-->

رواية كما يحلو لها بتول طه - الفصل الثامن النسخة العامية

رواية كما يحلو لها 

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

 


رواية كما يحلو لها

الفصل الثامن

النسخة العامية


بعد مرور ثمانية شهور..

لقد اشتقتِ أنتِ لتلك الكلمات

ولكن شوقكِ لا يُقارن بهذا القلب الذي ذاب في أعلى مراتب العشق

من أولى درجات الهوى لأعلى سُلمة في الهيام..

 

أخبرتِني يومًا بأنني بارع في الكتابة، ولكن ليس بمثل براعتك في شحذ تلك النظرات العاصفة من عينيكِ لتتغلغل بشغاف قلبي إلى أن تمزق غير عابئًا بنياطه الذي جذبته بعشقكِ لي ليُقضى عليه محترق شغفًا بلمسة من أنملتك صغيرتي..

 

صبوة ووَجد ثم كَلِف اعماني بلوعة لم يعد هناك من يُنقذني منها..

ولهان أنا؟!

ربما، لا أدري كيف لي أن أصوغ لكِ أربعة عشر درجة من العشق كما توجد في معاجم العرب، وكما مررت أنا بها معكِ..

ولو بمداد كالبحور، وكل قطرة خبت في سيلٍ منذ بدء الأرض ومن عليها

ليس هناك ما بقي في كون بأكمله قد يقارب ذرة من ود وعشرة ووَصب احتل كياني..

 

صريع أنا من نجواكِ كلما طعنني الشوق..

هل من خلاص لو استكنتُ إليكِ مذعنًا بكل كياني؟!

 

ولهت، وولعت، بين الود والهوى والهيام!

أغرمت وعشقتك فما لي سوى الاستسلام حتى ولو العاقبة موتي المحتوم..

 

رحماكِ روان، فلترأفي بي، أم تريدين أن تصبحين أرملة من مات عشقًا لحبيبته؟!

 

لقد أنهيت أربعة عشر مرتبة من الحب كما نادى العرب، ربما أمتلك حصيلة جيدة من بعض كلمات الغزل التي لا أجد بها سوى مجرد خرافات لنسخة رجل كان محظوظًا ليُبعث من جديد!

هل تستطيعين التعرف عليهم جميعًا؟!

 

صغيرتي الفاتنة مالكة قلبي الذي بات لا ينبض سوى بأمر من عينيها الساحرتين..

 

هبي على نيران تلك الشمعة بعبير جنانك المختلط بأنفاسك وأنهي تعويذتكِ التي سحرتِني بها، علينا الاستيقاظ قريبًا فها أنا أطالع أولى أنوار الصباح وليت بصري ذهب للأبد، لِمَ لم أكن ضرير؟!

لا أريد أن أرى نهار مُعلن عن نهاية حياة تمنيت أن تدوم ولكنه حلم أدرك أنني بمجرد عودتنا يومًا ما سنعايشه سويًا لآلاف المرات..

 

تساءلت بكل تلك الأيام الماضية، أما آن للحلم أن يُصبح واقعًا؟!

 

أعدك روان، ستكون هذه حياتنا للأبد..

 

مقدمة عربية ولكنني استسلمت لأوفيد يومًا عندما قال،

"الحب نوع من أنواع النضال"

 

ولأن الحب جمعني بكِ أخيرًا وآخرًا وبكلماته أولًا حتى آمنت بها

 

لكِ ما شئتِ صغيرتي

كل ما يحلو لكِ أصبح رهن اشارتكِ

 

كل ما تريدينه روان..

زواج، عمل، عشق، تلك الخرافات التي تُنادين بها، ولو أنني لا أؤمن بها بعد

ولكن ما تؤمنين أنتِ به أصبح شريعتي ومنهاجي..

 

أعلم أنكِ تنادين بجنوني، وأعرف أنني رجل بماضٍ أسود لم يقدر عليه سوى نور عينيك ليهزمه صريعًا بجنتك التي استلذت إليها كمن غُفر له عذاب الجحيم السرمدي!!

 

ولكن لو كان السبيل إليكِ هو الإيمان بكل ما يحلو لكِ فافعليها إذن..

 

قومي بالحجز وقتما يحلو لكِ لاستشارة زوجية أو معالج نفسي أو كل ما تريديه..

منذ الآن وصاعدًا، لكِ وحدكِ أن تفعلين كل ما شئتِ..

 

بعد لهيب غرامي الذي لا يخبو منذ رؤيتك وحتى تلك اللحظة التي أخط بها كلماتي، سأفعل كل ما يحلو لكِ

 

زوجك،

عمر يزيد أكمل الجندي


 ذبذبة احتلتها لجزء من الثانية وهي تطبق بيديها على هذه الورقة التي قد كتبها من أجلها في يوم ما، تحديدًا في ساعات الصباح الأولى من اليوم، وقبل التاسعة مساءًا كان بالفعل قام باختطافها حيث ذلك المكان الموحش بكل ما تحمله معها من ذكريات..

 

لقد مرت ثمانية أشهر، منذ أن بدأت أولى جلساتها الفعلية، لا الغضب يخمد ولا نوبات قلقها تتوقف، وتلك الكوابيس ما زالت تحاصرها كل ليلة، ولكن على الأقل لم تعد تحتسي الشراب مثل السابق.. ليتها لم تأتِ من أمريكا، لماذا صممت أن تتواجد بحفل الخِطبة.. كان يكفي زواجهما!

 

وضعت يدها على صدرها الذي ظنت أنه سنفجر من شدة نبضات قلبها، تشعر بالخوف مما هي مُقدمة عليه، أغمضت عينيها لعدة ثوان، ارتجاف وقشعريرة تسري بجسدها عندما تتذكر ملامحه، لا تعرف كيف ستواجه وجهه اليوم.. هذا لو حدث مواجهة!!

 

قوت قبضتها المُرتجفة أكثر على هذه الورقة، ثم فتحت عينيها وتفقدت هذه الغرفة بكل ما بها من أشياء كانت تخصها في ذلك المنزل الذي لم تمكث به سوى لأيام تستطيع عدها بسهولة، فترة إجهاضها، شهر كامل بعد عودتهما من المكسيك، والقليل من الأيام المتفرقة الأخرى.. حتى هذه الملابس لم تقم باستخدامها بالكامل بعد..

 

حاولت التنفس بانتظام، لم تكن تضيع الوقت بمينيسوتا من أجل أن تضعف الآن، لقد مرت بالكثير بالفعل، وها هي تحاول، لن تتوقف عن المحاولة.. تستطيع إصلاح كل شيء، وحتى لو نفسها ستصلحها، لن تدع عام مر مع الشخص الخاطئ في زواج غير ناجح تدمرها للأبد.. يتبقى القليل بعد وستكون بخير!

 

اتجهت لتطفأ الأنوار ثم اتجهت لغرفتها، هذا الخوف لا يريد الانتهاء، هرعت سريعًا لعقاقيرها الموصوفة ثم تناولت قرص واحد، دون مياه، مذاقه مُر، يُشابه مذاق تلك الأيام الأخيرة معه وهي تتمنى أن تنقذها كارثة كونية منه لعلها تستطيع تهشيم تلك الأقفاص أو الغرف المغلقة سواء تلك البيضاء أو الأخرى الزجاجية التي ترى انعكاسها بها وهي لا تعي ما هو الوقت ولا ما هو اليوم وكم من يومٍ مر بين فقدان للوعي وبين عذاب ظنت أنه ليس له نهاية ولا في أي مكان تكون أسيرة بعيد عن كل ما يفصلها عن الواقع.. نظرت سريعًا للجدار كردة فعل تلقائية، تُثبت لنفسها أنها حُرة، تستطيع أن تعرف ما الوقت، بتلك الغرفة التي لم يتغير بها سوى ديكور يُناسب سُنها على مرار السنوات، من طفلة، لفتاة، لامرأة.. الساعة قاربت على الثامنة، سيتأخرون، لا تريد من تكون مُفسدة كل شيء..

 

المرآة، لماذا هذه الدموع تقف كالسجان الذي يأسر مُقلتاها الفاتنتان، المزيد من الأنفاس، لحظة من هدوء، تصفية للذهن، تركيز شديد في الفراغ، لقد تمرنت على أن توقف هذه الأفكار التي تتواتر فجأة على عقلها، والآن عليها أن تبدو مثالية كما كانت دائمًا..

 

ثوب ذهبي، لا يكشف الكثير، ولا يستر الكثير، يكشف من الفتنة ويخفي من الوقاحة، ثمة خط رفيع بين هذا وذاك لطالما عرفت أن تفرق بينهما بمنتهى السهولة لتصبح أنثى فاتنة راقية، بعيدة عن العهر، وهناك مسافة شاسعة بينها وبين التكلف والظهور بمظهر عادي!!

 

ثعبان يلتف حول معصمها مطعم بالكاربونادو الأسود الأصلي، كلفها ثروة، ولكن ليس هناك ثمن لاستعادة شجاعتها والتوقف عن خوفها، قرط مطعم بنفس الماس الأسود ليُلائم ثعبانها الثمين، زينة عينيها لم تفسد بعد.. جيد.. تبدو صورة حية من افروديت، أو فينوس، أي لعنة من تلك التي شبهها بها يوم ما بطراز هذا الثوب!! رسائل بأكملها لن يفهمها سواه..

 

اقتربت للمرآة أكثر، وجهها أخيرًا لا يبدو عليه آثار البُكاء، لم تكن مشرقة هكذا يوم زفافها، وهذا الشعر البني المسترسل، التفتت لتتفقده بعد أن اكتسب المزيد من الانشات بالشهور السابقة وهي توليه عناية مُكثفة، وحركة واحدة بصخب من رأسها وهي تزيحه ليتبع أمرها في اذعان ليكشف عن هذا الوشم بذاك العقرب.. يُشابهه كثيرًا، لم تنسه قط..

 

تفقدت مظهرها من جديد، هي مُستعدة لذلك، ووجود الجميع حولها سيدعمها.. يكفي أن لديها الكثير من الأيام السعيدة القادمة.. هي سعيدة من أجل أخيها ولن تتهاون في الاحتفال بكل ما أحرزه.. ولن تتباطأ في فعل كل ما يُسعدها وما يحلو لها.. لقد ولت تلك الأيام التي أجبرت خلالها على تحمل اختناق دائم لم يسمح لها حتى بالقليل من الأنفاس في حرية!

 

طرقات على الباب استدعت انتباهها لتقبض أكثر بيدها على تلك الورقة ثم تحدثت بنبرة مرتفعة لكي يستمع من خلف الباب:

-       ادخل..

 

ولج "بسام" لتتفقد طلته التي لا تدرك متى بات بهي الطلعة وشديد الجاذبية بهذه الطريقة، شاب، متفوق، جسده رياضي، سيملك ثروة طائلة قاربت على التنازل له بالكامل عنها، وتلك الخصلات البُنية ستأسر قلوب الفتيات:

-       ايه ده، أحضر نفسي كمان شهرين هنخطبلك ولا ايه؟ ابدأ أدرب على دور الحما الشريرة!

 

اتسعت ابتسامته لها واقترب منها ثم كلمها محذرًا:

-       اوعي..

 

ضيقت ما بين حاجبيها وهي تتفقده باستفهام من عسليتيها المشابهتين لعسليتيه وسألته:

-       خايف عليها أوي من دلوقتي؟

 

أومأ لها بالموافقة وقليل من الخجل اتضح على وجهه وهو يخبرها:

-       هبقا اخليكي تقابليها في مرة!

 

نظرت له بجدية شديدة والمزيد من التساؤلات لاحت على وجهها ليتنهد واتسعت عينيه ثم قال:

-       عارف إن بدري وإني لسه صغير، بس هحكيلك يا روري.. هتعرفي كل حاجة!

 

قلبت شفتيها واتجهت لتنثر بعض من العطر على جيدها فتبعها ليقف خلفها وهو يتابعها ووجد أنها لا تستخدم سوى يد واحدة والأخرى مُطبقة بشدة على شيء ما فتعجب سائلًا:

-       انتي ماسكة ايه في ايدك؟

 

نبهها سؤاله فلمحته خلال المرآة لتلقي بها أرضًا وأكملت مثر عطرها بملتقى ساعدها والقليل على ظهر معصميها من الداخل ثم التفتت له بعد أن أمسكت بحقيبة صغيرة تلائم ملابسها الرسمية لحفل اليوم وقالت:

-       ورقة قديمة ملهاش لازمة.. نسيت ارميها مش أكتر..

 

وطأت عليها بحذائها الأنثوي الذي يُزيد من طول قوامها ويساعد تلك المناطق لتبرز في فتنة واتجهت لتعانق ساعده بيدها فكاد أن يصل لتلك الورقة وهو ينحني مستغربًا من القاءها لتلك الورقة أرضًا فهذه ليست عادتها فأوقفته وهي تجذبه بخفة من يده:

-       قولتلك ورقة قديمة، مجرد receipt (فاتورة) اشتريت بيها حاجة غالية اوي، افتكرت إني هحتاجها لو حبيت ارجع الحاجة دي بس عدى اكتر من اربعتاشر يوم ونسيت ارميها ولقيتها صُدفة، كده كده هُدى هتخليهم يرموها في الزبالة!

 

أومأ لها بعد أن استعاد وقفته فنظرت له بأعين اتسعت بفضولية وسألته وهي تحاول أن تمحو من عقله تسليط تركيزه على هذه الورقة:

-       مش هتقولي حتى اسمها ايه؟

 

همم وهو يُضيق عينيه ثم اجابها:

-       روري برضو!

 

توقفت وكلاهما يقتربان من الباب ونظرت له باستغراب هائل ثم همس قائلًا وهو يحك شعره:

-       رُبى..

 

همهمت وهي تُعطيه نظرات تقييمية ثم غمغمت قائلة:

-       على كده لازم اعمل الحفلة بدري بقا!

 

تعجب من قولها الذي استمع له واستفسر قائلًا:

-       حفلة إيه؟!

 

جذبته بخفة ليتجه كلاهما لخارج غرفتها واجابته بعدم توضيح:

-       عندنا واحد ناجح نجاح هايل، ليه منحتفلش بيه.. عايزاك تتبسط عشان مفيش غيرك هيشيل الشغل معايا بعد كده!

 

توقفت بمجرد خروج كلاهما ثم نظرت لتلك الورقة التي ربما لو كانت قرأتها يومًا ما لم تكن لتقدم على فعل ما فعلته، أطفأت الأنوار ثم قالت:

-       يالا عشان منتأخرش..

 

❈-❈-❈

في نفس الوقت..

الرسالة رقم 210 لكِ..

اليوم رقم 215 منذ رؤيتكِ..

اليوم رقم 153 منذ عودتي..

نهاية الدفتر الثاني..

 

"اليوم المنتظر"

 

كنت أوشكت على اليأس، ووصلت لحافة الانتحار من جديد صغيرتي، لا أدري هل هذه بمثابة يومياتي لكيلا أنسى يوم من أيامي في نوبة من هوسٍ شديد إذا حدثت في يوم ما.. أم هي رسائل إليكِ أناجيكِ بين هذا سطور دفتري الأزرق الداكن.. هل أعمل بنصائح تلك المرأة؟

ما زلت لا أجد إجابة على تساؤلي..

 

بعد كل هذا الخوف الذي منعني من الاقتراب يوم رؤيتك بمينيسوتا، لا أعرف إن كنت أملك الشجاعة لفعلها اليوم..

لقد تغير الكثير روان، تغير كل شيء، حتى أنا لقد تغيرت.. لم أعد اتعرف على نفسي..

 

ولكن هناك شيء عرفته يوم رؤيتك وأنت تبتسمين بلباقة لبعض المارة، وكنت أنا كالعاشق السري والمتربص المهووس بحبيبته، أشاهد متخفيًا من على مسافة..

 

مشاعري بأكملها في بوتقة محكمة الغلق، بوتقة خانقة، لا تترك أي منها يفر للخارج، أصبحت كقطعة من الصخر، ازداد صمتي، جسدي يأبى التحرك، ولكن أقسم إليكِ أنني أحاول..

 

لدي مجموعة جديدة من العقاقير، تجعلني كالمشلول، تقول المعالجة أنها تحافظ على ثبات مزاجي دون اكتئاب ولا هوس، ولكن ملامحي تبدو كرجل ميت.. بالرغم من اكتسابي لبعض الوزن واقلاعي عن الشراب ولكنني لا أجد سوى ادخنة غليوني وأحيانًا بعض السجائر لتصاحبني بكلماتي.. وكأنها جائزة اليوم، أن أكتب إليكِ وأنا أدخنها بعد يوم طويل، ومحاولة من الاقتراب من الحياة..

 

ما زال التفاوض بيننا كما هو، تقول إنني رجل سادي، وأنادي بأن السادية ميول، وهي تقول إنني مريض بالأمر لبعض السخرية التي تناجيني بعقلي – أقصد الهلوسات – تجاه بعض الناس، ترى أنني أعامل الجميع بسادية فضلًا عن الأخرى الجنـ ـسية منها بعد أن انفتحت مؤخرًا للحديث معها..

 

لا أعرف إن كنت سأستطيع البوح عما حدث بيننا، ولكنني أخبرتها بعد الكثير من الإلحاح منها أننا افترقنا، بعد عودتي من مينيسوتا بشهرين..

 

ما زلت لا أستطيع مواجهة نفسي، ولا مواجهتك.. جبان ومتقاعس، هكذا أصف نفسي اليوم..

 

أعلم أنكِ ستكونين متواجدة، ولا أعلم كيف سيكون لقاءنا، هذا لو كنت محظوظ كفاية بلقاء عابر معكِ.. ولكن القدر لا يمن عليّ أبدًا سوى بالصدمات.. لذا يومي سيكون صدمة جديدة..

 

فلترأفي بي، أقسم بهذا العشق الذي ينبض به قلبي، لا أملك الشجاعة لقول كلمة واحدة أمام عينيكِ الذي يجرفني الشوق للمحها لجزء من الثانية..

رفقًا بي روان، لقد أهلكتني حياة بأكملها لا ينتهي عذابها..

لقد سأمت العذاب، وأتمسك بشدة ألا أصرع نفسي بيدي..

ما زلت أعشقكِ صغيرتي، وما زلت كحجرة سقطت في فوهة بركان ولم تصل للقاع بعد..

أخاف فتنتك التي ستفتنني حتى أصل للجنون من جديد، ويا إلهي على ما قد يحدث لو وقعت في براثن عقلي المُختل..

أخشى أن أفقد كل ما عانيت لأجله بالشهور اللعينة الماضية، أناشدكِ أن تكوني رحيمة اليوم، وإلا سأجد نفسي على حافة الفوهة من جديد لأعاني نفس السقوط وسأظل بالمنتصف أحترق بفعل عقلي وقلبي على حد سواء..

الهميني بعض من شجاعتك كي يمر اليوم بسلام..

سأخبركِ غدًا بما حدث الليلة..

تضرعي أن اتعثر بالحظ واركليني بتلك الجسارة وانظري لي بنفس تلك المقدرة التي تحملينها لإصراركِ على تغير الحياة..

فأنا لست أنتِ، ولا أملك من قوتكِ سوى القليل..

ولو كنتِ ما زلت كما عهدتكِ، لمسة من أنملتكِ، قد تكون كفيلة ببعث الروح بي التي زُهقت يوم أن نطقت أنا بها وأعلنت افتراقنا بفمي اللعين..

صلي خاشعة وادعي برؤيتي أبكم، الليلة، نهار غد، وللأبد..

فكلمة واحدة قد تكون نهاية حياة، ولقد اختبرت الأمر بنفسي..

ويا لآلام رجل مختل اختبر الأمر بنفسه!!

لا يُعاني أحد ما يعانيه من جرب ثم ألقى بنفسه في براثن العذاب!  

المتقاعس الجبان

عُمر..

--

النيران أصبحت قريبة للغاية، هنا يعلم أن عليه إنهاء كلماته، تنظيم لا ينتهي لرجل اعتاد أن يفعل كل ما يحلو له، اختناق واسع المدى لا يقلل من شقاءه، الساعة قاربت على الثامنة، والوقت توقف هُنا يومًا ما..

 

نهض وهو يتفقد محتويات الغرفة التي منذ وطأها في لحظة بعد أن قام بإرسال الكثير من الزجاجات الكحولية لها، تشاجر مع أخيه، آتت هي.. ومنذ أن آتت والوقت توقف.. كأنها ذهبت بعقله وقلبه على حد سواء.. سواء منذ ما يقارب عام ونصف، أو عندما رآها بمكتبه.. حياته بأكملها توقفت.. القديمة منها فقط!

 

لقد كانت هنا بداية نوبة هوسه، ربما جعلها ترى نسخة رجل منه يستحيل أن تستمر معه.. لا يعرف هل كونه يواجه مخاوفه نوع من أنواع العلاج أم مجرد إصابة بمزيد من آلام الماضي.. عليه أن يخبر "مريم" بهذا.. ربما بطريقة غير مباشرة!

 

اتجه للحمام المُلحق بالغرفة، لقد قيدها بهذا المغطس يومًا ما وتركها ساعتان على ما يتذكر.. كيف تحملت معه بعد هذا؟! وهو ثمل، ومجنون، وعقله غير واعي بأي مما يفعله!!

 

نظر للمرآة ولاحظ اختلاف كل أنملة به، هذه الرياضة اليومية لا ترأف به، ولكنها فُرصة جيدة لتسديد بعض اللكمات إلى أخيه.. ما زال يحمل القليل مما يحلو لها..

 

الأزرق الداكن، نفس ما ارتداه يومًا، بأول عشاء أراد به أن يبدأ معها من جديد حقًا.. يوم أن شبهها بأفروديت، كانت تبدو أجمل امرأة رآها بحياته يومها وهي نائمة، ويتأكد أنها مازالت.. ربما هذا القميص الجديد لن يُغير مما يحمله من ذكريات في رأسه عنها شيء..

 

ما زال عليه أن يفعل أمر وحيد، ليس ارتداء السترة، وليس حمل أشياءه معه، عليه الذهاب إلى "عنود" للمرة الأولى.. ويتمنى أن ينجح في هذا كما عاهد تلك المعالجة، ربما عليه أن يستبدلها برجل، لا يعرف، تمسكه بها من أجلها ليس إلا.. عليه أن يضع دفاتره بالخزينة أولًا!! سيُقتل خجلًا لو رأى أحد ما يكتبه!

 

أمسك بدفتريه، نفس اللون، دون أي علامات أو عناوين، هو وحده من يعلم ما تحتوي عليه، والوحيدة التي يُمكنها أن تفك شفرات الكثير مما كُتب بداخلهما هي بمفردها، لن يفهم أي شخص مما يقرأ سوى أنه مجرد مهووس بعشق زوجته ونادم لافتراقهما على ما فعله بها، أما عن حقيقته البشعة لن يعرفها سواها!

 

من جديد يعود لنقطة البداية ليُذكر نفسه بما يفعله، الدفتر الأول والرسالة الأولى، أو مقدمة شقاءه الذي يخطه بيده.. بعد أن رآها في تلك المشفى بمينيسوتا.. وجد نفسه يستطيع الكتابة بمنتهى السهولة بعد أن أخذ ما يزيد عن شهر ونصف الشهر يحاول أن يكتب كما أخبرته "مريم" بفعلها..

 

مقدمة رسائلي

الرسالة رقم صفر!

اليوم رقم 1 منذ رؤيتك..

 

لقد عاهدت نفسي أن أفعل كل ما يحلو لك..

أعلم أن هناك ما يعجبك بحروفي السخيفة..

وعاهدت نفسي ألا اعشق امرأة سواكِ، وما العشق سوى حروف اسمكِ ونظرات عيناكِ لي وأنت تهمسين بغرامكِ لي يومًا ولى من بين يدي بفداحة جنون عقلي..

 

لقد باتت المعادلة صعبة، لا أستطيع التوقف عن التفكير بكِ ولا عن هيامي بكِ.. ولكن ما حدث لم يعد يترك لي الحق في النظر لكِ ولو من على مسافة.. على يداي اللعينتان لقد قاربتِ على فقد عقلك وروحكِ.. من منا على هذا القدر من الغباء الفادح لينكر هذا؟

 

لذا، إلى أن تفنى الأرض ومن عليها، أو أفنى أنا.. سأخاطبكِ كل يوم، كلما احتجت إلى هذا..
أنتِ الوحيدة التي تحميني من عقلي ومن شرور نفسي..


لا أدري كيف يمكنني خط حروفي في النهاية أو حتى الإيمان بأنني ما زلت زوجك.. أو رجل كان زوجك في يومٍ من الأيام!


فقط تقبلي بين وبين أوراقي التي لا تعلمي عنها شيء أنني مجرد عاشق الأرض الذليل الذي ينظر لنجمة السماء المتلألئة ذات بريقها جليل المنظر..

كلانا نعلم أن الناظر لا يستمتع سوى بالمناجاة سرًا ومتعة النظر من بعيد، ولن يمس نجمته اللامعة قط طالما جرت الدماء بعروقه.. ولكن مهما ارتفعت نجمته واشتد لهيبها لن تستطيع منعه من التأمل بها..

 

لن أقترب، سأكتفي بمناجاتكِ سرًا ولن أتوقف عن عشقك صغيرتي.. ويومًا ما بعد سنوات ربما سأكون محظوظًا بأن تقرأي حروفي السخيفة..

لا يمكن بعد الآن أن اشير لنفسي بزوجك في نهاية رسائلي وهذا وحده أكثر مما يمكن لعقلي أن يتحمله..

 

منذ اليوم، وبكل رسالة، سأصف نفسي لكِ، وبعد موتي في يوم سأترك رسائلي إليكِ، إرث أليم ولكن أرجوكِ تقبليه.. فهو لا يخص سواكِ..

 

عاهدتك امرأة تُصلحين حياة بأكملها، كوني هكذا دائمًا وأبدًا ولا تفقدي لمستك الساحرة التي أصلحتِني بها وأنت تأخذين بيدي من الجنون للقليل من المنطق وتخرجيني من قبر الموت لجنة الحياة..

 

لكِ أن تلقين بكل رسائلي في سلة القمامة كما يحلو لكِ..

ولكن بعد قراءتها..

ليس هناك آلم أكبر من البوح، يشق عليّ أن أبوح، ولكن معكِ كل شيء يكون مثالي مثلكِ..

لا تلقي بألمي سوى بعد أن تحرريني منه..

ثقتي شديدة بكِ وأعلم أنكِ تجدين أمرًا ما بكلماتي يجذبكِ.. فلا تتوقفي هُنا واقلبي الصفحة أتوسل لكِ.. إلى أن تصلين للنهاية..

 

لن أبدأ إلا معكِ وبكِ وإليكِ سأخبركِ بكل ما يحدث لي منذ رؤيتكِ..

اعاهدكِ أنه ميلاد جديد لي روان..

 

عاشق الأرض المختل

عُمر..

 

ألقى بدفتريه في الخزينة ثم جذب هذا المفتاح الذي وُضع في سلسلة ذهبية وآخر عُقد عليه شريط ذهبي رفيع كهدية، وتناول هاتفه واضعًا اياه بجيب سترته الداخلي، بطاقة الغرفة الالكترونية بالجيب الآخر، وقبض على المفتاح ثم توجه للخارج!



❈-❈-❈


طرق على الباب وانتظر إجابة كما انتظر بجانبه "باسم" مساعده الشخصي الذي كان ينتظر ببهو الفندق، فقامت تلك الفتاة بفتح الباب إليه، على ما تبدو هي واحدة من صديقات أخته، ما الذي تفعله معها والحفل أمامه القليل من الدقائق؟؟!

 

-       عنود فاضية دقيقة؟

 

رمقته الفتاة باستغراب شديد ونظراتها المعجبة به تترامى على ملامحه ليسخر بداخله لتلك الفتاة الصغيرة فقال موضحًا ببرود:

-       عمر، أخوها..

 

ابتسمت له ثم فتحت الباب أكثر وقالت:

-       اتفضل طيب ادخلها!

 

وطأ بقدميه للداخل ليستمع لصوت ميزه جيدًا:

-       خلصي بقا عشان منتأخرش على الناس!

 

وصوت آخر عقب بعناد لا ينتهي:

-       ماما بقولك ايه، لو خايفة نتأخر انزلي انتِ لاخواتك وقرايبك وسيبيني مع اصحابي..

 

حدق بها عبر المرآة وهناك من يساعدها على وضع القليل من الزينة لتصيح بها:

-       لا مش عايزة زفت من ده وابقا شبه المسخ.. أنا هقوم امسح كل ده، أنا مبحبش الميك اب..

 

يبدو أن "عدي" وصفها جيدًا، فظة، قوية، عنيدة، لا تقبل سوى ما تريده، هل هذه هي النسخة النسائية الحقيقية من "يزيد الجندي"؟

 

وجد واحدة من صديقاتها توقفها بينما مرت والدته من أمامه وهي تُلقي له القليل من الكلمات:

-       ازيك يا عمر عامل ايه؟

 

سخر بداخله وأجاب باقتضاب:

-       تمام..

 

تفقدته باستغراب وسألته متعجبة:

-       أنت مالك كده، مش نايم كويس ولا ايه؟

 

هز رأسه بالنفي، لقد بات يشعر بالاختناق من هذا السؤال، وقد قارب مرة وحيدة على أن يخبر والده بما يُعاني منه ويا لردة فعله، بقرارة نفسه لا يملك مثل هذه الجرأة ليقول إنه أصبح كالمخدر من تأثير هذه العقاقير عليه مما يجعله يبدو كالنائم أو الشارد طوال الوقت!

-       لا أنا كويس، صاحي من بدري بس!

 

إجابة تُقنع الجميع ويصمتون بعدها، ومن ملامحها عرف أنها اقتنعت، هي لا تكترث بشأنه على كل حال.. سيقوم بالعد بينه وبين نفسه تنازليًا، قبل أن يصل لرقم ثلاثة ستغادر..

عشرة، تسعة، ثمانية، سبعة، ستة:

-       طيب يا حبيبي، ابقا حصلني عشان ننزل نسلم على الناس.. ومينفعش تمشي بدري وتسبنا لوحدنا النهاردة!

 

يا للسخرية، لم يصل لرقم خمسة، المرة القادمة سيجرب أن يعد من خمسة لواحد لعلها تخيب ظنه!

 

-       مفيش حاجة اسمها مش عايزة ميك اب، وبعدين دي حاجة بسيطة بدل ما وشك شكله يبقا أصفر ومُرهق!

-       يووه.. تحبوا افركشها؟ والله أنا مجنونة واعملها!

 

اقتربت قدميه نحو أخته وتلك الفتاتان حيث توقفت هذه المرأة على الجانب في انتظارها بعد ملاحظته أنها قامت بإبعادها ثم نادى بها بهدوء:

-       عنود!

 

التفتت له بعصبية ثم هتفت به:

-       افندم؟ عايزني افركشها أنت كمان؟!

 

ابتسم بداخله وتحركت شفتيه بحركة تكاد تكون لا تُرى على عصبيتها وكأن هناك من يجبرها على هذا الزواج ثم تابعت بحدة:

-       طبعًا ما أنت مش طايق الموضوع كله وعدي فضل يزن عليك، جاي عشان افركشها مش كده! أنت مبقتش عايز العيلة كلها! اتفضل روح قولهم مفيش خطوبـ

-       ما خلاص!

 

صاح بها مُقاطعًا بنبرة جعلت الثلاث فتيات خلفه تتجه للخلف بينما لمح الخوف في عيني أخته ليجلي حلقه وقال بهدوء وه يوجه نظره للغرفة الأخرى بداخل هذا الجناح كإشارة لها:

-       بطلي رغي وتعالي عايز اقولك حاجة لواحدك!

 

ابتلعت وارتبكت لوهلة، هي تعرف أن هذا الزواج لن يتم أبدًا، وتعرف أنه يرفض بداخله "يونس" بعد انفصاله عن "روان" واختبرت جيدًا صفعة قوية منه بالسابق! لا يمكن أنه آتى لكي يُفسد عليها هذا اليوم!

 

اتضح الخوف بعينيها وتوقفت في منتصف الطريق قبل أن تذهب للغرفة الأخرى وأخبرته مستفسرة بصوت متوتر:

-       طيب احنا بعدنا عنهم اهو، قولي عايز ايه؟

 

نظر إليها ليرى الخوف على ملامحها أكبر من ذاك الذي اتضح بنبرتها فحاول أن يطمئنها:

-       انتي مالك خايفة كده، متقلقيش مش حاجة وحشة ولا حاجة تخوف..

 

ذهب للغرفة أولًا فلحقت به بتردد والتفتت لتنظر إلى كلتاهما بارتباك وذهبت خلفه وتركت الباب دون أن تغلقه بالكامل وحاولت التحلي بالقوة ونظرت له لتجده يتحدث ببرود شديد وكأنه جدار صلب دون تعابير:

-       لما كنتي عندي في البيت، أنا كنت متعصب وفهمت الموضوع غلط، أنا مشكتش فيكي، كنت فاكر إن روان بتحاول تخليكي تكدبي عليا وافتكرت إنك سمعتي كلامها!

 

ضيقت ما بين حاجبيها وهي تتذكر آخر مرة قامت بالتحدث له بمفردها عندما قام بصفعها وسكتت ووقفت مترددة في فهم كلماته ليحاول محو توترها وأضاف:

-       أنا مش ضد جوازك منه، أنتِ حُرة، أنا مبحبوش بس، يعني مش شايفه أحسن واحد بس أنا اللي خليت بابا يوافق!

 

تفقدته بتعجب وسألته بفضول مزق عقلها منذ أن قام "يونس" بزيارتهم هو وأسرته بمنزلهم:

-       هو أنت عملت كل ده ليه؟

 

تذكر أنها كانت مفاوضة ليس إلا من أجل أن يرى "روان" ولو من بعيد فتنهد وأجاب:

-       عادي يعني.. أنتِ عارفة بابا بيحتاج اقناع بس!

 

ضيقت عينيها من تلك الكلمات التي لم تشفِ فضولها وكررت فعلتها:

-       والموضوع بتاع زمان وأنا صغيرة، أنت اللي اقنعته بردو إنه ميعملوش! ليه ساعتها وقفت جانبي في حاجة زي دي؟

 

تناول نفس احتبس به صدره وهو يحاول أن يجد مفر، اختبار جديد، الكذب أم الصدق، كفى كذبًا!!

 

أطلق أنفاسه بصحبة كلماته الصادمة وهو يجيبها:

-       بابا كمحامي وسمعته لو كان اتعرف في يوم إنه راجل رجعي وموافق على الختان كانت حاجة هتؤثر عليه.. فساعتها اقتنع عشان شغله وسُمعته!

 

نكست نظرها للأرضية بقهر، والد قاسي وأخ لا يكترث، وأم كل ما تريده هو عدم التأخر على المدعوين، يا لها من حياة ستنجو منها، لأول مرة تشعر بأن كلمات "عُدي" كانت صحيحة للغاية!

 

ظن أنها خجلت أو شعرت بمرارة تذكر هذا الأمر فهو إلى اليوم لا ينسى أصوات بُكائها فقال مغيرًا مجرى الحديث:

-       بصي أنا مقصدتش اضربك يومها، اتعصبت ومكونتش حاسس بنفسي، متزعليش

 

رفعت نظرها له، هل أخيها يأتي ليهتم بها بعد كل هذا الأعوام، هذا اليوم لا يبدو أنه سينتهي بذكرى سيئة على الإطلاق..

-       خدي..

 

قدم هذا المفتاح إليها فنظرت له باستغراب وسألته:

-       ايه ده؟!

 

همهم وهو الذي لم يتناقش معها ولو مناقشة واحدة في حياته ولكنه كان يشعر بالخوف مما قد يفعله والده في أي لحظة بها فأجابها بالقليل من المشاعر وبعض الكلمات:

-       بصي، لو حصل أي حاجة في أي وقت ده بيتك، باسمك، وأنا عارف إن بابا محملني مسئولية إن ممكن تنفصلوا في يوم زي ما حصل معايا، وشايف إنهم عيلة طباعهم غيرنا.. مش هيحصل حاجة أكيد بس.. يعني.. بيتك وبتاعك أنا عملتهولك الأرض في بيتي كبيرة، ممكن تشوفيه وقت ما تحبي، كلها اقل من سنة وتتجوزي، اعتبري عندك بيت تاني لأي ظروف تحصل.. ناقص بس تختاري العفش اللي فيه!

 

توسعت عينيها باندهاش وهو تحاول أن تُكون كلمة واحدة فلم تستطع من مفاجئته لها ثم أخرج مفتاح السيارة ليناوله لها وأضاف بنفس طريقته الجامدة:

-       عرفت إنك لسه بتروحي وبتيجي مع السواق، كان نفسي زمان يبقا عندي عربية جديدة وأنا في الجامعة بس بابا مش بتاع دلع أنتِ عارفاه.. مبروك!

 

همس كلمته الأخيرة بابتسامة بسيطة وتمنى أن هذا قد أنساها ما فعله بها بالسابق ولعلها تعتبرها بداية أو ينجح هو في فعل الأمر وسألها محاولًا أن يضفي القليل من التلقائية لمفاجئته إياها التي ما زالت هي تحت تأثير صدمتها:

-       هي فكرة مين إنكم تعملو الخطوبة في الاوتيل ده بالذات؟

 

تعجبت من تغيره لمجرى الحديث فقالت مجيبة:

-       أنا!

 

لم يكن يدري أن أخته تحمل القليل من الرومانسية، ألهذا الحد أرادت أن تحتفل بهما في أول مكان التقيا به؟! يبدو أنهما سيتفقان يومًا ما..

 

أضاف وهو ينظر لصدمتها البادية على وجهها فلم يسمح لمزيد من الوقت أن يتفلت قبل أن تقوم برفض شيء وأخبرها متسائلًا:

-       هنده باسم عشان تمضي على الورق قبل ما يتسجل في الشهر العقاري وتشوفي البيت وتستلمي العربية!

 

رفعت حاجبيها باندهاش وهو يتركها ويذهب حيث نادى "باسم" الذي أحضر الأوراق وقلم لها لتوقع على العقدين للمنزل وللسيارة ولم تستطع التفوه بكلمة ولكنها كانت تعلم أنها لن تقبل منه هذا!!

 


❈-❈-❈

بعد مرور ساعة..

 

-       تعبك، وطلاقك، وخطوبة أختك، كل ده مش عذر إنك متشتغلش بقالك داخل في سنتين من غير قضية واحدة يا عمر، أنت بتوقف حياتك عشان خاطر واحدة ست متسواش!

 

أخبره بلهجة حادة ليطلق زفرة طويلة بهدوء وعقب ببرود:

-       بابا قولتلك آلف مرة روان ملهاش دعوة بكل ده! أنت ليه مصمم تغلط فيها! أنا اللي مش عايز امسك قضايا ولا زفت!

 

تفحصه وكلمه بنبرة ساخرة ثم قال:

-       ما أنت كنت قبل ما تعرفها كويس وبتشتغل! يبقى مين السبب غيرها؟

 

شعر بالغضب يحتوي كيانه بأكمله بالرغم من مفعول هذه العقاقير فقال بهدوء آتى من شدة التأثير عليه:

-       أنا السبب ووجودها في حياتي في الوقت ده صدفة!

 

لم يقتنع والده بكلماته وأخبره بنبرة نافذة للصبر:

-       عدي الفاشل وكل ولاد عمك مش أحسن منك في حاجة عشان يبقو رجالة واخدين بالهم من شغلهم وانت لا، أنا لآخر مرة هحذرك، بكرة الصبح لو مكونتش في شركتك هيبقالي كلام تاني معاك.. وخلي اليوم ده يعدي على خير ومتجبش سيرة لحد من العيلة بطلاقك.. أنس مقالش حاجة لحد هو ومراته وكفايانا فضايح بسببك لغاية هنا! أنت مبقتش عيل صغير عشان امشي ألم وراك مصايبك..

 

تركه وغادر ليلمحه بنظرة طويلة وشعر بذلك العبء بداخله يزداد ثِقلًا بينما كل ما رغبه بشدة أن يثمل ويتناسى كل ما مر عليه منذ أن خُلق في هذه العائلة التي لا يرأف أحد بها بتعريف "الرجل" ودوره في الحياة!!

 

حاول اقتلاع صورة الويسكي المختلط بمكعبات الثلج من رأسه وتفقد الساعة ليجدها عبرت التاسعة بدقيقتين فأخبر نادل يمر بين الجميع:

-       عايز قهوة سادة، فنجان صغير، هاتهولي هنا برا!

 

أشار نحو الخارج ليلملم أعباءه وجذبها خلفه بطاقة مقدارها صفر إلى الخارج، هو لا يكره أكثر من الأصوات العالية، لا يحب الاستماع لهذا الضجيج، ويشعر بالخوف لو التقى بها صُدفة.. عقله لا يريد التوقف عن التفكير، سينفجر من كثرة ما يحمله، ربما عليه أن يركن ويلوذ لمخبأ إلى أن تمر هذه الليلة بسلام..

 

اتجه ليقبض على هذا السور وهو ينظر للأسفل، تركيزه مشتت وعقله لا يستطيع مواكبة حديث آخر مع والده، متى له النهاية من كل ذلك، لماذا لم ينجح في قتل نفسه؟ هو حتى ليس لديه المقدرة على مواجهة نفس التجربة من جديد، ولو أن السقوط من هذا الدور أرضًا ستكون نهاية جيدة له.. لولا أنه حفل خطبة أخته لكان فعلها! لابد من أن تمر هذه الليلة بسلام!!

 

الرعب كل الرعب من قدره الذي لا يمن عليه بالحظ أبدًا!!

--

اتجهت للداخل وهي تُمسك بساعد أخيها وسألها باهتمام وهو يهمس:

-       أنتِ متأكدة إنك كويسة؟

 

هزت رأسها بالموافقة له واجابته سائلة بهمس لكي لا يصل صوتها لوالدتها:

-       ومبقاش كويسة ليه؟

 

حاولت التحلي بثقة لا تملكها بالكامل بعد ثم اخبرته بنبرة منخفضة:

-       متقلقش، الفترة اللي سافرت فيها كانت كويسة وكنت بحكيلك على كل حاجة اول بأول، ولا حاسس إن مفيش اختلاف ما بين ما سافرت ودلوقتي.؟

 

زم شفتاه ثم اجابها قائلًا:

-       حاسس إنك أحسن طبعًا بس..

-       مفيش بس.. يالا بينا نروح نسلم على يونس وعنود ونباركلهم واياك تقلق مامي وتقول الكلام ده قدامها.. احنا ما صدقنا بطلت كلام عن الموضوع ده!

 

 

قاطعته وتوجهت لتصافح كلاهما لتنظر لها "عنود" التي أرادت أن تستفسر منها عن الكثير ولكن لم تفلح في هذه المناسبة واكتفت بتبادل كلمات التهنئة معها والمرح اللطيف، ولكنها اطمأنت نوعًا ما فهي ليست تلك المرأة التي قامت بصرف الجميع عن منزلها بذاك اليوم الذي ذهبوا إليها به..

 

ما لم يعجبها هي معاملتها لـ "يونس" بهذه الحميمة الشديدة، تبقى فقط أن تقوم بتقبيله وعناقه كما عانقتها، هذه العائلة تحتاج لإعادة تهيئة، تقسم إن لم يتعامل مع النساء كما تريد ستتركه ولن تكترث بهذا الحفل الضخم على الاطلاق!

 

استأذنت منهما عندما شعرت باهتزازات هاتفها بحقيبتها فأخبرت أخيها بصياح له في وسط هذا الضجيج بعد أن وجدت الرقم رقم فرنسي يخص "دايفد" ليتطاير عقلها سريعًا لتلك الصفقة في فرنسا منذ ما يقارب تسعة شهور:

-       عندي مكالمة، خد مامي واقعدوا

 

سرعان ما توجهت بعيدًا عن أصوات هذا الضجيج ولم تكترث إلى أين تأخذها قدماها ثم أجابت بالفرنسية:

-       دايفد، كيف حالك؟

 

انتظرت اجابته والتوتر يلتهمها ما لو أن هناك شيء فسد في النظام:

-       بخير، ماذا عنكِ؟

 

نظرت بالأرضية وسيطر الوجوم على ملامحها وهي تسير بغير هدى ثم قالت:

-       بأفضل حال، أخبرني ماذا هناك؟

 

أخذت تضرع بداخلها بأن كل شيء على ما يُرام لتُقبل دعواتها بقوله:

-       لدي مفاجأة لكِ.. أنا في مصر!

 

أغمضت عينيها وزفرت في راحة ثم أخبرته:

-       يا لهذه المفاجأة السارة.. لم أتيت؟

 

اجابها بينما هي تحاول أن تهدأ من ضربات قلبها المتسارعة وهي تتنفس بانتظام وارتمت على أقرب مقعد وجدته في طريقها:  

-       من أجل السياحة، حسنًا ومشروع عقاري ما.. كنت أود رؤيتك.. هل تناولتِ العشاء بعد؟!

 

وقبل أن تجيبه بشيء وجدت فنجان من القهوة يترامى على ثوبها ذهبي اللون ليفسده بالكامل وبمجرد رفعها لعينيها الغاضبتين وجدته أمامها لتصاب بشلل تام لم يقو لسانها على أن يتحرر منه!!


يُتبع..