-->

الفصل السابع عشر - مشاعر مهشمة٢

 





الفصل السابع عشر



مَنْع الحزن من الظهور على قسمات الوجه، رغم تفشيه بالروح والقلب، يستنزف من النفس ما تبقى من طاقتها، كان قلب "عز الدين" مليئا بالقهرة على ما تعرض له، على الرغم من تظاهره بعكس ما يجتلج صدره، فإن كان تعرض لحادث قاسٍ، ترتب عليه أكثر مما أصابه، لكن أهون عنده ألف مرة، فشعور الظلم من الأقرباء، وممن يحملون نفس الدماء، ينهش بالروح، ويدعس مشاعرها، إلى ان تصير مشاعر مهشمة، متناثرة بين تامور القلب وثناياه، استنبط "عز الدين" من مجيء "مجد"، وجود خطب أكبر مما يدعيه، خاصة أنه لم يمر على الحادثة سوى سويعات قلائل، ما لحقت خلالها أن تُشاع، حاول استخراج كلا من والدته وزوجته من الغرفة، متحججا بحاجته لتناول الطعام، فقد خشي أن يكون عند الآخر علم بما دار، وهو لا يود أن يصل خبر عنه للأولتين، لئلا يثير الارتياع في نفسيهما، التفت "عز الدين" برأسه نحوه، طالعه بنظرة هادئة، عندما قال له الآخر في استحسان:


-كويس إنك طلعتهم برا، عشان عايز اتكلم معاك.


حملت عينا "عز الدين" تساؤلات صامتة، لم يكد يتفوه بها، حتى أضاف "مجد" مجيبا على أحدهم:


-أنا عرفت من الاستقبال تحت، إنك مقولتش حقيقة اللي حصلك.


تعقدت ملامحه، ولاح الاستغراب على وجهه مما فقهه، وسأله في توجس متفاجئ:


-انت عارف اللي حصلي؟


ضم شفتيه في أسى وهو يهز رأسه بإيماءة خفيفة، ثم أجابه في اقتضاب:


-ايوه.


تنهد في حزن لم يستطع مواراته، ثم استطرد في استفسار متريث:


-طب وعايز إيه مش فاهم؟


اعتلى أمارات وجه "مجد" الجدية وهو يخبره دون مقدمات:


-عايز احذرك؟


مع تعب جسده، وإرهاق ذهنه، تعذر عليه التوصل إلى ما يوده أن يحذر منه، زوى ما بين حاجبيه في غرابة شديدة، وسأله متعجبا:


-من إيه؟ أو من مين؟


رمقه "مجد" في نظرة تحمل الأسف، وأجابه في صوت جاد:


-من عاصم، أخوك.


شرد بنظراته في الفراغ عنه، والشجن يتفرس بقلبه، في حين ظن "مجد" من صمته إنه ليس على دراية بأن الآخر هو المتسبب فيما أصابه، وبصوت متوجس سأله:


-انت عارف إن هو اللي ورا اللي حصلك؟


بدون أن يوجه عينيه المهمومتين نحوه، رد عليه في إيجاز موجوز:


-خمنت كده.


لم يكن من الصعب على "مجد" رؤية الحزن الظاهر على وجهه، أراد أن ينبهه إلى حقيقة أخيه، حتى لا تدفعه عاطفة الأخوة إلى محاولة التقرب إليه، ويستغل الآخر الأمر في إيذائه، ونصحه في تحذير وتوعية:


-عاصم مش سهل، اتقي شره وابعد عن طريقه.


حينئذ حول "عز الدين" نظراته البائسة إليه، وبانفعال مشبع بالأسى هتف في غير تصديق:


-ده اخويا، ازاي يعمل فيا كده!


بملاحظة سريعة، تراءى ل"مجد" اختلاف طباعه عن الآخر، رغم أن دمائهما راجعة لنفس الأب، فعلى ما يبدو أن صفاء قلبه، يجعله متعجبا من كيفية إقبال أخ على إلحاق الأذى بإخيه، وهنا يكمن بيت القصيدة، زفر "مجد" دفعة من الهواء، ثم علق على ما قاله:


-عاصم مالهوش عزيز، ومبيبقاش على حد أيا كان درجة غلاوته عنده.


لاح التعجب على وجه "عز الدين" من معرفته الواضحة بشخصية أخيه، بل وعلمه بأنه هو من وراء الاعتداء الذي تعرض له، ضيق عينيه في تفرس، وراح يسأله في اشتفاف:


-انت عارف كل الكلام ده ازاي؟ وعرفت منين إنه هو ورا اللي حصلي؟


بقى "مجد" على صمتة للحظة، لينتقي الكلمات التي سيبتدئ بها رده، ثم أخبره في إيضاح:


-أنا وعاصم كنا صحاب زمان، وبسبب كمال بيه تقريبا بقينا أعداء، وانا ملدوغ منه كزا مرة، عشان كده عايزك تحرص منه، بلاش تقف قصاده، عشان خاطر مراتك والطفل الصغير اللي في رقبتك.


اهتاجت أعصاب "عز الدين" من كونه مهدد، كنوع من انواع تضييق الخناق عليه، حتى يتنازل عن أقل حقا من حقوقه، ولكنه أبى أن يظهر في إطار المغلوب على أمره، وينفذ مطلبه، حتى يلوذ بحياته، ويدرأ عنه شروره، وصاح في غضب:


-أنا مش هقدر اعمله اللي هو عايزه، أنا مش هتنازل عن نسبي، عشان هو مش عايز يعترف إني اخوه ومن دمه.


لاحت امارات الصدمة على وجه "مجد"، فمن بين استنباطاته -عندما أخبره أحد رجاله، المكلف بإحضار أخبار ذلك الوغد، بما حدث- لم يتوقع أن يكون ذلك السبب فيما اقترفه "عاصم" في الماثل أمامه، فما جال بذهنه أن يكون طالب الأخير بالانتقال للعيش معه في فيلا والدهما، وإدارة الشركات معه كأخ له، ولحقد الأول وبغضه، رفض الأمر، حتى يبقى هو في المقدمة، والنجاح ينتسب إليه هو، ولكن من الواضح أن تفكير "عاصم" المليء بالشرور، أفقده عقله، وخيل له أنه يستطيع فرض سطوته على الجميع، والحصول على الإذعان التام لما يريد، طالما يلجأ إلى حيل شيطانية، وإيذاء يطول من يعترض رغباته، دون أن يأخذه بأحد أي شفقة.



❈-❈-❈


المحب، الذي لا يسمح للحزن بأن يستوطن قلبه محبوبه، ولا يتوانى في محق كل ما يدفع الشجن لأعماقه، لن يرتضي في أن يكون هو المتسبب فيه، حتى وإن كان لديه كامل الحق في أسبابه، حينئذ إما أن يصل معه إلى حل مرضٍ لكلا الطرفين، أو يتراجع عن موقفه ويخنع إلى رغبة محبوبه، رق قلب "جاسم" مع انسياب دموع زوجته، ولم يجد حلا في خضم بكاءها الصامت، إلا أن ينحرف بسيارته إلى طريق فيلا ذلك البغيض، حيث يُقام حفل عيد ميلاد رفيقتها، حتى يتخلص من احساس الاختناق الذي يراوده، كلما أبصر دموعها، تقدم منها أثناء وقوفها أمام خزانة ثيابها البيتية، بعدما أخذت منها قطعة ارتدتها بعد أن اغتسلت، متهيئة إلى توجهها إلى الفراش، انتبهت آنذاك، إلى صوت زوجها آتيا من خلفها، وهو يقول ببعض الغيظ متهكما:


-تقريبا كده انتي بقيتي مستغلية دموعك في إنك تمشي كلمتك عليا.


التفتت إليه وثغرها متقوس ببسمة صغيرة، بداخلها كانت راضية، لاكتراثه بها، وعدم استخفافه بدموعها، وردت عليه برقة وهي تسير نحوه:


-على فكرة أنا روَحت معاك ومطلبتش أروُح تاني، انت اللي فجئتيني واحنا في العربية لما غيرت طريقنا لطريق فيلة عاصم.


امتعض وجه "جاسم"، ورفع إحدى يديه مخللا أصابعها في مقدمة شعره، معيدا خصلاته إلى الخلف في ضيق، وانقلبت شفتيه رادفا في انزعاج:


-ممكن متجيبيش سيرته قدامي، كفاية إني اتحملت ابقى في مكان واحد معاه.


منعت بسمة من التسلل إلى شفتيها، فرؤية ملامحه المغتاظة، دائما ما تقودها إلى الضحك، أيا كانت الأسباب، بينما تابع هو على نفس المنوال:


-لا والبجح جاي يسلم عليا، ويقف معايا كأننا اصحاب وحبايب، ومفيش أي مشاكل بينا.


لم يفوت "عاصم" الفرصة، في إحراق دماء الآخر، واستفزاز أعصابه، فقد آتته على طبق من فضة، ومن الغباء ألا يقتنصها إلى صالحه، أثناء بقاء "جاسم" بقرب أحد الطاولات، يترقب المكان حول زوجته، الواقفة امام مرمى بصره، بصحبة صديقاتها، في خيفة من أن يتعرض لها أحد، استمع إلى صوت بغيض، يعود إلى شخص يفوق بغاضة الصوت بمراحل، آتيا من جواره، مرحبا به ببرود سمج:


-اهلا وسهلا يا جاسم باشا، إيه المفاجأة العظيمة دي.


حول نظراته الناقمة إليه، وبعد زفرة حانقة لدرايته بتلونه، وعدم ترحيبه به بدافع الود المبتذل الذي يتظاهر به، رد عليه في اقتضاب فاتر:


-اهلا.


توقف "عاصم" قبالته، وانفرجت شفتاه ببسمة باردة، وأخبره في تريث يثير الأعصاب:


-طب راعي حتى إنك في بيتي، ورد عليا بإسلوب احسن من كده.


تجهمت ملامح الآخر، وعبرت عن كراهيته البينة له، وهتف في تحفز فظ:


-ده اللي عندي إذا كان عاجبك، وعدي الليلة من غير مشاكل، لحد ماخد مراتي وامشي من هنا.


حانت من "عاصم" التفاتة نحو موضع زوجته، والمجاور لها زوجة المجاور له، وعلق بنفس الطريقة المنفرة:


-آه انت جاي bodygard (حارس) لرفيف؟ على العموم متخافش عليها مش هعملها حاجة.


اشتدت عضلات وجهه، وتوحشت نظراته، وكبت عصبيته وهو يعقب بشراسة:


-انت متقدرش تعملها حاجة.


شعر بالرضا بداخله، كونه نجح في غليان دمائه، مط شفتيه قبل أن ينطق في عنجيهة فجة:


-في الحقيقة أنا مش عايز، لكن لو على اللي اقدر اعمله، فانا اقدر اعمل كتير وانت شوفت بنفسك.


ظهرت شبح ابتسامة على ثغر "جاسم"، تبعها تساؤله الذي يحمل التذكير للآخر:


-انت ناسي اللي معانا ليك ولا إيه؟


تطرقه إلى ذلك الأمر أوغر صدره، وبعث بداخله البغض تجاهه، ورغم ذلك رسم الهدوء على وجهه وهو يرد عليه:


-لأ مش ناسي، ومتفكرش إنك هتلوي دراعي بيه انت ولا مجد، كل الحكاية إني قررت اعمل هدنة، مجد اتبهدل معايا السنين اللي فاتت، كفاية عليه كده، وانت كمان ملكش ذنب تدخل في عداوة ملكش يد فيها.


اصطكت أسنان "جاسم" في غضب مكتوم، وعيناه لا تنفك تلقيه بسهام العدائية، التي أحرقها "عاصم" بنيران حقده، وشرارات غله، قطع حرب العيون الضارية الدائرة بينهما، مجيء "رفيف" المتعجل، عندما أبصرت وقوفهما معا، فقد خشيت أن ينشب بينهما شجارا، زوجها متحفزا له بالأساس، أمسكت ساعد "جاسم"، وسألته في تفقد قلق:


-في حاجة يا جاسم؟


ناظرها "عاصم" بنظرة لئيمة، وأناب عن الآخر الإجابة، بلزاحة شديدة، مرددا بمحبة زائفة:


-ده أنا وجاسم كنا بنتكلم شوية لحد انتي ماتخلصي مع داليا، قلت أسليه بدل ما يقف لواحده، واهو اطمنه اني مش جاي عندك بدل ماهو كان عمال يتلفت حواليه وتاعب رقبته.


تداركت من كلماته الموحية، أنه يحاول العبث بأعصاب زوجها، الذي كور يده بقوة حتى ابيضت مفاصله في ثورة، يمنع بجهد جهيد اندلاعها، فهو لا يضمن عواقبها، غير آبها في خضم ذلك إلا بزوجته، اعتلى عينا "رفيف" الضيق، وهي ترمق تأهبه في وقفته متابعا في استلذاذ باستشاطتهما:


-وبما إنك بقيتي معاه، هروح بقى انا أشوف باقي الضيوف، خدوا راحتكم.


انبجثت معالم الضيق على وجه "جاسم"، فمجرد تذكره بوقع صوت ذلك البغيض على أذنيه، يجعل جذوة الغضب تشتعل بداخله، وتفور سائر أعصابه، نفخ في ضيق انتشر، واستبد بصدره، وصرح صوته به وهو يدمدم:


-كائن مستفز.


كان مترائيا لها علامات الضيق الذي ما يزال يختلجه، فهي تعلم أنه أكره ما لديه رؤيته، لذا أرادت أن تصرف ذهنه عن التفكير به، وتكافئه على فعله، ولم يكن أمامها سوى طرقها الأنثوية، التي تأتي بنتاجها على الدوام، دنت منه، وحاوطت عنقه بذراعيها، وهمست بابتسامة غنجة أمام وجهه:


-متشغلش بالك بيه بقى وركز معايا أنا.


أطبق بيديه فوق خصرها، ونظراته حملت اشتهاءً واضحا، فقد اشتاق للتقرب لها، والتنعم بكل ما بها، خاصة وأنها انشغلت عنه الايام الماضية بدرجة كبيرة، لاختزالها كامل طاقتها في الاستذكار، حتى تتخطى امتحاناتها بنجاح، حدق بها بحزن زائف، وقال بقليل من التبرم، لإهمالها له اليومين الماضيين:


-هو انتي يعني مركزة معايا، مانتي بقالك يومين مطنشاني.


مسحت بظهر يدها فوق جانب ذقنه بتريث، ثم همست برقة بها مزيد من الإغراء:


-مانت شايف كنت مشغولة ازاي في المذاكرة والامتحانات.


تقوست شفتيه ببسمة جذابة، دائما ما تخطف قلبها، قبل عينيها، وبينما يديه تجوب بحرية فوق منحنياتها، التي اكتسبت قليلا من الوزن منذ زواجهما، جعلها تزداد جمالا وإثارة في عينيه، علق بعبثية:


-والامتحانات خلصت.


أزادت من التصاق جسدها به، وبصوتها الخافت، غمغمت بنعمومة، حركت الكامن بداخله، وأثقلت أنفاسه:


-ورفيف فضتلك.


دنا برأسه من شفتيها، التقمهما في نهم خالص، بث إليها بحرفية شديدة أشواقه، وسبحت هي برغبة مديدة في بحوره، وقبل أن ينغمسا بكامل جوارحهما، في لقاء مفعم بكل المشاعر المستعرة بداخل عروقهما، همس بالقرب من أذنها، بعاطفة قوية مشبعة بشهوة طاغية:


-بحبك أوي.


❈-❈-❈


فقدان السيطرة على التحكم في الأعصاب، إما ان يكون ناتجا عن تراكمات، أو ربما قد سبقه صدمات، وفي سائر وجميع الحالات، غير محمودٍ العواقب والتبعات، دلفت "داليا" غرفتها، بعدما انتهى الحفل، ورحل جميع الضيوف، هيئتها كانت توحي بإعصار قُمعي من النار على وشك الهبوب، ففكرة قبول تواجد الحبيبة السابقة لزوجها، بداخل أسوار بيتها، مرفوضة رفضا قاطعا؛ أن تستعرضها حتى في رأسها، اتبع ولوجها بعد عدة دقائق مجيء زوجها، انتظرت ريثما أغلق الباب، وبعد أن سار عدة خطوات في مجازها، صدح صوتها المعبأ بالغليل:


-إيه اللي جاب اللي اسمها مي دي هنا؟


كان متوقع لديه تساؤلها عن ذلك الأمر، فنظراتها المستشاطة طوال الحفل، منذ قدوم "مي"، تنبيء باندلاع حريق لن تنجو منه، تلك الضيفة التي لم يكن مرحبا بتواجدها في حفلتها، تقدم منها بخطوات متباطئة، وبدون أن تتغير تعبيرات وجهه من سؤالها الذي يحمل ايحاءً بين طياته، أجابها بهدوء:


-معرفش.


استنفذ رده البارد، ما تبقى من ذرات تحكمها بأعصابها، اقتربت منه وعيناها تقدحان ا شررا، ودمدمت باستهجان شديد:


-يعني إيه متعرفش؟ إيه جت لواحدها!


توقف قبالتها، وناظرها بعينين ثابتتين لا يرتد لهما طرف، عبرت ملامحه عن الجمود رغم انزعاجه من ارتفاع نبرة صوتها عليه، وحتى لا تثور ثائرته عليها، لفت نظرها بهدوء إلى ذلك الأمر قائلا:


-انتي مش ملاحظة إنك بتعلي صوتك عليا؟


كأنما قد فقدت القدرة على تثبيط انفعالها، وما عادت ترى غير صورة تلك المرأة وهي تتودد إلى زوجها، وتتغنج عليه في وقفتها، وبعلو صوتها هدرت في غضب عظيم:


-أنا لسه معلتش صوتي.


مع تتمة عبارتها؛ صاح في خشونة بصوت يفوق علو صوتها علوا، هاتفا باسمها بتحذير صريح:


-دااليا.


هزت رأسها في رفض لارتضائها بالأمر الواقع إذعانا له، وزعقت بهياج مشبع بنيران الغيرة:


-لأ يا عاصم مش المرادي، أنا استحالة أسكت على دخول الست دي بيتي.


احتقنت عيناه من عصبيته التي نجحت في استثارتها عن جدارة، وقابل كلماتها بصراخ مماثل يمتزج بغلظة صوته وهو يلوح بإحدي يديه أمام وجهها:


-ده بيتي أنا، وأنا اللي أقول مين يدخل ومين ميدخلش.


رفعت يدها ووضعتها أمام صدرها، مشيرة نحو نفسها وهي تعقب في استنكار:


-وأنا مراتك، إيه مليش أي لازمة في حياتك؟ لدرجة إنك تعزم اللي كنت بتحبها على عيد ميلادي.


اشتدت عضلات وجهه، من تصميمها على اتهامها له بجلب الأخرى، ونفى بعصبية مفرطة وصبر نافذ:


-معزمتهاش.


لم تهدأ حدة ثورتها مع جوابه، بل اتقدت، وازدادت اشتعالا، وسألته في عدم تصديق ساخط:


-امال إيه اللي جابها؟


نفخ في ضجر ممتزج بغضب عظيم، وأخبرها في لهجة حادة قبل أن يزيحها بيده عن طريقه:


-قولتلك معرفش.


لم يكد يتخطاه بخطوتين، حتى هتفت بإصرار على اعتقادها المغلوط:


-معنى إنها تيجي لغاية هنا يبقى انت لسه على علاقة بيها.


وجد أن صراحته غير مجدية معها، وبما انها مصرة على تكذيبه، فلينهي ذلك النقاش بما تحاول جعله يعترف به قسرا، وبدون أن يلتفت إليها، قال لها بغير اكتراث لما ستخلفه عبارته بداخلها:


-آه لسه على علاقة بيها.


تدلى فكها في صدمة من اعترافه المجرد من المبالاة بها، فارا الدماء بعروقها، وتقدمت منه وأمسكت بذراعه، وأدارته إليها في انفعال، وسألته بدهشة حانقة:


-وأنا! أنا إيه بالنسبالك؟


أغتاظ من فعلتها، ونفض يدها عن ذراعها في عصبية، وأجابها بكلمات قاسية، مهينة لأنوثتها، وباخسها حقها كزوجة له:


-انتي أم ولادي وبس، وبلاش تدي لنفسك حقوق أكتر من كده.


رفعت عينيها في ذهول صادم، وسألته في غير استعاب:


-يعني أنا مليش حقوق عندك؟


حدجها بنظرة غير آبهة بما لاح فوق وجهها، وبما سيغرز في قلبها، من سهام كلماته القاتلة، ورد عليها بصلابة:


-لأ ملكيش، انتي هنا حاضنة لولادي بس، ملكيش أي حقوق عندي.


ابتلعت مرارة كلماته في حلقها، وقد كانت كالعلقم المر الذي تحاملت على نفسها ازدراده، لقد أهان أنوثتها، ومزق كبريائها، ولم تجد من بين طوفان حزنها، وسيلة لاسترداد كرامتها غير أن ترد له الصاع بصاع، وبجمود يتنافى مع الرجفة التي اصابت صوتها، أخبرته:


-تمام، وانت برضه ملكش حقوق عندي.


قطب جبينه بغير فهم لمقصدها، واستفسر بتعبيرات مستغربة:


-يعني إيه؟


تمسكت بآخر طاقة تحمل لديها، لكي تظهر في صورة ثابتة، وقالت له في استيضاح متحدٍ:


-يعني مش هتقرب مني تاني.


لم يلقَ استحسانه أسلوبها المتباري معه، ومنطاحته الند بالند، انقلبت سحنته، وانفرجت شفتيه ببسمة متهكمة وهو يخبرها في برود:


-ده بمزاجي أنا.


برقت عيناها في عصبية مضاعفة، واستهجنت ما قاله بانفعال شديد:


-لأ مش بمزاجك، أنا مش جارية عندك، وقت متحتاجني تلاقيني بين ايديك، ولما تشوف غيري ترميني تحت رجليك، وبما إنك هتشوف حياتك، فأنا كمان هشوف حياتي.


تطرقها إلى نقطة محظورة في آخر كلماتها، جعلت شرارت الغضب تندلع من عينيه، حدجها بنظرة مهيبة، ودنا منها وهو يهسهس أمام وجهها بنبرة غير متساهلة:


-لو معنى كلامك اللي أنا فهمته هتبقى ليلتك سودا ومش معدية النهارده.


رغم اهتزاز جسدها برعشة أصابتها خيفة من تحول هيئته، إلا أنها تابعت في موقفها الغير خانع لرغباته دون الاعتبار بحقوقها في حياته، وأكدت على ما فقهه، بثبات وحزم:


-أيوه يا عاصم هو اللي في دماغك، زي مانت بتخوني أنا كمان هخونك.


مع قولها الأخير حتى غادر حلقها صوت تأوه صارخ، لتلقيها صفعة مدوية على وجنتها، تبعها قبضه على خصلاتها، جاذبا إياها بغلظة نحوه، وفح أمام وجهها، بشراسة مخيفة:


-ده أنا أدفنك حية يوم ماتفكري تعمليها.


صرخة أخرى تفلتت منها، مع قوة شده لشعرها، رفعت يدها محاولة فك قبضته عن خصلاتها، وصاحت بنحيب مهتاج:


-طلقني يا عاصم أنا معدتش بحبك.


ضاعف من قوة مسكته لشعرها، وجذبه نحوه حتى أصبحت أذنها بجانب فمه، وبدون أن يأخذه بها شفقة، أو يرق قلبه لصوت بكائها المتألم، دمدم بقساوة:


-حتى دي مش هتنوليها، ومتزوديش في الكلام عشان مخلكيش تكرهيني على حق.


دفعها من أمامه ساقطا جسدها على الفراش، آنة متألمة غادرتها بصحبة بكائها الهستري، وفي حين اتخذ بعض الخطوات نحو باب الغرفة، صرخت في انهيار شديد:


-رايحلها، اتفقت معاها هتقابلها فين؟ برا ولا هتاخدها على شقتك علطول؟


استدار نحوها، وتقافزت النيران من عينيه وهو يخبرها على نفس المنوال القاصد به إيلامها:


-آه رايحلها، هقابلها مكان ما هقابلها، وانتي لا ليكي فيه ولا ليكي حاجة عندي.


شعرت غليان يكوي قلبها، وصدع أصاب روحها، ولكن نيران غيرتها قد أعمتها، واستنفذت صبرها، وهدرت به برعونة:


-في ستين داهية انت وهي.


عاد أدراجه إليها، وكادت يده تصيب موضع معين في جسدها بضربة قاسية، إلا أنه تراجع عندما شهقت بخوف وتكورت على نفسها، في محاولة لحماية جسدها من بطشه الأهوج، كز على أسنانه في غضب مما دفعه غباءها إلى اقترافه بها، وضرب بيده الفراش بجوارها، وزأر بخشونة أزادت من ارتجافة أوصالها:


-أنا لحد دلوقتي ماسك نفسي عنك، اتقي شري احسنلك.


رفعت وجهها إليه، وطالعته بعينيها الدامعة، بانكسار شاع في قلبها، حز في قلبه نظرتها، ومزقه ندمه في لحظتها، إلا أنه لم يظهر غير الجانب القاسي منه، وهو يستقيم في وقفتها، ضبط هندام سترته، وشيعها قبل أن يستدير بنظرة جامدة، وهو يقول لها بفتور:


-أنا خارج بدل مارتكب فيكي جناية، وأنا بقيت على أخري منك، بس لو رجعت ولقيت نفس الاسطونة، هتزعلي مني بجد يا داليا.


تابعت خروجه بعينين تسحان الدموع في غزارة، ومرارة، ومع غلقه باب الغرفة حتى انهار ثباتها، وهُدِم، وواراه رماد قلبها الذي حُرِق، دفنت رأسها في الفراش، تبكي بأنين صارخ، ونهنات بكاءها تعلو، وترتفع، لم يكسر فقط قلبها، فقد دعس أنوثتها، وحطم كبريائها، وفي خضم ما تحملته حتى تحصل على مكانٍ في حياته، أشعرها بدونيتها وعدم عبئه بقيمتها كزوجة له، صرخت، وهاجت، وظلت لوقت غير معلوم تبكي؛ بحرقة من هو لسائر أهله توا فاقد، ففي قرارة نفسها، أضحت الصورة واضحة أمامها، هي لن تكون غير جسد يشبع غرائز زوجها، وحاضنة تبث العطف والحنان لأبنائها.


يُتبع...