-->

الفصل السابع والعشرون - أشواك وحرير


الفصل السابع والعشرون


دلفت "روان" لحجرة مكتبه فوجدته يستند بساعده على إحدى جوانب الشرفة يطالع الحديقة أمامه بشرود.. تناولت أنفاسًا عميقة وخطت نحوه بخطوات هادئة، وبدا من مظهره أنه في حالة نفسية سيئة.. لامست كتفه بأطراف أصابعها فأستشعرت تشنج عضلاته أسفل بشرتها؛ مما جعلها تسأله بهمسٍا مكترث :

 

_أنت كويس؟

 

ألتفت إليها بملامح مظلمة وظهر الألم جليًا في عينيه ثم هَمس بحزن :

 

_أنا خسرتها خلاص!

 

لم تُبدي أي ردة فعل ولكنها طالعته بترقب مكتفه ذراعيها بمحازاة صدرها تنتظر أن يكمل كلامه حتى تفهم مَنْ بالضبط المعنية بحديثه، بينما تابع همسه قائلًا :

 

_بابا كتب كل حاجة بإسمي وطلب إن فلوسها تبقى معايا وبعد موته كلمت ماما علشان كل واحدة منهم تاخد فلوسها بس هي رفضت وأصرت إنهم يبقوا تحت وصايتي.

 

تنفست "روان" الصعداء بمجرد أن فهمت أنه يتحدث عن شقيقته وليس رثاءًا لزوجته الراحلة؛ فدنت منه أكثر ونظرت لعينيه مباشرةً ثم سألته مستفسرة :

 

_طب ليه أنت ما أصرتش إن رونا تاخد فلوسها؟!

 

أمسك بكفيها بين يديه وأردف بصدق تمكن حدثها من إلتقاطه بسهولة :

 

_بعد وفاة أبونا بكام شهر اكتشفنا إنه كان مديون للبنوك وراهن البيت وشاليه الساحل والجونة والعربيات بتاعتنا فيعتبر كنا على الحديدة.. أنا معايا شوية فلوس وماما ورونا شوية مجوهرات وكل ده ميجيش ربع الفلوس اللي علينا؛ فهم قرروا إن الفلوس تفضل تحت إيدي.

 

مع كل كلمة كان ينطقها كانت تزداد عينيها إتساعًا فحسته بحماس على التكملة.. تنهد بعمق و استرسل حديثه ببرود وكأنه يخبرها بنشرة التاسعة مساءًا وليست بمصيبه حلت عليهم :

 

_مازن كان أخد ورثه من جده وقرر يحط فلوسه معايا في شركة بابا وميرا برضه دخلت معانا بنسبة كويسه، وكل ده مكنش كافي علشان نشغل الشركة وتقوم على رجليها.. حبيبة الله يرحمها باعت كتير من شبكتها ومن الدهب اللي أهلها اشتروه كمان، وبعلاقات ماما ووالد حبيبة وجد مازن قدروا يتوسطوا لنا عند البنوك، وفعلا الشركة وقفت من تاني وسددنا الديون اللي علينا بس الشراكة متفضتش.

 

_طب وليه مخدتش فلوسها؟!

 

_خدت كام مليون كده من بعد انتهاء الأزمة بس اتنصب عليها فيهم وأنا بصراحه قلقت تضيع تعبنا على الأرض من تاني لأن مفيش حد فينا هيقدر يتحمل مستوى معيشي أقل من ده.

 

أومأت له برأسها في تفهم حينما فهمت ما يدور بينه وبين شقيقته الآن، فباغتته مستفسرة :

 

_على كده بقى تعرف مازن وميرا من زمان؟

 

قهقه ضاحكًا وسألها بمزاح :

 

_ده أنتِ بتقرريني بقى!

 

ابتسمت لمزحته هي الأخرى.. لا تنكر أنها حقًا تحاول جمع معلومات عنه حتى تكتشف شخصيته الغامضة ولكنها حركت كتفيها لأعلى ولأسفل بعفوية مفسرة :

 

_اللي يخليهم يحطوا فلوسهم في قلب أملاك مرهونة يبقوا بيحبوك أوي!

 

أومأ لها برأسه مؤكدًا صحة تخمينها، وبصمتٍ استدعى دهشتها سحبها من كفها متجهًا بها للأريكة ثم أجلسها عليها واستلقى هو الآخر متوسدًا فخذها برأسه وسرعان ما أجاب موافقًا :

 

_إحنا التلاتة متربيين مع بعض.. مازن كان معايا في المدرسة مكناش بنفارق بعض طول اليوم لغاية ما ننام وميرا أصغر مننا بحوالي ست سنين بس برضه كنا أصحاب وأخوات زيها زي مازن!

 

_أيوة بس واضح إنها بتحبك!

 

قالتها بلهجة ذات مغزى متجاهلة جملته الأخيرة وقد أوشكت على معرفة ما تريد مُستغله سكونه الآن وحالته التي تحتاج للفضفضة! أما عنه فعلت أصوات ضحكاته لأنه فهم ما ترمي إليه.. فأمسك بكفها الذي يدلك فروة رأسه ليوقفها، ثم نظر إليها مبتسمًا :

 

_أنا عارف إنك ذكية بس أول مره أعرف إنك خبيثه!

 

طالعته بذهول مصطنع و ذمت شفتيها كالأطفال ثم همّت بإبعاده عن ساقيها حتى تغادر المكان و اعترضت مدعية البراءة :

 

_أنت اللي بتحكي أنا مطلبتش.

 

منعها بكف يده وعاد للإستلقاء على فخذها من جديد واسترسل حديثه :

 

_أكيد لاحظت إنها معجبة بيا بس صاحبي بيحبها.

 

شدد على أحرف كلمة "مُعجبة" ولم يقل تحبني فلاحظته هي وسألته بجدية :

 

_يعني لو صاحبك مش بيحبها كنت هتحبها أنت؟

 

أطال النظر في عينيها مباشرةً وأردف بصدق وتأثر لاحظته هي :

 

_حبي الوحيد وقتها كان لحبيبة.. قابلتها وأنا في ثانوي وحبيتها واتعلقت بيها.. حاولت افتح معاها كلام فعرفت بعدين إنها كانت معجبة بيا وبتيجي النادي علشاني.. اتخطبنا وأنا عشرين سنة واتجوزنا بعدها بسنتين.. لكن ميرا أختي وعمري ما شوفتها غير كده!

 

نظرت إليه مطولًا محاولة سبل أغواره فلم ترى سوى الصدق.. ولكنها لم تعلم "هل عليها أن تطير فرحًا لأنه لا يحمل أي مشاعر للحية التي تُرزق؟ أم تأكلها نيران الغيرة والغيظ لأنه لا يزال يحب المتوفية؟!" عند هذه النقطة واستغفرت ربها فبالتأكيد هي كانت زوجته ولن ينساها أبدًا والأهم لا ينبغي عليها أن تشعر بالضيق تجاه إنسانة فارقت الحياة لا تدري بأي شئٍ تمر به الآن، ولكنها رغمًا عنها تشعر بالخوف كلما تذكرت أحاديث "هالة" التي يسترجعها ذهنها بسهولة كلما جائت سيرة المرحومة! نفضت تلك الأفكار عن رأسها لا تريد إفساد ما وصلت إليه من تقدم معه؛ فأعتدل في جلسته ونظر إليها برجاء كطفلٍ صغير يطالب والدته بالمزيد من قطع الحلوى الممنوعة عنه :

 

_ممكن أطلب منك طلب!

 

_طبخ و طبختلك نوم ونيمتك.. ما هو أنا مش مصباح علاء الدين اللي هيحقق لك أحلامك!

 

شاكسته بمرح فعلت أصوات ضحكاته.. يسعد كثيرًا حينما تتعامل معه بطبيعتها بعكس شخصيتها الباردة الفاترة التي عهدها في السابق، عادت ملامحه للهدوء و أردف ببسمة هادئة :

 

_عاوزك تعزفيلي على الكمان!

 

هزت رأسها بلهفة عدة مرات واختفت من أمامه مسرعه تتشوق للعزف من جديد منذ أن هجرته في أول زواجها.. دخلت إليه بعد بضع دقائق تحمل حقيبة جلدية سوداء نصفها دائري ينتهي بإمتداد طويل بعض الشيء يبدو أنها تخص آلتها الموسيقية.. اخرجت كمانها وعصاه الملحقة واتجهت للوقوف أمام النافذة كعادتها الدائمة عند العزف بينما هو ظل يطالعها متحيرًا تعصف المشاعر بداخله بقسوة، يعلم أنه يحبها بل ومتأكدٌ من ذلك لكنه يشعر بالخيانة! يشعر إنها بعيدة عنه آلاف الكيلومترات بالرغم من وجودهما في غرفة واحدة.. يخاف مما تفكر به تجاهه فلقد هجرها منذ تلك الليلة التي عرضت نفسها عليه" بما ستفكر فيه الآن!" ويالعذابه فها هو يُعذب لخيانته لزوجته ومن جهة حفاظه على كرامتها وكرامته بالإضافة لكتمان مشاعره وأغراضه الذكورية منها بعدما عرضت نفسها عليه خاصةً وأنه تزوج سابقًا وياللعجب أنه لا يستطيع! أما عنها فتغذى التفكير على خلايا مخها لا تدري لما بات يتصرف معها برسمية عكس ما اعتادت منه سابقًا؛ لطالمًا هابت تلك العلاقة الحميمية وخجلت منها فكيف هو شعورها الآن وهي من بادرت بعرض نفسها عليه! لقد جَرح كبرياؤها وطعن أنوثتها وبشدة! " و لشقائها طرقت سموم والدته عقلها، وتسائلت بإنكسار "هل من الممكن أنه هجرها منذ تلك الليلة لأنها لم تعجبه أو لم تكن ملائمة له كزوجته السابقة! اللعنة على حظها العثر لمَ عليها أن تعاني دائمًا من مرارة المقارنة!" تسللت دمعة خائنة من أسفل أهدابها الكثيفة وسرعان ما تحولت مقطوعتها إلى موسيقى هادئة حزينه.. بينما هو لف إحدى ذراعيه حول خصرها وقبّل أعلى شعرها قبلة بطيئة رقيقة وكأنه يعتذر لها عما تشعر به الآن بسببه!

 

--

في الثامنة مساءًا ببلدة روان

 

فرغوا للتو من تناول وجبة العشاء فساعدت "رنا" عمتها في رفع الأطباق عن المائدة، واتجه "محمود" للجلوس على الأريكة يتابع التلفاز بقلبٍ حزين محملًا بالهموم فمن جهة زوجته التي هجرته منذ أكثر من شهر وتأبى العودة إلا بإعتذار ابنة شقيقته التي أهانتها في ليلة زفافها أمام الجميع.. يعلم أن "روان" أخطأت حينما تطاولت عليها بالضرب ولكنه حقها! هو لا يرضى أن تتعرض ابنته لمثل ما تعرضت له الأخرى وفي الغالب كاد أن يفكر في قتل مَنْ قذفتها ولن يكتفي بضربها فقط! لم ولن يطلب من "روان" الإعتذار حتى ولو اضطر للإنفصال عن قرينته! ولكن ما أصعب ذلك الأمر عليه فمن الجهة الأخرى مشتت بين ابنتيه اللتان تحتاجان والدتهما في حاجة ماسة؛ فإحداهما باتت إنطوائية كئيبة، ترهب التجمعات وينتابها الذعر ليلًا دائمًا ما تراودها الكوابيس لدرجة أنها باتت تبلل ثيابها! وهي التي لم تفعلها خلال سنوات عمرها العشر الماضية! أما عن الأخرى فهو لا يدري إن كان أخطأ في حقها عندما وافق على خطبتها من ابن عمتها أم لا! لا يدري أعليه أن يفرح لأنها مَنْ أردات فسخ الخطبة وحققت ما تمنت أم يتمتع بخيبة الأمل لأنها في طريقها لتتبع مسار والدتها! أفاق من شروده على نداء بكريته :

 

_أعملك الشاي يا بابا؟

 

_لا يا رنا تعالي دلوقتي أنا عاوز اتكلم معاكِ شوية.

 

قالها بهدوء وربت بكف يده على الأريكة بجانبة في دعوة صريحة لها بالجلوس بجانبه.. أصابتها الدهشة فطلب والدها يبدو في غاية الجدية "تُرى بماذا سيُحدّثها؟" الكثير من المواضيع التي داهمت عقلها في بضع ثوانوبالطبع أغلبها يخص أمهاحتى جلست بجانبة :

 

_خير يا بابا! كنت عاوز تكلمني في إيه؟

 

_جايلك عريس.

 

ألقاها في وجهها بهدوء شديد وتابع ردة فعلها فلم يظهر منها سوى الصدمة التي ألجمتها لأنها لم تتوقع أن يكون هذا هو الموضوع.. توقعت إنه يخص عودة والدتها أو سيضغط عليها للعودة لـ "يحيى" الذي لم تعد تراه منذ ذلك اليوم البغيض وكأنه يتجنب رؤيتها! أما خطبة جديدة فالموضوع غريبٌ للغاية ففي الأسبوع الماضي كانت لا تزال مخطوبة! نظفت حلقها وتسائلت بفضول :

 

_عريس مين يا بابا؟

 

بقى هادئًا تمامًا و أجابها ببساطة :

 

_اسمه خالد العشري.. عنده تلاتين سنه خريج كلية تجارة وعنده معارض عربيات هنا في المحافظة وفي القاهرة، وعايش هناك.

 

عقلها لا يصدق أن علاقتها بـ "يحيى" قد انتهت عند ذلك الحد "أين ذهب حب الطفولة؟ هل حقًا تخلى عنها! نهرها قلبها مُذكّرًا إياها بأنها مَنْ تخلت عنه! فيما أخطأت حينما طالبته بمستوى معيشي أفضل؟! أليس هذا من حقها! أيكون جزاؤها أن يتركها لغيره بكل تلك السهولة! بينما تدخلت النزعة النرجسية بداخلها والتي ورثتها عن والدتها لتذكرها بأنها ذات مكانة عالية عنه وهو مَنْ لم يكن يحلم بأنها ستنظر إليه من الأساس! " ويبدو إنها كانت حقًا على صواب فلقد أتاها مَنْ هو أكثر ثراءًا منه.. أسكتت أصوات عقلها وسألت والدها بحيرة :

 

_وده شافني فين؟ وعرفني إزاي؟

 

_قال إنه شافك يوم كتب كتاب روان والرجالة خارجين من المسجد وكان نسي الموضوع لأنه عرف إنك مخطوبة وبعدين عرف باللي حصل وفاتحني النهاردة.

 

أومأت برأسها في تفهم وظهرت إبتسامة تلقائية على وجهها زينت ثغرها المتورد بحمرة ربانية.. كل ذلك تحت أنظار والدها الثاقبة ففهم أنها توافق أو على الأقل مبدأيًا؛ مما جعله يسألها مباشرةً :

 

_أفهم من ضحكتك دي إنك موافقة؟

 

تشققت إبتسامتها وتكّسرت فحركت رأسها بالنفي بسرعة وكأنها تنفي عن نفسها إرتكاب أحد الجرائم :

 

_لأ لأ.. هو بس.. أصل.. أصل...

 

تلعثمت الكلمات على طرف لسانها ولم تعرف بما سترد فهي حقًا لم توافق بعد ولكن نبعت البسمة تلقائيًا عليها من شعور الأنثى بداخلها أنها مرغوبة من الجنس الآخر؛ فتحرجت من الإجابة أمام أبيها.. ابتسم "محمود" بمودة وقد فهم ما تعانيه ابنته من تشتت و إرتباك، ثم ربت على إحدى كفيها بمحبة صادقة لا تنبع سوى من قلبٍ محبٍ صادق "وهل هناك غير قلب الأب!"

 

_فكري كويس يا بنتي ومتتسرعيش.. العمر كله لسه قدامك.

 

رفعت أنظارها من فوق يده التي تربت على كفها بحنان نحو عينيه وسألته بترقب :

 

_طب وحضرتك رأيك إيه؟

 

ابتلع ريقه وصمت بضع ثوانِ لعله يستجمع أنسب الكلمات للرد عليها ولكن سبقه إنذار جرس البيت؛ فأمرها بفتح الباب لذلك الطارق الذي لم يكن سوى ابن عمتها.. نكس الأخير أنظاره لأسفل حينما طلت عليه، ثم ألقى بتحية الإسلام واتجه للداخل مباشرةً بعدما دعاه "محمود" للدخول، بينما هي أغتاظت لأنه لم يُعيرها أي إهتمام.. صافح خاله بحرارة وجلس بأريحية على المقعد المقابل له مُباعدًا بين ساقيه قليلًا، مستندًا برأسه للخلف بإنهاك واضح؛ فسأله "محمود" بمشاكسة :

 

_إيه يا ابني معندكوش سراير في بيتكم جاي تنام هنا! حد قالك إني فاتحها بنسيون؟

 

ابتسم له الأخير، ثم فتح عينيه واستقام في جلسته قائلًا بضجر :

 

_زهقت يا خالي والله.. اليومين دول مش مبطل جري علشان الورق واهو خلاص الحمدلله قربت اخلص.

 

انحنى "محمود" بجذعه للأمام محاولًا تقليص المسافة الفاصلة بينهما وسأله بإهتمام حقيقي :

 

_أنت برضه لسه مصمم على اللي في دماغك؟

 

تنهد "يحيى" وزفر بقوة بعدما التقط تعابير وجهها بطرف عينه وكانت قد اتخذت مكانها بجانب والدها، ولم يخفى عليه ترقبها لإجابته :

 

_أنا خلاص مبقاش ليا عيش في البلد دي!

 

خرجت والدته للصالة بالتزامن مع جملته الأخيرة؛ فهتفت بضيق :

 

_يا ابني وهنا وحش في إيه؟! ما أنت أحسن من غيرك اهو عندك شقتك وشغال! عاوز إيه أكتر من كده؟

 

ابتسم بمرارة، ثم رد بكبرياء :

 

_دي رغبتي يا ماما و أرجوكِ متقفيش في طريقي.

 

ألهبت الدموع عينيها فسالت بحرقة على وجنتيها وصاحت بعتاب قاسي؛ فأشفق قلبه عليها :

 

_ليه عاوز تعمل فيا كده؟ مش كفاية أخواتك حرموني منهم! كمان عاوز تحرمني منك أنت كمان! هونت عليكم بعد كل ده!

 

تماسك عن البكاء أمامهم بصلابة واتجه ناحية والدته ممسكًا كفيها بين كفيه وأردف بإستعطاف حتى يلين له قلبها :

 

_أنتِ أكيد عاوزة تشوفيني في أحسن حال وميرضكيش أفضل متبهدل من شغلانة لشغلانة وكل سنة بيزيد عدد الخريجين واهو مفيش وظايف وكلنا متبهدلين علشان يومية مش هتكفي أكل وشرب وعلاج ومصاريف مدارس! سبيني أسافر يا ماما ومتقسيش عليا!

 

كانت قد هدأت شهقاتها قليلًا فهي تعلم مدى صحة كلامه وظروف العمل القاسية التي يواجهها هو وأمثاله من شباب عصره؛ فمسدت على شعره بعاطفة أمومية وأردفت بحزن ودموعها لازالت تقطر :

 

_ربنا يوفقك أنت وأخواتك.

 

طالعها بإبتسامة مشفقة؛ فهو وأخوته يضعونها تحت ضغطٍ هائل بإبتعادهم جميعًا عنها من أجل لقمةً العيش ولكن ما باليد حيلة.. أما عن "محمود" وابنته فقد تابعا المشهد بتأثر ولكن دون أي تدخل منهما، وأخيرًا قُطع الصمت حينما تسائل الأول :

 

_نويت على امتى؟

 

ألتفت إليه "يحيى" بملامح جادة :

 

_مش قبل عشرين يوم إن شاء الله.

 

أومأ له بتفهم واستمروا ثلاثتهم في تجاذب أطراف الحديث تحت أنظار "رنا" المصدومة، لا تصدق أنه قرر النهاية بالفعل هكذا بكل سهولة "هل سيتخطاها بتلك السلاسة دون أن يلتفت إليها؟!" لم تشارك في حديثم فقد كان يتأكلها الغيظ من الداخل؛ فهو لم يُوّجه إليها أي حديث منذ بداية الجلسة، بل لم ينظر إليها من الأساس وهي من تعمدت الجلوس أمامه لتكون أمام مواجهة عينيه مباشرةً ولكنه حطم كل آمالها.. اندفعت هي بالحديث إليه متباجحه :

 

_يحيى.. أنت تعرف واحد اسمه خالد العشري؟

 

تعالت ضربات قلبه؛ فهو لم يتوقع أن تبادر هي بالكلام نحوه خاصةً وهو يتحاشها طوال المجلس.. رمش بأهدابه عدة مرات وسألها بإستغراب :

 

_ماله ده يعني؟

 

طالعها والدها بنظرة شرسة مخيفة ليحذرها من الإسترسال؛ فأبتلعت ريقها بتوتر ولكن قد سبق السيف العَزل وتغلب كبرياؤها الأنثوي الذي بات يأن كثيرًا على عقلها :

 

_أصله متقدملي، فقولت يعني أسألك يمكن تعرفه بما إنك ابن عمتي.

 

اتسعت ابتسامته تلقائيًا لتداري شعوره بالحسرة والمرارة.. شعور طائر ذُبِح وما زال يلتقط أنفاسه الأخيرة متألمًا بقسوة لا يشعر به ذابحه الذي وقف يتابع لفظه لأنفاسه الأخيرة بإستمتاعٍ تام.. اللعنة على قلبه الخائن الذي لايزال يحبها ويتطلع للصفح عنها! وبالرغم من ذلك أبى أن يلتفت لنزيف فؤاده فرد عليها بشموخ أملاه عقله إياه :

 

_أنا شايفه مناسب عنده فلوس ومتعلم وغني زي ما كنتِ عاوزة!

 

تعمد تكرار أمر ثروته ليُذّكرها بحقارتها وطمعها ولم يخفى كل هذا على جميع الحاضرين الذين تباينت مشاعرهم من الشماتة والتشفي من قِبل "سهير" التي كُسر قلب ولدها، وشعور الإهانة الذي أصاب "محمود" وبقوة.. أما عن "رنا" فعلا صوتها بغضب تلقائي غير مقصود :

 

_يعني أنت شايف كده؟!

 

استقام في مكانه مستعدًا للخروج وردد ببشاشة تُخفي براكينه الثائرة في الداخل :

 

_هو أنا اللي هتجوز يا بنت خالي!

 

من أقسى ما يواجه الإنسان أن يُجبر على التظاهر بعكس مشاعره! لذا لملم كرامته المجروحة واستأذن للمغادرة فلم يعد قادرًا على الصمود أكثر من ذلك.. طالعت "رنا" أثره بحزن حقيقي لا تعرف لمَ أصابها بينما رمقها والدها وعمتها بمشاعر الغيظ والغضب الممزوجة بالعتاب.

 

--

 

على الجانب الآخر.. ڤيلا راقية جميلة تتمتع بالطابع الكلاسيكي.. جلس "مجد" مقابل المسبح الداخلي للمنزل والمصمم خصيصًا للشتاء والليالي الباردة.. انزل ساقيه لأسفل مستمتعًا بسخونة المياة، يفكر في بعض الأمور الخاصة بالعمل هاربًا من حاضره الأليم، ولكن رغمًا عنه تداخلات مع أفكاره ليعود مُثقلًا بالهموم.. لقد اشتاق لها لحد الجنون "لمَ طالت غيبتها كل تلك المدة؟ ألن تعود حقًا للأبد؟! " كان راضيًا كل تلك السنوات لأنه ينعم بدفء قربها، يراها ويتحدث إليها، أما الآن فقد حُرم منها بقسوة لا يمكنه رؤيتها ولا حتى أن يلمحها من بعيد! "تُرى أهي سعيدة بحياتها الجديدة أم بما تشعر بصحبة زوجها! " زوجها! رددها عقله ليخبره بكم هي كلمةً قاسية لا يستطيع تحملها.. لا يعلم إن كانت قد نسيته بالفعل لكونه ربّ عملها فقط أم لا تزال تكمن له مشاعر خاصةً.. قلبه يخبره بأنها تكن له كل الحب والمودة وإن كانا بدافع الصداقة لا أكثر، وكم كانت تلك الخاطرة بمثابة رصاصة الرحمة له؛ لأنه اطمأن أنه لم يكن لها فترة إستثنائية مؤقتة لأجل تحسين الأوضاع! "هل يبادر بالحديث معها كالسابق؛ لتعود وتتحدث إليه كما كانا يفعلا؟ فلربما كانت متحرجة منه لأنها باتت متزوجة! أم ماذا عليه أن يفعل؟" وبخ نفسه عندما وصل التفكير به لذلك كي لا يضعف ناحيتها وشكر قرارها بالإبتعاد.. رفع أنظاره قليلًا لأعلى ليتفاجأ بوجود والده مرتديًا إحدى ستراته الرياضية الثقيلة من ماركة شهيرة باللون الأسود ذات بنطال من نفس اللون على جانبيه خطوطًا بيضاء، جلس "كامل" بجانب نجله الذي عاد للشرود في الماء؛ فلكزه الأول في ذراعه وأخبره أمرًا :

 

_إبعد شوية.

 

ضَيق "مجد" ما بين حاجبيه وهتف بدهشة :

 

_ما المكان واسع اهو!

 

حرك "كامل" كتفيه وأردف بلامبالاة :

 

_أنا متعود أقعد على البلاطة دي!

 

_نعم!

 

قالها "مجد" بنبرة ممطوطة مُبديًا إستنكاره؛ فلم يلتفت إليه والده بل قام بثني أرجل البنطال وأنزل قدميه لأسفل مستمتعًا بدفء الماء هو الآخر، ثم سخر قائلًا :

 

_أنا عايش بقالي اتنين وستين سنه.. تخيل دي أول مرة أشوف العروسة اللي بتعمل الرؤية الشرعية!

 

ابتسم الآخر ابتسامة صفراء لم تصل لعينه بينما تابع "كامل" مسترسلًا :

 

_المرة الجاية هتيجي ومعاها الشبكة ومش بعيد بعد ما تلبسك الدبلة تبوس رأسك كمان! وفي الفرح نطبع الدعاوي.. حفل زفاف الآنسه هند على المهندس M!

 

قهقه "مجد" ضاحكًا على داعبة أبيه وسأله بترقب :

 

_يعني حضرتك عاوزني أخطبها؟!

 

ألتفت إليه والده و أجابه بسؤالٍ آخر متطلعًا مباشرةً في عينيه :

 

_لو قولتلك كويسة هتخطبها؟

 

هز رأسه نافيًا و أردف بصدق :

 

_مش عاوز أظلم واحدة معايا، عارف إن ماما عاوزاني أخطب النهاردة قبل بكره.. فكراني بكده هنساها، بس غصب عني مش قادر أنساها ولا قادر أكرهها!

 

_مفيش حد طلب منك تكرهها.. لكن لم تحب فعلًا تنساها هتنساها!

 

عاد ينفي من جديد وتنهد بعمق رافعًا رأسه لأعلى بقلة حيلة :

 

_صدقني حاولت.. بس طول اليوم عندي إحساس إنها هترجع.. طول اليوم بفضل باصص على باب مكتبي مستنيها تدخل لكن أملي بيخيب.. كل الموظفين بيدخلوا إلا هي، ومع ذلك بروح الشغل كل يوم وأفضل مستنيها بنفس الأمل!

 

اعتصر الألم قلب "كامل" على وحيده؛ فهو لا يستحق أبدًا أن يحيا بذلك العذاب.. ربت على فخذ ابنه متحدثًا بثقة ليهون عليه :

 

_مش دايمًا كل الحاجات اللي بنتمناها فيها الخير لينا مهما كنا شايفين في الحاجة دي جنة.. أحيانًا بيكون سراب عقلنا صورهولنا كمسكن بعد رحلة تعب طويلة، وبعد ما بنقرب منه بيختفي وفي الآخر بنكتشف إنه كان مجرد وهم ملوش وجود! وساعتها بتكون خسرت طاقتك وفقدت أملك إنك تلاقي جنتك!

 

رفع "مجد" أنظاره المذهولة إلى والده وتسائل ببعض العصبية غير المقصودة :

 

_قصدك إني لو قربت منها هكتشف إني مبحبهاش؟!

 

نفى والده بثبات قائلًا :

 

_أنا مقولتش كده.. افهم كلامي كويس، أنت بتحبها أوي بس لو كنتوا اتجوزتوا أكيد مكنتوش هترتاحوا وإلا كان ربنا قربكوا من بعض.. ربنا مش هيستخسرها فيك يا عبيط!

 

عَمّ الصمت أرجاء المكان، ومجد يفكر في حديث أبيه الذي أسترسل بهدوء :

 

_لما تبطل تستناها وتستعوض ربنا فيها يمكن ترجع! مين عالم ربنا ليه حسابات تانية! وحتى لو مرجعتش اتأكد إن ملكش خير فيها واحفظ صورتها الكويسة في دماغك كشخص عزيز عرفته في يوم.

 

ترددت عبارة الأب الأخيرة الذي غادر منذ دقائق في عقل "مجد" و قرر أن يلتفت لحياته مفوضًا أمره لله وقلبه يناجي ربه بهمسٍ صامت؛ خوفًا من أن يسمعه أحدٌ!

 

--

 

بعد منتصف الليل

 

"إذا أغلق الشتاء أبواب بيتك وحاصرتك تلال الجليد من كل مكان، فإنتظر قدوم الربيع وافتح نوافذك لنسمات الهواء النقي، وأنظر بعيدًا، فسوف ترى أسراب الطيور وقد عادت تغني، وسوف ترى الشمس وهي تلقي خيوطها الذهبية فوق أغصان الشجر، لتصنع لك عمرًا جديدًا وحلمًا جديدًا وقلبًا جديدًا" عبارة قرأتها "ميرا" من ورقة امتحانها الأخير أثناء تطلعها لحديقة المشفى الفارغة تمامًا من الناس في ذلك الوقت المتأخر من الليل وكانت قد احتفظت بتلك الورقة لسبب تجهله لكنها أعانتها على المواصلة كثيرًا الفترة الماضية.. وعلى ذلك ذِكر الأمر ما زالت غير مستوعبة لخروجها في الغد، فبالرغم أن فترة إقامتها هنا ليست طويلة أبدًا ولكنها تشعر وكأنها قضت دهرًا بأكمله.. في ذلك المكان تألمت للحد الذي تمنت فيه الموت ومفارقة هذة الحياة لتتخلص من آلامها اللعينة.. تناولت أنفاسًا عميقة ولفظتها براحة، لابد أن تستعد لبداية جديدة مختلفة كليًا عن السابق.. ستبدأ جلسات التأهيل النفسي لتتعلم كيف تواجه البشر وتتعايش معهم من جديد؛ فهي تشعر أنها أصبحت أقل منهم بكثير فلقد كُسر شيئٌا ما بداخلها ولا تظنه سيعاد تصليحه من جديد! تخشى ألا يتقبلها العالم الخارجي أو يمقطوها.. رفعت أنظارها للسماء تشكر ربها بإمتنان حقيقي لوجود كلا من "مجد" و "مازن" في حياتها فلولاهما ما استطاعت الأستمرار، ولكنها تخشى أيضًا أن يُفارقاها وخاصةً ذلك الأخير الذي لطالما ظلمته طوال سنوات عمرها الخمس والعشرين ولا تعلم كيف تستطيع تعويضه! ألقت تلك الأفكار والهواجس السامة خلف ظهرها واتجهت للنوم آملة أن تستيقظ على إشراقة يومٍ جديد دافئ يُزهر ويرمم ما بقي من روحها.

 

--

 

ارتدى ملابسه ووقف أمام طاولة الزينة يصفف خصلاته الفحمية التي لا تزال يتساقط منها قطرات المياة، وظهرت عليه ملامح الإرهاق جلية تمامًا؛ فلم يستطع أن يخلصه منها حمامه الدافئ الذي حصل عليه لتوه.. لقد جافاه النوم طوال الليل، كانت تكاد تنام في أحضانه ولا يستطيع أن يمسها وكأنه خائف من إرتكاب أحد الجرائم! رأى إنعكاس صورتها بالمرآه وقد استيقظت لتوها هي الأخرى.. شعرها مشعث بطريقة فوضوية محببة، وخدها يحمل إحمرارًا طفيفًا وعينيها ما زالت تحمل أثر النوم.. بدت شهية في تلك المنامة الداكنة؛ فأنزل أنظاره عنها حينما تطرق تفكيره إلى ذلك الجانب "وكأنه كُتب عليه أن يبقى مُعذبًا بين شوقه إليها وإحساسه بالذنب تجاه زوجته الراحلة! " لابد أن يتجه في أسرع وقت لأحد الأطباء النفسيين حتى ينتهي ذلك الآمر، أما عنها فوضعت إحدى كفيها على قلبها؛ شاعرةً بثِقل يعتلي صدرها من ليلة أمس، ثم رفعت أنظارها إليه تسأله بإستغراب إن كان يستعد للرحيل، وكأنها لم تدرك ما يفعله سوى الآن :

 

_أنت نازل؟

 

أجابها بإقتضاب ولم يلتفت إليها؛ فشعرت بالدهشة من حالته الغريبة بل ومن خروجه من الأساس فهذه المرة الأولى التي يذهب فيها لعمله بعد حادث طفله.. لا تعلم لمَ تشعر بالضيق هكذا.. استقامت واقفة واتجهت إليه تسأله بتردد :

 

_ممكن تفضل معايا النهاردة ومتنزلش! أنا مش مطمنة!

 

أنزل يديه عن رابطة عنقه وطالعها بإستغراب حقيقي، ثم أحاط كتفيها بكفيه وابتسم لها بتصنع :

 

_قلقانة من إيه؟

 

عاودها ألم قلبها، وتشنجت تقاسيم وجهها؛ فهزت رأسها بنفي وأردفت بقلق وتخبط :

 

_مش عارفة! بس مش حاسة براحة، علشان خاطري خليك النهاردة معايا.. مش عاوزة أكون لوحدي!

 

أنتابه الخوف من حالتها؛ فكانت هذه المرة الأولى التي يراها هكذا.. فسر بأنها قلقة لا أكثر من وجودها مع والدته بمفردها؛ فأحتوى وجنتيها بيديه ونظر لعينيها التي تنظر له بترقب يردد بصدق :

 

_أنا مضطر أنزل النهاردة.. مازن هيمشي بدري وأنا لازم أمضي على أوراق مهمة!

 

ابتسم لها بعذوبة وأسترسل بدفء حتى تطمئن :

 

_أوعدك إن ده هيكون آخر يوم لينا في البيت ده وبعد كده مش هنعيش هنا خلاص!

 

على الرغم من الصدق المنبعث من نبرته التي ألتقطته بسهولة إلا أنها لم تطمئن بل انقبض قلبها أكثر من ذي قبل.. فخرج صوتها مرتعشًا تلك المرة بسؤالٍ فاجأه لم يكن ليتوقعه أبدًا منها :

 

_أنت زعلان مني في حاجة!

 

قَبّل رأسها بحب فلقد فهم ما ترمي إليه، ورد نافيًا :

 

_لا مش زعلان.. ولما أرجع هنتكلم اتطمني.

 

أومأت له برأسها بتفهم، ثم خيم عليها الإحباط حينما  راقبت ابتعاده للخارج بعدما شدد عليها بعدم الخروج من البيت، وعادت للجلوس على السرير تشعر بالقلق حيال ذلك الكابوس الذي ظل يطاردها طوال الليل؛ فقد رأت أنها تحتضن أحد الثعابين الجميلة وابتعدت عنه قليلًا لتحضر له الطعام؛ فأنقض عليها بصحبة آخرين لم تعلم من أين أتوا! ثم بدأوا في التهام لحمها وتعالت صراخاتها لتستجديهم بتركها فلم يكن منهم سوى الضحك والتشفي ثم إكمال إلتهامها.. شهقت كغريق يصارع الأمواج حينما عادت لواقعها لكنها كانت تشعر بعضات الأفاعي على جسدها وكأنها عضات حقيقية وقلبها يطرق بعنف.. أخذت حمامًا باردًا وكأنها لا تشعر ببرودة الجو علها تستفيق ولو بقدرٍ بسيط ثم صففت شعرها وعكصته أعلى رأسها.. انشغلت في تحضير حقيبتها حتى تُضيع وقتها وتشغل تفكيرها، بينما تعالى رنين هاتفها فطالعت الرقم الغريب أمامها مُضيقة عينيها بدهشة قبل أن تُجيب وتستمع إلى صوت الطرف الآخر المألوف والذي بدا لها وكأنه يحتضر :

 

_الحقيني.. أنا بموت!

 

جحظت عينيها بصدمة وظلت تكرر ندائها عبر سماعة الهاتف ولكن الخط انقطع.. فـ ارتدت ملابسها بعجالة ودارت في الغرفة كطفلٍ تائهه يبحث عن أمه بلا هوادة.. ثم أسرعت بالجري خارج المنزل مُتخذه طريق اللاعودة إلى تلك الڤيلا الملعونة!


يُتبع..