-->

الفصل الخامس عشر - مشاعر مهشمة - الجزء الثاني



الفصل الخامس عشر


التغاضي عما يثير الغضب داخل النفس، من أصعب ما يمكن حدوثه، فثورة المشاعر المتضاربة، والتي يترأسها الغضب، يستحيل أن تُخمد دون تنفيس عنها، وحينئذ سيكون البحث عن أول فرصة لوضع جام الغضب عليها، هو الغاية، والوسيلة، لتخطي حالة الاهتياج المستبدة بسائر الخلايا العصبية، عاد "عاصم" إلى الفيلا، بعدما غادر مكتب المحامي، وأنهى تلك المقابلة التي لم تسِر وفقا لترتيبه، تشبيهه بطباع والده، التي لطالما بغضها، وكره نفسه التي تحمل من بعضها، كان أسوأ ما ألقي على سمعه آنذاك، ربما رؤيته ل"عز الدين"، لم تكن بهذا السوء، وربما إن كان اعتراضه على عرضه كان مجردا من ذلك الجزء، لمَا شعر بتلك الضغينة في قلبه ناحيته، لقد اختار عداءه، دون حتى أن يقتنص فرصة نقاشه الودي، ويصل معه إلى حلٍ مرضٍ للطرفين، فليتحمل إذن نتيجة اختياره، نظر "عاصم" إلى ساعة يده، ليجدها قد قاربت على الثامنة مساءً، لقد مر أكثر من ساعة منذ عاد من الخارج، وها هو جالس الآن في انتظار زوجته، التي قاربت على الأربع ساعات لها خارج المنزل، كما أخبرته العاملة عندما استفسر منها بعد عودته، حاول كظم غيظه، والتحكم في ظنون رأسه، ريثما تعود ويعلم منها أين كانت كل تلك المدة دون إخباره، تحرك بؤبؤاه نحو باب الغرفة، الذي فُتح وولجت هي من خلفه، بدون حتى ان تنتبه إلى وجوده في الداخل، سألها قبل أن تغلق الباب، بصوت جامد يظهر به غضب مكبوت:


-كنتي فين؟


انتفضت في وقفتها من انخضاضها لسماع صوته، فالغرفة كانت معتمة، ولم تنتبه بين الضوء الخافت بها إلى وجوده، أنارت المصابيح من المقبس المجاور لباب الغرفة، وتظاهرت بالثبات وهي تغلق الباب، رغم ازدياد نبض قلبها من فزعها، وأجابته بهدوء وهي تسير نحو غرفة الثياب:


-كنت عند الدكتور.


أنزل ساقه عن الأخرى، وانحنى في جلسته إلى الأمام قليلا، وسألها بنبرة توحي بالتكذيب:


-كنتي عند الدكتور بقالك أريع ساعات؟


التفتت إليه، وطالعته بنظرة مستغربة من تساؤلاته الغير معتادة، واستفسرت في شيء من الاستنكار:


-في إيه يا عاصم هو التحقيق؟


تحكم في جذوة غضبه المستعرة، وعلى نفس الشاكلة رد عليها:


-آه تحقيق، لما الهانم تخرج من البيت من غير ماتعرفني وتفضل برا أربع ساعات يبقى تحقيق.


رفعت أحد حاجبيها في استغراب متزايد، وعادت العدة خطوات التي سارتها، وهي تعلق بتعجب شديد:


-ده بجد؟ من أمتى أصلا وانت بتسألني رايحة فين وجاية منين؟ أو بتستنى مني إني اعرفك خط سيري ماشي ازاي؟ مانا كنت قاعدة لواحدي سنتين وماكنتش بتكلف نفسك تسأل عليا.


آثار أعصابه طريقة تحدثها، ومماطلتها في عدم اعطائه ردا صريحا حول وجوده في الخارج لكل ذلك الوقت، وهب واقفا وهو يحدجها بنظرة ضائقة، وهتف في صوت أجوف به بعض الحدة:


-لا يا هانم، الوضع اختلف دلوقتي.


حركت وجهها بهزة مستفهمة وهي تسأله في غير فهم:


-وإيه اللي اختلف؟


تقدم منها وعيناه تناظراها في نظرة لا تحمل التساهل، وأجابها في تنبيه صريح حاد:


-إنك بقيتي مراتي، وأي حركة هتعمليها هتتحسب عليكي.


تعجبت من أسلوبه الجديد عليها كليا، وإلى كلماته التي لا تفقه ما تحمله من مضمون، ضيقت عينيها نحوه وبنفس اللهجة المتعجبة سألته:


-حركات إيه اللي هتتحسب عليا؟ انا مش فاهمة انت بترمي لإيه بكلامك ده.


توقف أمامها وعيناه لا تفارق عينيها المترقبتين وهو يملي عليها أوامره التي يوجد بين طياتها التنذير:


-برمي للي برمي ليه، اللي عايزك تعرفيه ان دي مش وكالة من غير بواب، خروج برا بعد كده يبقى عندي علم سابق بيه، دي آخر مرة هعديها، بعد كده هيبقى فيه رد فعل.


غادر الغرفة فور اتمامه لكلماته المحذرة، التي لم تستوعب "داليا" السبب وراءها، ولكن لم يخفَ عنها وجود شيء غريب به، يدعو للريبة والغرابة في نفس الآن، وذلك منذ باتت العلاقة رسمية بينهما، فهي لم تعهد منه التركيز الزائد عن الحد معها، إلا بعد زواجهما، خاصة خلال الفترة الأخيرة، حيث إنه أضحى يتساءل عن هوية من يهاتفها، ويستفسر عن صداقاتها، أمقتصره على الإناث أم يوجد لها صداقات مختلطة، والتساؤل الذي دار في رأسها هنا؛ هل هذا اهتمام طبيعي وشائع بين الأزواج؟ أم هناك سبب خفي وراء ذلك؟



❈-❈-❈


أحيانا ينبغي أن يسير الفكر على نهج شرير، فمحاربة الشر بالشر لا تعد جريمة يُحاكم عليها الضمير، إنما هي وسيلة إلى صد اعتداء الغير، ودفاعا عن هجوم شره المستطير، دلف "عاصم" إلى الغرفة الخلفية في فيلته، والتي يُوضع بها ما لا يتم استخدامه، والتي كانت محل اختيار "عاصم" لبقاء "سعاد"، إلى حين يقرر العقاب الذي تستحقه، على خيانتها لهم، وتسببها في إزهاق حياة والده، فتح الحارس الواقف خارج الغرفة الباب له، مرق إلى الداخل بخطوات هادئة، بعثت الرعب في قلبها عندما أبصرته، ارتجفت وهي تتابع سيره نحوها، ولكن خوفها لم يمنعها من استعطافه، وطلب السماح منه، علّه يعفو عنها، ويطلق سراحها، وثبت عن الارض وزحفت نحوه ببطء خيفة وهي تتوسله في إذلال:


-الله يخليك يا بيه ارحمني، أنا عرفت غلطي والله، أمي زمانها بالها مشغول عليا، والنبي سيبني اروح لحال سبيلي، وأنا مش هوريكوا وشي تاني.


بمنتهى الجمود الممزوج بالعنجيهة المميتة، أشار لها بحركة من رأسه وهو يأمرها:


-ارجعي ورا.


استجابت لأمره دون أن تنبس بحرف، خوفا من بطشه الأهوج، بينما هو سحب كرسي ونفضه من الأتربة، ثم جلس عليه وهو يضرب كفيه ببعضهما حتى يزيل عنهما الغبار وهو يقول لها في صوت عميق:


-اسمعي اللي هقولك عليه بتركيز، عشان ده هيتنفذ بالحرف الواحد، وده لو عايزه تنفدي بجلدك وتخرجي من هنا على رجليكي.


ازدردت ريقها وهي تترقب ما سيقوله، في حين كان يظهر له هلعها، لذا أراد أن يضاعف من خوفها، حتى يضمن خنوعها التام له، رفع إحدى ساقيه، ووضعها فوق الأخرى، وأكمل على نفس الشاكلة:


-بس لو خرجتي من هنا، وعرفت إنك لعبتي بديلك، أو منفذتيش اللي اتطلب منك، هجيبك ووقتها فعلا مش هرحمك.


هزت رأسها في قبول فوري، وقالت في توسل متزايد:


-هعمل والله كل اللي هتؤمرني بيه، بس أخرج من هنا أبوس رجلك.


عاد بظهره على الكرسي، وبعد صمت دام لعدة لحظات، بدأ في استرسال أوامره، وتوضيح دورها الذي ستؤديه فور خروجها، والذي سيبتدئ بمهاتفتها لذلك المسمى ب"صلاح أبو ريا"، الذي استخدمها للتخلص من والده، والذي يعلم بأنه الذراع الأيمن ل"توفيق العاصي"، ذلك الرجل الذي دخل والده في شراكه معه، في فترة تجارته في الأدوية المضروبة، والذي لم ينفك في محاولة جذبه للعمل معه، وعندما لم يجد منه استجابة لمحاولاته المستميتة، قرر التخلص من والده، لما معه من ملفات تدينهم، ولكنه لم يكن واضعا في حسبانه وجود تلك الملفات في حوزته.


 والآن بعدما أفصح له عن ذلك الشأن، لم يعد يضمن ألاعيبه، أو ما سيفكر في القيام به للتخلص منه، لذا ينبغي عليه أن يؤمن نفسه، ويكون على علم مسبق بمخططاته، حتى يتفادى غدره، وهذا بالتحديد ما ستأتي له به تلك العاملة، فتحدثها إلى "صلاح"، سيكون لمطالبته بإيجاد عملا آخرا لها، لاستغناء "عاصم" عنها، حيث إنها كانت الخادمة الخاصة لوالده، وبعد مماته لم يعدوا بحاجة لها، ومن ناحية أخرى كان "عاصم" على علم ببحث "توفيق" عن عاملة موثوق بها لإدارة شئون بيته وخدمة زوجته، ولن يكون هناك من هي أكثر منها ثقةً، بعد أن أتمت لهم المهمة المطلوبة بحذافيرها، وحينها بنسبة كبيرة سيرشحها "صلاح" لرئيسه.


وهنا سيدأ عملها الفعلي، في إعلامه بكل ما يدور في بيته، واستراقها السمع لما يتحدث فيه خلال التجمعات التي يقيمها، أو ما يمليه على رجاله، مؤكدا ستوعد عليه تلك المعلومات من ناحية أو أخرى بنفع، زفر نفسا مطولا بعدما انتهى من توضيح كيفية تنفيذها للمهمة، ضيق عينيه المتفرستين لإيماءاتها وبفتور جامد سألها:


-ها، قولتي إيه؟


كان تساؤله بعيد عن التخيير، ولكنه كان يحاول أن يستشف صدقها من عدمه من خلال رد فعلها، الذي فاجأه عندما ردت بموافقة فورية دون ملاوعة:


-هنفذ كل اللي قولته بالحرف الواحد يا عاصم بيه. 


أراد أن يزيد تأكده من ناحيتها، ثبت نظرته الغير سهلة عليها وهو يطنب متسائلا:


-ولو حصل غير كده؟


ردت عليه سريعا بنبرة ما زال يشوبها الخوف، إلا أنها تعبر عن مدى مصداقيتها:


-ابقى اعمل فيا اللي انت عايزه.


ظل لبرهة يطالع تعبيراتها المذعورة في صمت، ثم بلا أن يعلق على ما قالته، نهض عن الكرسي، وتوجه إلى الخارج، توقف أمام الحارس وهو يسأله باحترام، بناءً على أوامره المسبقة:


-اخرجها يا باشا؟


حدجه في نظرة حازمة، ورد عليه في أمر يحمل الغموض، ولكن به تكليف بمهمة أخرى على الأبواب:


-ايوه، وخلص وتعالالي عشان عايزك.



❈-❈-❈



هالة الرضيع بها استمالة قصوى لقلب الناظرين، خاصة الوالدين، حتى وإن كان أحدهما لم يعتد على إظهار مشاعره بالصورة المطلوبة، أو لم يكن بداخله ما يكفي من الحنان ليغدق به على وليده، فقوة جذب الرضيع تفوق طبيعة التعامل لدى الجميع، وتبقى السيادة للتلقائية في التعبير، مر بعض الوقت، و"عاصم" واقف بجوار سرير رضيعيه، في خضم أعماله التي لا تنتهي يتناسى أمرهما، ولكن شعور بداخله اليوم دفعه للتقرب منهما، فجمالهما الطفولي كلما أبصره، يجذبه إلى النظر لهما دون هوادة، للتمعن فيما حباهما المولى من هيئة ملائكية تسر الأعين، خلال لمساته الرقيقة لوجهيهما الناعمين، انفرجت شفتي "نائل" بحركة طفولية، جعلت ابتسامة تتشكل على ثغر "عاصم" عفويا، وبدون تفكير انحنى وحمله بين ذراعية، شقرة لونه؛ وعيناه المائلة إلى الخضرة، تجعله شبيها لوالدته إلى حدٍ كبير، على خلاف الآخر الذي أخذ منه ملامحه وخصلاته البنية، عادا عينيه التي يشعر أنها ستميل إلى الزرقة كعيني والده الراحل، حانت منه التفاتة إلى الخلف، حيث يأتي صوت زوجته، وهي تخبره ببعض المرح:


-أنا ملاحظة إنك بتحب نائل أكتر من رائف.


اعتلى التعجب نظراته، وعاد إلى النظر إلى صغيره وهو يستفسر منها بهدوء:


-ايه اللي خلاكي شايفة كده؟


وقفت بجانبه وهي تهز كتفيها بعفوية، ثم أجابته بابتسامة صافية:


-على طول بتشيله هو وبتلاعبه، رغم إن رائف في منك كتير، لكن نائل شبهي أنا.


بدون أن يحيد بعينيه عن وجه ابنه، علق عليها بنزق لم يندم عليه:


-يمكن بحب اشيله عشان كده.


توسعت ابتسامتها من تصريحه اللذيذ، لمح بطرف عينيه تأثير كلماته البسيطة على وجهها، وهو ينحني ليضع الطفل في مهده، وما إن استقام حتى دنت منه، وحاوطته بذراعيه، مستندة برأسها فوق كتفه، اقترابها لم يفشل مرة في تأجيج رغبته ناحيتها، كأنما هناك رابطا بينهما، يسحبه للغرق في بحورها الحميمية، كلما حدث بينهما أي تلاطف عادي، أو تقارب ودي، دفن وجهه في منحنى عنقها، منهالا عليها بوابل من القبل العنيفة البعيدة عن التروي، طرأ برأسها فكرة أثناء عاصفة شهوته الطاغية، أرادت استغلال رغبته فيها، لتعرض عليه الأمر، وبصوت متأثر من فوضاوية لمساته على جسدها هتفت باسمه:


-عاصم.


همهم وهو مستمر في تحسس مفاتنها، بطريقة ماكرة لجعل جسدها يخضع له، حاولت التملص بدلال من بين ذراعيه، وهي تخبره في نعومة غنجة:


-عيد ميلادي الأسبوع الجاي.


نظر لها بعينين أظلمتا من فيض الإنتشاء الذي تدفق في عروقه، التوى فمه وهو يسألها بأنفاس متثاقلة ببعض السخرية التي ظهرت في صوته:


-عايزه هدية؟


انشق ثغرها ببسمة ضاحكة، حاوطت عنقه ونظرت له بدلع أنثوي وهي تطلب منه بنفس الأسلوب المتدلل:


-عايزه احتفل بيه معاك، يعني بما إننا بقينا متجوزين وفي كتير ميعرفوش، فإيه رأيك نستغل عيد ميلادي، ونعمل party (حفلة)، ونعلن فيه جوازنا.


صمت لبرهة، كأنما يستعرض الأمر في رأسه، ربما وجدها فكرة جيدة، خاصة وأنه كان يود إشهار زواجه وأمر طفليه، حتى لا يُشاع الأمر عبر الصحافة، وينقلوه حينها بالصورة التي تحقق سبق صحفي، على سبيل سمعتهم، ولكن بتلك الطريقة سيتسنى له إشهار الأمر بالصورة التي يريدها، هز رأسه في إيماءة خفيفة وعقب في استحسان هادئ:


-فكرة كويسة.


رفعت حاجبيها في ذهول وسألته في غير تصديق:


-بجد يعني موافق؟


أومأ لها بتأكيد بهزة بسيطة من رأسه، ليظهر أمارات الحبور على وجهها، وضحكت في سعادة واضحة من موافقته الفورية، اقتربت لتقبله فوق وجنته، في حين أضاف هو بجدية:


-بس أعملي حسابك أنا مش فايق لتجهيزات..


ابتعدت عنه لمسافة قليلة، وقاطعته على الفور في حماس شديد:


-أنا هجهز كل حاجة.


رمقها في نظرة عابثة شمولية لسائر تعابيرها المليئة بالحيوية، وسألها في اشتفاف:


-وياترى إيه سر الpower (الطاقة) العالية دي؟


التصقت بجذعه، وعبثت بأنامل يدها فوق ذقنه المشذبة، وسألته في تسلية:


-تفتكر إيه؟


لا ينكر إعجابه بتدللها المتزايد اليوم، مما جعلها شهية في عينيه، كثمرة ناضجة يرغب في أكلها بشراهة، رفع حاجبه لها ورد عليها بتسلية مماثلة، نادرا ما تبدر منه:


-أنا اللي بسأل هنا.


مدت إحدى يديها، مخللة أصابعها بين خصلات شعره المستطالة، واصلة إلى نهاية عنقه كما تحبها دوما، وهمست برقة مغرية:


-حبيبي معايا، وفي حضني، ومراحش في حتة النهارده، وقاعد بيلاعب ولادنا، دي مش أسباب كافية تخليني عندي power عالية؟


تآكلت عيناه ملامحها الرائقة، المزينة بابتسامة مشرقة، عززت في ذاكرته هيئتها في السابق، وقتما كانت تحاول استمالة قلبه نحوها، وبدلا من أن يؤثر عليها هو بخبرته المحنكة مع النساء، كانت تؤثر عليه هي بنعومتها الباعثة على الإغواء، تسللت ابتسامة إلى شفتيه، وقد نجحت بالفعل في جعله يشتهي كل ما بها بشدة، وقال لها بخفوت موحي:


-إيه رأيك نستغل الpower دي في حاجة مفيدة؟


من لمساته فوق مفاتنها، ونظراته اللئيمة، أدركت مضمون عرضه، وبابتسامة واسعة أجابته في دلع جم:


-why not (لما لا).


قبل أن يدنو من شفتيها ليدمغهما بخاصتيه، همست له بخنوع يفيض بالعاطفة:


-أنا من إيدك دي لإيدك دي، المهم تفضل معايا كده على طول.


ازدادت عيناه قتامة، وبدأ في الانغماس بكامل عنفوانه معها في علاقة يجتاحها الصلابة والعنف، وكأنه أسد يفتك بفريسته، فخضوعها الشديد له لطالما كان ذا تأثيرا بالغا على كينونته الذكورية، وتقبلها لكل ما يبدر منه، كان يجعله يتزايد ويتمادى في عنفه المعتاد، غافلا عن إيلامها، وإنهاك جسدها، فهو في سبيل راحته التي يحصل عليها عن طريق بعض الممارسات العتية، يتغافل عما يخلفه من كدمات، وعلامات فوق جلدها، لتبقى هي -بكامل إرادتها- أسيرة لعلاقة مرضية، مؤذية لها من شتى النواحي، بداخلها تتمايل حيالها بين رفضها وقبولها، إلا أن رغبة قلبها، تجعلها ترضى بسائر ما يصيبها، في مقابل بقاءه الدائم في حياتها.



❈-❈-❈


دفقة من مشاعر السرور تغزو وجدانه عند سماع ضحكاتها، أو حديثها المرح عندما تكون رائقة البال، كعادة لا تفطر عنده، هاتفها في طريق عودته إلى البيت، لإبلاغها باقترابه حتى تجهز لهما طعام الغذاء، ويتفقد ما إن كانت تحتاج لشيء، هي أو طفله، يجلبه لهما في طريقه، نظر إلى ساعة يده بنظرة خاطفة، قبل أن يعاود النظر إلى الطريق أمامه، وأخبرها في صوت رخيم:


-أنا قدامي بالظبط نص ساعة وابقى عندك، متاكليش من غيري بقى.


آتاه ردها عبر الهاتف بنبرتها الناعمة وهي تقول له في استعجال:


-طب سرع شوية عشان يونس جعان.


انزعجت ملامحه قليلا، وتبدلت نبرته إلى الجدية وهو يهتف في صيغة بدت آمره:


-متأكلي يونس، هتذنبيه ليه لحد ما آجي.


همهمت في ميوعة ثم طلبت منه بغنج محبب لديه:


-طب سرع شوية عشان وحشتني.


ضحك في استمتاع بتدللها عليه، وعلق في نبرة مرحة:


-هو المهم إن أنا أسرع وخلاص.


انتقل "عز الدين" بنظره لحظيا إلى السيارة المجاورة له، فلاحظ اقترابها الشديد منه، خشى أن يرتطم أحدهما بالآخر، لذا انحرف نحو الجانب الآخر، تجنبا لأي حادث محتمل، وقبل أن يأتيه ردها، هتف في تسلية:


-وبعدين مش خايفة عليا اسرع اكتر من كده واعمل حادثة.


على الفور تكلمت بذعر وعاتبته في خوف:


-بعد الشر عليك يا حبيبي متقولش كده وانت سايق.


تراقصت بسمة ماكرة على شفتيه وهو يسألها:


-خايفة عليا؟


ردت عليه في قليل من الحنق من مزاحه الثقيل:


-بطل بواخة بقى وتعالى يلا.


عقب وهو مثبت نظره أمامه على الطريق، باستنكار مرح:


-اطير يعني! مانا سايق بسرعة أهو، أعمل إيه اكتر من كده؟


ما كاد ينهي عبارته، حتى اصطدمت السيارة الأخرى بسيارته من الجانب، شعر بالذهول من الصدمة المقصودة منها، ونظر إلى الموجودين بالسيارة، ليجدهم بعض الرجال ضخام الجثة، ويشيرون له حتى يوقف سيارته، شعر بالاسترابة مما يحدث، وأزاد سرعته، في حين استمعت الأخرى لصوت الصدمة وتساءلت في قلق:


-إيه الصوت ده يا عز؟


رد عليها بهدوء ظاهري، وهو يفرق نظراته بين الطريق، وتلك السيارة التي تتعمد الاصطدام به:


-مفيش حاجة يا حبيبتي متقلقيش.


مرة أخرى ارتج جسده من الصدمة القوية، التي جعلت سيارته تتحرك إلى الجانب المغاير، حاول التحكم في قيادتها، أمام تضييقهم الخناق عليه، وجعله محاصرا بينهم، وبين السور على الجانب الآخر، وخلال تلك اللحظات العسيرة، عقبت زوجته في هلع عندما استمعت إلى الصوت الغريب ثانية:


-مقلقش إيه، انت في حاجة بتخبط فيك؟


شتته صوت زوجته، وزاد من الضغط العصبي، لذا أخبرها في تعجل، قبل أن يلقي بالهاتف جانبه، حتى يختزل جام تركيزه على اللوذ بنفسه من الارتطام الوشيك:


-اقفلي انتي دلوقتي يا زينة.


آخر ما سمعه قبل ان يبعد الهاتف على أذنه، صوتها المرتعد وهي تستوقفه عن إنهاء المكالمة:


-عز استني في إي..


وجه نظره إليهم بنظرة لحظية، وهم ما يزالون يشوّرون له حتى يتوقف في تصميم عجيب منهم، نظر أمامه مجددا وهو يباعد قدر المستطاع بينه وبين السيارة، وصوتهم الصائح يشتت تركيزه وهم يقولون:


-وقف العربية.


توقف رغما عنه عندما تخطته السيارة وسدت عليه الطريق، وبينما يحاول أن يعود إلى الخلف، كان أحدهم قد هبط من السيارة، وأسرع إلى سيارته، ونجح في فتح باب مقعده قبل أن يشرع في التحرك، أخرجه من السيارة بعنف غريب، ولكمه مباشرة في فكه، ترنح جسده من الضربة المباغتة، ولكنه لم يكد يستفيق منها حتى عاجله آخر بضربة أخرى في جانب وجهه، تناوب عليه ثلاثة رجال، حتى خر أرضا من قسوة التعنيف الذي تعرض له، لم يتوقفوا عن اعتدائهم القاسي، بل راحوا يركلونه بأقدامهم في مناطق متفرقة من جسده، حتى شعر "عز الدين" بتحطيم سائر عظامه، حطت سحب من الضباب فوق مداركه، وعيناه أصبحت تنغلقان بشكل لا إرادي، وأثناء ذلك انحنى أحدهم نحوه، وقال بخشونة بالقرب من أذنه:


-دي قرصة ودن من الباشا عشان عاندت معاه.


قبل أن يستوعب المقصود من كلماته، أضاف آخر في صوت آجش يحمل التهديد، ليكون آخر ما سمعه قبل ان يسود من حوله غياهب الظلام:


-الباشا هيسيبلك فرصة تعيد حساباتك في عرضه، ولو فضلت مصر على موقفك متلومش إلا نفسك وقتها.



❈-❈-❈



الخيانة غير مقتصرة على الأحباء، أو الأزواج، أو الأخوة، أو حتى الأصدقاء، فهي تمتد إلى كافة العلاقات، بما في ذلك علاقة العمل، وعندما تأتي ممن يوضع به الثقة الكاملة، تكن الضربة قاضية، في أحد الملاهي الليلية، عند البار الذي يقدم عليه المشروبات الكحولية، يجلس "كرم" ورفقته المدعو ب"صلاح أبو ريا"، في مقابلة متكررة بينهما منذ فترة، فببعض الأموال الذي عرضها عليها الآخر، استطاع إغراءه، واستماله نحو العمل معهم، وأصبح واحدة من أعينهم الجساسة، فقربه الشديد من "عاصم"، وعمله بمنصب مدير الشئون القانونية في شركاته، أتاح لهم معرفة الكثير من ثغرات عمله، أنزل "صلاح" الكأس عن فمه، بعدما تجرع ما به دفعة واحدة، ثم قال للآخر بلهجة شيطانية:


-أبوه خلاص مات، وعاصم هيحتاج حد ثقة يمسكله شركات أبوه، ومش هيلاقي حد زيك.


أشار "كرم" نحو النادل، حتى يأتي لهما بكأس آخر، وعقب بهدوء غير متفق مع ما قاله:


-الموضوع مش بالسهولة اللي في دماغك، عاصم ليه عيون كتيرة هناك، وصعب أي لعب يحصل من وراه.


أمسك "صلاح" الكأس، وقبل أن يرفعه نحو فمه علق بنبرة هازئة:


-كله بالفلوس بينخ، الناس كلاب للي يدفع أكتر.


نظر له "كرم" بنظرة مطولة، كأنما لعب ما قاله في رأسه، ثم سأله بجدية:


-تفتكر؟


تقوس فمه بابتسامة لئيمة، وقال له في مكر:


-انت وشطارتك، وهنروح بعيد ليه مانت أكبر مثال أهو.


شعر من عبارته الأخيرة بإهانة مبطنة نحوه، اشتدت عضلات وجهه وهو يوبخه في غلظة:


-متخرفش بالكلام.


ارتسمت على وجهه بسمة سمجة، وأخبره في استيضاح لمقصده:


-مش القصد يعني، أنا بقول إنك عشان الفلوس بعت عاصم وبفيت معانا


تجهمت تعبيرات وجه "كرم" وهو يعلق في نفي ضائق:


-أنا مبعتش حد، كل ما فيها إني اشتريت مصلحتي.


حافظ "صلاح" على ابتسامته اللئيمة وهو يستحسن فعله مرددا:


-انت كده جدع، اشتريت مصلحتك وحياتك.


زوى "كرم" ما بين حاجبيه بغير فهم، وهز رأسه بهزة مستفهمة وهو يقول له:


-مش فاهم.


لاح على وجهه أمارات جادة وهو يوضح له مضمون عبارته:


-عاصم أخرته معاهم وحشه، وهتبقى نهايته زي أبوه.


مط "كرم" شفتيه قبل أن يستفسر بما جال في ذهنه:


-هيحطوله دوا مسمم في أكله.


التوت شفتي "صلاح" ببسمة ضاحكة، ثم تشدق في تهكم:


-انت طيب اوي.


ثم ما لبث أن أضاف في استنكار جعل التخبط الممزوج بالصدمة يجلى على وجه الآخر:


-انت فاكر إن ده السبب في موت أبوه؟


يُتبع..