-->

الفصل السادس عشر - مشاعر مهشمة

 



الفصل السادس عشر



بواطن وخفايا الأمور، عندما ينقشع عنها الحاجز، وتنبجس الحقيقة إلى النور، ينكشف معها الكوارث المتوارية، وكل شيء منقوص ومبتور، ظلت نظرات "كرم" لبعض اللحظات مثبتة على وجه الآخر، وكأنما تشوشت مداركه من إيحاء كلماته، الذي يدل على وجود سبب خفي وراء موت "كمال الصباحي"، خلاف ما علمه من "عاصم"، وعلى ما يبدو أن الأخير ليس على علم به كذلك، رفع أحد حاجبيه، وهو ينظر إليه بتلك النظرة المتفرسة، وهو يسأله في توجس شديد:


-هو في سبب تاني ورا موته؟


اعتدل "صلاح" في جلسته، ليصبح جسده مقابلا للآخر في وضع مريح له وهو يسترسل له بلهجة جادة:


-كمال الصباحي كان كده كده هيموت، بسبب الدوا اللي كان بيتحطله في أكله، لإن الكبد والكلى كان اتهروا، وأعضاء في جسمه اتضررت بشكل كبير، بس الباشا كان عايز يخلص منه في أسرع وقت، عشان ميلحقش يعرف عاصم مكان الورق اللي معاه، مكانش حد يعرف ساعتها إنه مسلم رقبة الباشا لعاصم من زمان.


بدون تفكير توصل لمضمون الأخير من كلماته، وهي تلك الملفلت التي بحوزة "عاصم"، فقد أخبره الآخر حيالها من قبل، حرك وجهه بهزة مستفهمة وهو يسأله في ترقب:


-ايوه وعمل ايه يعني؟


حك مقدمة أنفه، وهو يشير للنادل كي يحضر له كأسا أخرى، ثم قال له:


-أنا هقولك.


أمسك بكأس الخمر الذي وضعه النادل أمامه، ثم رفعه نحو فمه، وارتشفه دفعة واحدة، وبعدما أنزله عن فمه، بدأ في سرد تفاصيل ما حدث إبان وجود "كمال" في المشفى، وما ترتب عليه وفاته، التي ظهرت للجميع أنها تأثرا بمرضه، ففي ذلك الحين قد أتى إليه "توفيق"، في زيارة سرية عمل على ألا ينتبه أحد من الممرضين إليها، كان بصحبته "صلاح"، الذي كان يؤمن له الطريق، ويتأكد من خلو الردهة التي تفضي في نهايتها بغرفة "كمال"، دلفها بهدوء غير مصدرا أي صوت، حتى توقف أمام السرير الممدد عليه الأول، كأنما شعر "كمال" بوجوده، فتح عينيه ونظر نحوه، وحينما أبصره ردد في صوت أجوف لا يخلو من التفاجؤ:


-توفيق!


انفرجت شفتا "توفيق" ببسمة متشفية وهو يقول له في شماتة ظاهرة:


-إيه يا كمال، بتموت؟


حدجه "كمال" بنظر مشتاطة، سريعا ما تحولت إلى ناقمة مما جال في ذهنه، ونطق به في نبرة هجومية:


-انت ورا اللي حصلي، انت اللي خلتهم يحطولي الدوا في أكلي.


توسعت ابتسامة الآخر، مظهرة خبث جم، اعتلى كلماته وهو يردف:


-بيعجبني فيك دماغك، بتوصلك لكل حاجة بتحصل حواليك من غير أي مجهود، بس المرادي جت متأخرة شوية.


اشتعلت نظرات "كمال" وتحامل على وجع جسده، وصاح فيه في استهجان ساخط:


-عملت كده ليه؟


انحنى بجذعه دانيا منه، وعلى نفس الشاكلة الباردة المستنزفة لأعصابه:


-عشان أخلص منك، بس الظاهر لسه ليك عمر.


ازدادت أنفاس "كمال" مع فوران دمائه، وهتف بعصبية عارمة، بصوت متقطع من الإعياء المستبد به:


-وجاي ليه دلوقتي، جاي تتشفى فيا؟


هز رأسه بالسلب بحركة متريثة، وهو يرمقه بنظرات غامضة، ماكرة، وازداد في اقترابه المريب منه، وفح أمام وجهه بما جعل عيني "كمال" تتوسع في جحوظ متخوف:


-أنا جاي أخلص عليك.


لم يدع له مجالا للذود عن نفسه، أو طلب المساعدة للوذ بحياته، وطوق رقبته بيديه، ضاغطا فوقها بغل شديد، وتصميم على إزهاق روحه، فغر "كمال" عينيه، وتشنج وجهه، واحمر بصورة شديدة، لعدم وصول الأكسجين إلى رئتيه، وبعد مرور عدة لحظات، ظل يعافر في محاولة واهية لإبعاد كفي الآخر عن عنقه، خبت محاولته، وسكن جسده، وظلت عيناه بارقة دون أن يطرف لهما جفن، في ذلك الوقت صدح صوت جهاز القلب، منبئا عن توقف قلبه عن نبض، نظر له "توفيق" بنظرة أخيرة مليئة بالكراهية، قبل أن يهرول بخطوات متسارعة إلى الخارج، ومن خلفه "صلاح"، ولعلم الأخير بأروقة المشفى، ومخارجها المتوارية، استطاع أن يخرجه دون أن يعثر عليهما أحد، ولعدم التشكيك في أمر وفاته، أرجع الطبيب أن موته راجعا لتعرضه لسكتة قلبية. بعدما انتهى "صلاح" من القص على الآخر، بذلك الحدث الصادم، والذي جعل "كرم" يشعر بالريبة لتلك الجماعة، الذي دخل طوعا بين جرائمهم، امتدت يده نحو الكأس، وقبل أن يرفعها نحو فمه، شدد عليه محذرا:


-الكلام ده يفضل بينا، لإن لو خرج وقتها مضمنش إيه تاني اللي هيخرج منك.


رغم شعور القلق الذي دب في قلب "كرم"، إلا انه تظاهر بالثبات وهو يعلق بطريقة موحية:


-متقلقش أنا فايق ومبقعش لحد بحاجة، خلي تنبيهاتك دي لنفسك، لاحسن من كاس والتاني تخر بكل اللي تعرفه.


التوى ثغره بابتسامة لزجة ورد عليه في سماجة:


-لأ من الناحية دي ميكونش عندك قلق.


تجرع كأسا أخرى، وأضاف بتحفز قبل أن ينهض عن مقعده:


-وسلام انا بقى عشان عندي معاد مهم.


ضيق "كرم" عينيه في نظرة مستشفة، وهو يسأله في تشكيك:


-معاد من إياهم؟


هز رأسه في إيماءة خفيفة وهو يعدل من هندام ملابسه، واقترح عليه في عبثية ذات مغزى:


-ماتيجي تقلب رزقك.


ظهر الازداء جليا على وجهه، وقال له في اعتراض:


-لأ ماليش أنا في النسوان الكسر اللي بتجيبهم.


انفرجت شفتيه ببسمة ساخرة إلى الجانب، تبعها قول بنبرة متهكمة وهو يشرع في التحرك:


-ماشي يا عم، سيبنالك بنات الذوات، سلام.


زاغت عيناه في أثره، فقد شرد ذهنه مع قوله، إلى حدث بعينه، يجمعه مع من سرقت لُبه منذ الوهلة الأولى، التقاء عيناه مع عينيها في أول نظرة، جعلت ضجيجا يدوي في رأسه، متعجبا من كل تلك المقاومات الجمالية، التي تجمعت في امرأة واحدة، أو فتاة صغيرة إذا صح القول، لم يكن يتخطى عمرها السبعة عشر عاما، أول مرة رآها، حين استوقفته أثناء سيره في الشركة، تمعن النظر تلقائيا في ملامحها التي كانت تشع براءة، وبتعجب شديد سألها:


-يلزم خدمة؟


تقدمت نحوه في تردد، وفركت يديها ببعضهما في ترتر ملحوظ وهي تعرف عن نفسها وتطلب منه بصوت ناعم:


-أنا داليا مراد بنت خالة عاصم، ممكن تبلغه إني عايزه أقابله.


لم يستطع إبعاد نظراته التي كانت تنظر مليا لقسمات وجهها، وكأنه يحاول حفظها عن ظهر قلب، وعند علمه بهويتها، وبالصلة الجامعة بينها وبين صاحب الشركة، اظهر اهتمامه بها وتحدث في تهذيب:


-بس هو في اجتماع دلوقتي.


عبس وجهها قليلا وهي تسأله في ضيق:


-طب هيخلص أمتى؟


نظر إلى ساعة يده، وقد استغل ذلك في موارة إعجابه بها الذي يشع من نظراته، ثم أجابها في هدوء:


-قدامه حوالي ساعة إلا ربع.


رفعت حاجبيها في تفاجؤ، ورددت ببعض الانزعاج:


-ساعة إلا ربع!


طرأ في ذهنه أن يأخذها إلى مكتب "عاصم"، تنتظره بداخله ريثما ينتهي، بما إنها قريبته، وبالتأكيد لن يفضل تركه لها في صرح الشركة، حمحم بخفة ثم أخبرها بتصقيل:


-بما إنك بنت خالته تقدري تستنيه في مكتبه.


لاح عدم الاستحسان على وجهها، وامتنعت في اقتضاب:


-مش مشكلة أنا هستناه هنا.


تشبث بعرضه، وعلق في لباقة وهو يستحثها على التحرك معه:


-لأ ازاي ميصحش، اتفضلي معايا.


خنعت له أمام تصميمه، وجعلها تتقدمه في سيرها، غي تصرف لبق منه، تبعها في صمت تام، ولكنه لم يحِد بعينيه عنها، فقد اجتذبته هالتها الناعمة، وجمالها الاستثنائي، ولم يجُل في ذهنه آنذاك أن ذلك الاجتذاب، سينمو بداخله مع مرور الوقت، ويتحول إلى شيء يجهل معناه إلى الوقت الحالي، ولم يتبدد بداخله البتة، رغم علمه بالعلاقة التي كانت قائمة بينها وبين "عاصم" في الخفاء، وذلك عندما انضم إلى رجال "توفيق"، وعلم بالأمر صدفة في حديث عابر، تناقل إليه على لسان أحدهم، فإلى الحين، وحتى بعد علمه بزواجها منه، عندما يراها مصادفةً، يشعر برغبة ملحة في استبقاء نظراته مثبتة على كل ما بها، فعلى ما يبدو أن سحرها متمكنا بشدة منه، ولا يسعه التخلص من تأثيره.



❈-❈-❈


الخوف من المجهول، يظل يستبد بالقلب، ويبعث القلق بداخله في سائر الأوقات، مادام السبب الرئيسي في ذلك الخوف، يحوم من حولنا، ويحيط بنا من جميع الاتجاهات، ولا يسعنا حينئذ غير الابتعاد، والفرار عن محيطه قدر المستطاع، فالاقتراب محفوف بالخطر، وبقاءنا في ذات البقعة معه تعد مجازفة، غير مضمونة العواقب، او متوقع لها تبعات، المطالبة بدخول بيت ذلك الوغد المسمى ب"عاصم"، كانت بالنسبة ل"جاسم" مرفوضة رفضا قاطعا، حتى وإن كانت لإداء واجب يتطلب الحضور، اعتلى وجهه الانزعاج، واعترض على طلب زوجته بصوت جامد:


-لأ.


لاح العبوس على وجهها، فقد أرادت أن تكون جوار صديقتها في يوم عيد مولدها، حتى لا تكون وحيدة طوال الحفل، فقد انكفأت "داليا" عن الجميع وقت حملها، حتى لا يعرف أحد عن ذلك الشأن، ومن المتوقع ألا تحضر أي مما دعتهن من صديقاتها، كما لم تحضر هي أي مناسبة لهن الآونة الأخيرة، دنت منه وألحت عليه في ضيق في محاولة ثانية منها لجعله يعدل عن قراره:


-فيها إيه يعني يا جاسم لما أروح عيد ميلاد داليا؟


استقام في جلسته، وحدجها في نظرة ضائقة، فقد اندلعت عصببته، من تحدثها بتلك البساطة، وهي تخبره برغبتها في الذهاب إلى بيت الرجل، الذي كان سيتسبب في إنهاء حياتها، ورد عليها في نبرة ارتفعت عن سابقتها:


-فيها كتير، فيها إنك داخلة بيت الراجل اللي كان هيتسبب في موتك، وبسببه بتلفي على الدكاترة لغاية دلوقتي.


زمت شفتيها لحظيا وهي تزفر في سأم، ثم مدت يدها نحو ساعده، وأردفت على نفس المنوال الملح:


-يا جاسم..


لوح بيده ما إن لمسته، وتشنح جسده وهو يصيح في اعتراض شديد، لا يوجد فيه أي رجوع:


-قلت لأ يا رفيف، لأ يعني لأ، إيه اللي مش واضح في كلامي؟


ارتدت بجسدها للخلف في ذعر من انفعاله، شعر "مجد" -المتواجد معهما، لوجودهم في بيت العائلة- باحتمالية تصاعد الأمور بينهما، لذا تحدث إلى رفيف بلهجة هادئة:


-جاسم خايف عليكي يا رفيف، والمفروض تسمعي كلامه طالما عنده حق فيه.


اختنقت "رفيف" من أخذ شقيقها صف الآخر، وانحيازه إلى قراره، وعلقت في احتجاج متبرم:


-طب مانت روحت عزيته في موت باباه، كان إيه اللي حصل؟


ارتفع حاجبا "جاسم" في تفاجؤ مما قالته زوجته، وحول نظره المذهول نحو "مجد" وسأله في استنكار:


-انت روحت عزيته؟


حافظ "مجد" على هدوء تعبيراته، ورد عليه بدون مراوغة:


-أيوه.


انفرجت شفتا "جاسم" بضحكة تحمل مزيجا من التفاجؤ والتهازؤ، وعقب بنفس الشاكلة المستنكرة:


-بعد كل اللي عمله؟


لفظ "مجد" دفعة من الهواء، ثم علق في رزانة:


-أنا عملت بالأصول.


انتفض "جاسم" واقفا، ودمدم في استهجان:


-أصول مع واحد زي ده؟ مع عاصم؟ اللي كان هيقتل أختك وابنك، وهيعيشك انت ومراتك محرومين من الخلفة.


لاذ "مجد" بالصمت، فقد رأى أن الكلام لن يجدي معه وهو على تلك الحالة المنفعلة، وفي حقيقة الأمر أصبح عاجزا عن تثبيط غضبه عندما يتعلق الامر ب"عاصم"، عندما لم يحصل "جاسم" على ردٍ من الاول، هز رأسه في إيماءة، تلاها قوله في تجهم:


-الظاهر كده أن الكل بقى بيتعامل عادي مع اللي حصل، وانا اللي مكبر الحكاية زي ما رفيف بتقول.


انتقل ببصره نحو زوجته العابسة، والمطرقة بنظراته أرضا، وأخبرها في فتور:


-اعملي اللي انتي عايزاه، عايزه تروحي اتفضلي انا مش ممانع، وابقي خلي مجد بقى يوصلك لإني أنا ماشي.


رفعت عينيها نحوه، لتجده قد بدأ في السير نحو باب الفيلا، نهضت على الفور، ولحقت به وهي تهتف من خلفه لاستوقافه:


-استنى يا جاسم.


عاد "مجد" بظهره إلى الخلف وهو يزفر في ضيق، ووجه نظره نحو والده، المتابع للمشهد المتكرر في صمت، وقال له في استياء:


-جاسم بقى عصبي أوي، مش عارف إيه اللي غيره كده.


التف برأسه نحوه، لم تنم ملامحه عن الضيق مما دار أمام مرأى بصره منذ برهة، ورد عليه في نبرة عادية:


-أنا عاذره في اللي هو فيه يا مجد، جاسم كان هيخسر رفيف، وانت عارف هو متعلق بيها قد إيه.


لم يبدِ "مجد" اعتراضا على تلك النقطة، ولكن أتى تعقيبه على أمر آخر وهو يقول:


-بس المفروض يهدى شوية، الدكتور منبه إن رفيف متتعرضش لأي عصبية، وهو مش راحم.


قابل "هشام" كلماته بهدوء وعلق بحيادية:


-هو اللي بيتنرفز وتاعب في أعصابه، ورفيف مش بتاخد كلامه على أعصابها لإنها عارفة إنه خايف عليها.


ثم ما لبث أن أضاف ببسمة صغيرة:


-وبعدين مانت خانق طيف بالحراسة اللي ماشية معاها في كل حتة.


تنهد "مجد" مطولا ثم قال في بعض القلق الذي ما زال مستبدا بقلبه:


-أنا جيت للحق يا بابا أنا مش مآمنله، رغم اللي ماسكه عليه، عاصم مش سهل ومش ضامن غدره.


ظهر طيف حزن على قسمات وجه "هشام" من تذكره ل"عاصم" الصغير، الذي كان يرافقه كظله حينما كان يأتي مع والده إلى الشركة، كان طفلا لطيفا، حنونا، وهادئا كوالدته، لا يدري أنّى اكتسبت شخصيته صفات والده، وطمست تلك البراءة ومحقت من داخله، رمق ابنه بنظرة تحمل الأسى وهو يخبره:


-عاصم لو كان كبر على مطلوعه، كان هيبقى بني آدم تاني خالص، الله يسامحه كمال هو اللي خلاه يوصل للي هو فيه ده.


على ذكر "كمال"، تذكر "مجد" أمرا هاما، توسعت عيناه وهو يسأله في اشتفاف:


-صحيح أنت عرفت بآخر الأخبار؟


قطب "هشام" جبينه وسأله في غير علم:


-أخبار إيه؟


كما توقع لا يعلم والده بالحدث الجلل الذي آثار تفاجؤه عندما علم به، ارتسمت شبح ابتسامة على ثغره، ثم أجابه بعد لحظة من الصمت:


-كمال بيه طلع ليه ابن تاني.


تفاقمت عقدة حاجبيه في عدم استيعاب، وسأله في استغراب:


-ابن تاني! ازاي ده؟


اتسعت بسمة "مجد" قليلا وهو يخبره بما ضاعف الفضول بداخل والده:


-لا ده الموضوع كبير ويطول شرحه.



❈-❈-❈

بدا الحفل في مظهره وديكوراته الراقية، والمنظمة، كأنه حفل زواج مجهز من كافة التحضيرات، وليس مجرد حفل لعيد ميلاد، كانت تتناسى الاحتفال به خلال السنوات الماضية، فقد عملت الأيام السابقة على قدم وساق حتى تخرج كل تفصيلة فيه بشكل دقيق، ويجذب الأنظار، وكانت اللحظة التي غمرتها السعادة فيها، حينما صرح "عاصم" بزواجه بها، وتعلل بتأخره في إشهار الأمر، بعدم رغبته في انتشار نبأ زواجه للصحافة والإعلام، محافظا على خصوصية حياته، بعيدا عن الضوضاء، والأعين المتداخلة في كافة شئونه، ولكن مع مولد طفليه، قرر أن يشيع الخبر، ويعلنه إلى الجميع، حتى لا يتفاجأ أحد بمحض الصدفة، وتُثار الغرابة بداخلهم آنذاك، أمسكت "داليا" كف "عاصم" المجاور لها، ونظر في عينيه بعينيها التي كتنت تلمح بوهج السرور، وأخبرتها بسعادة شديد:


-أنا فرحانة أوي، ميرسي يا عاصم على الparty (الحفلة).


تعلقت عيناه بابتسامتها الواسعة، والمعبرة عن فرحة لم تتشكل على محياها إلى تلك الدرجة من قبل، منع نفسه من الانسياق خلف تأثره بجمالها البالغ تلك الليلة، وبشبح ابتسامة بالكاد ظهرت على وجهه، علق في تريث:


-أنا معملتش حاجة فيها، انتي اللي عاملة كل حاجة.


ضمت جسدها إليه وسط الخضم من المحيطين، كأنما تؤكد للجميع ملكيته له، وتظهر الانسجام العاطفي بينهما، والذي لا يشعر به سواها، فهي تراه وليف روحها، وأنيس قلبها، وسكناها، وبنعومة صوتها الرقيق قالت له:


-كفاية إنك جنبي وبتحتفل معايا بيه، ده كفاية عندي يا عاصم.


وضع يديه فوق ظهرها، ليلصقها به في ضمة ظهرت للكاميرات التي تلتقط لهما الصور، عاطفية، ومليئة بالمشاعر القوية المتبادلة بينهما، من ناحية لم يرِد أن تظهر الصور في شكل يدفع الظنون في علاقتهما، ومن ناحية أخرى شعر داخليا برغبة في ضمها، فبين كل الموجودين حولهما ليس له سواها، انفرجت شفتيه بابتسامة عذبة، إثرا لتلك البسمة الواسعة المظهرة لنواجذها، فإشراقة محياها تذكره بالطفلة التي نشأت وكبرت أمام بصره، إلى أن اختالت وتفردت بكل ذلك الجمال لنفسها، فصل تواصلهما البصري، والوجداني، صوت أنثوي آتيا من جوارهما، مهنئا "داليا":


-كل سنة وانتي طيبة يا داليا هانم.


ابتعدت "داليا" عن زوجها، وما إن نظرت نحو مصدر الصوت، حتى عقدت حاجبيها في استغراب من عدم تعرفها عليها، ولكنها ردت عليها على كلٍ، بلهجة اتضح فيها قليل من التحير:


-وانتي طيبة.


انزعجت تعبيرات وجه "عاصم" عندما أبصرها، أو بالأحرى عندما وقع الصوت على سمعه، فقد كان ل"مي شاهين"، حملت نظراته التعجب من مجيئها، فهو لم يقم بدعوتها، وزوجته ليست على علم بها، حينما طال الصمت المشبع بمشاعر متغايرة تختلج كل منهم، أخبر "عاصم" زوجته المطالعة للأخرى بنظرة حيرى، معرفا عن هويتها:


-مي شاهين، كانت زميلتي في الكلية.


حولت "داليا" نظرها إلى زوجها في صدمة، احتلت عينيها الجاحظتين، ولكنها ما لبثت أن انتقلت ببصرها إلى الأخرى حينما أضافت ببسمة منمقة:


-وكنا صحاب من واحنا صغيرين.


شعرت "داليا" بغليان الدماء في عروقها، وتلون وجخها بحمرة نارية، من تجرأها على المجيء إلى بيتها، والتحدث إليها بتلك البساطة، كأنما لم تكن الحبيبة السابقة لزوجها، حافظت على هدوء ملامحها، حتى لا تظهر غيظها، وفي تلك اللحظة انتشلها من وطأة تلك المفاجأة الصادمة، صوت صديقتها قادما من الخلف:


-داليا.


التفتت بنظرها إلى موضع الصوت بلهفة واضحة، وارتسمت بسمة محبة على وجهها لرؤيتها ل"رفيف"، فمع تأخرها ظنت أن زوجها منعها من الحضور، طغى السرور على وجهها، وقبل أن تتوجه نحوها، قالت للأخرى باقتضاب:


-Nice to meet you (سررت بقائك).


تراءى ل"مي" عدم ترحيبها بوجودها، وتوقعت أن يكوم السبب عائدا لمعرفتها بشأن علاقتها الماضية ب"عاصم، رسمت ببسمة متكلفة على شفتيها، وردت عليها:


-Me too (أنا أيضا).


ظلت "مي" صامتة ريثما ابتعدت "داليا" عم محيطهما، وأردفت بلهجة هادئة بها بعض الاستنكار:


-مش صغيرة شوية عليك.


ضاقت عيناه وهو ينظر لها بضيق طفيف، وسألها في جمود:


-هيفرق معاكي في حاجة؟


مطت شفتيها بحركة تلقائية، تبعها قولها بتوضيح:


-لا ابدا، بس متخيلتش مراتك تكون في سنها، دي شكلها طفلة.


ظلت تعبيراته عابسة، فاترة وهو يعلق عليها بنفس الأسلوب:


-الطفلة دي أنا مخلف منها اتنين.


أطبقت على شفتيها في حرج، ثم تابعت في استنكارها الغريب:


-غريبة يعني، واحد في مركزك وسنك دي اللي تلفت نظره.


لم يستسغ طريقتها في التحدث عن زوجته، وعقب باستهجان:


-على أساس إن دي وحشة!


لم يسمح لها بالرد، وأكمل بكلمات تحمل إيحاءً، بطريقة باعثة على الاستفزاز:


-أنا بصراحة مش شايفة إن في ست في الموجودين كلهم في جمالها.


تصاعد الغيظ إلى تعابيرها من تلميحه الصريح، وتكلمت بصوتها المشبع بالكبر والغطرسة:


-مش موضوع جمال، أنا بتكلم عن الgeneral appearance (مظهر عام)، يعني واضح إنها مش في نفس مستواك فكريا، ده غير إن أنا مش حاسة إن في أي chemistry (كيمياء) بينكم.


اربد وجهه من إصرارها على التقليل من شأن زوجته، وقال لها في تجهم ناهيا ذلك النقاش:


-دي حاجة ترجعلي أنا.


ازدردت في مزيد من الحرج، من طريقته الغريبة عليها كليا، تظاهرت بالحزن وهي تدنو منه، وضعت يدها في لمسة متريثة فوق ساعده وهي تسأله:


-عاصم أنت مش حابب وجودي؟


على بعد مسافة ليست بالكبيرة منهما، أمسكت عينا "داليا" بلمسة الأخرى لذراع زوجها، فارت الدماء في عروقها، واشتعلت عينيها بشرارات الغضب، الذي لم يخمد قليلا إلا عندما أبعد "عاصم" ذراعه، واضعا يده في جيب بنطاله، وأجابها بصوت متجافي يحمل عدم العبء بها:


-لأ عادي، وجودك مش مضايقني في حاجة، زيك زي باقي الضيوف.


بهتت ملامحها من الأخير من كلماته، واستنكرته في شجب لائم:


-زيي زي باقي الضيوف!


ضاق ذرعا من لغوها الفارغ، فهو ليس بالغبي أمام ما تحاول الوصول إليه، نظر لها في حنق، واكتسب صوته صرامة وهو يخاطبها:


-مي، اللي كان بينا زمان مش هيرجع، متضيعيش وقتك في الفاضي.


انشق ثغرها ببسمة مغترة، ثم حدثته في نبرة لعوب يتفشى بها مكر أنثوي:


-مين قالك إن انا بحاول ارجع اللي كان بينا زمان؟ إلا إذا كنت انت اللي بتفكر في كده.


زفر نفسا مطولا هو يشيح بنظره عنها، ربما المرة السابقة المفاجأة تملكت منه، وعجز عن التعامل بالطريقة الواجبة، مع امرأة هجرته، ودعست مشاعره بقدميها، ومضت قدما في حياتها، ولكن ما يزعجه هو تحكم جمالها الصاخب بنظراته، على الرغم من إبعاد عينيه عنها، تحرك بؤبؤاه صوبها، عندمت هتفت في حماس:


-سامع، ?Our favorite singer, remember (المغني المفضل لدينا، أتذكر؟)


نظرت له بنظرات غنجة، يحفظها عن ظهر قلب، وتابعت في رقة:


-الأغنية دي أنا بحبها أوي، إيه رأيك نرقص سوا؟


كز على أسنانه من محاولاتها الواضحة، في تذكيره بماضيهما معا، وغلف صوته الجفاء وهو يرد عليها:


-مبحبهاش، في حاجات كتيرة مبقتش احبها، ومن ضمنها المغني ده.


حاد بحدقتيه لحظيا إلى زوجته، واجدا عينيها مثبتة عليهما، تحفز في وقفته ثم أضاف ببرود بعث الضيق بداخلها، وجعل الكدرة تطغي على وجهها:


-مراتي عايزاني ولازم اروحلها، المكان مكانك طبعا.



❈-❈-❈



عجز "عز الدين" عن رفع جسده الممدد على السرير، المتواجد في غرفة المشفى، الذي نقله إليه أحد المارة، الذي لمح جسده المثجى أرضا في جانب الطريق، صدفة أثناء قيادته لسيارته، لم يخبر أيا من زوجته أو والدته عما حدث، فقط اكتفى بإخبارهم بتعرضه لحادث عرضي وهو عائد من عمله، وانطلت كلماته على زوجته بالأخص  لسماعها عبر الهاتف إلى صوت الاصطدامات بسيارته، بروية انحنت بحسدها منه، وساعدته على رفع جسده، ووضعت وسادة خلف ظهره، في وضع مريح له، وابتعدت عنه وهي تقول له في حزن جم:


-ألف سلامة عليك يا حبيبي، ياريت كنت أنا وانت لأ.


ارتياعها مما أصاله ما يزال متشكلا فوق وجهها، أراد أن يبث الطمأنينة لقلبه، لذا حملت نبرته الواهنة ببعض المرح وهو يرد عليها:


-مانتي لو كنتي سيبتيني أسوق في أمان الله، كان زمانا اتغدينا ونايمين دلوقتي في بيتنا، لكن انتي فضلتي زن فوق دماغي وسرع سرع، اديني سرعت اهو ياختي، يا رب تكوني مبسوطة دلوقتي.


على عكس ما توقع، ازداد بؤسها، ولمعت الدموع في عينيهة وهي ترد عليه في نبرة آسفة:


-متزعلش مني، مكنتش اعرف والله ان ده اللي هيحصل.


مد يده وأمسك كفها الموضوع في حجرها، وأخبرها في صوت حنون:


-فداكي يا زوزا، إيه اللي حصل يعني، ده هو كسر في الإيد وشوية خدوش وكدمات.


ارتسمت ابتسامة هادئة على وجهه، مع إردافه بتلك الكلمات التي ما تزال حاملة لبعض المرح، رغبة منه في ازاحة شعورها بالذنب عن صدرها، فما حدث له لا يتعلق بمكالمتها البتة، إلا أنه خفى الأمر حتى لا يضاعف من قلقهم، تطابرت بسمة مهزوزة فوق شفتيها، سريعا ما اختفت حينما سألها بتذكر:


-فين يونس صحيح؟


ردت عليه في هدوء مستضيحة:


-وديته عند ماما، مرضيتش أجيبه عشان ميتبهدلش، وممكن يعيط لو كان شافك في الحالة دي.


ظهر الاستحسان على وجهه لفعلتها، وعقب في رضا:


-أحسن إنك عملتي كده.


نظر إلى ميمنته حيث تجلس والدته على أحد الكراسي، حينما سألته في اهتمام أمومي:


-المهم انت بخير يابني، مش حاسس بأي تعب؟


طمأنها في صوت خافت خافيا خلفه تألم متفشي بعظامه:


-الحمد لله يا ماما أنا كويس.


بعدما أتم عبارته، حانت منهم التفاتة نحو باب الغرفة، الذي دلف منه شخص كان مجهولَ الهوية بالنسبة إليهم، فرق نظراته المتريثة عليهم وهو يقول في صوت رخيم:


-مساء الخير.


ردوا جميعا عليه، في نبرة متفاوتة في علوها:


-مساء النور.


تقدم نحوهم في خطوات متمهلة، وأخبرهم في هدوء:


-أنا عرفت بالحادثة اللي حصلت لدكتور عز، وحبيت آجي اعمل واجب الزيارة بنفسي.


رحبت به "أمل" في صوت ودود:


-اهلا وسهلا بيك يابني.


قابل ترحيبها ببسمة صغيرة على وجهه، في حين حول حدقتيه نحو "عز الدين" الذي صدح صوته المتعب في ترحيب موجوز:


-اهلا بيك.


سار خطوتين نحو السرير المستلقي عليه، حدق به في تفقد لحظي، ثم قال له في صوت لين:


-حمد الله على سلامتك.


رد عليه في هدوء وهو يشير له نحو المقعد المجاور له:


-الله يسلمك، أتفضل أقعد.


توجه نحو المقعد وجلس عليه في استجابة صامتة، بينما توغلت الغرابة في رأس "عز الدين" من انتشار خبر الحادث الذي تعرض له، كما شغل تفكيره ما وصل إليه، ما تعرض له فعليا، أم ما ادعاه ولا يعلم عنه شيء غير أسرته، وتقرير المشفى، وبعد صمت دام للحظات، قرر أن يبتدئ الحديث متسائلا عن هويته، حمحم جاليا بصوته ثم سأله بتهذيب:


-متشرفتش باسم حضرتك.


رد عليه الآخر بلهجة جادة، معرفا عن نفسه:


-أنا مجد الكيلاني.



يُتبع..