهي بالإعدام المؤكد، مرة
وهو يقوم بتهيئة هذا المكان لنفسه، ومرة مع تلك الفتاة التي كادت أن تفقد روحها بفعل
يديه، والمرة الأخيرة كانت وهو يُخفي الأدلة ببراعة!
ربما هذه المرة لن يكترث لإخفاء أدلة أنه رجل قام بقتل
زوجته لخيانتها مع ابن خالتها، ولكن عندما يفرغ من تحقيقه مراده بأن يفقدها عقله..
أخرجها من صندوق السيارة وارتدى قفازه كي لا يمس ولو
شعرة منها بشكل مباشر اتجه عبر درج داخلي للمنزل بعيد كل البعد عن هذا الطاقم الذي
عينه كي يداوي ما سيفعله بها حتى تصبح مهيئة لدفعة أخرى من العذاب إلى أن تفقد
عقلها ووقف تمامًا بالدور الثالث، بنفس تلك الغرفة التي كاد أن يقتل بها امرأة
بالسابق، ولا يتحرق شوقًا سوى لرؤية هلعها عندما تدرك أين هي! فهو يخمن أنها رأته
مع تلك الفتاة لذلك كانت تشعر بالذعر منه منذ قليل..
لم يكترث لتمثيله بها كخرقة بالية من القماش المتسخ وهو
يمررها على أرضية هذا المنزل الذي امتلئ بالأتربة ولم يقم أحد بتنظيفه منذ سنتين، هي
بنظره لا ترتقي حتى لتصبح كخرقة تستخدم لإزالة الأوساخ، فمجرد لمحها لا يذكره سوى
أنها مُلوثة، بل مصدر للقاذورات نفسها!
وكأن كل ما مر عليهما من عشق وكلمات معسولة وانجذاب جسدي
لا يبارى لم يكفيه ليصنع بداخل عقله الثقة بها، العشق والجنس والكلمات الواهية
ليست كافية لعلاج رجل، وليست كفيلة بإقناع امرأة سليمة العقل وسوية النفسية بأن
تقتنع بحياتها مع رجل مثله دون أن يتوقف عن جنونه!
حدق جسدها المُلقى أرضًا ثم ذهب بنفسه لواحدًا من ذلك
الطاقم الذي أحضره من المشفى ثم حدثه بلهجة آمرة بمنتهى البرود وكأن وجهه نُحت من
جليد لا ينصهر:
-
مخدر قوي.. جرعة تلت أيام مثلا!
ابتلع الرجل الذي تفاجئ برؤيته منذ قليل وهو لم يستمع
لخطواته الهادئة ليرتبك ثم تذكر ما هدده به مدير مشفاه في هذا العالم الذي يستطيع
الأقوى أن يهدد به الضعيف ثم أحضر ما يلزم وهو يُعطه له بيد مترددة وأخبره بصوت
مهتز من شدة توتره:
-
بس مينفعش، ممكن لو حد مستحملش يؤثر عليه.. على حسب
الحالة.. كفاية جرعة واحدة من دول كل ست ساعات.. وبجد ممكن يحصل مضاعفات!
-
عشان كده انت موجود، لما يحصل حاجة هبقا اقولك!
تفقده بأعين جليدية حتى اقشعر بدن الرجل من نظراته
المزعجة وحاول أن ينظر باتجاه آخر بينما تركه واتجه عائدًا لها من جديد ليلمحها
بجانب حذائه ليزفر بضيق لاضطراره أن يتعامل معها ثم ارتدى قفازه مرة أخرى لكي
يتفادى اتصال جسده مباشرةً معها بعد أن أعد أولى الجرعات كما أخبره ذاك الرجل وقام
بحقنها بوريدها ثم اتجه ليعد الكثير مما يُريد أن يُعذبها به!
❈-❈-❈
مساءًا، بعد مرور يومين..
جالس فوق كُرسي خشبي، يستنشق من غليونه، يقرأ بواحد من
كتبه التي تقص قصة هيرا وزيوس وأمامه قفص حديدي من جديد، بالكاد يكفي لجسدها المكوم
بداخله دون أن تستطيع الوقوف أو بسط ساقيها، ولكن المختلف هذه المرة هو تلك القطع من
الصفيح التي تغلفه بالكامل، كان في انتظار سماع ردة فعلها عندما تدرك أنها حبيسة
بقفص آخر كل أضلعه مجرد لمسة بها ستقوم بجرح جسدها في حالة من العتمة التامة..
لقد أعد لها الكثير، غرفة العذاب البيضاء، الغرفة
الزجاجية التي يستحيل أن ترى خلالها شيء بينما سيشاهدها هو بمنتهى المتعة خلالها، غرفة
أخرى باردة، وأخري سيتضرر جسدها من شدة حرارتها، وهناك مفاجأة من نوعها يُعدها
لتلك الفتاة الراقية الرقيقة التي لن تحلم بها بأسوأ كوابيسها.. فلقد أخافها "برق"
هذا الكائن الرائع، ما الذي ستفعله بها أفعى سامة؟! أو لدغة من نوع من العقارب السامة؟!
وما الذي تعرفه عن اساطير التعذيب في التاريخ، هل كانت تظن أنه لا يقرأ سوى
الشعر؟!
من أسوأ ما يكون أن تمكر على شخص ماكر، يعرفك أكثر من
نفسك، يحفظ ما يخيفك، ما يقهرك، وما ترتعب منه حقًا.. لا يمكنك العبث مع شخص كهذا
أبدًا!
وكل ما يريده، ولن يتوقف حتى يراه ويُصدقه، أن يشاهد ذعرها
بنفس مقدار تلك الثقة بداخلها التي هيأت لها أنها ستستطيع أن تفلت بفعلتها! أو
ربما أكثر.. عبث عقلي، ونفسي، وجسدي.. ثم سيقتلها! هذا مثواها الجحيمي معه ولن
يتوقف حتى يحصل على ذلك ولمسه بها بمنتهى اليقين!
❈-❈-❈
شعرت بدوار شديد بمجرد فتح عينيها وتحركت ساقيها بعفوية لترتطم
بشيء لم تعرف ما هو فحاولت أن تستند على يدها لتنهض فشعرت بألم شديد برأسها الذي
ارتطم هو الآخر بفولاذ قوي وتأوهت من شيء وكأنه كحد السكين وما زالت لا تفهم ولا
تعي أين هي وما الذي يحدث لها..
شعرت بعظام ظهرها بأكمله تؤلمها ولم تعرف ما سبب ذلك، تحاول
أن تواجه شعور هذا التشويش، يحاول عقلها استرجاع آخر ما حدث لها، لقد كانت بمنزلهما،
تحدثه عن اصابته باضطراب ثنائي القطب وكانت في انتظار المأذون ثم..
وجدت نفسها تحاول النهوض في هلع وبدأت شهقاتها في
الارتفاع، هذه ليست مزحة ولا تحاول أن تقنع عقله بأنها أصبحت خاضعة، هو لم يتقبل
حرف من ذلك، بدأت تهمس بكلمات غير مفهومة ويدها تتخبط دون وعي منها كردة فعل
تلقائي من عقلها يبغي الفرار، ثم بعد فشل محاولات عدة تصاعد به هلعها صرخت بقوة
إلى أن تضررت حبالها الصوتية..
ولم تر تلك الملامح المبتسمة بشر، فهو لن يسمح بأن يكون
المجنون الوحيد هنا.. ليشرع أولًا في تحطيم عقلها، وهذه المرة ليس عن طريق الاتصال
الجسدي اطلاقًا ولا أي من الأدوات الجنـ سية التي قد تتمنى لو أنها تُعذب بها
الآن.. بل عن طريق العقل أولًا!
هل تعرف كيف يُعذب مُعتـ ـقلي الرأي، الصحافة، والسيا
سة؟! هذا ما يفعله، يتبع أساليب ومناهج عدة قرأ عنها لأعوام، وسيبدأ بحبس انفرادي
في هذا الصندوق الصغير لمدة ثلاثة أيام.. هو يدرك كيف تتحمل العذ اب الجسدي الذي
لا نهاية له سوى الموت! وهو لا يريد لها الموت أولًا، بل أخيرًا!!
❈-❈-❈
شعر بالانزعاج الشديد وذلك الرقم الغريب لا يتوقف عن
الاتصال به وكأنه لا يكترث بوجود مكالمة معه، ساعة بأكملها لا يتوقف عن الرنين، ما
لعنة ما يُريده منه في تمام الحادية عشرة مساءًا؟!
أجاب هاتفه بعد أن اعتذر من تلك الفتاة التي يهاتفها
بهذه الأيام فهي ستتغير لاحقًا على كل حال بعد بضع أسابيع:
-
افندم؟ مين؟
آتاه صوت امرأة يعتريه اللهفة والرجاء على حد سواء:
-
أستاذ عُدي، أنا آسفة اني بكلمك متأخر، أنا هدى مربية
روان وبسام!
عقد حاجباه باستغراب وسرعان ما انتعش برأسه تلك المكالمات
والرسائل التي لم يستطع معرفة سببها فقال متسائلًا بنبرة اختلفت اختلاف شاسع عن ما
سابقتها:
-
أيوة يا هدى، خير فيه ايه؟
هذه المرة تحولت نبرة المرأة لنبرة مصابة بالخوف تمامًا
فحدثته بكل ما أخبرتها به "روان" واستمع لكل تلك التفاصيل ثم في نهاية
توسلها له أرسلت له برقم "علا" مساعدتها الشخصية!
مما لا يستبعده هو فقدان أخيه لعقله، وشدة جهله بكل ما
يتعلق بالبشر الطبيعيين، فلو كان هناك زميل لهما حدثه بطريقة لم تعجبه أو سخر منه كان
يوسعه ضربًا، يا تُرى ما الذي سيفعله بزوجته الآن بعد أن قامت بسرقة أوراق تُدينه
على حد قول مساعدتها الشخصية له؟!
حاول أن يهاتفه لمرتين ولكن بالطبع هاتفه مغلق، وكذلك
كان هاتفها بعد أن حاول أن يصل إليهما، يا له من غبي، ليته قام بالرد يومها، لقد
ارتكب خطأ فادحًا وكل هذا بسبب تصرفات أخيه الغريبة التي لا يتوقف عن اصابته
بالذهول خلالها ولا تتركه سوى كاره له ولكل ما هو عليه!!
❈-❈-❈
بعد مرور ثلاثة أيام..
لقد هدأ صراخها وتوسلها بأن يُخرجها لكي يتحدثان، ولقد
ترجته بأنها ستفعل كل ما يريده وكل ما يحلو له، ويا لسذاجتها، لقد نادت بالعشق
كذريعة تسند عليها مكرها التافه، خاسئة، خائنة، وغبية، لا تعلم حقًا ما ينتظرها
بعد!!
هل تعرف ما أكثر ما يُزعج الجلادون، ويزيدهم صلابة وقوة
مع ضحاياهم، كتحليل نفسي بحت؟ صمت ضحيتهم، أو تظاهرها بعدم الشعور بالألم، لو قمت
بالبحث عن هؤلاء المختلين ستجد أن هناك بهم اضطرابات شتى، وبالطبع ستجد الكثيرون
منهم يتصفوا باضطراب الشخصية السادية، لا نقاش في هذا!
أتريد البحث والتدقيق، ابحث عن معتـ قل ما، تم تقطيعه
بمنشار حاد في مدة يُقال أنها تتراوح بين سبعة إلى خمسة عشرة دقيقة من عنصر
الموسيقى الذي كان يعمل كمهدئ لأعصاب الجاني، هل تدري لم؟! لأن المعتـ قل الشهير
كان على ما يُقال كان قد فارق الحياة بالفعل مختنقًا.. فالجاني لم يستطع سوى تهدئة
اعصابه لإفلات الضحية من الحياة، وأراد ما يُسكنه غير صوت الضحية الذي كان سيستمتع
به لو لم يمت..
قد ينجو السجين من أمراض السجن وما
يسببه من التهابات الجسد وأعطابه المزمنة التي لا تعد ولا تُحصى، وكمحامٍ مُطلع،
ورجل سادي، وشاب غارق في الكثير من الكتب السياسية التي تقص التاريخ بكل وحشيته، قد
اتخذ حذره بمنتهى الاكتراث، فهو يُريدها بصحة جيدة للتحمل لذلك أحضر طاقم طبي كامل،
ولكن لا يريد لعقلها أن يفعل، وفي كل نهايات تلك الكتب، السجين لا ينجو من أشكال
التشوه النفسي والمعنوي التي يسببها السجن أو الجلادون!.
اقترب من قفصها وهو يستشعر أنفاسها اللاهثة في خوف، يعرف
أنها تجلس مذعورة في شرنقة من خشية ما سيفعله بها، كبداية هذا جيد، جيد للغاية!!
قام بإصدار صوت السلسلة التعلق بها المفتاح، سيكون الصوت
وحده كفيلًا بتدمير عقلها فيما بعد، يترك أسرًا في كل نفس رجل، فما بالك بامرأة؟ وخصوصًا
أنه ظن بيومٍ ما أنها كانت رقيقة ولكنها لا تتوقف عن ادهاشه بقوتها بداية من العذ اب
الجسـ دي ونهاية بالخداع والخيانة الخالصتين!
قام بفتح ذلك الباب الخاص بقفصها وهو يعلم أنها لابد لها
من الحاجة إلى المرحاض أو الطعام، وربما بعض المياه، ولكنه سيُمارس التجويع معها
إلى أن تتمنى الموت، وعندما يراها تُقدم عليه، سيتوقف حينها، ثم يُعيد الكرة من
جديد..
-
اخرجي
كانت الكلمة الوحيدة التي استمعت لها منذ ثلاثة أيام؛ التي
لا تعلم أنهما ثلاثة حتى الآن، بالإضافة لبعض من صراخها وتوسلات عدة لم تُفدها في
شيء ولم تحرك ساكنًا به، رجل سادي لا يشعر بتأنيب الضمير ولا الشفقة على ضحاياه،
من أين له بهما دون علاج؟!
خرجت ترتجف وهي تشعر بآلام شتى تلم بسائر جسدها فضلًا عن
قلة نومها ونفسها تحترق قهرًا على ما فعلته بعد مدة من حبسها، فأن تفقد سيطرتها
على قضاء حاجتها كان آخر ما يتصوره عقلها لتشعر بمشاعر مختلطة صُدرت لعقلها،
كراهية نفسها في هذه الحالة، وكراهيته هو نفسه لفعل ذلك بها!
تخبطت كثيرًا وهي تتوجع لكي تستطيع النهوض ولكن آلام
جسدها لم ترأف بها على الاطلاق وهو يشاهدها بمنتهى الهدوء والاستمتاع بداخله، لا
تعرف كم أن قهرها ألذ ما يُسكن عقله المريض المحترق بحقيقة خيانتها!
رفعت عينيها له بقهر لتتساقط دموعها رغمًا عنها ولم تكترث
لحالتها البائسة التي لا تستبعد أن تصبح أسوأ، وسألته سوى سؤال شطر قلبها نصفين وسحب
روحها من جسدها، وتعجبت بمنتهى القوة التلقائية التي احتواها عقلها السوي:
-
أنت عمرك حبتني يا عمر؟
حدقها بصمت ولم يكترث وكأنها تُلقي بسؤالها لجدار لا
يشعر فحدثته وهي تنظر له بلومٍ دفين:
-
يا ريتني عملت كده من أول يوم معاك، مكونتش اتخيل إنك
كداب اوي لدرجة الأذى اللي أنا فيه ده..
من الكاذب هنا؟ وما الذي تعرفه عن العشق؟ ولماذا تنظر له
هكذا؟ ألم تكن تريد الطلاق بلعبتها السخيفة؟ فجأة هكذا تسأله عن عشقه لها؟!
-
أنا من زمان وأنا عارفة إنك مريض ومتابعة مع دكتورة من
وراك، اتخيلت إن كل حاجة ممكن تحصل، بس متوصلش لكده أبدًا!
اتكأت بالقوة المتبقية من عقلها التي لم تضرر بعد
بالكامل وعن طريق خطواتها الهزيلة وقدماها اللاتي لا يحملاها ذهبت معتقدة أنها
ستتركه وهي تظن أنها بغرفته ولكنها توقفت من تلقاء نفسها في صدمة وذعر حقيقي عندما
أدركت أنها بمكان آخر تمامًا..
تباعدت شفتا ها في دهشة وهي مذهولة بعد
أن رأت الكثير والعديد من تلك الأشياء الخشبية الغريبة التي تأكدت أنها أدوات تعذيب
ستصيبها بالجنون أو إزهاق روحها حتمًا لا محالة!!
لم ينبس ببنت شفة كما لم يحرك ساكنًا وظل يتفقدها بمنتهى
البرود وهو يُصمم على عدم محادثته لها كما اقنع نفسه بمنتهى الثقة ألا يُصدق ولو
حرف وحيد مما تقوله بعد كل ما اكتشفه عنها..
اتكأت عن نفس الصندوق الذي كانت أسيرة به وهي ترى غرفة
زجاجية وغرفة أخرى لا تدري ما بها وأدوات وأجهزة غريبة ومجسمات خشبية تبدو قديمة
للغاية وما إن وقعت عينيها على نفس تلك الآلة التي رأتها تتغلغل بتلك الفتاة التي
كانت الدماء تتساقط منها شعرت بالرعب الحقيقي.. ولم تتخيل نفسها سوى بموضع تلك
الفتاة
التفتت له بتوجس وهو تومأ له وهمست بذعر:
-
لا، بلاش يا عمر أرجوك.. صدقني هاعمل كل اللي تقوله بس
بلاش نفضل هنا!
أمسك بعصا كان يسندها خلف الصندوق ثم أشار لها أن تتقدم
أمامه فشعرت بالرعب ولكنه أشار من جديد نحو نفس الاتجاه فاتجهت بقدمين هلاميين لم
يعد بهما القوة ليحملاها ثم دفعت ذلك الباب الذي طرق عليه بالعصا لتجد نفسها في
مرحاض!
دلفت سريعًا ظنًا منها أنه سيتبعها والتفتت ترمقه ثم أشار
على ساعته ففهمت أن عليها قضاء حاجتها سريعًا لتمتعض من تلك الإهانة القاسية التي
شعرت بها تحرق روحها وهو يحول بين اغلاقها الباب بعصاه وعينيه تأبيان تفقدها بتلك
النظرة المتشفية التي فهمت الآن أنها ليست برود وحسب..
لم تتوقع وجوده معها بينما وجدته يغلق الباب عليهما
بمفتاح فشعرت بإحراج اختلط بعثرتها في مجرد قضاء حاجتها..
اتجه وامسك برشاش مياه وأدرك أن درجة حرارة المياه نفسها
ساخنة للغاية لا يتحملها حتى هو نفسه ثم سلط الفوهة عليها لتنهض صارخة من شدة
حرارتها وهي تتوسل له أن يكف ولكنه بالطبع لم يفعل..
تكومت بركن بجانب المرحاض وهي بالكاد تتحمل ما يحدث لها
من تعبيراته التي لا تبشر بالخير ثم أشار لها أن تتجرد مما ترتديه فأومأت له بالإنكار
وهي تتفقده في حالة من الهلع التام فما كان منه غير تصرفه بمنتهى الهدوء وهو يتجه
نحوها وبقبضتين من الفولاذ استطاع تخليصها منها وما زال يرتدي ذلك القفاز الذي
يحول بينه وبين مسها ولو بعفوية!
آتى بشيء من القماش الأبيض المطوي الذي لم تعرف بم
يُستخدم ثم القاه عليها وأشار لها أن تنهض فنظرت له بغيظٍ وهي لم تعد تتقبل تحمل تصرفاته
التي لطالما تفنن في أن تترك بداخل نفسها ذلك التأثير المقزز بالإهانة ولكن هذه
المرة الأمر اختلف، هي لا تتحمل من أجل نجاح زواج أو عشق أو حتى من أجل ما قد يُدينه،
لم يكن بمقدورها سوى الشعور بالخوف مما هو مقدم عليه..
أشار لها أن تغادر من جديد وهو يعد لها بداخل عقله تلك
التجربة التي يعرف عنها التي سينعدم بها احساسها في مرحلة ما، الانعدام الحسي لابد
من أنه سيعبث بعقلها بعد أن ترتدي هذا الثوب الأبيض وهي سجينة غرفة بيضاء لمدة لا
تقل عن اثنين وسبعون ساعة.. ستطالب بنفسها أن تشعر بالألم وتتمناه بدلًا من ذلك
التخدير الذي سيُصيب عقلها بعد أن يتم حرمانها من الإحساس الكامل.. وبعد كل ما
يعرفه عن هذا الأمر من تجارب أناس قصوا ما حدث لهم بداخلها يتأكد أن ثلاثة أيام
سيكونون بمثابة جحيم ولعنة على عقلها لن تتحمله!
دفعها لداخل تلك الغرفة التي في البداية اطمأنت لها
بدلًا من ذلك القفص الصغير الذي ترك بيدها وقدمها بعض الجروح الصغيرة وهي تطرق
بجدرانه المصنوعة من الصفيح ذو السنون المشحوذة، هناك مرحاض صغير بداخل الغرفة
ولكنها بالكامل باللون الأبيض، وكأنه نفس الدرجة، السقف والجدران والسرير والوسائد
وحتى لون الأرضية والمرحاض والضوء، وسوى ذلك لم يكن هناك شيء بهذه الغرفة..
ما أصعب من أن يفقد الإنسان انعدام حسي كامل، وتبدأ كل
الوجوه التي عرفها في حياته تتحول لوجوه بيضاء، كوجه والدتها ووالدها وأخيها وكل
من عرفتهم يومًا، وحتى وجهه هو نفسه، لقد بات عقلها غير قادر على تفسير ما يحدث
له، وبعد مئات الطرقات على الباب لم تستمع لأي ردة فعل منه، ولم تستمع لأي صوت ولو
حتى لبعض الخطوات.. كل ما تناولته عبر فتحة صغيرة من الباب ويده تمتد للداخل وهي
مُغطاه بقماش أبيض بالكامل هي كوب من المياه التي كان لونها أبيض هي الأخرى!!
استجاب عقلها من شدة التجربة النفسية البشعة أن أول ثلاث
ساعات مروا عليها كان يوم بأكمله، لدرجة أنها صرخت أن يخرجها ويكفي بقائها ليوم
كامل بالداخل، ولكنه لم يستجب، وبالرغم من تضرر عقلها إلا أنه كان هناك أمل مؤلم
لديها في تلطيخ هذه الغرفة ببعض الدماء منها عندما لاحظت ذلك اللون الأحمر المختلط
بجرح صغير بواحدٍ من اصابعها فما كان منها للحفاظ على عقلها وبمنتهى التلقائية
التي لم تدرِ من أين لها بها تحاملت على الألم وهي تصرخ من أثر خدشها لنفسها
بأظافرها مكونة جرح بذراعها وهي تنظر للدماء مبتسمة بسعادة وكأنها وجدت الجنة!
عقلها حاول أن يُنجيها كما تعودت بأن تُصلح الأمور، فمن
الصعب للغاية أن تبدل ما تعود عليه عقلًا بين يوم وليلة!
❈-❈-❈
بعد مرور ثلاثة أيام أخرى..
فشل بأن يعرف إلى أين ذهب، بعد رؤيته ما تم تسجيله بين
أخيه وزوجته في منزلهما على تلك الكاميرات الذي حُفظ تاريخها بالكامل بخادم خارجي
يبتعد كل البُعد عن المنزل ولا يتواجد سوى بشركتها فقط..
لا يدري ما الذي عليه فعله ولا كيف يجدهما، ما الذي قد
يفعله أخيه بها، وخاصة أنه ذهب لمنزله الآخر الذي اكتشف ما وضع به من أدوات في تلك
الغرفة، الآن الأمر يبدو منطقي، بتلك الغرفة المقلوبة رأسًا على عقب والبساط
الممزق والملابس التي نثرتها دون اكتراث وهي تغادر.. لقد عرفت شيئًا ما عن أخيه
السادي، وللأسف لم تخبره مساعدتها الشخصية بالكثير!
شعر بعقله يكاد يغادر رأسه مما رآه وأدركه عن أخيه
وخصوصًا بعد رؤية تلك التفاصيل التي رآها بأعجوبة بعد أن فقد اعصابه على هؤلاء
الحراس بالخارج.. هناك حل وحيد لا يستطيع سوى أن يكذب على والده، أو يُخفي بعض الحقائق،
ويجبره بطريقة أو بأخرى على أن يجد كلاهما!
سرعان ما اتجه لمقر عمل والده والحلول تنفذ من يده، لا
يدري من سواه قد يجدهما، فهو ولو كان أسوأ من يود التعامل معه ولكن ما بيد حيلة
سوى اللجوء لرجل مخضرم مثله في حل الكثير من الأمور!
بالطبع لم يستجب في النهاية وقدره اللعين بأن والده لا
يتحمله ولا يكره أكثر منه كان عليه أن يستعد له ولكن ما دامت الورطة تحتوي على اسم
"عمر" وتخصه يتأكد أنه لن يتأخر في المساعدة..
بعد طول انتظار سمح والده له بالدخول وبمجرد تلاقي
اعينهما حدثه متسائلًا ببرود لا يذكره بمثل هذا الجمود سوى بملامح أخيه هو نفسه:
-
خير؟ ايه اللي جابك؟
حاول أن ينتقي كلماته دون التطرق للكثير مما لن يُفيده
وفي نفس الوقت لم يُرد أن يسبب الأذى لمساعدتها الشخصية وكذلك "روان"
نفسها فهو يعلم كيف يفكر والده:
-
روان طلبت من عمر الطلاق، ومن ساعتها اختفوا ومحدش عارف
يوصلهم!
وجه نحو ابنه نظرة هاكمة وسأله باستخفاف:
-
وده اللي خلاك تيجي؟
ابتلع "عُدي" وهو يحاول أن يستجمع القليل من
التفاصيل وقرر أن ينبهه قبل أن يحدث ما لا يحمد عقباه:
-
بابا، روان وعمر كل الكاميرات في بيتهم كانت شغالة، فضلوا
يتكلموا وبعدين خدرها واخدها ومشيوا.. الكلام ده لو حد عرفه هتبقى مشكلة لعمر!
لمحه بطرف عينيه ولم يحرك ساكنًا واكتفي بالسؤال
باحتراس:
-
مين معاه الفيديو ده؟
ابتلع وهذا كان كل ما يخشاه، تلك الفتاة التي تعمل معها
ليس لها أي ذنب، فأجاب مباشرة:
-
معايا أنا!
ابتسم والده ابتسامة جانبية مُستنكرة ولم يُصدقه فتشدق
متعجبًا:
-
وأنت مالك بحاجة زي دي؟ إيه اللي يخليك توصل للفيديو ده؟
لم يتوقع على الإطلاق هذا التحقيق منه له بل كان يتصور
أنه سيبحث عنهما على الفور ليُجيبه بانزعاج:
-
المربية بتاعتها كلمتني وكانت قلقانة عليها وحاولت وقدرت
أوصل للفيديو عن طريق الـ security system بتاع البيت عندهم وكاميرات المراقبة، وخدها ومشيو ومعرفش راحو فين
وموبايلاتهم مقفولة!
همهم بتفهم بينما تعابيره الساخرة ما زالت كما هي مما
جعل دماء الآخر تحتقن بداخله ليلاحقه بمزيد من التحقيق بالأمر وهو يشعل واحدًا من
سجائره الغليظة الضخمة:
-
والكلام ده حصل من امتى؟
لماذا يتساءل عن التوقيت؟ هل حقًا لا يكترث بما يحدث
لابنه المُفضل؟ ألم يحس بإثارة الريبة في خضم كل ما يخبره به!! اللعنة على بروده
هو وابنه!
-
من ست أيام بالظبط!
أومأ وهو يستنشق من سيجاره ثم نفث دخانه وهو يُسلط
تركيزه على تلك الأوراق التي أمامه وقال باستخفاف:
-
هو حر ودي مراته، يخدرها، يربيها، يطلقها، هو حر.. أخوك
راجل ويعمل اللي هو عايزه، مش هقوله يتعامل مع مراته ازاي!
ازداد غضبه بداخله إلى أن انفجر بوجهه:
-
هو ايه الي حر، ده جرجرها من شعرها لغاية العربية زي ما
يكون خاطفها، أنت كل ده مش مقدر إن ممكن مصيبة تحصل لو حد شاف الكلام ده!! أنت مش
فارق معاك إنهم يختفوا بالطريقة دي.. لو الموضوع طول أهلها هيبتدوا يسألوا! ساعتها
هنقولهم ايه؟!!
سلط نظرة نحوه بطرف عينيه واجابه بمنتهى الهدوء الماكر:
-
مش أنت قولت الفيديو معاك.. يبقا محدش هيعرف
تردد لوهلة وهو ينظر له بخيبة أمل وجسده ينتفض من كتلة
اللامبالاة الجالسة أمامه ثم حدثه قائلًا:
-
بص، أنا عارف إنه طول عمره بعيد، وعارف إنك نجحت في إنك
تفرق ما بينا، بس الموضوع ده لو طول متستبعدش الفيديو ده يتقدم بيه بلاغ، وحتى لو
محامي زيك وزيه هيعرفوا يثبتوا إن كل اللي حصل عادي وان دي مراته وهو حر، فعلى
الأقل العيار اللي ميصبش يدوش، وحضرتك محامي كبير وفاهم الكلام ده كويس أوي..
وبعيد عن البلاغ اللي بمنتهى السهولة هتقدر تلمه فاللي أنا اعرفه من شغلي اللي
عملته من غيرك إن الناس على الانترنت مبتسكتش زي الناس الواصلين اللي بيعرفوا
يلموا كل حاجة!
رمقه للمرة الأخيرة ودمائه تغلي بداخله ثم توجه ليغادر
فأوقفه بنبرة مُحذرة:
-
تفكر آلف مرة قبل ما تعمل حاجة، وافتكر إن أي حاجة تؤثر
على سمعة اخوك هتؤثر عليا أنا كمان، فهعتبر ده ضدي مش ضد عمر.. وشوف هتتجرأ ازاي
توقف قصادي يا عدي!
استمع لتلك الكلمات منه واتجه حيث الخارج مغادرًا، وبداخل
عقله صراع رهيب، لا يدري كيف سيستطيع التصرف فيما بات يعرفه بمفرده، بعد ما رآه من
تفاصيل بداخل غرفة أخيه وتلك الملامح التي لاحظها على كلاهما وهي تبكي ثم تخديره
لها بمنتهى الخبث وكأنه لا يفعل أمر خاطئ، ثم ما عرفه من مربيتها ومساعدتها
الشخصية، وماذا لو عرف الجميع عن الأمر واتخذت هذه المرأة بعملها أي اجراء قانوني
أو شهرت به، وقتها والده لن يصمت!!
هذا فضلًا عن وجه أخيه الذي لا يبرح ذاكرته، ثباته
الانفعالي وقتها كان مخيف لدرجة لم يتخيل أخيه عليها قط، لم يره سوى مجرم مخضرم
وكأنه ليس محامي على الإطلاق!
تابعه وهو يغادر مكتبه بعد تحذيره له، هو لم يغفل عن تلك
المكالمة التي استقبلها من "عمر" وهو يسأل بخصوص ذاك الرجل "علي
أبو المكارم" الذي ساعده في التحويل البنكي، ثم يأتي اليوم "عُدي"
بتلك الاخبار له، حسنًا.. إلى الآن لا شيء يثير قلقه وريبته، لطالما غاب ابنه
لأيام ثم عاد من جديد.. وأخيرًا بدأ يتصرف كرجل فعلي قوي مع زوجته، هي تستحق ذلك
منه على كل حال!
رجل مثله لا يدع القلق يحتل رأسه ويُشغل مساحة من تفكيره إلا عندما تتعثر الأمور.. ليترك له مساحة يتعامل مع زوجته كما يجب أن يكون، وعندما يبدأ الوقت في إثارة حفيظته سيتخذ ما يلزم تجاه الأمر برمته، فهو يثق بقدراته البارعة في إيجاد مجرمين مخضرمين وأدلة تفيد قضاياه أفضل من المباحث نفسها، هل سيصعب عليه أن يصل لابنه؟!
❈-❈-❈
آليات العذاب المستخدمة في تحطيم النفس البشرية أصعب
بكثير من تلك الجسدية، ما الذي سيوقفه عن جلدها، أو حرقها بالنيران، أو ارهاق
جسدها؟ لا شيء!!
بمنتهى السهولة يستطيع أن يفعل وهو مخضرم بذلك، ولكن سينتهي
الأمر بفقدانها لوعيها، ثم تستيقظ، وسيعيد الأحداث بطرق مبتكرة، ومن ثم ستُشكل
ضدها تعود جسدي بحت، هو لا يريد ذلك..
ضج عقله للمرة المائة آلف بعد المليون بحقيقة أنها
احتالت على عقله حتى صدقها وثقته بها وصلت أقوى درجات ثقته في شخص غيره، واستيقظ
على واقع أنها سارقة، محتالة، وخائنة، والكارثة أنها تلقبه بالمجنون.. لذا عليه أن
يفعل المثل بها.. الجزاء من جنس العمل، أليس كذلك؟؟!
آلية تعذيب عزل إنسان في صمت شاسع لا ينتهي وعقله لا يرى
سوى اللون الأبيض بنفس الدرجة لمدة اثنين وسبعين ساعة لا تتركه سوى خالي الرأس من
كل التفاصيل سوى اللون الأبيض، وبعد هذا الكتاب عن وصف رجل إيراني عانى من حبسه
بهذه الغرفة لثمانية شهور متواصلة، لم يُفلح معه العلاج النفسي مدى الحياة، لتُريه
إذن كيف ستصلح الأمر؟
أعجبه وبشدة تلك القوة منها وهي تخدش نفسها كي ترى اللون
الأحمر بدلًا من ذلك الأبيض المهلك للعقل قبل النفس، يُدرك منذ الوهلة الأولى أنها
فتاة قوية وامرأة أقوى وهي لديها خبرة هائلة في اصلاح كل ما به عيب، لا تحتاج إلا
الشخص المُناسب لكي يوجهها للطريق الصائب!
يتبقى فقط حقيقتان لا تريد الايمان بهما، أولًا هناك بعض
الأشياء لا يُمكن إصلاحها، ثانيًا، لا يعرف لماذا تصمم أن هناك خلل به، هو ليس به
أي عيوب على الاطلاق، ربما عيبه الوحيد هو مقدرته على العشق!
يعرف أنها بدأت تُعاني من هلوسات، ويعرف أن عقلها قارب
على الانفجار، كما يتيقن أن آلية التجويع قد آتت بثمارها، فهي منذ ثلاث أيام لا
تتناول سوى ثلاث ملاعق من أرز أبيض منعدم الطعم والرائحة بصحبة كوب من مياه، وكلاهما
موضوعان داخل اوعية بيضاء، يتأكد عن عقلها قارب على الفساد، لو فقط استمرت بهذه
الغرفة لأكثر من هذا لن تكون واعية الوعي التام لتتذكر ما الذي فعلته به!
بالطبع لن يخبرها ولو ماتت أنه قد علم بخيانتها، سيتركها
لتثرثر بكل ما تريده، سيتوقف موقتًا عن استمتاعه برؤيتها متكومة على نفسها على هذا
الفراش وهي تحاول اغماض عينيها لتستلهم بعضًا من اللون الأسود الذي لابد وأنه قد تلاشى
بالفعل من عينيها فلقد بات عقلها متأثرًا وبشدة بكل ما حولها!
تجويع مستمر، وغرفة عذاب تُذهب العقل، هل تعلم ما الذي
يفعله التجويع بالبشر؟! لابد أنها لا تعرف عن تلك اللعنة شيء، ولكنه يدري ما الذي
يحدث للمرء..
التجويع في المجمل يشكل وسيلة أساسية أخرى للتعذيب وكسر المقاومة
والقوة والصلابة التي تتواجد بداخل الإنسان.. فالجوع لا يؤثر فقط على الوهن
الجسدي، بل يؤثر أساسا على نشاط الدماغ والجهاز العصبي، المعروف علميا بأنه يستهلك
كمية كبيرة من الطاقة والسكريات كي ينشط بشكل طبيعي، ومع الجوع الشديد والمزمن
يتدنى عمل الدماغ لمرحلة لا تبارى بالإضافة لتألمه مُسبقًا باللون الأبيض الذي عمل
على مسح الكثير من عقلها بالفعل، مما أثر عليها وأدى إلى التشويش الذهني الذي
يُشكّل المدخل إلى فقدان السيطرة العقلية على السلوك.. لذا، ستنفجر نفسيًا
إلى حد لم تتخيله بحياتها..
صمت وعُزلة وحرمان عاطفي من كامل المؤثرات الحسية
التي لم تتغلب عليها سوى بخدش نفسها، تجويع شامل، هذا بأكمله سيُفجر على المستوى
النفسي اللاواعي مشاعر الطفل المحروم عاطفيا أي الطفل المنبوذ، وهي لم تكن
منبوذة قط، ولم تكن فتاة محرومة، ربما أنثى حُرمت لبعض الوقت باختيارها من مشاعر
رجل، ولكن كطفلة وأخت وابنة هي لم تختبر تلك المصاعب التي قد تمر على أناس أخرى،
لذلك ستتحمل نوعًا ما.. ولهذا يعلم أنها قوية..
الإنسان قد يتناسى علاقات مدمرة، ولكنه لا يتناسى
قط ما زُرع به أثناء طفولته وفترة مراهقته، مهما كان الرجل لديه الكثير من
العلاقات مثله، فهو لم ينس قط ما حدث له من تجربة هذا المشفى المرير، وتجربته
الأخرى بصحبة هذا الفتي الذي أخافه يومًا ما وكاد أن يزهقه ضر بًا.. ولكنه تعافى
بقوته وبوجود والده ليصنع منه رجل صلب.. أمّا هي فلن تستطيع أن تتعافى.. فلتُريه
كيف يُصلح العلاج النفسي ما لا يُمكن إصلاحه؟!
اقتناع وطريقة تفكير خاطئة بالكامل منه، ربما لو
سلط بعض التركيز على نفسه سيرى أن عقله قد تأثر بالفعل، ولكن ضرر عينيه بما فعلته
معه، بالإضافة إلى البارانويا المستفحلة بداخل عقله؛ تربيته منذ أن كان طفل صغير على
يد والده بألا يثق بشخص سواه هو نفسه، أصبح عقله ارتيابيًا بدرجة أولى، ربما أصلح
العشق به القليل لما يُشكل لحظات من حياته تتلخص في علاقتهما، ولكن العشق دون
إدراك ليس كفيل بإصلاح أي لعنة..
عودة إلى الطفلة، بعد أن حرمت من الطعام، الطعام
الذي يبحث عنه الرضيع الذي لا يعي شيئًا بمجرد ولادته، يردها إلى نشأتها الأولى، وحيدة،
شبه عا رية لا يُغطيها سوى ثوب أبيض خفيف، التجويع الفعلي من الطعام تحول الآن
لتجويع عاطفي بامتياز لتمنيها عناق من والدتها، تفجر بداخلها حالة من الانفجار،
تُسمى بالتعلق الرضوخي!!
وما هو التعلق الرضوخي سوى تعلق يعاش على شكل انعدام القيمة الذاتية بالكامل،
وبتلقائية وبمنتهى اللاوعي في رأس الإنسان يُكرس كل ما به لاستجداء القبول والرضا
من الآخر.. وهذا كل ما كان يستهدفه بآليات التعذيب لها، فهي الآن قد كُسر بداخلها الصلابة
والمرجعية الداخلية من خلال التجويع، رُدت في خلال أيام قليلة إلى حالة الطفلة ذات
الكيان الخاوي، على غرار خواء المعدة من الطعام، بالإضافة إلى الانعدام
الحسي، لقد باتت مهيئة للكامل، له، وللألم على حد سواء..
لقد قرأ ذات يوم عن نظرية تُسمى نظرية التعلق التي تنادي
بأن أساس كل قلق هو قلق الانفصال حين يجد المرء ذاته وحيدا ومعزولا، فالعزلة
الطويلة عن الآخرين تفجر قلق الانفصال، وهو القلق الأكثر طفلية والذي يجد نموذجه
في الذعر الذي ينتاب الطفل حين ينفصل عن أمه، وهي منفصلة عن العالم بأكمله،
بداخل غرفة من الجحيم الأبيض، عقلها لم يعد يعمل بكفاءة، لقد أخذت أولى درجات
الجنون، مثله كما ادعت!!
يعرف الآن وهو يراها عبر هذه العدسة المُراقبة لكل
ما يحدث بالداخل أنها انفجرت، كما نصت النظرية الشهيرة، وحين يتفجر هذا القلق
الطفلي، يصبح الشخص في حالة نكوص يؤدي إلى تردي قدراته على المقاومة، ومناعته
النفسية الداخلية، ويتيقن بشدة من أنها تحتاج إلى درجة عالية من الطمأنينة
والمناعة النفسية كي تقاوم هذه الآثار، ولكنه سيتلاعب على الانعدام الحسي، سيوفر
لها بديلًا ليحفظ سلامة عقلها، سيوفر لها الألم، ولكن دون أن يمسها على الإطلاق!!
فهي في نظره أصبحت خرقة نجسة تصيبه بالغثيان والتقزز!
ارتدى قفازه ثم توجه ليخرج من هذا الصندوق الزجاجي
الصغير عقربًا سامًا، وضعه فوق الأرز الذي سيقدمه لها، في صندوق بلاستيكي أبيض من
نفس الدرجة.. وعاجلًا أم آجلًا سيلدغها، ووقتها سيكون وقت السماح لها بمغادرة
الغرفة..
فلتمزح مع أي رجل، ولكن أرجوك لا تمزح مع رجل قارئ
لهذه الدرجة المُخيفة، فالعلم إمّا نعمة أو نقمة، ومما نراه لم يمتلك علمه الأسود
سوى التأثير المضاد على عقله..
❈-❈-❈
في اليوم التالي..
خلل شعره الفحمي المسترسل فوق رأسه وهو يُقارب على خلعه
بين يديه من شدة وطأة ما يشعر به، فهو الوحيد الذي أصبح متورطًا بهذا الأمر، لا
يعرف كيف سيتصرف وهو بالكاد لم يصل سوى لكاميرتان مراقبتان تنبأه فقط بسلك طريق قد
يؤدي لآلاف المسارات والطرق التي قد يسلكها!
بداخل رأسه يتحامل على غضبه من والده، فهو يعرف أنه
بمنتهى البساطة يستطيع أن يتعرف على الطريق الذي سلكاه ولكن ما رآه منه أمس لا يُخبره
سوى برفضه المساعدة بتاتًا وكأنه لا يكترث بما قد يفعله هذا المختل الذي يبدو وأنه
كان يُعذب النساء لمدة من الوقت لا يعلمها إلا الله!
لقد توسل إلى "علا" ألا تفعل شيء ولا تأخذ أي إجراءات،
وأخبرها أنه يعمل على طريقة لإيجادهما، هي حقًا لا تريد أن تمزح مع والده بهذا
الشأن، فامرأة ضعيفة مثلها وقليلة الحيلة أمامه لن تمتلك أن تتهرب من براثن ما
يقدر على فعله..
بقى في مقر شركتها يعمل بصحبتها على محاولة التوصل لأي
كاميرات مراقبة متواجدة بشوارع أو استندت على جدران بعض المنازل، ولكن لو استمر
عملهما بهذه السرعة المبالغ في بطأها لن يصلان لهما ولو بعد شهور!
الأمر شاق بأن تستطيع الحصول على تصريحات لازمة أو حتى
طرق غير شرعية بأن تصل لتك التسجيلات وتتملكها بين يداك، وبالرغم من أنه ليس الرجل
الأفضل ولكنه لم يسلك طرقًا غير شرعية في حياته، لماذا أُصاب بلعنة أخ وأب كمثلهما؟!
اكتمل ألم رأسه بهذا الرجل اللحوح الذي لا يتوقف عن
مراسلته وهاتفته فأجاب هاتفه بغضب انفجر منه رغمًا عنه وهو يشعر وكأنه بورطة تامة
لن يستطيع التخلص منها:
-
نعم يا يونس!!
آتاه صوته المرح الذي لا يُناسب تلك الأحداث المريرة قط من
على الطرف الآخر للهاتف:
-
ايه يا عم فينك؟ مفيش حاجة كده ولا كده جاية في السكة
تفرحنا شوية؟
تنهد زافرًا وهو يتذكر تلك الكلمات مع "عنود"
منذ يومان ثم اختار إجابة توقفه عن إلحاحه قليلًا ولو لبعض الوقت:
-
إن شاء الله خير، هي ردت عليا وموافقة بس مصممة أي
مقابلة بينكم تبقى في وجودي، ومعلش يا يونس أنا عندي مشاكل في الشغل اليومين دول،
اديني بس أسبوعين وكل حاجة هتبقى تمام..
سأله بنبرة مُكترثة صادقة:
-
مشاكل ايه خير؟ فيه حاجة محتاج فيها مساعدة؟
مساعدة ماذا التي تنص على تعذيب ابنة خالته على يد
أخيه؟!
-
لا ده حوار عندي أنت عارف شغلنا محتاج تركيز واكواد
وحلول والدنيا عندي وقعت في كام حاجة بس أفوق كده منها ومتقلقش.. هنفرح كلنا قريب
وسيبك من موضوع بابا ده أنا هتصرف فيه..
بعد مكالمة لم يتحملها سوى بشق الأنفس وظن أنه انتهى من
آخر ليجد مربيتها تهاتفه وكأن هذا ما ينقصه فأجاب تلك المرأة التي لا ذنب لها بأي
شيء لتحدثه بلهفة:
-
طمني الله يخليك، عرفت روان فين، مدام أميمة وبسام
قلقانين أوي وأنا مش عارفة اقولهم ايه!
ابتلع بارتباك ولكنه حاول أن يُطمئنها بالرغم من كل ما
يشعر به بداخله فهو لا يأمن أبدًا ما قد يفعله أخيه:
-
خير متقلقيش، يومين وهنوصلهم، وأول ما اعرف هكلمك بنفسي
واطمنك!
لم يُصدق أيًا من كلماته التي اندفعت بانعدام ثقته
بالكامل في أخيه لتخبره بقلق شديد:
-
روان قبل ما تمشي قالت إن ليكوا قرايبكم، ابن عمك، اسمه
أنس ومراته رضوى، كانت قالتلي انهم ممكن يلاقوها، أنا مش عارفة بس ايه اللي نساني
اجيبلك السيرة دي!
كلماتها هي التي جعلته يطمئن قليلًا، فهو يعلم الآن أن
ابنه أصبح عضو بالبرلمان ولابد من أن له طريقة أو معارف يُمكنه عن طريقها أن يجد
أخيه فقال بعد بُرهة من التفكير:
-
تمام، فعلًا ممكن يلاقوهم بسهولة، أنا هكلمهم وهاطمنك
-
❈-❈-❈
ومر يوم آخر..
نال حظه الكافي من استمتاعه بعد أن حاولت في حالة من
الذعر مقامة هذا العقرب وهي تقف بركن على فراشها وتنظر له بهلعٍ شديد، ومع الوقت
تلاشت عزيمتها ومقاومتها، فلقد قضى عليهما بالفعل بعد حرمانها من الطعام وأقل
الوظائف البشرية للعقل، وانتظر عدة ساعات إلى أن لدغها العقرب الذي احضره بمنتهى
اليُسر عن طريق الشبكة العنكبوتية المُظلمة غير الشرعية بصحبة ترياقه على حد سواء..
فالعمل مع المجرمين أكسبه الكثير من المعلومات التي آتى وقت الاستفادة بها الآن!
رآها ترتجف بشدة وهي على هذا الفراش ليبتسم ابتسامة
جانبية على ضعف جسدها وكم تضررت بشدة وخصوصًا أنه ترك وقت ملائمًا لسمية هذا
الكائن الهش لتشعر بالألم والهذيان مع مزيدًا من الهلوسات بداخل هذه الغرفة..
تشابهه تمامًا، فتاة هشة، ضعيفة، رشيقة، لدغته بسُمية
قاتلة إن لم يكن يملك بداخله القوة لمواجهة سُمها لكان الآن يعاني آثار ما لدغته
به.. على كل ما زال هناك أفعى جائعة تنتظرها!!
اتجه باحتراس بعد أن ارتدى قفازه وهو يُشاهد موضع هذا
العقرب على الشاشة التي تريه كل ما بهذه الغرفة بوضوح ودخل بسكون لتلمحه بأعين
زائغة وقطرات العرق تتجلى على جبينها فلم يكترث سوى بلمحة سريعة نحوها وأغلق الباب
خلفه بينما اقترب نحو هذا الكائن المميت بذلك الصندوق البلاستيكي الصغير وورقة
بيضاء ثقيلة الوزن ووضع الصندوق أولًا عليه ثم ادخل الورقة بين الصندوق المُسلط
فوقه تمامًا وقلب اتجاه كلاهما وجلب غطاء الصندوق ليضعه فوق الورقة التي كان
يمسكها بإحكام هائل وبمجرد التقاء الغطاء المخصص للصندوق بمكان غلقه تمامًا جذب
الورقة من بينهما وأغلقه بنجاح ثم تركه جانبًا وتوجه إليها لينظر إليها وهي أسفله
ترتجف بشدة من الحمى التي انتشرت بجسدها بفعل هذه اللدغة الصغيرة..
وبعد كل ما هيئ عقلها له، وبتلك الحالة المرضية الشديدة
التي أصبحت بها، فقدت الوعي بالكامل ومجرد وجوده بجانبها في حالة من الحرمان التام
من أي شخص، مثل لها ملاذ ولو مؤقت أفضل من العُزلة وكائن سام، وأفكار نهشت بقدرة
عقلها على الاستمرار بصحته، فلقد بدأ أن يفسد جزئيًا!